الأبعاد التداولية لبلاغة حازم من خلال
منهاج البلغاء وسراج الأدباء
(مشروع قراءة)
د. مصطفى الغرافي
فاتحة ومهاد
يشكِّل كتاب أبي الحسن حازم القرطاجني (608 - 684 هـ) منهاج البلغاء
وسراج الأدباء علامة فارقة في تاريخ البلاغة العربية بصفة عامة،
وتاريخ نظرية الشعر على نحو أخص. وترجع أهمية الإسهام النقدي والبلاغي
لحازم إلى الوعي العميق الذي تكون لديه بضرورة استئناف القول في
البلاغة العربية بطريقة جديدة ومختلفة، من أجل التأسيس لنظر بلاغي غير
مألوف. وقد تمثلت فرادة هذا الإنجاز في المنهج الأصيل الذي اصطنعه حازم
في عرض المقررات النظرية التي حرص - في استخلاصها - على التفاعل الحي
والمباشر مع نصوص الشعر العربي، مفيدًا في الآن نفسه من الآراء النقدية
التي راكمها سابقوه، إلى جانب انفتاحه على البلاغة الأرسطية من خلال
جهود الفلاسفة المسلمين - ممن عنوا بموضوع "الشعرية" - اعتقادًا منه أن
ذلك سيفيده في التأصيل لقوانين بلاغية كليَّة تساعده على ضبط الخصوصية
في الشعرية العربية.
إن المهمة الأساس التي انتدب لها حازم كتابه هي التأصيل لعلم الشعر من
أجل الكشف عن جوهر الشعر العربي، "وما أبدت فيه العرب من العجائب"، عن
طريق وضع قوانين كليَّة تعرف بها أحوال الجزئيات. وهو أمر لن يتحقق إلا
بتأصيل منهج جديد في البحث يستكمل ما ورد عند الأوائل من قوانين،
ويتجاوزها بما يستجيب لخصوصيات الشعر العربي.
لقد أدرك حازم أن البلاغة العربية - وإن كانت معالمها قد تحددت في
كتابات سابقيه - فإن الكثير من مباحثها مازال في حاجة إلى الفحص
والمدارسة، لبلورة مفهوماته وتفصيل دقائقه. ولذلك لم يتجه إلى التلخيص
أو التوفيق بين آراء سابقيه، وإنما حاول البحث عن أرض جديدة يجرب فيها
اختياراته البلاغية حتى يحقق لمشروعه ما يطمح إليه من جدَّة وفرادة،
فتجاوز البحث في ظواهر البلاغة لينشغل بما وراء هذه الظواهر من خفايا
ودقائق. ولذلك يمكن اعتبار مشروع حازم - من هذه الناحية – مغامرة جريئة
تتجه لبناء معطيات نظرية وتأصيل مواقف وتصورات تتسم بكثير من الجهد، من
أجل الانفلات من أسر التقليد والتبعية، لإنشاء مقاربة اجتهادية لا
تستكين إلى الجاهز، وإنما تعمل بإصرار لابتكار طريق خاص في التفكير
يتميز بالطابع الاجتهادي والتأصيلي كأسلوب مساعد في بناء نظر بلاغي
خلاق ومبتكر.
وإذا كان منهاج حازم لم يحظ في الماضي بقارئ طموح يعيد قراءته، ويتيح
له ما يستحقه من ذيوع وانتشار مثلما أتيح لمفتاح السكاكي، فقد حظي في
الوقت الراهن بكثير من العناية من لدن الدارسين الذين وجدوا فيه بذور
مشروع له من المميزات ما يؤهله للإسهام في تصحيح أوضاع البلاغة العربية
وتجديد مناهجها. يبدو ذلك جليًا في كثرة الدراسات والرسائل الجامعية
التي خصصت لاستعراض آراء حازم ومناقشتها. وإذا كنا نعود في هذه الدراسة
لحازم، فإن ذلك لم يتم بهدف استعراض هذه الآراء وتفصيلها، إذ تكفلت
بذلك دراسات سابقة - وبكفاءة قد لا نمتلكها -.
إن عودتنا إلى "المنهاج قد أتت بغرض البحث في إشكال مركزي ومحدد
هو: فحص مفهوم البلاغة عند حازم في سعي لاستخلاص أبعادها التداولية.
ومن هنا يمكن إدراج بحثنا هذا في سياق المستجدات التي عرفها الدرس
النقدي الحديث بعد عودة البلاغة القديمة إلى الساحة الأدبية كمحاور جدي
لبناء بلاغة جديدة وحديثة.
إن الغاية الأساس لهذه الدراسة هي إبراز بعض المناطق المضيئة في تراثنا
البلاغي من خلال تسليط الضوء على إنجازات حازم البلاغية، واستبصاراته
النقدية، اعتقادًا منا أن ذلك سيساعدنا في تحقيق فهم أعمق لطبيعة النص
الأدبي وقضاياه.
مفهوم البلاغة في الثقافة العربية
يستطيع المتتبع لتاريخ البلاغة العربية أن يميز في مسارها الطويل محطات
ثلاث أساس هي "البيان" الذي ينصرف إلى بلاغة الإقناع ويمثلها في نظامنا
البلاغي تراث الجاحظ، "والبديع" الذي ينصب على بلاغة التخييل وأبرز
روادها ابن المعتز الذي صنف كتابًا بنفس العنوان، ثم محطة "البلاغة
العامة" التي تجمع في ضفيرة واحدة بلاغة الإقناع والتخييل على حد سواء
ويمثلها مشروع بلاغي موسع هو مشروع حازم القرطاجني كما بسطه في
منهاج البلغاء وسراج الأدباء الذي نخصص هذا البحث للتعريف به.
بلاغة الإقناع: البـيـــان
يمكن لمتتبع تاريخ البلاغة العربية أن يلحظ أن "البيان" مصطلح ظهر قبل
أن تتبلور كلمة "بلاغة" وتستقر مفهومًا واضح المعالم في التراث العربي.
يثير مصطلح "بيان" الكثير من اللبس عند القارئ غير المتخصص، الذي تعود
أن يعتبر "البيان" واحدًا من أقسام ثلاثة تكون مجتمعة "علم البلاغة"
وهي "المعاني" و"البيان" و"البديع". والواقع أن الدراسات البيانية لم
تعرف هذا التقسيم الثلاثي لعلوم البلاغة إلا في مرحلة متأخرة بعد أن
غلب على البلاغيين المتأخرين هوس التقسيم والتصنيف. ويمكن تعيين كتاب
مفتاح العلوم للسكاكي بداية لهذه المرحلة، وإلا فإن مصطلح
"البيان" كان قبل ذلك يشمل كافة الوسائل التي تكون ظاهرة "بلاغة" بل
وكل ما يمكن أن يتحقق به "التبليغ"، كما يمكن أن يستفاد من إشارات ابن
خلدون في الفصل الذي عقده لـ "علم البيان" من مقدمته، حيث يذكر أن
"البيان" شكل الاصطلاح الأكثر شهرة عند المشتغلين بعلوم اللسان العربي،
فقد كان يأتي عندهم على رأس اللائحة المصطلحية التي تضم أصناف هذا
العلم، فتحت "البيان" يندرج، كما أشار ابن خلدون، "علم البلاغة" و"علم
البيان" و"علم البديع".
يؤكد هذا الفهم ويرجِّحه ما نجده عند ضياء الدين بن الأثير، وهو بلاغي
متأخر نسبيًا من توسيع لمفهوم "البيان" تمامًا مثلما كان عند سابقيه،
وهو ما يمكن استبانته من قوله: "... وعلى هذا فموضوع علم البيان هو
الفصاحة والبلاغة وصاحبه يسأل عن أحوالهما اللفظية والمعنوية".
فهذا الكلام دال على أن "البيان" عند ابن الأثير مفهوم جامع يضم بين
أحنائه "البلاغة" برمتها كما يشهد على ذلك انبناء كتابه "المثل
السائر على مقالتين: الأولى في الصناعة اللفظية والثانية في
الصناعة المعنوية،
وفيهما أدخل ابن الأثير جميع الأوجه البلاغية مثل السجع والتجنيس
والاستعارة والإطناب والكناية... وربط ذلك كله بصناعة تأليف الكلام من
المنظوم والمنثور.
وقد لحظ محمد مفتاح أن تداول مصطلح "البيان" قبل أن تظهر تسمية "بلاغة"
ليس قصرًا على الدراسات البيانية المشرقية، ولكنه ظاهرة شائعة في
الدراسات البيانية المغربية أيضًا، فـ "المتتبع للدراسات البلاغية
العربية في المغرب يجد حقًا أن الاسم الذي كان شائعًا بين أوساط
المتعلمين المغاربة هو اسم "البيان"، ذلك أن الكتب التي وصلتنا لمؤلفين
مغاربة تنعت تلك العلوم الثلاثة (علم البلاغة وعلم البيان وعلم البديع)
باسم "علم البيان"".
إن لفظة "بيان" لم تكن متميزة من غيرها من ألفاظ العربية قبل القرن
الثالث للهجرة، لكن تشغيل الجاحظ لها في كتابه البيان والتبيين
سيرفعها إلى مستوى "المفهوم"، الذي يأتي على رأس لائحة مصطلحية للدلالة
على علم جديد تخلق وتبلور ثم آن الأوان لتوصيفه وتسميته، فإذا كان ابن
المعتز قد أفرد مصطلح "بديع" للدلالة على أوجه العبارة الشعرية
والتمثيل لها فانشغل، تبعًا لذلك، بإحصاء الأنواع البديعية والتمثيل
لها، فإن "بيان" الجاحظ معني أساسًا بـ "التبليغ" بما هو "كشف للمعنى"
للقارئ أو السامع بغرض إقناعه وإفهامه". يقول:
البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير
حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك
البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري
إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام
وأوضحت المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
إن البيان عند الجاحظ "اسم جامع" تندرج تحته جميع أصناف الدلالة أو
"وجوه البيان" التي يحصرها الجاحظ في خمسة لا تزيد ولا تنقص:
وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص
ولا تزيد أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم الحال التي تسمى
نصبة.
إن "بيان" الجاحظ هو بلاغة الخطابة القائمة على المقام ومراعاة أحوال
المخاطبين، وهو اعتبار وجه الجاحظ إلى التنظير لمقومات الخطاب الإقناعي
انطلاقًا من مفهوم "المقام الخطابي". يقول:
والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من
معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة
الحال وما يجب لكل مقام من مقال.
ومن الوقائع التي تؤكد ذلك أن الجاحظ يستعمل "البلاغة" و"الخطابة"
بمرونة تقترب من الترادف كما يظهر من قوله مثلاً: "... إذا كان الخليفة
بليغًا والسيد خطيبًا"،
ينضاف إلى ذلك ما أظهره الجاحظ من عناية فائقة بإثبات النصوص الخطابية
وتعقب أخبار الخطباء، وهو ما ينهض دليلاً على أن الجاحظ متوجه في هذا
الكتاب إلى وضع الأسس العامة لنظرية الخطاب الإقناعي. لقد "كان الجاحظ
يقدم وسيلة للحوار في عصره بين الفرقاء في المجال الفكري والسياسي،
الحوار من خلال الرصيد الخطابي العربي من جهة، وأحوال المخاطبين من جهة
أخرى، المهم كيف يكون الخطاب ناجعًا، فاعلاً".
إن عناية الجاحظ بـ "البيان" نابعة من عنايته بوظيفية الخطاب ونجاعته،
حيث المدار على الغايات والمقاصد التي يرسمها المتكلم لخطابه، وهو فهم
يسلمنا إلى أن حرص الجاحظ على "البيان" مرتهن إلى الوظيفة العملية
والإنجازية التي ينيطها بالعملية البيانية ككل، حيث "المتكلم" عنده
ناهض بوظيفة "بيانية" و"تبيينية" بطريق كشف قناع المعنى وتوضيحه
للسامع، ومن أجل أن يتحقق "البيان" (= الإفهام) ينيط الجاحظ بالسامع
وظيفة "التبين" (=الفهم) التي تقتضيه التأمل في المعنى من أجل تفهمه،
وهو جهد يجعل السامع شريكًا للمتكلم في الفضل، إذ بدونه لا تتحقق
"المقاصد" التي يهفو إليها المتكلم، ولذلك أولى الجاحظ عناية خاصة
للمستمع – المخاطب الذي أصبح محددًا أساسًا في العملية البيانية
لأن مدار الأمر على البيان والتبيين، وعلى الإفهام والتفهم، وكلما كان
اللسان أبين كان أحمد، كما أنه كلما كان القلب أشد استبانة كان أحمد،
والمفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل.
ومادام مدار الأمر، عند الجاحظ، على "البيان والتبيين" فقد اهتم بشروط
"الإرسال الجيد" لضمان حصول الاستجابة المرجوة، حيث وجدناه يفصل القول
في العناصر الخارجية التي تشترط في العلمية البيانية مثل سلامة النطق
وطلاقة اللسان وعدم تنافر الألفاظ، لاعتقاده أن
البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة
وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق، وتكميل الحروف....
وقد بلغ من اعتقاد الجاحظ في أهمية الإرسال الجيد في الإبانة وتحقيق
التصديق أن يستعيذ في مفتتح كتابه من "العي" و"الحصر" إذ "البيان بصر
والعي عمى".
وقد بلغ من إعلاء الجاحظ من "البيان" أن لم يحصره في الخطابين الشعري
والخطابي، بل جعله يشمل أنظمة رمزية وسميائية أخرى عددها في كتابه،
فشملت عنده اللفظ (الكلام المنطوق) والإشارة (باليد والرأس والعين
والحاجب والمنكب والثوب والسيف) والخط (الكتابة) والنصبة (الحال
الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد)، والعقد (الحساب باليد عوض
اللفظ والخط).
إن البيان عند الجاحظ منظورًا إليه من زاوية وظيفته "الكلامية" هو
"سلطة" تقدر "المتكلم" على التأثير في السامع لإيقاع التصديق وتحقيق
المقاصد، ذلك أن
مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم
والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في
ذلك الموضع.
لكل ذلك استخلص حمادي صمود أن أبرز ما ساهم به صاحب البيان والتبيين
هو "تنزيله مختلف الأساليب البلاغية المعروفة إلى عهده في حيز "البيان"
الذي اتخذ منه إطارًا عامًا للبلاغة والفصاحة".
بلاغة الإمتاع: البديــــع
قبل أن يظهر مصطلح "بلاغة" بوصفه الحاكم الجديد لأرض الخطاب في التراث
العربي، كان التأمل في الخطاب "البليغ" قد أفرز عديد مصطلحات رصد لوصف
الخطاب "البليغ" إنتاجًا وتلقيًا، ويرجح الدارسون أن يكون مصطلح
"البديع"، الذي استعمله ابن المعتز في القرن الثالث للهجرة عنوانًا
لكتاب مستقل، أقدم تأمل في الخطاب الأدبي من منظور الخصوصية التعبيرية،
فهو أول تأليف "صنف في البديع ورسم فنونه، وكشف عن أجناسها وحدودها
بالدلالات البينة والشواهد الناطقة، بحيث أصبح إمامًا لكل من صنفوا في
البديع بعده، ونبراسًا يهديهم الطريق".
وقد شعر هذا الناقد والشاعر والخليفة بجدَّة هذا المبحث على البلاغة
العربية فنبه على ذلك بالقول:
البديع اسم موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم،
فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم، ولا يدرون ما
هو
كما فخر بسبقه إلى التصنيف في هذا الفن: "وما جمع فنون البديع ولا
سبقني إليه أحد".
وهو فضل أقر له به القدماء مثل ابن رشيق الذي صرح أن "البديع ضروب
كثيرة، وأنواع مختلفة [...] على أن ابن المعتز وهو أول من جمع البديع
وألف فيه كتابًا".
ينصرف مصطلح "بديع" عند ابن المعتز إلى الدلالة على البحث الذي ينشغل
أساسًا بإحصاء الانزياحات في العبارة الشعرية أو "محاسن الكلام"
باصطلاحه والتمثيل لها. وقد أحصى ابن المعتز العناصر المكونة لمذهب
البديع فكانت خمسة هي: الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد الصدر على
العجز والمذهب الكلامي، ولكل أمثلة وشواهد أثبتها ابن المعتز في
مواضعها من الكتاب.
ويسترعي انتباه الناظر في فنون البديع التي عدد ابن المعتز أنها جميعها
ألصق بجنس الشعر منها بالنثر، لأن ما يحتمله هذا الجنس (الشعر) من
درجات الخرق والتعقيد لتحقيق الوظيفة الشعرية يفوق طاقة النثر ووظيفته
الخطابية، ولعل هذا أن يفسر لنا لماذا قصر ابن المعتز فنون البديع على
الشعر رغم حرصه المعلن في أول الكتاب على ذكر ما وقع منها في النثر
أيضًا.
إن ابن المعتز كما يظهر من كتاب البديع متوجه بشكل أساس إلى
العناية ببلاغة الشعر تخصيصًا القائمة أساسًا على دراسة المكونات
الداخلية للخطاب دون مراعاة لمقامه أو متقبله، ومن هنا غاب في هذا
الكتاب، كل حديث عن المقام أو أحوال المخاطبين فبالأحرى اعتبارهما
مقياسًا يراعيه المبدع في إنتاجه والناقد في تلقيه. إن ابن المعتز
منشغل في كتابه بإيراد الصور البديعية والتمثيل لها دون أية محاولة
لرصد الفروق بين الخطاب الشعري والخطاب الإقناعي. وبهذا الاعتبار يمكن
النظر لابن المعتز بوصفه رائدًا في التأسيس لبلاغة عربية أصيلة تستطيع
مباشرة موضوعاتها بكثير من الثقة والنجاعة، حيث استطاع، كما يظهر من
استبصاراته البلاغية التي ضمنها كتاب البديع، أن يحدد بدقة
الموضوع الأساس للبلاغة بما هي دراسة لمختلف أشكال المجاز.
انطلاقًا من هذا الوعي توجه ابن المعتز إلى استخلاص السمات الفنية
والجمالية التي تحدد "أدبية" الأدب في النظام البلاغي العربي، فانتهى
من ذلك إلى وضع سجل بأهمها. وقد كان ذلك أهم إنجاز يقدمه ابن المعتز
إلى الشعرية العربية، حيث أصبح "البديع" مفهومًا إجرائيًا يعالج وقائع
نصية ملموسة قابلة للوصف الدقيق دونما استناد إلى المعطيات النفسية
والتاريخية كما هو سائد في المناولات النقدية التي تجعل من دراسة النص
الأدبي مطيَّة لعلوم أخرى (التاريخ أو الأخلاق أو الاجتماع)، وبهذا
الاعتبار نظر لـ كتاب البديع بوصفه
فجر الشكلانية العربية الأصيلة في البلاغة والنقد، ما دام اهتمامه وضع
اليد على الأدوات التعبيرية، التي تميز الشعر عن غيره، بغض النظر عن
العناصر الغريبة عن النص والعناصر التي لا تمثل سمته.
إن قيمة هذا الإنجاز متأتية، إلى جانب بلورة جماليات التعبير الأدبي،
من النجاح في تعيين موضوع اشتغال "البلاغي" الذي لم يكن مفصولاً قبل
ابن المعتز عن مواضيع العلوم الاخرى. وقد ترتب عن ذلك أن تميزت "بلاغة
البديع" التي أرساها ابن المعتز من "بلاغة المتكلمين"، وإن كانت هذه
الأخيرة تبقى متفوقة من حيث القدرة على التنظير.
بلاغة الخطاب: البلاغة العامة
يصادف الناظر في نظامنا البلاغي القديم "إشارات" و "تنبيهات" كاشفة عن
وعي تحصل لأصحابه بأن "البلاغة" ليست، عند التحقيق، واحدة ولكنها
"بلاغات"... إن البلاغة، من وجهة النظر هاته، "جمع" بصيغة "المفرد".
من "الإشارات والتنبيهات" التي ترى في البلاغة "بلاغات" الرأي الذي
أورده ابو حيان التوحيدي لأستاذه أبي سليمان "المنطقي" في الليلة
المخصصة لبيان أوجه التشابه والمغايرة بين النظم والنثر وهي الليلة
الخامسة والعشرون من ليالي الإمتاع والمؤانسة:
قال أبو سليمان: البلاغة ضروب: فمنها بلاغة الشعر ومنها بلاغة العقل
ومنها بلاغة البديهة ومنها بلاغة التأويل.
إن هذا التفريع كاشف عن وعي دقيق تحصل لأبي سليمان "المنطقي" بتغاير
الأنواع التي عدد رغم انضوائها جميعًا تحت سقف "البلاغة"، حيث يغدو كل
نوع متملكًا لخصائص نوعية فارقة تفرده عن غيره من الأنواع الأدبية
الأخرى، لما تكسبه من سمات فارقة تغدو مقومات فيه "نوعية" تشكل بلاغته
المخصوصة.
وفي البيان والتبيين يورد الجاحظ رأيًا في تحديد البلاغة
مأثورًا عن ابن المقفع جاء فيه:
البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت،
ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون
في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما
يكون شعرًا، ومنها ما يكون خطابًا، ومنها ما يكون رسائل.
يظهر من الشاهد أن الرؤية البلاغية لابن المقفع متحركة ضمن فضاء عام هو
"البلاغة" بوصفها اسمًا جامعًا أو جنسًا أعلى يضم جميع أصناف البيان
ومختلف مظاهر الكلام، بل إنه ليتجاوز ذلك ليشمل مواد بيانية أخرى
مختلفة بما هي أنظمة سميائية دالة مثل السكوت والاستماع. وبذلك تكون
رؤية ابن المقفع للبلاغة قريبة جدًا من رؤية الجاحظ الذي تصورها
"بيانًا" و"تبيينًا" لحكمة الخالق بما تجلي من تناسق وانسجام بين عناصر
الكون المختلفة.
نستفيد مما سلف أن البلاغة العربية منذ نشأتها "بلاغة عامة" موضوعها
الخطاب الاحتمالي بنوعيه: التخييلي الشعري والتداولي الخطابي. وهو
الإنجاز الذي تحقق على نحو متكامل في مشروع حازم القرطاجني حيث
البلاغة: "العلم الكلي".
المشروع البلاغي عند حازم
يندرج كتاب حازم منهاج البلغاء وسراج الأدباء في سياق ثقافي
متميز، إذ في الوقت الذي يسعى فيه صاحبه إلى تقديم مراجعة نقدية شاملة
لشعرية أرسطو وبلاغته، يواجه معضلة اختلاف الشعرية العربية عن الشعرية
اليونانية اختلافًا جذريًا، وهي المعضلة التي وقفت عائقًا أمام جميع من
تعاملوا مع الشعرية الأرسطية، فحاولوا جاهدين تأويل هذه الشعرية في ضوء
الشعر العربي، في محاولة للتوفيق بين الشعريتين.
لقد اطلع حازم على شعرية أرسطو من خلال جهود الفلاسفة المسلمين ممن
عنوا بموضوع "الشعرية"، فاستوعب تصوراتهم للشعر، وعرف من شروحهم أن
أرسطو حاول من خلال كتابه فن الشعر، إقامة علم خاص بالشعر عند
اليونان، وعلم للشعر المطلق، أي كليات الشعر التي تشترك فيها أشعار
الأمم جميعًا.
ولما كان كتاب فن الشعر قد وصل للعرب ناقصًا، فقد سعى الفلاسفة
المسلمون لتدارك هذا النقص، فتمنى ابن سينا في نهاية شرحه أن تتاح له
الفرصة للابتداع في علم الشعر المطلق. يقول:
هذا تلخيص القدر الذي وجد في هذه البلاد من كتاب الشعر للمعلم الأول،
وقد بقي منه شطر صالح، ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر
المطلق، وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان، كلاما شديد التحصيل
والتفصيل.
أما الفارابي فقد رأى في شرحه – تواضعًا فيما يبدو - أن السعي لإتمام
ما لم يحاول الحكيم إتمامه مما لا يليق "ولو رمنا إتمام الصنعة التي لم
يرد الحكيم إتمامها – مع فضله وبراعته - لكان مما لا يليق بنا".
وإذن فقد كان حازم يشعر بأن هناك مهمة تنتظر الإنجاز، هذه المهمة التي
رأى الفارابي أن إنجازها "مما لا يليق"، والتي جعلها ابن سينا مشروعًا
للمستقبل، هي التي انتدب حازم كتابه لإنجازها محققًا بذلك حلم ابن
سينا: "وقد ذكرت في هذا الكتاب من تفاصيل هذه الصنعة، ما أرجو أنه من
جملة ما أشار إليه أبو علي بن سينا".
لقد انتهى حازم من خلال شروح الفلاسفة المسلمين، إلى أن أرسطو قد وضع
قوانين الشعر اليوناني بحسب مذاهب اليونانية فيه، ذلك أن
الحكيم أرسطا طاليس وإن كان قد اعتنى بالشعر بحسب المذاهب اليونانية
فيه، ونبه على عظيم منفعته، وتكلم في قوانين عنه، فإن أشعار اليونانية
إنما كانت أغراضًا محدودة، وأوزانًا مخصوصة، مدارها على خرافات
يضربونها أمثالاً لأمور لم تقع، أو ممكنة الوقوع، وعلى ذكر الحوادث
وتصرف الأزمان بالدول، فأما غير هذه الطرق فلم يكن لهم فيها كبير تصرف،
كتشبيه الأشياء بالأشياء.
لقد شعر حازم بأن القوانين التي استخلصها أرسطو من الشعر اليوناني لا
تستوعب الشعر العربي، ولا تستطيع ضبط الخصوصية التي تميز هذه الشعرية،
ومن ثم رأى أنه في حاجة لزيادة قوانين شعرية جديدة، مفيدًا في ذلك من
نصوص الشعر العربي، والمنجزات النقدية التي راكمها النقاد العرب
السابقون، إذ
لو وجد هذا الحكيم أرسطو في شعر اليونانيين ما يوجد في شعر العرب من
كثرة الحكم والأمثال والاستدلالات، واختلاف ضروب الإبداع في فنون
الكلام لفظًا ومعنى، وتبحرهم في أصناف المعاني، وحسن تصرفهم في وضع
الألفاظ بإزائها، وفي إحكام مبانيها واقتراناتها، ولطف التفاتاتهم
وتتميماتهم واستطراداتهم وحسن مآخذهم، ومنازعهم وتلاعبهم بالأقاويل
المخيلة كيف شاؤوا، لزاد على ما وضع من القوانين الشعرية.
وتدل كثرة الجمل بين لو وجوابها على كثرة المطلوب، وضخامة المهمة التي
نذر لها حازم كتابه، الذي اعتبر "تكميلاً لعمل الحكماء الذين تناولوا
موضوع "الشعرية": وذلك من حيث نظره في الكليات في ضوء متن إضافي غني،
وتخصيصًا له من حيث توجيه القوانين البلاغية نحو ضبط الخصوصية الشعرية،
لشعر أمة معينة، أي الشعر العربي".
وعلى الرغم من كون حازم يستلهم شعرية أرسطو، فإنه يقوم في منهاجه
بمراجعة شاملة لهذه الشعرية، حيث خضعت في ثنايا كتابه لتعديلات جذرية،
يسعى من خلالها حازم إلى تطويع هذه الشعرية حتى تستجيب لطبيعة الشعر
العربي. مما يدل على وعي حازم باختلاف الشعرية اليونانية عن الشعرية
العربية. وانطلاقًا من هذا الوعي حاول إقامة علم للبلاغة عن طريق الجمع
بين الشعرية اليونانية وإنجازات النقاد العرب السابقين. وهو ما جعل
نوال الإبراهيم تعتبر كتاب منهاج البلغاء، "ثمرة النضج الأخير
الذي امتزجت معه الجهود العقلية والنقلية لنقد الشعر عند العرب،
والجهود الخاصة بعلوم العرب التي صاغها البلاغيون واللغويون، وعلوم
الأوائل التي طرحها شراح الفلسفة اليونانية ومفسروها".
البلاغة: "العلم الكلي"
إن علم الشعر الذي يطمح حازم إلى إقامته، جزء من علم كلي هو صناعة
البلاغة بوصفها علمًا لسانيًا كليًا، يندرج ضمن كلياته علوم اللسان
الجزئية، ويحتوي صناعة الشعر والخطابة.
وبالرغم من أن حازمًا ينص بوضوح على أن موضوع البلاغة هو الشعر
والخطابة، بقوله: "ولما كان علم البلاغة مشتملاً على صناعتي الشعر
والخطابة"،
فإن قراءة كتابه تبين بجلاء أنه مشغول بإقامة "بلاغة للشعر" أكثر من أي
شيء آخر، حيث تترادف عنده مصطلحات "علم البلاغة" و"علم الشعر" على سبيل
التعميم، وهو ما يسمح لنا بالقول: إن حازمًا "يعالج البلاغة من زاوية
الشعر على وجه التخصيص أو التحديد، فهو في كل ما تعرض له في كتابه
منهاج البلغاء مهتم كل الاهتمام بالشعر، بل إنه عندما يتجاوز الشعر
إلى الخطابة، فإنما يفعل ذلك لمزيد من تحديد ماهية الشعر ومهمته وأداته
على السواء".
إن انشغال حازم بسؤال الشعرية أساسًا، وإغفاله الخطابة، التي لم يعرج
عليها إلا عرضًا، قد يفسر لنا لماذا قرئ كتابه بوصفه بلاغة للشعر، ضدًا
على عنوانه منهاج البلغاء، فصنف صاحبه ضمن نقاد الشعر تخصيصًا.
ومادام موضوع البلاغة – حسبما يقرر حازم - هو الأدب الذي تشكل الكلمات
مادته الأساس، فإنه يلتقي مع علوم اللغة التي تتخذ بدورها من الأدب
موضوعًا لها، غير أن البلاغة وإن كانت تشترك مع علوم اللغة في دراسة
الظاهرة الأدبية، فإنها تختلف عنها من حيث تميز الطرائق التي تصطنعها
في مباشرة الظاهرة الأدبية، إذ في الوقت الذي تركز فيه العلوم اللغوية
على مجموعة من القواعد المعيارية المرتبطة أساسًا بمفهومي الخطأ
والصواب، دون أن تتجاوز هذين المفهومين إلى المفهومات المتعلقة بقضية
القيمة الجمالية التي تميز اللغة الأدبية، فإن البلاغة تنشغل أساسًا
بقضية القيمة في النصوص الإبداعية، منطلقة في ذلك من الاستعمال الخاص
للغة لتجعل منه موضوع درسها، باعتبار أن هذا الاستعمال، بحكم مقاصد
منجزه والظروف العامة التي يتنزل فيها، ليس فعلاً عاديًا، ولكنه طريقة
مخصوصة في التعبير، يروم المتكلم من خلالها تجاوز الإبلاغ إلى التأثير.
على هذا الأساس يميز حازم بين البلاغة بوصفها علمًا لسانيًا كليًا،
يهتم بجانب القيمة التي يتوصل بها إلى معرفة الأحوال التي تتقوم بها
صناعة الشعر على مستوى إبداعه وتلقيه، وعلوم اللغة التي تقوم على
الرواية، وتهتم بجانب الصحة اللغوية بمعناه الضيق، ولذلك جعل حازم علوم
اللغة علومًا جزئية "مبنية على شفا جرف هار"،
لكونها لا تستطيع استخلاص القوانين الكلية التي يتوصل بها إلى "معرفة
طرق التناسب بين المسموعات والمفهومات" بسبب إقصائها لمعيار القيمة
الجمالية وتجاهلها طبيعة الشعر، وهما الشرطان الأساسان لإنتاج معرفة
واعية بالعمل الشعري ووظيفته.
ومثلما ميز حازم علم الشعر عن علم اللغة، ميزه كذلك عن علم الكلام، حيث
حمل في كتابه حملة عنيفة على المتكلمين، لأنهم في رأيه غير مؤهلين
لممارسة نقد الشعر، لجهلهم بأصوله وعدم فهمهم لطبيعته، وبسبب هذا الجهل
بالشعر عمدوا إلى مهاجمته وترويج الأباطيل حوله، صادرين في مهاجمته عن
منزع أخلاقي قاس يرى أن الأقاويل الشعرية كاذبة بالضرورة، وهو الوهم
الذي استند إليه أولئك الذين قادوا هجومًا عنيفًا ضد الشعر، ترتب عنه
استهانة الناس به وانصرافهم عنه، إذ لم يروا فيه – بتأثير من
المتكلمين- سوى ترويج للأكاذيب وتزييف للحقائق. يصف حازم هذا الوضع
فيقول:
وإنما غلط في هذا – فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة - قوم
من المتكلمين لم يكن لهم علم بالشعر، لا من جهة مزاولته ولا من جهة
الطرق الموصلة إلى معرفته، ولا معرج على ما يقوله في الشيء من لا
يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه، فإنما يطلب الشيء من أهله، وإنما يقبل
رأي المرء فيما يعرفه، وليس هذا جرحة للمتكلمين ولا قدحًا في صناعتهم،
فإن تكليفهم أن يعلموا من طريقهم ما ليس منها شطط، والذي يورطهم في هذا
أنهم يحتاجون إلى الكلام في إعجاز القرآن، فيحتاجون إلى معرفة ماهية
الفصاحة والبلاغة من غير أن يتقدم لهم علم بذلك، فيفزعون إلى مطالعة ما
تيسر لهم من كتب هذه الصناعة، فإذا فرق أحدهم بين التجنيس والترديد،
وماز الاستعارة من الإرداف ظن أنه قد حصل على شيء من هذا العلم، فأخذ
يتكلم في الفصاحة بما هو محض الجهل بها.
لقد تورط المتكلمون – في نظر حازم - عندما عمدوا إلى الاشتغال
بالبلاغة، فوقعوا في مأزق لم يستطيعوا الخروج منه، نتيجة استسهالهم
الخوض في المسائل البلاغية، فما إن يثقف أحدهم بعض المعارف الهينة التي
لا تعدو أن تكون مدخلاً أوليًا في علم البلاغة، حتى يظن أنه ملك أسرار
الصناعة الشعرية، فيتصدى لإصدار أحكام حول الشعر بما هو "محض الجهل
به"، إذ
كيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتى تحصيلها في الزمن القريب، وهي
البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاذ الأعمار فيها! وإنما يبلغ
الإنسان منها ما في قوته أن يبلغه... إذ كانت هذه الصناعة تتشعب وجوه
النظر فيها إلى ما لا يحصى كثرة، فقلما يتأتى تحصيلها بأسرها، والعلم
بجميع قوانينها لذلك، وسائرها من العلوم ممكن أن يتحصل كله أو جله.
كما ميز حازم علم الشعر عن علم المنطق، حيث قام تمييزه بين الصحة في
الشعر والصحة في غيره من الصناعات على أساس القيمة الجمالية، التي
ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الشعر الخالصة، ووظيفته المتميزة، مما
جعله يؤكد على أن القوانين البلاغية ينبغي أن تستنبط من صناعة الشعر،
وليس من صناعة أخرى، لأن "الشيء – عند حازم - يستنبط من معدنه ويطلب من
مظنته".
وانسجامًا مع هذه المقولة الأساس التي ترددت كثيرًا في "المنهاج"،
استشعر حازم وهو ينقل عن قدامة والآمدي وابن سنان الخفاجي، أن هذه
النقول لا تميز بين صناعة الشعر وصناعة المنطق، لكونها تتخذ من
القوانين المنطقية معايير للحكم على الأقاويل الشعرية، فتنبه إلى أن
الاحتكام في تقرير الصحة في الشعر، إلى قوانين الصدق والكذب في المنطق
نهج فاسد، لأن مجال الشعر مختلف عن مجال المنطق بسبب طبيعته الخاصة،
ووظيفته المتميزة. ولذلك قرر حازم أن الإلحاح على حصر الطرق التي تميز
القول الصادق عن غيره من اختصاص المنطقي (صاحب المنطق) وليس ناقد
الشعر، يقول:
رأيت ألا أشتغل بحصر الطريق التي بها يماز القول الصادق من غيره،
وتفصيل القول في ذلك، فإن ذلك مخرج إلى محض صناعة المنطق.
وهو ما يفيد حرص حازم على التمييز بين صناعة الشعر وغيره من الصناعات،
حيث يلح في منهاجه على أن دراسة الشعر وتقويمه ينبغي أن تصدر عن خبرة
به وفهم لطبيعته ووظيفته، والاكتفاء من العلوم الجزئية بما يعين على
الفهم المتميز لصناعة الشعر، إذ المعتبر عنده في تقرير الصحة في
الأقاويل الشعرية، الأصول الفنية الخاصة بالشعر، وليس الأصول المنطقية.
وعلى هذا الأساس رأى حازم أن الاهتداء إلى حقائق الشعر لا يتم إلا في
ضوء ما أصَّله البلغاء، بوصفهم الأقدر على تقدير الصحة في الشعر
تقديرًا سليمًا يراعي خصوصية الشعر وتميز وظيفته. يبدو ذلك بوضوح في
تعقيبه على ما ينقله من ملاحظات قدامة حول تناقض معاني بعض الشعراء
تناقضًا منطقيًا:
كلما أمكن حمل كلام هذه الحلبة المجلية من الشعراء على وجه الصحة كان
ذلك أولى من حمله على الإحالة والاختلال، لأنهم من ثبت ثقوب أذهانهم،
وذكاء أفكارهم واستبحارهم في علوم اللسان... فإنهم قل ما يخفى عليهم ما
يظهر لغيرهم، وليس كل من يدعي المعرفة باللسان عارفًا به في الحقيقة،
فإن العارف بالأعراض اللاحقة للكلام التي ليست مقصودة فيه من حيث يحتاج
إلى تحسين مسموعه أو مفهومه، ليس له معرفة بالكلام على الحقيقة البتة،
وإنما يعرفه العلماء بكل ما هو مقصود فيه من جهة لفظ أو معنى، وهؤلاء
هم البلغاء الذين لا معرج لأرباب البصائر في إدراك حقائق الكلام إلا
على ما أصلوه.
لقد عمد حازم إلى التهوين من شأن القواعد المنطقية في تحيز صريح للأصول
الفنية، فرغم تسليمه بالفرض الفلسفي الذي يجعل الشعر قسمًا من أقسام
المنطق، وقبوله مقولات قدامة حول معايير التناسب المنطقي، إلا أنه يرفض
إسقاط القوانين المنطقية على الشعر إسقاطًا آليًا، وتطبيقها عليه
تطبيقًا عشوائيًا، إذ البلغاء – في رأيه - هم المؤهلون لكشف الأعراض
التي يتوسل بها الشاعر لتحسين مسموعه أو مفهومه وليس المناطقة.
إن القوانين الضابطة للصناعة الشعرية لا يتوصل إلى معرفتها – حسب حازم
- "إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة"
الذي تندرج ضمن كلياته علوم اللسان الجزئية. وتكتسب البلاغة صفة
الشمولية من اهتمامها بالعملية الإبداعية في بعدها العام، إذ مادام
موضوع البلاغة هو الأدب، فإن المادة التي يتعامل معها هذا العلم هي
الكلمات المنتظمة في سياق خاص، والمنطوية على قيمة. حيث تندرج هذه
الكلمات في إطار من العلاقات المتجاوبة مع عناصر العملية الإبداعية،
بما فيها المبدع بوصفه الفاعل الأساس في عملية الخلق الفني، العالم
الذي يستمد منه المبدع المادة الخام لإبداعه، المتلقي الذي يتوجه إليه
المبدع بنصه، ثم النص الأدبي بوصفه نتيجة التفاعل بين المبدع والعالم.
يقول حازم:
يكون النظر في صناعة البلاغة من جهة ما يكون عليه اللفظ الدال على
الصور الذهنية في نفسه، ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من
النفوس من جهة هيأته ودلالته، ومن جهة هيأتها ودلالتها على ما خارج
الذهن، ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني
الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها، ومن جهة مواقع تلك الأشياء في
النفوس.
إن اهتمام البلاغة بالعملية الإبداعية في بعدها الشمولي، يكسبها طابع
الكلية حيث تتجاوز محض الدراسات اللسانية الجزئية إلى آفاق أكثر
شمولاً، تنطوي على إدراك الفاعلية المتبادلة بين الجوانب الأربعة
للعملية الأدبية، كما تنطوي على إدراك لكل جانب من هذه الجوانب على حدة.
ولكي تصبح البلاغة قادرة على استخلاص القوانين الكلية، المتحكمة في
عملية الإبداع الأدبي، وتضطلع بمهمة تحليل النصوص وتقويمها، فإنها
تستند إلى المنطق والفلسفة، مما يتيح لها تجاوز الجزئية، ومعانقة آفاق
أرحب تتميز بالكلية والشمول.ولن يتمكن علم البلاغة من تحقيق ذلك ما لم
يكن "منشأ على أصول منطقية وآراء فلسفية".
إنها البلاغة "المعضودة" بالمنطق والفلسفة.
لقد كان حازم على وعي بأن عالم البلاغة ينبغي أن يمتلك تصورات كلية عن
العناصر التي تدخل في صميم تكوين العمل الأدبي إن أراد مباشرة النصوص
الأدبية مباشرة تتسم بالنجاعة والشمول، لأنه ملزم
بضرورة الوعي بسيكولوجية الإبداع وسيكولوجية التلقي على السواء، وأهم
من ذلك إدراك مغزى العملية الإبداعية وآثارها الناجمة بالنسبة للمبدع
والمتلقي، وعلاقة هذه الآثار بمغزى الحياة نفسها وعلتها، ولا يمكن –
عند هذا المستوى - الاقتصار على صناعات اللسان الجزئية، بل تجاوزها إلى
إطار فلسفي أشمل يفيد فيه العلم من الفلسفة إفادة واضحة.
وهو ما يؤهل البلاغة لأن تصبح علمًا كليًا مادامت الفلسفة تعضدها
بتصوراتها، وتساعدها على الوعي بالقوانين الكلية الضابطة لصناعة الشعر
والخطابة، كما تساعد كل من "طمحت به همته إلى مرقاة البلاغة المعضودة
بالأصول المنطقية والحكمية"
على تجاوز العلوم الجزئية التي تتعامل مع الأدب تعاملاً جامدًا،
والوصول إلى آفاق أرحب، مسترشدًا في ذلك بالقوانين البلاغية التي وضعت
"بحسب ما شهدت به أصول علوم جليلة"
من أجل تمييز "الصريح المحض من الزائف المبهرج في كل مذهب من مذاهب
اللسان، ومأخذ من مآخذ البيان"،
دون أن يهبط "إلى حضيض صناعات اللسان الجزئية المبنية أكثر آرائها على
شفا جرف هار".
إن فهم حازم للبلاغة بوصفها علمًا لسانيًا كليًا، تعضده الأصول الحكمية
والمنطقية، يجعل منها بلاغة عامة تراعي البنية العامة للنص الأدبي،
وتهتم بالتنظير لمختلف أنماط القول الفني من خلال إقامة بلاغة لصناعة
الشعر والخطابة على حد سواء.
البلاغة: "قمع للطباع"
لقد نعى حازم في كتابه المنهاج واقع الشعر في عصره، معربًا عن
انتكاسة الإبداع الأدبي، وضحالة ما ينتج في مختلف فنون القول. ويبدو من
خلال المنهاج أن حازما يواجه تخلفًا ثقافيًا مطبقًا، إن على مستوى
الإبداع أو التلقي، إذ أسهمت التحولات الحضارية التي عرفها عصر حازم،
في تفاقم جدب ثقافي أدى إلى انتكاسة أدبية.
وقد أرجع حازم هذه الانتكاسة إلى سيادة الجهل والعجمة واختلال الطباع،
وهي عوائق إبستيمية دفعت البعض إلى الاستهانة بالشعر والانتقاص منه،
حتى عده بعض المتأدبين – الذين غابت عنهم الإحاطة بأسرار الكلام
البليغ، وعجزوا عن النفاذ إلى أسراره ودقائقه - نقصًا وسفاهة. يقول
حازم ملخصًا وضعية الإبداع في عصره ومدافعًا عن فن الشعر:
كثير من أنذال العالم – وما أكثرهم - يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة، وإنما
هان الشعر على الناس هذا الهوان لعجمة ألسنتهم واختلال طباعهم، فغابت
عنهم أسرار الكلام وبدائعه... فصرفوا النقص إلى الصنعة... ولأن طرق
الكلام اشتبهت عليهم.
لقد عانى حازم أزمة الإبداع الشعري بوصفها أزمة مزدوجة، تطال طرفي
العملية الإبداعية معًا، إذ تنبع من تردي الإنتاج الشعري مثلما تنبع من
تقهقر الذائقة الأدبية، كما أسهم المحيط المعادي للشعر في تعميق أزمة
الإبداع، حيث ساد الانصراف عن الشعر، والترفع عن الاشتغال به إنتاجًا
وتلقيًا، للاعتقاد في عدم جدواه، خصوصًا وقد ألصقت به تهمة الكذب
وتزييف الحقائق، وهي التهمة التي راجت في أوساط الفقهاء والمتصوفة.
عمد حازم - لحل مشكلة الانتكاسة الإبداعية التي تفاقمت في عصره - إلى
تأصيل قوانين كلية يستلهمها الشعراء فيما يضعونه من نتاج، حتى يحققوا
لشعرهم المقومات الجمالية المطلوبة لكي يؤدي وظيفته، ويستعيد مكانته
القديمة في نفوس متقبليه.
ومن أجل هذه الغاية وطن حازم العزم على المضي قدمًا في إنجاز مشروعه
البلاغي وإخراجه للوجود، صادرًا في ذلك عن منزع تصحيحي واضح، متجاوزًا
العوائق الذاتية والموضوعية التي تحول بينه وبين تحقيق طموحه الثقافي
في ظل واقع مأزوم، فالظروف النفسية التي تخيم على حازم لا تسعفه في
الوفاء بما يتطلبه هذا النوع من الدرس من طول استقصاء ونظر لأن "أوقات
التخلي والنظر لا تنفسح لاستقصاء العلوم".
كما أن طبيعة المادة البلاغية التي تمتاز بالتشعب والتفرع محوج إلى وقت
وجهد للخوض في تفاصيلها ودقائقها، وهو أمر لا تسمح به شواغل حازم. ومن
ثم رأى أن أنسب طريقة تسمح له بتجاوز هذه المعيقات، وإخراج مشروعه
للوجود، هي "الإجمال دون التفصيل" ذلك أن "استقصاء القول في هذه
الصناعة محوج إلى إطالة تتخون أزمنة الناظر"
وحتى لو رام حازم استقصاء المادة البلاغية وتتبع جزئياتها لما تسنى له
ذلك "لأن مرام استقصائها عسير جدًا".
لهذا كله تبين لحازم أنه "يجب أن يقتصر على التأليف في هذه الصناعة على
ظواهرها ومتوسطاتها، ويمسك عن كثير من خفاياها ودقائقها"،
صارفًا عنايته إلى "المتأكد فالمتأكد".
تلك كانت هي الطريقة التي اهتدى إليها حازم بعد تفكير طويل، لتدبير
مشروعه، وهو ما يشي برغبته الحادة في التواصل مع قارئه، بالرغم من
الأزمة الخانقة التي كان يستشعرها نتيجة لتردي الوضع الثقافي والحضاري
في عصره. وقد أكد حازم لقارئه أنه يستطيع إدراك الكثير من خفايا ودقائق
صناعة البلاغة إذا سار على النهج الذي رسمه، واجتهد في استيعاب
القوانين الكلية التي حواها المنهاج. يقول:
ولأن هذه القوانين الظاهرة والمتوسطة أيضًا، من فهمها وأحكم تصورها
وعرفها حق معرفتها، أمكنه أن يصير منها إلى خفايا هذه الصنعة ودقائقها،
ويعلم كيف الحكم فيها تشعب من فروعها، فيحصل له جميع الصنعة أو أكثرها
بطريق مختصر.
لقد رأى حازم أن حل أزمة الإبداع الشعري في عصره غير ممكن ما لم يوجد
الشاعر العظيم، المتمكن من أسرار الصنعة الشعرية، كما أنه رهين بوجود
المتلقي الحصيف، الذي يعتقد في جدوى الشعر ويتحرك له. ولذلك قدم حازم
مشروعه الطموح إلى رسم الطريق أمام من يريد أن يتعلم كيف يقول الشعر
الحق، حيث رفع له "سراجًا" يضيء له معالم الطريق، ويمكنه من الاهتداء
إلى طرق إجادة النظم، كما وضع أسس المنهاج الذي ينبغي أن يسير
وفقه المتلقي، الذي يروم اكتساب القدرة على تذوق الشعر وتقويمه، وتمييز
الجيد من رديئه.
ولتحقيق نفس الغاية، عمد حازم إلى الدفاع عن الشعر في وجه أعدائه
بتأكيد قيمته وجدواه للمنتقصين منه. ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بتقديم
قوانين كلية تؤسس لعلم الشعر، أي الاحتكام إلى القوانين البلاغية من
أجل تقويم الطباع المختلة.
يكشف حازم من خلال مشروعه البلاغي عن طموح لتقويم الطباع التي اختلت،
وتصحيح الذوق الذي طاله الفساد بسبب الجهل والإهمال، ولا سبيل إلى
تحقيق ذلك إلا بالعودة إلى القوانين البلاغية بوصفها آلية لقمع الطباع
المختلة، ويتم ذلك برد الطباع إلى اعتبار الكلام حسب القوانين
البلاغية، ومن ثم إقدارها على التمييز بين ما يحسن وما لا يحسن من
الكلام.
غير أن تقويم الطباع وحده لا يكفي، لأن إقدارها على التمييز بين ما
يحسن وما لا يحسن، محوج إلى معرفة القوانين الضابطة للصناعة الشعرية،
ومن هنا تنبه حازم إلى ضرورة إقامة "علم للشعر"، يسترشد به الشعراء
فيما يحاولونه من إبداع، في غير ما التفات إلى
تحسين كل المدعين صناعة الشعر، ظنه أنه لا يحتاج في الشعر أكثر من
الطبع، وبنيته على أن كل كلام مقفى موزون شعر، جهالة منه أن الطباع قد
تداخلها الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن، فهي تستجيد
الغث، وتستغث الجيد من الكلام، ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام
بالقوانين البلاغية، فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن.
التصور الخطابي للنص الشعري
يقرر جابر عصفور في كتابه مفهوم الشعر أن كتاب المنهاج
لحازم القرطاجني، يمثل أنضج محاولة لصياغة مفهوم متكامل للشعر، في حين
يشكل كتابا عيار الشعر لابن طباطبا العلوي ونقد الشعر
لقدامة بن جعفر مرحلة "تشكيل المفهوم".
يتمثل النضج الذي يميز صياغة حازم في تقديمه مفهومًا متكاملاً للشعر،
يتضمن العناصر الأساس لما أسماه حازم نفسه "علم الشعر المطلق". وقد ظل
الإبداع في علم الشعر المطلق حلمًا عزيز المنال لكل المشتغلين بموضوع
"الشعرية"، فهو العلم الذي كان ابن سينا يحلم بالابتداع فيه، وجعله
مشروعًا للمستقبل عندما قال قبل حازم بنحو قرنين في نهاية شرحه لشعرية
أرسطو: "ولا يبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق، وفي علم
الشعر بحسب عادة هذا الزمان، كلامًا شديد التحصيل والتفصيل".
وعلم الشعر المطلق هو الجديد الذي وعد حازم بتقديمه ممثلاً في "تصور
كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيه"،
أي مجموع الخصائص التي تحد النص الشعري، والتي تدمغه - بتوفرها فيه -
بسمة "الشعرية".
إن الغاية الأساس التي يطمح إليها صاحب المنهاج هي تقديم علم للشعر
المطلق، يكشف من خلاله خصائص الشعر العربي "وما أبدت فيه العرب من
العجائب"،
ولذلك لا يتوقف حازم عند نص مفرد إلا من حيث توفره على أغلب مقومات
الشعرية "المطلقة"، ومن ثم انفتاحه على الشعرية اليونانية من خلال جهود
الفلاسفة المسلمين، اعتقادًا منه أنها أداة مهمة تساعده - إذا أضيفت
إلى التراث النقدي العربي – على تجاوز الخصوصيات "المحلية" لرصد
الثوابت في أي شعرية كانت دون اعتبار للزمان أو المكان:
ولا يعتبر الكلام بالنسبة إلى قائل ولا زمان البتة، وإنما يعتبر بحسب
ما هو عليه في نفسه، من استيفاء شروط البلاغة والفصاحة، بحسب ما وقع
فيه، واستيفاء أكثرها/أو وقوع أقلها فيه أو عدمها بالجملة منه، ووجود
نقائصها أو أكثرها، فبهذا النحو يصح الاعتبار.
يطمح صاحب المنهاج باعتماده المزاوجة بين إنجازات النقد العربي
والشعرية اليونانية، إلى استخلاص المقومات الأساس للشعرية المطلقة، أي
البحث فيما هو ثابت أو يمكن أن يكون كذلك في أية شعرية كانت دون مراعاة
لجانب الخصوصية، الذي يميز هذه الشعرية أو تلك:
فمن كانت له أدنى بصيرة لم يتخالجه الشك في أن الصحيح ما ذكرته،
لاستناد ما قلته إلى علم اللسان الكلي، الذي لا تنبني أصول علوم اللسان
الجزئية ومباديه إلا فيه ،لكون علم اللسان الكلي منشأ على أصول منطقية،
وآراء فلسفية وموسيقية وغير ذلك.
حدُّ الشعرية
لقد اعتمد حازم النص الشعري معيارًا يوجه نظره البلاغي في تحديد ماهية
الشعر، وحصر مقوماته الأساس، وذلك لوعيه بأن "من يريد أن يستنبط هذه
الصنعة (الشعر) من صناعة أخرى لعله لا يحسنها بله هذه، وذلك غير ممكن،
فإنما يستنبط الشيء من معدنه ويطلب من مظنته"،
وهو ما يشي بحرص حازم على التأمل في النصوص الشعرية، والتفاعل الحي
والمباشر مع مكوناتها النوعية، من أجل إنتاج معرفة واعية بها
وبالقوانين الضابطة لها، لأنه
لا معرج على ما يقوله في الشيء من لا يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه،
فإنما يطلب الشيء من أهله، وإنما يقبل رأي المرء فيما يعرفه.
إن هذا الوعي بالطبيعة الخاصة للشعر، دفع حازمًا لأن يجعل من النص
الشعري مجالاً للتأمل، مما أقدره على استخلاص مفهوم متكامل للشعر، صدر
فيه عن مراعاة لطبيعة الشعر، ومعرفة دقيقة بأسرار الصنعة الشعرية.
يقول حازم في تعريف الشعر:
الشعر كلام موزون مقفى، من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه
إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه،
بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصورة بحسن
هيأة تأليف الكلام، أو قوة صدقه، أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك. وكل ذلك
يتأكد بما يقترن به من إغراب، فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا
اقترنت بحركتها الخيالية، قوي انفعالها وتأثرها.
وقد تسببت المداخل المتنوعة التي اعتمدها حازم،
في إضفاء نوع من الارتباك على تصوره للعملية الإبداعية، إذ في الوقت
الذي يقرر فيه استقلال النص الشعري بنفسه بوصفه "محاكاة مستقلة
بنفسها"، اعتمادًا على "حسن هيأة تأليف الكلام"، إذا به يتخلى عن هذا
المبدأ النقدي بعد تقريره ليطرح بديلاً آخر نقيضًا للأول، ممثلاً في
اعتماد معيار القيمة على صدق المعنى أو شهرته، والمقصود هنا: المعنى
الذي يراد تحبيبه أو التنفير منه، مما يؤدي إلى التضحية باستقلال النص.
وهو أمر لا يمكن فهمه إلا في ضوء الظروف التي أحاطت بتأليف المنهاج،
حيث سادت تيارات ذات منزع أخلاقي معاد للشعر وهو ما يرصده جابر عصفور
في سياق مقارنته بين كتاب قدامة وكتاب حازم. يقول:
لقد كان قدامة يؤلف كتابه في فترة ازدهار لم تكن قائمة في عصر حازم على
مستويات عدة، وبالتالي كانت مشكلة قدامة... هي تحديد علم يضبط خطى
الازدهار... أما حازم فكان عليه أن يواجه الإحساس العام بهوان الشعر
وقلة جدواه، في مجتمع ينهار ما فيه من أصالة، ويذبل كل غصن من إنجازات
الماضي.
وبالعودة إلى تعريف حازم للشعر نجده يروم تحديد الخصائص النوعية التي
تميز القول الشعري عن باقي الفنون، صادرًا في ذلك عن وعي عميق بأن
الفنون جميعها – ومنها الشعر - تتشابه على مستوى الإبداع ومستوى
التلقي، ذلك أن فنونًا مثل الرسم والنحت والموسيقى، تقوم على المحاكاة
مثلها في ذلك مثل الشعر، غير أن كل فن يتميز عن الآخر من خلال الأداة
التي يوظفها، أي وسائل المحاكاة، وهو ما جعل حازمًا يركز على الأداة
التي يوظفها الشاعر، والتي تدمغ الشعر بخصائص نوعية مرتبطة بطبيعة
أداته. فإذا كان الرسم يستخدم الألوان، والنحت الحجر، والموسيقى
الأنغام، فإن الشعر يتميز عنها باستخدامه اللغة أداة للتعبير والبيان.
وبالرغم من اشتراك الشعر مع الخطابة في استخدام اللغة أداة، فإنه يتميز
عنها بخصائص ذاتية تتمثل في استخدامه اللغة استخدامًا خاصًا يتجاوز
التبليغ إلى التأثير، مما يجعل منه فنًا متميزًا على مستوى التشكيل
والتأثير.
لعل ما يلفت نظرنا في هذا التحديد الذي يقدمه حازم للشعر هو مزجه بين
المنحى الخطابي والمنحى الشعري، إذ بالرغم من عناية حازم – في تحديده
الشعر - بالمقومات الدلالية واللفظية والوزنية والتغريبية، التي تمثل
جانب الخصوصية الشعرية في التراث النقدي العربي، فإن الغاية في النهاية
هي تزيين الشيء أو تقبيحه من أجل الإقبال عليه أو النفور منه، وهذا
المسعى هو مسعى خطابي، مما يسمح لنا بالقول: إن تصور حازم للنص الشعري
هو تصور خطابي، إذ النص الشعري – في تصور حازم - دائمًا يصدر أمرًا
لمتلقيه إما بفعل شيء أو الكف عنه، متوسلاً في ذلك بالوسائل التخييلية
وما يصاحبها من تأثير يضغط على حساسية المتلقي، ويدفعه إلى الاستجابة
للمضمون الفكري أو الأخلاقي الذي تفرضه القصيدة.
المعنى التخييلي أو الشعري
يعتبر حازم التخييل خصيصة جوهرية في الأقاويل الشعرية، ومقومًا أساسًا
من مقومات هذه الصناعة، إذ به تتقوم وتعتبر، لأن مجال الشعر هو الكلام
المخيل الذي تذعن له النفس، أي الكلام الذي ينفعل له المتلقي انفعالاً
نفسيًا لا عقليًا. فما هو الكلام المخيل؟
يقول حازم نقلاً عن ابن سينا:
والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط لأمور، أو تنقبض عن أمور
من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسيًا غير فكري.
ويحصل ذلك بأن
تتمثل للمتلقي من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم
في خياله صورة ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصور شيء آخر بها، انفعالاً –
من غير روية - إلى جهة من الانبساط أو الانقباض.
ويستعين التخييل بمقومات لفظية ووزنية وقفوية وأسلوبية من أجل تقديم
أمور لها علاقة بالأغراض الإنسانية، مما يؤثر في المتلقي ويدفعه إلى
الاستجابة للمقاصد التي يضمنها الشاعر نصه، وهو ما يجعل المقومات
الشعرية تتحول من مجرد مسموعات إلى وسائل تخييلية تحيل على المعاني
المتصلة بالجانب الإنساني، وتخيلها إلى المتلقي الذي يتأثر بها وينفعل
لها، وهو أمر لا يمكن تحقيقه باللغة العادية أو الاعتباطية الدلالية.
المقومات اللفظية والوزنية
خلافًا لأنصار المعنى الذين يعتبرون اللفظ مجرد حلية تزيينية، فإن
حازمًا يراعي اللفظ ويعتبره مقومًا شعريًا، إذ التزيين اللفظي بالنسبة
إليه، ليس حلية فارغة، ولكنه – في التوظيف الشعري - يوصل معنى لا يوصله
المعنى المجرد والمباشر.
انطلاقًا من هذا الوعي يقرر حازم أن الشاعر ينبغي أن يتجنب استخدام
الألفاظ التي لا تعدو أن تكون مصطلحات علمية لا يعرفها إلا المتخصصون،
لأن المعجم المتخصص يقف عائقًا أمام الفهم، ومن ثم يتعطل التفاعل بين
المتلقي والنص:
فأما المعاني أو العبارات المتعلقة بصنائع أهل المهن، فينبغي ألا
يستعمل شيء منها لأن استخدامها في الشعر أشد قبحًا من استعمال الألفاظ
الساقطة المبتذلة.
لقد احتفى حازم بالتزيينات اللفظية لما تمتاز به من قدرة على إثارة
انتباه المتلقي وجذبه إلى التفاعل مع المعنى الذي تعرضه، كما أكد على
التزيينات الوزنية والقفوية التي تستطيع من خلال شكلها الخاص أن تؤثر
وتوصل المعنى:
فالعروض الطويل تجد فيه أبدًا بهاء وقوة، وتجد للبسيط بساطة وطلاوة،
وتجد للكامل جزالة وحسن اطراد، وللخفيف جزالة ورشاقة، وللمتقارب بساطة
وسهولة، وللمديد رقة ولينًا مع رشاقة، وللرمل لينًا وسهولة، ولما في
المديد والرمل من اللين كان أليق بالرثاء وما جرى مجراه منهما بغير ذلك
من أغراض الشعر.
إن التزيينات اللفظية والوزنية والقفوية ليست مجرد "مسموعات"، ولكنها
تتحول في الاستخدام الشعري إلى إحالات طبيعية على "المفهومات": المعاني
المتصلة بالأغراض الإنسانية والمدارك الجمهورية، وبذلك تنهض هذه
التزيينات بوظائف إقناعية، لأنها تسمح بلفت انتباه المتلقي، وتضغط على
حساسيته للتفاعل مع المعنى الذي تحمله، ومن ثم الاستجابة للمضمون
المعرفي والأخلاقي الذي تفرضه القصيدة.
وبذلك يتضح أن حازمًا يشترط في المقومات الشعرية شرطين لتكون لائقة
بالشعر، وقادرة على أداء وظيفتها كعناصر فعالة ضمن الاستراتيجية التي
يؤطرها تصور حازم لبلاغة النص الشعري:
-
الشرط الأول:
يتعلق بمادة الشعر، (معنوية ولفظية)، ويشترط فيها حازم أن تكون متصلة
بالذات الإنسانية: "وكانت نفوس الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على
الميل إليها أو النفور عنها".
-
والشرط الثاني:
متعلق بصورة التعبير التي يشترط فيها التخييل.
لقد أصبح النص الشعري – في التصور البلاغي لحازم - قائمًا على المزج
بين الاستراتيجية الشعرية والاستراتيجية الخطابية، ويمكن اعتبار ذلك
المراجعة الأساس التي قدمها حازم لبلاغة أرسطو وشعريته، لقد طوعهما
ليصبحا شكلاً من أشكال الخطابة.
النص الشعري من زاوية التواصل
يندرج النص الشعري ضمن الحقل التواصلي بشكل عام، لأن كل نص شعري يعني
تواصلاً بين منجزه ومتقبله، ويتحقق هذا التواصل عبر وسيط نوعي هو
القصيدة التي تحمل مضمونًا معرفيًا وأخلاقيًا، يتوجه به المبدع إلى
متلقيه.
وقد استثمر علماء من حقول معرفية مختلفة النتائج التي توصل إليها منظرو
عملية التواصل، ونجحوا في تطبيقها على مجالات تخصصهم، مما ساعدهم على
التقدم بهذه التخصصات خطوات شاسعة إلى الأمام. ويعتبر رومان ياكبسون من
الأوائل الذين تنبهوا لأهمية توظيف نظرية التواصل في مجال الشعرية
والأسلوبية، وقد ساعده ذلك على الخروج من المأزق الذي سقطت فيه
الدراسات الأسلوبية قبله، التي حاولت تحديد الخصائص المميزة للنص
الأدبي عن طريق إجراء مقابلة بين اللغة الأدبية واللغة العادية،
باعتبار أن الأولى تتضمن أسلوبًا، والثانية تخلو منه. وإذا كان هذا
الإجراء قد أسعف علماء الأسلوب على المستوى النظري، فقد واجهتهم صعوبات
عديدة عند التطبيق، دفعتهم إلى التشكيك في هذا الإجراء.
وعلى عكس ذلك نجد نظرية التواصل تطرح إشكال "الأدبية" طرحًا جديدًا،
حيث تناولته بطريقة مغايرة عندما وضعت في اعتبارها – وهي تحاول القبض
على "أدبية" الأدب - مختلف الظروف التي تحيط بعملية التخاطب، والتي
تنسج الشبكة المعقدة لعملية التواصل، كما أخذت بعين الاعتبار الظروف
العامة غير اللغوية التي يتنزل فيها الخطاب، مثل المتكلم والمتلقي
والمقام التواصلي، بوصفها عناصر هامة في تحديد خصائص الخطاب.
إن استلهام نظرية التواصل وتوظيف نتائجها في الدراسات الشعرية، أسعف
الباحثين في "الأدبية" في تجاوز ثنائية اللغة الأدبية واللغة العادية،
والتأسيس لدرس وظيفي، يستند في تصنيفه لأنواع الخطاب، وتحديد التكوين
الأسلوبي للنصوص، إلى تراتبية الوظائف ويعتمد على الوظيفة المهيمنة لحل
إشكال "الأدبية"، إذ كل خطاب يتضمن بالضرورة جملة من الوظائف المنتظمة
بشكل تراتبي. وطبيعة الخطاب تتحدد بالاستناد إلى الوظيفة المهيمنة،
فإذا كانت الوظيفة الإبلاغية هي المهيمنة، فإننا نكون أمام نص تواصلي
إخباري، في حين نكون أمام نص تواصلي شعري إذا كانت الوظيفة الشعرية هي
المهيمنة، وهذا لا يعني أن النص الشعري تنعدم فيه عناصر الإخبار، أو أن
النص الإخباري تنعدم فيه سمات الشعرية. كل ما هنالك أن الوظيفة الشعرية
تكون طاغية في النص الشعري، في حين تحضر الوظائف الأخرى بشكل ثانوي
تبعًا لمقصدية المنشئ. يقول ياكبسون:
ليست الوظيفة الشعرية هي الوظيفة الوحيدة لفن اللغة، بل هي فقط وظيفته
المهيمنة والمحددة، مع أنها لا تلعب في الأنشطة اللفظية الأخرى سوى دور
تكميلي وعرضي.
إن أهمية هذا التصور تتمثل في التنبيه إلى بعض الملابسات التي تحيط
بالظاهرة الأدبية، فالاهتمام لم يعد مُنصبًا على خصائص الخطاب الأدبي
بوصفها خصائص مطلقة، وإنما أصبحت دراسة هذه الخصائص تنطلق من وعي بأن
الخطاب ينجز بالضرورة في سياق خاص، ومن ثم ينبغي للدارس أن يراعي في
مباشرته النصوص الأدبية - إلى جانب العناصر اللغوية المحضة – جملة من
العوامل غير اللغوية مثل المتلقي والمقام، وما يقوم بين هذه العناصر من
علاقات، مما يسهم في تحديد الأسس التي ينبني عليها الخطاب، وكذا خصائصه
ونوعيته. والنتيجة المترتبة عن مثل هذا التصور، أن
خصائص الخطاب ومواصفاته، وهي موضوع الدرس البلاغي، ليست مطلقة نظرية،
كما أنه لا يتسنى ضبطها بمحض الافتراض وخالص الفكر، وإنما هي حصيلة
تفاعل جملة المعطيات الحافة بإنجاز الخطاب، خاصة المتكلم والسامع
والغاية التي يجريان إليها أو ما يمكن ان نطلق عليه الوظيفة.
إن نظرة البلاغة للنص الشعري باعتباره نشاطًا تواصليًا يتقصد التأثير،
وما ترتب عن ذلك من عناية بالمقاصد والمقام، وغيرها من العناصر التي
تكفل نجاعة الخطاب، أكسبها بعدًا تداوليًا ومقاميًا.
البعد التداولي للبلاغة
عندما تنظر للظاهرة البلاغية باعتبارها ظاهرة لغوية متجسدة في خطاب،
ومتحققة فيه، خاضعة لشروط القول والتلقي، فإننا نكون أمام خطاب تواصلي
يمتاز بخصائص بنائية وبراغماتية تجعله مختلفًا عن غيره من الخطابات
الإخبارية، السردية والحكائية. وبالتالي فإن مقاربة هذا النوع من
النصوص سوف تكون مختلفة، لأن التعامل النقدي في هذه الحالة سيكون مع
نوع خاص من التخاطب، إذ إن أية محاولة لرصد الصور الأسلوبية والبنائية
في القول البليغ ستجد نفسها أمام ظواهر بلاغية (أسلوبية وبنائية
وحجاجية)، تحتل فيها القصدية والتأثير والنجاعة مكانة هامة، مما يفرض
على الدارس استحضار مقاصد المتكلم والسياق التداولي الذي يتم فيه
التخاطب الأدبي.
إن ما يميز بلاغية النص الأدبي عن غيره من التحققات النصية الأخرى، هو
استناده إلى مرجعية أو سياق مشترك بين المخاطب والمخاطب، وبالتالي بروز
قيمة القصدية بالنسبة للذوات المتخاطبة، وبذلك ينتمي القول الشعري إلى
مجال التداوليات، وهو مجال شاسع يسمح لنا بالقول إن هناك تداولية
بلاغية، إلى جانب التداولية اللسانية والمنطقية والفلسفية.
فالبلاغة تتحدد بكونها "فنًا"، أي مجموعة من القواعد المعيارية التي
تتيح الإقناع أولاً ثم التعبير الجيد لاحقًا، ومن ثم نظر للبلاغة
بوصفها عتادًا بنائيًا وتبليغيًا يتقصد أساسًا التأثير في متلقي
الخطاب، وهو ما يكشف عن البعد التداولي والمقامي للبلاغة، إذ يمكن
للبلاغة – وبالرغم من طابعها المعياري - أن
تصبح بلاغة وصفية، بل أيضًا بلاغة تاريخية وتأويلية تعكس بصورة نقدية
وضعية تلقي الشارح (للنص)، إنها مؤهلة في هذه الحالة، لتكوين أسس
"نظرية تداولية للنص.
لقد توصل هنريش بليث إلى هذه القناعة بعد استعراضه لمقصديات البلاغة
القديمة، ورصده طابعها التداولي، حيث كانت البلاغة القديمة تميز بين
ثلاثة أنماط من المقصدية:
1-
المقصدية الفكرية: وتضم مكونا تعليميًا وحجاجيًا وأخلاقيًا.
2-
المقصدية العاطفية: وتضم مكونين أحدهما غائي يكون هدف الإقناع فيه خارج
النص، والآخر غير غائي يكمن في إحالة النص إلى نفسه، مما يولد المتعة
الجمالية.
3-
مقصدية التهييج: وتكمن في البحث عن الانفعالات العنيفة التي تسيطر على
الجمهور لتحقيق تهييج عاطفي وقتي.
وقد ذهب بليث بقناعته بإمكانية التأسيس لنظرية تداولية انطلاقًا من
البلاغة إلى أقصى حدودها، عندما رأى أنه
بوسع التداولية النصية أن تأخذ من جديد مفهوم المقام النصي، والوظائف
التي تحدد المقامات، وتدمج ذلك كله في نموذج نصي وظيفي.
إن البعد التداولي للبلاغة يتولد من اهتمامها بمفهوم "المقام الخطابي"
في سياق بحثها عن المقاصد، وقد ترتب عن توجه البلاغة نحو الأثر
التداولي أن وضع المتلقي في مركز الاهتمام. وتنطلق البلاغة في ذلك من
تصور يعتبر أن كل نص متضمن بالضرورة لقدر من البلاغة، أو هو بلاغة بشكل
من الأشكال مادام يتملك وظيفة تأثيرية، "وبهذا الاعتبار فالبلاغة تمثل
منهجًا للفهم النصي مرجعه التأثير، وعندما نفكر حسب المفاهيم البلاغية
فإننا ننظر إلى النص من زاوية نظر المستمع/القارئ، ونجعله تابعًا
لمقصدية الأثر".
الأبعاد التداولية لبلاغة حازم
على الرغم من أن حازمًا يوجه كتابه المنهاج نحو بلاغة الشعر تخصيصًا،
حتى صنف الكتاب – ضدًا على عنوانه - ضمن كتب نقد الشعر، فإن الدارس لا
يعدم عنده انشغالاً بمجموعة من القضايا النقدية التي تفتح بلاغته على
المجال التداولي بشكل عام.
ومن القضايا التي تكشف هذا الانشغال:
أ - إلحاحه على وظيفية النص الشعري، بالنظر إلى مقاصد منجزه.
ب - اهتمامه بالمقام التواصلي الذي يدخل في سياق "التبليغ الخطابي.
ج - انشغاله بقضية التداخل بين الخطابات، من خلال المقارنة بين التخييل
والتصديق.
د - عنايته بالغرض بوصفه معيارًا موجهًا في قراءة النص الشعري.
أ - الوظيفة البلاغية
إن موضوع البلاغة هو وصف الطرق الخاصة في استعمال اللغة، وتصنيف
الأساليب حسب قدرتها على التعبير عن المقاصد، ولتحقيق ذلك يلجأ المتكلم
إلى طرق مخصوصة في التعبير، تتيح له تجاوز الإبلاغ إلى التأثير، وغاية
البلاغة مد المتكلم بمجموعة من التقنيات التي تعتبرها ناجعة في تحقيق
المقاصد.
يقول ابن خلدون محددًا البلاغة في مقدمته:
البلاغة هي مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في
إفادة ذلك.
وتدخل البلاغة – حسب ابن خلدون - ضمن علم البيان الذي "يبحث فيه عن
الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال"
مما يعني أن البلاغة تولي عناية خاصة لوظيفة الخطاب قبل جمالية
التعبير، حيث تنحصر مهمة البلاغة في البحث عن القواعد التي تتيح
التطابق بين اللفظ ومقتضيات الحال في النص الأدبي، باعتباره خطابًا
يهدف إلى الإفصاح بأفضل أسلوب.وتعتبر البلاغة أن إفصاح النص بأفضل
أسلوب يمكنه من أداء وظيفته البلاغية.
تركز الوظيفة البلاغية على المقاصد لتحقيق الإقناع، وهو ما يميزها عن
الوظيفة الشعرية، فالتصور الذي ينظر للنص من زاوية وظيفته البلاغية لا
يهتم باللغة كبنية مقصودة لذاتها، ولكن باعتبارها فعلاً يتقصد التأثير،
مما يجعل الشكل اللغوي يتحول إلى حلية أو زينة تابعة للوظيفة، وليست
هذه الوظيفة سوى ما يريده المتكلم من المتلقي، أي الاستيعاب أولاً ثم
الاقتناع ثانيًا، وما ينجم عنهما من حالات. إن الوسائل اللغوية لا يتم
الاهتمام بها إلا بقدر ما تساعد على بلوغ المقاصد.
ويفضي هذا التصور إلى اعتبار البلاغة علمًا بالوسائل التي بفضلها تتحقق
نجاعة الخطاب ومنفعته، مما يدل على أن النظر إلى النص الشعري من زاوية
الوظيفة البلاغية يصدر عن إيمان عميق بقدرة النص على الفعل، إنه ينقل
من رأي إلى رأي، ومن حال إلى حال، وهذه القدرة على الفعل لا تكون ممكنة
إلا إذا كان في اللغة قوة خطابية خلاقة، تمنح القول سلطانًا طاغيًا لا
يقاوم.
انطلاقًا من هذا الإيمان بسلطة النص وقدرته على الفعل تم التفكير في
اللغة ذرائعيًا وتداوليًا، كما تم التساؤل – بتأثير من هذا التصور - عن
الطريقة المثلى التي تمكن من نظم الدلائل على نحو يكفل التأثير في
المتلقي، وتجعله يستجيب لتوجيهات المتكلم، ويسير وفق رغبته، وكانت
البلاغة هي العلم الذي قدم قواعد هذا النظم.
يمكن إرجاع جذور هذا التصور - في تقديرنا على الأقل – إلى مكانة النص
الشعري في الثقافة العربية الإسلامية والطريقة التي وظف بها، حيث نظر
إليه من زاوية التأثير الآني، فقيمة النص تتحدد أساسًا بمدى قدرته على
تحقيق الإفادة والنجاعة، وبقدر ما يكون النص ناجعًا يعد ناجحًا، يقول
ابن خلدون:
اعلم أن الكلام، الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه إفادة المعنى.
تكشف هذه المقولة قضية مهمة من قضايا البلاغة العربية، يتعلق الأمر
بنظرة البلاغيين العرب لوظيفة اللغة بصفة عامة، ووظيفة المجازات
والأساليب على نحو أخص، إذ اعتبروا النص الأدبي مجرد وسيلة تكشف
المعاني والدلالة عليها، منطلقين في ذلك من الفصل القائم في أذهانهم
بين الألفاظ والمعاني، وتقدم المعاني على الألفاظ في الوجود.
وقد ترتب عن اعتبار البناء اللغوي مجرد وسيلة لإبراز المعنى أن دخل في
خدمته، حيث أصبحت قيمته تتحدد بقدرته على أدائه والإحاطة بجوانبه، لا
بما يمكن أن يولده في نفس متلقيه من متعة شكلية خالصة، "وهذا يعني أن
النص أو بالأحرى لغة النص لا يمكن أن تكون غاية في ذاتها بأي وجه من
الوجوه".
ومن هنا نظر للأساليب ومختلف أفانين التعبير باعتبارها خادمة للمعاني،
ومسخرة للكشف عنها وتقديمها للمتلقي في أحسن صورة من اللفظ. كما يمكن
إرجاع مواقف البلاغيين المجمع على مناهضة الإفراط في استعمال البديع
إلى تصورهم لوظيفة النص الأدبي باعتباره دالاً على مقاصد منجزه.
لقد ترتب عن هذا التصور - الذي يربط غائية النص الأدبي بإفادة المعنى،
وحصول النفع المباشر - أن أصبح النص الأدبي – وإن توافرت له الشرائط
الفنية التي تميزه عن الكلام العادي - وسيلة إبلاغ بالدرجة الأولى،
مادامت قيمة النص رهينة بمدى قدرته على إفادة المعنى والدلالة على
المقاصد. وهو ما يقتضي إلحاق جميع الوجوه البلاغية والأساليب المعدولة
عن الطرائق المألوفة في الشعر، بالوسائل الخادمة للمعنى والتابعة له،
تقتصر غايتها على توضيحه والكشف عنه. وترتب عن ذلك أن انحصر دور
البلاغة في تدعيم الوظيفة الرئيسة للنص عن طريق مده بالوسائل والتقنيات
التي تكفل له النجاح في الدلالة على الغرض، ومن ثم التأثير في المتلقي
وتحريكه.
إن نظرة حازم للوظيفة لا تخرج عن هذا التصور، فهو أيضًا ينظر للنص
الشعري من زاوية نجاعته في تحقيق مقاصد منجزه، ومدى قدرته على التأثير
في المتلقي وإقناعه، وهو ما جعله يولي عناية خاصة لما يمكن للكلام أن
يمارسه من سلطة على متلقيه.
يعتبر حازم أن "من شروط البلاغة حسن الموقع في نفس الجمهور"،
مما يدل على أن النص الشعري تتخلله الوظيفة الخطابية كما تحددت عند
أرسطو في كتابه الخطابة، وما نقله الفلاسفة المسلمون انطلاقًا
منه، إذ المقصود بالأقاويل الشعرية فيما يقول حازم:
إنهاض النفوس إلى فعل شيء، أو طلبه، أو اعتقاده، أو التخلي عن فعله، أو
طلبه، أو اعتقاده، بما يخيل لها فيه من حسن أو قبح أو جلالة أو حسن.
إن الوظيفة البلاغية عند حازم مرتبطة بمقاصد نفعية واضحة، لدرجة تسمح
لنا بالقول، إن تفكيره البلاغي قائم على منفعة الخطاب ونجاعته. وتكمن
الوظيفة عنده في فعل الكلام في متلقيه، إذ تنبع قيمته من ارتباطه بغرض،
وسعيه لغاية، ومن هنا اهتمام حازم – إلى جانب اللغة الشعرية كبنية -
بالفعل الذي يحققه القول في متلقيه.
وقد أسهمت النفعية التي ينظر بها حازم إلى النص الشعري في تحديد خصائصه
الفنية وبنيته اللغوية، ولعل أبرز تلك الخصائص التي نص عليها حازم:
ضرورة الملاءمة بين صياغة النص الشعري وموضوعه ومتلقيه، والوظيفة التي
يتقصد تحقيقها، يقول:
إنما يكون الوضع المؤثر، وضع الشيء الموضع اللائق به، وذلك يكون
بالتوافق بين الألفاظ والمعاني والأغراض، من جهة ما يكون بعضها في
موضعه من الكلام، متعلقًا ومقترنًا بما يجانسه ويناسبه ويلائمه من ذلك.
إن الوظيفة البلاغية لا يمكن إدراكها إلا من خلال الاهتمام بمختلف
العناصر المكونة لعملية التواصل الأدبي، وهو ما دفع حازمًا – انطلاقًا
من نظرته للنص الشعري من منظور تواصلي - إلى الاهتمام بالأطراف الثلاثة
المؤسسة للتواصل الأدبي، ممثلة في المبدع، المتلقي والنص. وينيط حازم
بكل واحد من هذه العناصر وظيفة خاصة، حيث يحمل المبدع مسؤولية مآل نصه
من حيث النجاعة، مما يتطلب منه –إلى جانب الطبع - الدربة في أنحاء
التصاريف البلاغية، أما المتلقي فتكمن وظيفته في الاستجابة للمقاصد
التي ضمنها المبدع نصه، في حين يقوم النص بوظيفة ترتكز على الخطاب من
حيث الجودة والحسن، وهي الوظيفة البلاغية.
إن نظرة حازم للنص الشعري من زاوية وظيفته تدفع الدارس للتساؤل عن
العوامل التي أدت إلى طغيان الوظيفة على تفكيره، غير أنه ما يلبث أن
يقرر أن العوامل التي أدت إلى ذلك متعددة، ويمكن إرجاعها - من وجهة
نظرنا على الأقل – إلى عاملين رئيسين: أولهما تاريخي عام، وثانيها ظرفي
خاص.
يتصل العامل الأول بمكانة النص الشعري ووظيفته في الثقافة العربية
الإسلامية التي ربطته بمقاصد نفعية، حيث نظر للشعر من زاوية نجاعته في
التغيير والتبديل، أي الأثر الفعلي في المتلقي، وهذه النزعة إلى النفع
هي التي وجهت النقد العربي إلى ضبط المعايير الفنية لتضمن للنص الشعري
أكبر قدر من الفعالية.
أما العامل الثاني فيرتبط بالظروف التاريخية التي أحاطت بتأليف
المنهاج، حيث تعرض الشعر لهجوم عنيف حتى عد "نقصًا وسفاهة"، وقد
صدر مهاجموه عن منزع أخلاقي قاس يعتبر الشعر مجرد كذب وتزييف للحقائق،
ولذلك ركز حازم على الوظيفة التي ينهض بها الشعر في تعليم الجمهور،
وحثهم على الفضائل، من أجل الدفاع عن الشعر والإعلاء من شأنه في وجه
خصومه والمنتقصين منه.
ب - المقام التواصلي
إن العناية بالمقام، نتيجة حتمية للتصور البلاغي العام الذي يصدر عنه
حازم، إذ الإلحاح على الوظيفة، والنظر إلى النص الشعري من زاوية
التواصل، يفضي إلى بروز فكرة ضرورة ربط المقال بالمقام، وملاءمته
لمقتضى الحال، من أجل تحقيق المقاصد، وهو ما يجعل المقام يدخل في سياق
"التبليغ الخطابي" بوصفه نسقًا من القيم والإجراءات العملية الرامية
إلى إحداث تغيير في الأنساق السلوكية والاعتقادية للمتلقي.
يمكن تحديد المقام بأنه جملة الظروف العامة التي يتنزل فيها الخطاب،
"ويتركب من المتكلم والمستمع ومن أنساقها المعرفية والإرادية
والتقديرية، ومن علاقاتهما التفاعلية المختلفة".
وقد عني حازم بالمقام التواصلي بوصفه مقياسًا بلاغيًا يساعد على فهم
النص وتقدير نجاعته، حيث يطالب الشاعر بمراعاة الظروف المادية
والاجتماعية التي يتم في إطارها إنجاز النص (مقتضى الحال الخارجي)، وما
يترتب عن ذلك من مخاطبة كل طبقة من الناس حسب منزلتها الاجتماعية وحظها
من الجاه والسلطان، يقول:
يجب أن يقصد في مدح صنف من الناس إلى الوصف الذي يليق به، وأن يعتمد في
مدح واحد ممن يراد تقريظه ما يصلح له من تلك الفضائل وما تفرع عنها.
ويدعو حازم الشاعر إلى مراعاة مقتضيات الأحوال الخارجية، حتى لو تطلب
منه ذلك استعمال الأقاويل الكاذبة، والمبالغة في الوصف، وذلك حين يرى
أن
الأحوال المقدرة التي يتخيلها أهز من الأحوال التي وقعت، فيبني قوله
على الحال المخيلة الممكنة دون الواقعة، ليكون الكلام أشد موقعًا من
النفس وعلوقًا بالقلب.
وحتى لا يخرج الشاعر عن المقاييس البلاغية المطلوبة، يدعوه حازم إلى
مراعاة الغرض الذي يوجه إليه كلامه من حيث الجد والهزل، إذ ينبغي له أن
يميز طريقة الجد التي "هي مذهب في الكلام تصدر الأقاويل الشعرية فيه عن
مروءة وعقل بنزاع الهوى والهمة"،
وطريقة الهزل التي "تصدر الأقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهمة والهوى
إلى ذلك".
انطلاقًا من هذا التمييز يدرك الشاعر أنه
يجب في معاني الطريقة الجدية أن تكون النفس فيها طامحة إلى ذكر ما لا
يشين ذكره، ولا يسقط عن مروءة المتكلم، فتكون الألفاظ منسجمة مع الغرض
فيستعمل ألفاظًا تمتاز بالمتانة والرصانة.
وطريقة الهزل عكس ذلك حيث لا يترفع الشاعر عن ذكر السفاسف.
وقد ترتب عن اعتماد حازم للمقام مقياسًا بلاغيًا أن أصبحت الأحكام
النقدية نسبية، تتحول بتحول المقام:
أكثر ما يستحسن ويستقبح في علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع،
فقد يحسن في موضع ما يقبح في موضع، ويقبح في موضع ما يحسن في موضع.
كما ولد الاهتمام بالمقام مفهوم الاختيار، حتى يتمكن الشاعر من
الملاءمة بين المقام والمقال.
ولا يزال ذو المعرفة بتصاريف الكلام، والدربة بتأليف النظام، يضع
اللفظة موضع اللفظة، ويبدل صيغة مكان صيغة، حتى يتأتى له مراده، وينال
من كمال المعنى بغيته
فالمهم بالنسبة لموقف حازم، المؤسس على نجاعة الخطاب ومنفعته، أن تكون
المعاني موظفة توظيفًا ناجحًا يتساوق مع المهمة التي ينيطها الشاعر
بنصه، مما يسلمنا للقول إن حازمًا يعتمد المقام أداة إقناع، أكثر منه
مظهرًا فنيًا أو مقياسًا أسلوبيًا.
ج - التداخل بين الخطابات:
أ - تقاطع الخطابي والشعري:
على الرغم من أن البلاغة العربية لم تبلور مفهوماتها النقدية في إطار
نظرية الأجناس الأدبية، حيث صبت اهتمامها على الشعر والخطابة، بينما
ظلت الأجناس القولية الأخرى كالترسل والنادرة والخبر على هامش الدرس
البلاغي، فإن قضية التداخل بين الخطابات ظلت موضوعًا للتأمل البلاغي.
وقد تعرض حازم لهذه القضية في كتابه، حيث يميز الشعر عن الخطابة،
انطلاقًا من المكون المميز لهما، إذ جعل التخييل قوام الشعر، والإقناع
قوام الخطابة:
وينبغي أن تكون الأقاويل المقنعة الواقعة في الشعر، تابعة لأقاويل
مخيلة، مؤكدة لمعانيها، مناسبة لما قصد بها من الأغراض، وأن تكون
المخيلة هي العمدة، وكذلك الخطابة ينبغي أن تكون الأقاويل المخيلة فيها
الواقعة فيها تابعة لأقاويل مقنعة، مناسبة لها مؤكدة لمعانيها، وأن
تكون الأقاويل المقنعة هي العمدة.
إن الفرق بين الخطابة والشعر، يرجع أساسًا – فيما يرى حازم - إلى
الطريقة الخاصة التي يتعامل بها كل نوع مع اللغة، ومن ثم يصبح الفرق
بين الصناعتين كميًا ونوعيًا: فإذا كانت الخطابة – بالرغم من كونها
صناعة إقناعية تصديقية - تحتاج إلى عناصر تخييلية لإيقاع التصديق،
فتستعمل كثيرًا من الوسائل الفنية التي تدخل في صميم الصناعة الشعرية،
كالتشبيهات والاستعارات، فإنها ملزمة باستخدام قدر يسير من هذه الوسائل
الخاصة بلغة الشعر، حتى تبقى الحدود واضحة بين ما هو خطابي وما هو
شعري، لأن استخدام الخطيب لقدر كبير من الاستعارات من شأنه أن يحول
القول الخطابي إلى قول شعري، مما يعني أن الفرق الكمي بين الشعر
والخطابة يمكنه أن يتحول إلى فرق كيفي. ولذلك ينص حازم على أنه
ينبغي ألا يستكثر في كلتا الصناعتين مما ليس أصيلاً فيها كالتخييل في
الخطابة، والإقناع في الشعر، بل يؤتى في كلتيهما باليسير من ذلك على
سبيل الإلماع.
إن النظرية الشعرية عند حازم تقوم على المزج بين المسعى الشعري والمسعى
الخطابي، إذ على الرغم من تمييزه الاستراتيجية الشعرية عن الخطابية،
لقيام الأولى على التخييل والثانية على الإقناع، فإنهما يلتقيان في
الغرض والمقصد، وهو "إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل
القبول لتتأثر بمقتضاه".
مما يشي بأن حازمًا يعتبر النص الأدبي مزيجًا من الشعر والخطابة، بل
إن تصوره للأدب تصور خطابي، إذ إن النص هو في النهاية يصدر أمرًا
لمتلقيه بفعل شيء أو الكف عن فعله، وحينما يدفعه إلى فعل شيء بحفزه
بواسطة الوسائل التخييلية فإن ذلك يكون عملاً شعريًا، من هنا فإن الفرق
بين الشعر والخطابة لا يستند إلى التباين في الغايات بل يستند إلى
التباين في الوسائل
وهو ما جعل حازمًا يسوغ للشاعر "أن يخطب لكن في الأقل من كلامه،
وللخطيب أن يشعر لكن في الأقل من كلامه".
ب - الشعر بين التخييل والتصديق
اتخذ حازم من تمييزه بين الشعر والخطابة منطلقًا يعالج على أساسه
مجموعة من القضايا التفصيلية المتعلقة بالإبداع الشعري، لعل أهمها قضية
الصدق والكذب، حيث اعتبر أن الأصل في الأقاويل الخطبية أن تكون غير
صادقة، ما لم يعدل بها من الإقناع إلى التصديق، لأن الإقناع يتقوم على
الظن، والظن ينافي اليقين. أما الأقاويل الشعرية فلا ينبغي النظر إليها
من حيث هي صادقة أو كاذبة لأنها تتقوم بالتخييل، والتخييل لا ينافي
اليقين، لأن التخييل يحاكي الشيء بما هو عليه أو بما ليس عليه،
والمعتبر في الشعر – في نظر حازم - كونه كلامًا مخيلاً أيًا كانت
مقدماته من حيث الصدق والكذب، فلذلك كان
الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون كاذبة، وليس يعد
شعرًا من حيث هو صدق ولا من حيث هو كذب، بل من حيث هو كلام مخيل.
يبدو أن حازمًا ينظر للتخييل الشعري المصحوب بالتأثير في ضوء مقارنته
بالتصديق البرهاني والظن الجدلي والمغالطة السوفسطائية والإقناع
الخطابي، مما يعني أنه يسلم بالفرض الفلسفي الذي يجعل الشعر فرعًا من
فروع المنطق، بوصفه قياسًا من أقيسته وإن اعتبر أدنى الأقيسة. ففي
المنطق يرتب الكلام من حيث الصدق والكذب ترتيبًا تنازليًا، يبدأ بالقول
البرهاني فالجدلي فالخطبي فالسوفسطائي لينتهي بالقول الشعري، الذي هو
كاذب بالضرورة، يقول الفارابي:
إن الأقيسة الصادقة بالكل لا محالة هي البرهانية، والصادقة بالبعض على
الأكثر هي الجدلية، والصادقة بالمساواة هي الخطبية، والصادقة في البعض
على الأقل هي السوفسطائية، والكاذبة بالكل لا محالة هي الشعرية.
غير أن حازمًا يخالف هذا التقسيم التقليدي ليقرر أن القول الصادق يمكن
وقوعه في الشعر:
إن ما قام في الأقاويل القياسية على التخييل والمحاكاة هو قول شعري،
سواء كانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية، يقينية أو مشتهرة أو
مظنونة.
ويرجح حازم أن يكون الخطأ قد أتى إلى القائلين بكذب القياس الشعري
من حيث ظنوا أن ما وقع من الشعر مؤتلفًا من المقدمات الصادقة فهو قول
برهاني، وما ائتلف من المشهورات فهو قول جدلي، وما ائتلف من المظنونات
المرجحة الصدق على الكذب فهو قول خطبي، ولم يعلموا أن هذه المقدمات
كلها إذا وقع فيها التخييل والمحاكاة كان الكلام قولاً شعريًا، لأن
الشعر لا يعتبر فيه المادة، بل ما يقع في المادة من التخييل.
يحيل مفهوم التخييل عند حازم على الأثر الذي يحدثه النص الشعري عند
تلقيه وما يترتب عنه من سلوك، إن التخييل يحيل بشكل مباشر على عملية
الإبداع من زاوية التلقي، بوصفها عملية إيهام موجهة تتقصد إحداث تأثير
مقصود في المتلقي. وتتحقق فاعلية التخييل في القارئ من خلال الأقوال
المحاكية والخيالية التي تتضمن محتوى شعوريًا وخياليًا ينفعل له
المتلقي انفعالاً من غير روية، مما يفرض عليه الاستجابة للمضمون الفكري
أو العاطفي الذي تفرضه القصيدة.
وترتبط فاعلية التأثير التي يكفلها التخييل بالغاية التي يتقصدها
المبدع من وراء العمل الأدبي، والمتمثلة فيما يسمى "التحسين"
و"التقبيح"، فعن طريق التخييل يستطيع المبدع أن يضخم الجوانب السلبية
في موضوع ما بغرض تقبيحه، كما يمكنه التركيز على الجوانب الإيجابية
لنفس الموضوع أو غيره لإبراز إيجابياته بغرض تحسينه، وعندما ترتبط
فاعلية التخييل بالتحسين أو التقبيح، فإنه يصبح متصلاً بالتأثير في
سلوك المتلقي، إما باستمالته أو تعديل موقفه أو تغييره، وهي غاية لا
تتحقق إلا إذا لجأ الشاعر إلى ربط الموضوع الأصلي (موضوع المحاكاة)
بموضوعات أخرى أكثر قبحًا أو حسنًا، عن طريق رصد علاقات المماثلة بين
الموضوعين، فيقبل المتلقي على أمر أو ينفر منه انطلاقًا من عملية
"قياس" غير واع تعتمد أساسًا مبدأ المماثلة. مع التنبيه هنا إلى أن
المماثلة لا تعني التطابق بين الموضوعين، لأن محاكاة الشيء بنفسه لا
قيمة لها، ولا ينتج عنها التأثير المرجو. إن المماثلة هنا تعني اشتراك
موضوعين في صفة أو أكثر مما يسمح بنقل صفة الحسن أو القبح من موضوع
لآخر، بطريقة تصبح معها عملية القياس بديهية وناجعة، وهو ما يجعل الشعر
قياسًا تشكل المخيلات مادته الأساس، وهذه المخيلات لا ينظر إليها من
حيث الصدق والكذب وإنما المعتبر فيها قدرتها على التخييل، أي قدرتها
على الإيهام ومن ثم التأثير.
إن الشعر يتكون من مقدمات – كما يقول ابن سينا - "تبسط الطبع نحو أمر
وتقبضه عنه، مع العلم بأنها كاذبة"،
فعندما نريد أن نجعل إنسانًا ينفر من شيء ليس منفرًا في الواقع فإننا
نعمد إلى تشبيهه بشيء كريه ينفر منه الطبع، ويترتب عن ذلك أن ينفر
القارئ من شيء ليس منفرًا في الحقيقة، مما يعني أن الشعر يعتمد على رصد
علاقة المماثلة بين الموضوعات لتحقيق مقاصده عن طريق "القياس الشعري".
ويمتاز القياس الشعري عن غيره من الأقيسة في الصناعات الأخرى،
باستعماله مقدمات تخييلية كاذبة، أو بتعبير أدق "موهمة الكذب"، لأن
المعول في الشعر أن يحقق التأثير المصاحب للتخييل، ومن ثم لا ينبغي
النظر إلى الشعر – في رأي حازم - من حيث هو صدق أو كذب، لأن المعتبر في
الشعر نجاحه في تحقيق مقاصده من خلال خصائصه النوعية المائزة له بوصفه
تخييلاً للموجودات، وليس عرضًا منطقيًا لحقائق الوجود، أو نقلاً حرفيًا
لها، وبهذا يتميز الشعر عن العلم والفلسفة اللذين ينطلقان من مقدمات
برهانية صادقة تستلزم نتائج صادقة بالضرورة، مما يسمح بتشكيل كليات
عقلية مجردة ومطلقة لحقائق الواقع والتجارب الفعلية.
وعلى هذا الأساس اعتبر الشعر غير قادر على تحقيق الإقناع وإيقاع
التصديق، لأن الغاية من الصناعة الشعرية تحقيق التخييل وليس التصديق،
ذلك هو الأساس الذي يقيم عليه الفارابي تمييزه بين جودة التخييل وجودة
الإقناع، يقول:
جودة التخييل هي غير جودة الإقناع، والفرق بينهما أن جودة الإقناع يقصد
بها أن يفعل السامع الشيء بعد التصديق، وجودة التخييل يقصد بها أن تنهض
نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل أو الهرب منه و النزاع إليه أو
الكراهة له، وإن لم يقع تصديق، كما يعاف الإنسان الشيء الذي إذا رآه
يشبه ما سبيله أن يعاف على الحقيقة، وإن تيقن الذي يراه أنه ليس هو ذلك
الشيء الذي يعاف.
وقد ترتب عن هذه النظرة أن أصبح الشعر رديفًا للكذب، لأنه وإن عد
قياسًا شأنه في ذلك شأن البرهان، فإنه يعد برهانًا كاذبًا لا محالة.
غير أنه وبالرغم من قيام التخييل الشعري على مقدمات كاذبة، فإنه يتفوق
على التصديق البرهاني في تحقيق التأثير، لأن الصدق وحده ليس كافيًا
لإحداث التأثير المطلوب، "فقد يصدق بقول ولا ينفعل عنه" كما يقول ابن
سينا: "فإن قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى، انفعلت النفس طاعة للتخييل لا
للتصديق".
ولذلك فأكثر الناس يتأثرون للتخييل ولا يتحركون للتصديق، فإذا حرف
القول الصادق عن العادة بإعمال المحاكاة فيه ليفيد تخييلاً، تحركت
النفس له ، واستأنست به، إذ للمحاكاة – فيما يقول ابن سينا:
شيء من التعجيب ليس للصدق، لأن الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراءة
له، والصدق المجهول غير ملتفت إليه، والقول الصادق إذا حرف عن العادة
وألحق به شيء تستأنس به النفس، فربما أفاد التصديق والتخييل معًا،
وربما شغل التخييل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به.
لا يكتفي حازم في دفاعه عن الشعر، بمقرراته عن إمكانية وقوع الأقاويل
الصادقة فيه، وإنما يذهب أكثر من ذلك، حين يقرر أن الأصل في الأقاويل
الشعرية هو الصدق، والشاعر لا يعدل عن الصدق إلى الكذب إلا لضرورة:
وإنما يرجع الشاعر إلى القول الكاذب حيث يعوزه الصادق والمشتهر بالنسبة
إلى مقصده في الشعر، فقد يريد تقبيح حسن، وتحسين قبيح، فلا يجد القول
الصادق في هذا ولا المشتهر، فيضطر حينئذ إلى استعمال الأقاويل الكاذبة.
إن التداخل بين الخطابات من أعقد القضايا التي واجهت الفكر النقدي، إذ
لازالت قضية اختلاط الشعر بالخطابة، وضرورة التمييز بين هذين النوعين
من فنون القول، مطروحة حتى الآن، وتشكل تحديًا نقديًا جديرًا بالفحص
والمدارسة. ومن الذين اهتموا بالتمييز بين التواصل الشعري والتواصل
الخطابي، هنريش بليث، في مقاله المطول البلاغة والأسلوبية،
يقول:
الواقع أن النص الشعري يحتوي أيضًا على عناصر إقناعية، وعناصر حمالة
للأخبار، كما أن النص الإقناعي يحتوي عناصر شعرية وعناصر إخبارية، وإذا
وقعت انزلاقات في تراتبية الوظائف النصية، تبعًا لتغيير في نمط التلقي،
فقد ينتج عن ذلك شعرنة نص أو ضياع شاعريته، وينبغي ترتيب الصور
اللسانية حسب الهيمنة الوظيفية، وبذلك ستنتمي حينًا إلى تصور أسلوبي
شعري، وحينًا إلى تصور خطبي، وحينًا إلى تصور يومي.
لقد وصم الشعر العربي في بداية القرن العشرين بالخطابية والتقريرية، من
طرف دعاة التجديد، وارتفعت بعض الأصوات داعية إلى تمييز الشعري عن
الخطابي، وحظي شعر الحكمة بالنصيب الأوفر من الهجوم حيث عد صياغة
تقريرية جامدة، يتصنع حكمًا منظومة مفروضة على التجربة الشعرية. وقد
انفرد حازم برأي متميز، يدل على عمق التفكير وأصالته، عندما قرر أن
"الإقناع أصيل في الخطابة، دخيل في الشعر، ولكنه سائغ فيه إذا كانت
العبارة عنه بكلام مخيل".
فالأقاويل التي بهذه الصفة – في رأي حازم - خطابية بما يكون فيها من
إقناع وشعرية لكونها ملتبسة بالمحاكاة والخيالات، ومن هنا كانت الطريقة
المحمودة عنده هي المراوحة بين المعاني الشعرية والخطابية "فإن ذلك
يحسن لاعتضاد إحداهما بالأخرى"،
تلك هي طريقة المتنبي الذي يعجب حازم كثيرًا بعبقريته، إذ كان
يحسن وضع البيت الإقناعي من الأبيات المخيلة، لأنه كان يصدر الفصول
بالأبيات المخيلة، ثم يختمها ببيت إقناعي يعضد به ما قدم من التخييل،
ويجم النفوس لاستقبال الأبيات المخيلة في الفصل التالي، فكان لكلامه
أحسن موقع من النفوس بذلك.
وبهذا الإجراء تبقى الحدود واضحة بين ما هو خطابي وما هو شعري، لأن
المبدع إذا جعل "عامة الأقاويل الشعرية خطابية، وعامة الأقاويل
الخطابية شعرية، كان قد أخرج كلتا الصناعتين من طريقها، وعدل بها عن
سواء مذهبها ووجب رد قوله".
لقد عالج حازم قضية التداخل بين الخطابي والشعري، بوعي نقدي عميق، حيث
حسم الخلاف نظريًا على الأقل - حينما أخرج قضية الصدق والكذب من دائرة
اهتمام "الشعرية"، التي ينبغي – من وجهة نظره - أن تركز على أهمية
التخييل. وبدل أن يسأل النقاد هل هذا صدق أم كذب، كان الأجدر بهم
التساؤل عن طبيعة التأثير الذي يحققه التخييل. يقول تودوروف:
ليس الأدب كلامًا يمكن أو يجب أن يكون خاطئًا بخلاف كلام العلوم، إنه
الكلام الذي يستعصي على امتحان الصدق، لا هو بالحق ولا بالباطل، ولا
معنى لطرح هذا السؤال، فذلك ما يحدد منزلته أساسًا من حيث هو "تخييل.
د - الغرض الشعري
لقد اعتمد حازم الغرض الشعري معيارًا تداوليًا يوجه قراءته للنص
الشعري، بالنظر إلى علاقته بمتلقيه. ويدل الغرض على الهدف والقصد،
ولذلك كان الغرض الذي يتوجه به الشاعر إلى متلقيه يتضمن بالضرورة
قصدًا، لأن اختيار الشاعر للغرض متوقف على المقاصد التي يطمح إلى
تبليغها.غير أنه ينبغي التمييز في القصد بين نوعين:
-
قصد داخلي: حيث لا يتوجه الشاعر إلى تحقيق مقاصد نفعية، أي أن الشعر
يكون غرضًا في ذاته، فعندما يتوقف الشاعر ليصف راحلته فإن الراحلة في
هذه الحالة لا تعدو أن تكون موضوعًا جماليًا يتفنن الشاعر في إبداعه،
دون السعي إلى تحقيق مكاسب من وراء ذلك. إن القصد هنا قصد فني.
-
قصد خارجي: يتحقق حين يتوجه الشاعر إلى متلق مباشر، ففي هذه الحالة
يكون الغرض هو المقصد الذي يطمح الشاعر إلى تحقيقه من خلال التوجه إلى
متلق محدد بغرض إرضائه أو استمالته أو نيل عطائه.
وقد اتخذ حازم من الغرض معيارًا موجها في قراءة النص الشعري، يظهر ذلك
جليًا في تحليله للقسم الأول من كافورية المتنبي: "أغالب فيك الشوق".
وهو أمر لا يمكن فهمه إلا إذا استحضرنا مبدأ "نفعية الخطاب" الذي عالج
على أساسه حازم أغراض الشعر وأقسامها، حيث تناول الغرض انطلاقًا من
تصوره لمفهوم الشعر الذي هو تخييل يتقصد التأثير، وعلى هذا الأساس رفض
تقسيمات البلاغيين السابقين لأغراض الشعر، لأنها – من وجهة نظره - "غير
صحيحة"،
ومن ثم أخذ على عاتقه تقديم "القسمة الصحيحة" اعتمادًا على ما يثيره
الشعر من انفعالات نفسية في متلقيه، لأن
مقصد الشعر هو استجلاب المنافع، واستدفاع المضار، ببسط النفوس إلى ما
يراد من ذلك، وقبضها عما يراد بما يخيل لها من خير أو شر.
مما يدل على أن معالجة حازم لأغراض الشعر، يتحكم فيها مبدأ "نفعية
الخطاب"، لأن اختيار الغرض وصياغته متوقف على مدى القبول الذي يمكن أن
يجده لدى المتلقي. واستنادًا إلى هذا المبدأ، قدم حازم معالجته
التفصيلية لأغراض الشعر وأقسامها، فجعل الأغراض المعبرة عن حالات نفسية
عامة في الأعلى وهي: الارتياح والاكتراث وما يتركب منها، وهي الطرق
الشاجية (يسمي حازم هذه الأغراض أجناسًا)، وتحتها الأغراض المعبرة عن
حالات نفسية فرعية، وهي الاستغراب والاعتبار والرضى والغضب والنزاع
والنزوع والخوف والرجاء (يسميها أنواعًا)، وتحت هذه الأنواع تأتي
الأغراض الفنية المعروفة: المدح والنسيب والرثاء والهجاء.
إن معالجة حازم للأغراض تتسم بنفعية واضحة، فالأغراض في تقسيم حازم –
كما يلحظ ذلك رشيد يحياوي - "لا تشتق من بعضها أو من صيغ لغوية، أو من
أخلاق وممارسات ولكن من حالات نفسية"،
فالغرض يرتبط بالانفعالات النفسية التي يريد الشاعر نقلها للمتلقي من
بسط وقبض، وفرح وشجو.
وانسجامًا مع المهمة التي ينيطها حازم بالشعر، فإنه يربط الغرض بالوزن،
إذ مادامت المقاصد التي يصدر عنها الشاعر في صياغة الأغراض تتنوع ما
بين مقاصد الجد والرصانة والتحقير والصغار، ومقاصد الهزل والشجو
والاكتئاب، وكانت الأوزان تتنوع من حيث خصائصها الصوتية والدلالية، فمن
الضروري أن يختار الشاعر التراكيب الوزنية التي تلائم الغرض، ليترتب عن
ذلك إيقاع جاد رصين أو خفيف مطرب. يقول حازم واصفًا الاقتران بين الوزن
والغرض:
ولما كانت أغراض الشعر شتى، وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة، وما
يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من
الأوزان ويخيلها للنفوس.
إن تشديد حازم على إيحاءات الأوزان وضرورة مناسبتها للأغراض، يساعد على
تحقيق التأثير المطلوب، لأنه يتيح إمكانية ربط كل غرض بالوزن الأقدر
على تخييله للمتلقي، ومن ثم التأثير فيه وتحريكه.
دفاع عن فن الشعر
يمكن اعتبار كتاب حازم بيانًا مطولاً خصصه صاحبه للدفاع عن فن الشعر
وبيان جدواه، فالكتاب من هذه الزاوية عمل سجالي يرد فيه صاحبه على صنف
من المتأدبين، الذين لم يروا في الشعر سوى "نقص وسفاهة"، فوصموه
بالكذب، وترفعوا عن الاشتغال به إنتاجًا وتلقيًا. فانتدب حازم كتابه
للدفاع عن هذا الفن والإعلاء من شأنه في وجه خصومه، والمنتقصين منه،
فبعد أن بين مآل الشعر في عصره حيث "الاستعداد لتقبل الشعر معدوم
بالجملة"،
حاول تغيير أفق التلقي في عصره من خلال الكشف عن المكانة التي كان
يحتلها الشاعر في الثقافة العربية الإسلامية، ناقلاً عن ابن سينا قوله:
كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي فيعتقد قوله، ويصدق حكمه، ويؤمن
بكهانته.
ولم يكن حازم لينجح في مسعاه الرامي إلى إعادة الاعتبار للشعر، إلا
ببيان جدواه، والكشف عن أثره الإيجابي في حياة الفرد والجماعة، عن طريق
رصد وظائفه العملية ذات الأثر الآني، أي تأكيد محتواه الأخلاقي من حيث
قدرته على التأثير والتوجيه والتعليم.
الوظائف العملية للشعر
يقوم الشعر في تصور حازم على المحاكاة والتخييل، أي أن الشعر في جوهره
تصوير وتمثيل يسعى من خلاله الشاعر إلى إحداث ضروب من التأثير في
متلقيه. غير أن وظيفة التخييل الشعري عند حازم لا تقتصر على التأثير
الانفعالي، أي الاستجابة الجمالية التي تمنح شعورًا بالمتعة والتعجيب
فقط، ولكنها تتجاوز التأثير الانفعالي إلى التأثير في سلوك المتلقي
وأفعاله. ومن هنا كانت قيمة النص الشعري تتحدد بالغايات التي يمكن أن
يحققها، وليس بالمتعة الجمالية الخالصة، لأن الجميل في التصور البلاغي
لحازم، ينبع من النافع والمفيد. وتساوقًا مع هذا التصور لوظيفة الشعر،
يؤكد حازم أن الشعر والمحاكاة لا ينبغي أن تكون مقصودة لذاتها، وإنما
ينبغي توجيهها إلى غايات تعليمية أو أخلاقية، وبذلك يرتفع الشعر عن أن
يكون مجرد إغراق في الزينة البلاغية المتنصلة من أية غاية سوى المتعة
العابرة، لأن ذلك يتعارض مع تصور حازم لبلاغة النص الشعري.
الوظيفة الأخلاقية
يرتبط الشعر عند حازم بغاية أخلاقية متمثلة في الحث على الفضيلة أو
الكف عن الرذيلة، فما دام الشعر يتحدد عنده بوصفه محاكاة لأشياء جميلة
(الفضائل)، أو أشياء قبيحة (الرذائل)، فإنه يقوم ببثِّ القيم الأخلاقية
النبيلة بفضل التأثير المصاحب للتخييل الشعري، وهو ما لا يستطيعه علم
الأخلاق بمقولاته النظرية الجامدة. وقد تنبه الفلاسفة المسلمون لهذه
الخاصية في الشعر، فدعوا إلى استثمارها في توجيه الشعر إلى تأديب
الجمهور، وتهذيب أخلاقهم، لما له من تأثير مباشر على السلوك الإنساني.
يساير حازم الفلاسفة المسلمين في تقديرهم للدور المتميز الذي يمكن
للشعر أن يقوم به في تقويم سلوك الجمهور وأخلاقهم، ويتجلى ذلك واضحًا
في تقريره أن
الأقاويل الشعرية... القصد منها استجلاب المنافع واستدفاع المضار،
ببسطها النفوس إلى ما يراد من ذلك، وقبضها عما يراد بما يخيل لها فيه
من خير أو شر.
ولعل هذا أن يفسر لنا عناية حازم الفائقة بمحاكاة التحسين والتقبيح،
لأنها تؤدي إلى نتائج عملية مباشرة، لارتباطها بغاية أخلاقية هي الحث
على السلوك المرغوب فيه، أو الردع عن آخر غير مرغوب فيه بالتنفير منه،
في حين لم يحفل بمحاكاة المطابقة، التي يكون الهدف منها جماليًا صرفًا،
لأنها في نظره
لا يقصد بها إلا ضرب من رياضة الخواطر والملح، في بعض المواضع التي
يعتمد فيها وصف الشيء، ومحاكاته بما يطابقه و يخيله على ما هو عليه.
الوظيفة التعليمية
ينهض الشعر في تصور حازم - إلى جانب الوظيفة التربوية الأخلاقية –
بوظيفة تعليمية، تتمثل في تعليم العامة وتقريب المفاهيم النظرية
والحقائق الفكرية إلى عقولهم، التي تعجز عن إدراك الحقائق بالطرق
البرهانية المعتمدة في تعليم الخاصة.
وينجح الشعر في أداء هذه الوظيفة بفضل المحاكاة والتخييل، التي تمكنه
من تقديم المعارف النظرية المجردة في شكل حسي ملموس، مما يساعد
العاميُّ على إدراكها وتفهمها، لأن الشعر يحاكي الحقائق بمثالاتها عن
طريق التشبيه والمماثلة، ويساهم هذا التقديم الحسي للحقائق النظرية في
تسهيل عملية التعلم بالنسبة للعاميِّ، إذ تقدم له المبادئ النظرية
للعلوم بوسائل تصويرية تقربها من عقله، وتساعده على فهمها. فبدلاً من
أن يتعرف على جوهر الشيء وحقيقته، فإنه يتعرف على شبيهه أو نظيره الذي
يحاكيه الشاعر، لذلك ينص حازم على أنه:
ينبغي أن تكون المحاكاة في الأمور المحسوسة، حيث تساعد المكنه من
الوجوه المختارة، بالأمور المحسوسة وبها يحسن أن تحاكى الأمور غير
المحسوسة، حتى يتأتى ذلك ويكون بين المعنيين انتساب.
يرتبط التأكيد على الخاصية الحسية للشعر التي تكفلها المحاكاة،
بالوظيفة التعليمية التي ينيطها حازم بالشعر، لأن المعارف النظرية
المجردة لا يمكن أن تدخل في التشكيل الشعري إلا عن طريق الأمثلة
المحسوسة، التي تقربها من أفهام الجمهور، حيث يتم تقديم المجردات عبر
وسيط حسي يقترن فيه المجرد بالملموس، وتعرض فيه الحقائق من خلال تمثيل
يقربها للذهن.
إن المحاكاة عند حازم وسيلة لتعليم الجمهور، لما لها من قدرة على تقريب
الأشياء - التي يصعب عليهم فهمها - إلى أذهانهم، معتمدة في ذلك على
الحسي والملموس.
وقد ترتب عن إلحاح حازم على الوظائف العملية للشعر، أن أصبحت جميع
وسائل الأداء الشعري تابعة للوظيفة، وخادمة لها، إذ الأساس لمثل هذا
التصور هو نجاعة الخطاب من خلال دلالته على المقاصد وليس المتعة
الجمالية الخالصة.
النص الشعري من زاوية الوظيفة
يمكن اعتبار كتاب حازم بيانًا مطولاً خصصه صاحبه للدفاع عن فن الشعر
وبيان جدواه، فالكتاب من هذه الزاوية عمل سجالي يرد فيه صاحبه على صنف
من المتأدبين، الذين لم يروا في الشعر سوى "نقص وسفاهة"، فوصموه
بالكذب، وترفعوا عن الاشتغال به إنتاجًا وتلقيًا. فانتدب حازم كتابه
للدفاع عن هذا الفن والإعلاء من شأنه في وجه خصومه، والمنتقصين منه،
فبعد أن بين مآل الشعر في عصره حيث "الاستعداد لتقبل الشعر معدوم
بالجملة"،
حاول تغيير أفق التلقي في عصره من خلال الكشف عن المكانة التي كان
يحتلها الشاعر في الثقافة العربية الإسلامية، ناقلاً عن ابن سينا قوله:
"كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي فيعتقد قوله، ويصدق حكمه،
ويؤمن بكهانته".
ولم يكن حازم لينجح في مسعاه الرامي إلى إعادة الاعتبار للشعر، إلا
ببيان جدواه، والكشف عن أثره الإيجابي في حياة الفرد والجماعة، عن طريق
رصد وظائفه العملية ذات الأثر الآني، أي تأكيد محتواه الأخلاقي من حيث
قدرته على التأثير والتوجيه والتعليم.
التحليل الحجاجي للنص الشعري
لما كان حازم ينظر للنص الشعري من زاوية النجاعة والمنفعة، فقد احتلت
الوظيفة مكانة مهمة في بنائه البلاغي، فالمعتمد عنده في تحديد وظيفة
النص هو المتلقي، لأن الغاية القصوى التي ينيطها حازم بالنص الشعري هي
التأثير في المتلقي تأثيرًا تتحقق معه مقاصد صاحب النص، والغايات التي
رسمها لخطابه. ومن هنا نظر حازم للنص الشعري باعتباره بنيات بلاغية،
تتميز بوظيفة استراتيجية ضمن العمل التواصلي، وهي استمالة المتلقي
أولاً ثم إقناعه بعد ذلك بالمضمون المعرفي والأخلاقي الذي يحمله النص
الشعري.
استنادًا إلى هذا التصور، عمد حازم إلى دراسة النصوص من جهة بنياتها،
ومن جهة وظيفتها، فهو – في تحليله - لا يتوقف عند الأشكال والمحتويات
التي تميز نظامًا ما، وإنما يطمح إلى معرفة الوظائف التي يمكن للنص
إنجازها باعتباره شكلاً ومحتوى متميزين. ولذلك يدرس التنوع الأسلوبي في
النصوص الشعرية باعتباره تنوعًا مقصودًا ووظيفيًا، وهو في ذلك لا يخرج
عن مواصفات التحليل البلاغي الذي يعتبر أن
البنيات البلاغية ذات طبيعية وظيفية أساسًا، تستهدف نجاعة النص في
المقام التواصلي، وبعبارة أخرى فإن المستعمل إنما يلجأ إلى بعض البنيات
البلاغية لأغراض استراتيجية، أي لكي يوفر شروط القبول لكلامه عند
المخاطب، ولكي يراه تبعًا لذلك وقد أحدث عند الاقتضاء أثرًا (معرفة/أو
فعلاً).
ولأن هذه البنيات توجد في جميع مستويات القصيدة: بناء ولغة وصورًا، فقد
نحت حازم مفهوم التناسب الذي اتخذ منه قانونًا بلاغيًا كليًا يمكن من
دراسة مختلف المستويات المكونة للنص الشعري. ويقوم التناسب – باعتباره
قانونًا بلاغيًا - على مبدأ عام يلح حازم على ضرورة مراعاته، وهو
"اعتماد ما يلائم واجتناب ما ينافر"، حيث حفلت عناوين جميع أبواب
المنهاج – خاصة ذيلها - بما يؤكد ضرورة مراعاة ملاءمة النفس وتحاشي
منافرتها، مما يعني أن تأكيد حازم على ضرورة مراعاة التناسب بين عناصر
النص الشعري نابع من مراعاة أحوال المتلقي، إذ ما يفتأ حازم يلح على
ضرورة مراعاة الجو النفسي للمتلقي لضمان حصول التأثير المطلوب، يقول:
وكلما وردت أنواع الشيء مترتبة على نظام متشاكل، وتأليف متناسب، كان
ذلك أدعى لتعجيب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع
الذي ترتاح له.
ومن هنا انشغل حازم – في سياق دراسته للإجراءات التي تحقق الإقناع -
بمراحل بناء النص، أي الطريقة التي تحقق بها منذ كان فكرة في ذهن
منجزه، إلى أن تحقق في الواقع في موقف تواصلي ما، حيث تتبع مراحل بناء
النص كالآتي:
1.
العثور على الفكرة (الإيجاد)
2.
اختيار موضوعات محددة وترتيبها في بناء (الترتيب)
3.
الوجوه الأسلوبية التي تكسو الأفكار (العبارة)
وجميع هذه العناصر التي تكون بنية النص العامة، هي عبارة عن وسائل
منهجية وإجرائية، توظف من أجل تحقيق الإقناع الخطابي. مما يعني أن
حازمًا ينظر في تحليله البلاغي للنصوص، من زاوية المتلقي الذي يجعله
تابعًا لمقصدية الأثر.
مستويات التحليل البلاغي
لقد انشغلت البلاغة في سياق دراستها للإجراءات التي تتحقق من خلالها
الوظيفة الإقناعية بشروط إنتاج النص، بوصفها مجموعة من الشروط التي
تتطلبها مقتضيات المقام التواصلي، والتي يراعيها المنشئ بغية النجاح في
تحقيق المقاصد التي يصدر عنها، حيث ركزت البلاغة على ضرورة استثمار
الخطيب لمعارف الجمهور ورغباته بوصفها استراتيجية خطابية تمكنه من
التأثير في المتلقي وكسب تأييده، كما اهتمت البلاغة – لنفس الغاية -
بالبنية العامة للنص، أي الطريقة التي يتحقق بها منذ أن كان فكرة في
ذهن الخطيب، (بنية نظرية مجردة) إلى أن تحقق في الواقع (بنية نصية
منجزة)، في موقف تواصلي يتفاعل فيه الخطيب مع الجمهور، يقول فان ديك:
والحق أنه من أجل هذا التفاعل الإقناعي الاتصالي قد أوليت بنية النص
(الخطاب) نفسه عناية خاصة، بل إن الجوانب الأخرى للقضية (العملية)
الكلية قد روعيت أيضًا، على سبيل المثال مراحل محددة في أثناء العثور
على الفكرة (التيمة المناسبة)
Inventio،
واختيار موضوعات محددة في تنظيمها داخل بناء التيمة
Dispositio
وبناء (أسلوب... إلخ) المنطوق ذاته
Elocutio،
والطريقة التي يعرض من خلالها
Pronuntiatio،
والاستراتيجيات والأبنية الإدراكية في الذاكرة
Memoria.
بعبارة أخرى يمكننا القول: إن البلاغة القديمة كانت تقترح خمس خطوات
متتابعة زمنيًا، تمثل مراحل بناء النص، وهذه الخطوات الخمس - حسبما
استخلصها بارت - هي:
1.
الإيجاد: إعداد الأفكار.
2.
الترتيب: ترتيب الأفكار وتوزيعها على مدار الخطبة.
3.
العبارة: الصياغة اللفظية البليغة (وجوه الزخرفة).
4.
الإيماء: استخدام الحركات والإشارات (مسرحة القول).
5.
الذاكرة: الحفظ والاسترجاع.
وتكتسي المراحل الثلاث الأولى أهمية خاصة لأنها تطبق على مختلف النصوص،
أما المرحلتان الأخيرتان فلا تهمان سوى الممارسات الخطابية المعتمدة
على الإلقاء الشفوي. ومن هنا رأينا أن نقتصر على بسط القول في المراحل
الأولى فقط، التي نعتبرها مهمة بالنسبة للمنظور الذي نتبناه هنا، حيث
تتخذ هذه المراحل الثلاث أنموذجًا للتحليل البلاغي، وتمثل كل مرحلة
مستوى من مستويات التحليل للنصوص المكتوبة، أي تلك التي تعتمد التقنية
اللغوية وسيلة للتعبير:
1- الإيجاد
يعتبر الإيجاد وسيلة مساعدة في الإنتاج النصي، ويعني "فن اكتشاف المواد
الحقيقية والمحتملة القادرة على جعل موضوع الخطاب ممكنًا"،
وبعبارة أخرى جميع المواد الخام (الحجج)، التي يتذرع بها المنشئ لحصول
الإقناع. ولا يعني الإيجاد اختراعًا للحجج أو إيجادًا لها من عدم بقدر
ما يعني اكتشاف الحجج، واستخراجًا لها من أماكن محددة تسمى "المواضع".
ويمكن اعتبار "الموضع" بمثابة خزان تحفظ فيه الاستدلالات الخطابية
وتنظم، ويقتصر دور المنشئ على مراجعة هذه المواضع من أجل استخراج الحجج
المطلوبة، يقول دي مارسيه:
المواضع هي خلايا النحل التي يمكن لأي كان أن يذهب ليستمد منها مادة
خطاب، وأدلة لأصناف مختلفة من المواضيع.
إن مواضع الاحتجاج تساعد على إيجاد المضامين لموضوع الاستدلال،
وبالتالي تحل الإشكال المقلق الذي يواجه المنشئ: ماذا أقول؟ وهو
الإشكال الذي تطرحه البلاغة وتحاول حله.
1.1
المعاني
سنتناول المعاني هنا باعتبارها موضعًا من مواضع البلاغة، أي مادة
التأثير التي يتذرع بها الشاعر لحصول الإقناع.
يميز حازم في بداية كتابه بين نوعين من المعاني: معان لا علاقة لها
بالشعر ولا الخطابة ويسميها "المعاني الصناعية"، وأخرى تدخل في صميم
الصناعة الشعرية ويسميها "المعاني الطبيعية". يقول حازم محددًا مادة
الشعر:
فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها أن تجد لها فرحًا أو ترحًا
أو شجوًا هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصيلة، وما لم يوجد ذلك
لها في النفوس ولا معتقداتها العادية، فهي المتصورات الدخيلة، وهي
المعاني التي إنما يكون وجودها بتعلم وتكسب، كالأغراض التي لا تقع إلا
في العلوم والصناعات والمهن، فالمعاني المتعلقة بهذه الطرق الخاصة ببعض
الجماهير لا تحسن في المقاصد العامة المألوفة، التي ينحى بها نحو ما
يستطيبه الجمهور أو يتأثرون له بالجملة.
يميز حازم في هذا المقبوس بين المعاني التي لها علاقة بالأغراض
الإنسانية، وبالتالي تستطيع التأثير فيهم سلبًا أو إيجابًا، والمعاني
التي تكتسب بالتعلم، وهذا النوع من المعاني لا يتأثر له الناس لأنه ليس
رصيدًا مشتركًا بينهم، ولكنه مقتصر على فئة من المتخصصين. إن النوع
الأول من المعاني هو المعتمد في الشعر لارتباطه بدفق الحياة، ولكونه
يشكل معرفة مشتركة وشائعة بين جميع الناس، عامتهم وخاصتهم، ومن هنا
قدرتها على التأثير والتفعيل.
إن مجال الشعر - عند حازم - هو الذات الإنسانية بأفراحها وأتراحها،
والناس لا يتأثرون إلا بالمعاني التي تمس حياتهم، وتثير انفعالاتهم،
ولذلك كانت الممارسة الفنية – كما يريدها حازم - طبيعية وفطرية، مجال
اشتغالها: المعاني الملازمة لدفق الحياة، وكل ما هو عالق بالجوانب
الذاتية للمتلقين، أي المعاني الفطرية التي ينفعل لها الناس، عامتهم
وخاصتهم، من قبيل العواطف الإنسانية من خوف وشجاعة، وحب وكره، وغيرة
وحسد ... إن هذه المعاني التي تمثل الانفعالات الإنسانية العامة التي
لا ينفرد بها شخص دون آخر هي المرشحة للاستعمال الشعري، لأنها تستجيب
للمهمة الأساس التي ينيطها حازم بالشعر وهي التأثير في المتلقي.
أما المعاني المنتمية إلى المجالات الصناعية أو المهنية، فإنها لا تصلح
للاستخدام الشعري، لأنها – إلى جانب كونها محصورة في فئة ضئيلة من
المتخصصين - تمتاز بدلالة أحادية تتنكر لطبيعة الشعر، فالمنظومات التي
تصاغ فيها المعارف النحوية أو الطبية أو البيولوجية، هي منظومات ميتة
لا أثر للحياة فيها، وكلماتها مصنوعة ومتكلسة لا تصلح موضوعًا لأثر
شعري، ولذلك "وجب أن تكون أعراق المعاني في الصناعة الشعرية ما اشتدت
علقته بأغراض الإنسان، وكانت دواعي آرائه متوفرة عليه، وكانت نفوس
الخاصة والعامة قد اشتركت في الفطرة على الميل إليها، أو النفور عنها،
أو من حصول ذلك إليها بالاعتياد، ووجب أن يكون ما لم تتوفر دواعي أغراض
الإنسان عليها، وما انفرد بإدراكه المكتسب الخاصة دون الجمهور، غير
عريق في الصناعة الشعرية بالنسبة إلى المقاصد المألوفة والمدارك
الجمهورية".
2.1 الحجج
إن البلاغة – قبل كل شيء - عتاد بنائي وتبليغي يتوسل به المبدع لفرض
موضوعه، ولذلك كانت الوجوه البلاغية وحدها لا تكفي للتدليل على صدق
الخطاب وإيقاع التصديق، وهو ما يجعل المبدع يستشعر الحاجة إلى الوسائل
التي تسوغ الرأي وترجحه، وفي هذا المستوى تلتقي البلاغة بالحجاج، لأن
الإقناع والاستمالة يتطلبان عناصر حجاجية مثل الشاهد والاستدلال
والحجة، لدعم الرأي وتبريره.
وتختلف الحجج حسب الجهات التي يعتني بها الشاعر، لإيقاع الحيل فيها، من
أجل إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه. ويقسم حازم هذه الجهات إلى أربع:
"ما يرجع إلى القول نفسه،
أو ما يرجع إلى القائل،
أو ما يرجع إلى المقول فيه،
أو ما يرجع إلى المقول له،"
أ- الحجج المستندة إلى الخطاب نفسه: (اللوغوس)
يستند هذا النوع من الحجج إلى "المواضع المشتركة" وهي عبارة عن أفكار
عامة ومجردة، مشتركة بين جميع الموضوعات، ويتميز هذا النوع من الحجج
بكونه يخضع كليًا لإرادة منجز الخطاب، إذ تتحول مادة الحجاج إلى قوة
إقناعية عن طريق عملية منطقية موجهة لغايات إقناعية.من هذه المواضع:
أ-أ موضع الإمكان: ممكن/ غير ممكن:
يستعمل هذا الموضع للبرهنة على أن الشيء قد وقع أو أنه ممكن الوقوع،
يقول حازم:
وعنيت بالإمكان: أن يذكر ما يمكن أن يقع منه أو من غيره من أبناء جنسه،
وغير ذلك مما يصفه ويذكره.
إن موضع الإمكان يساعد الشاعر على إقامة نوع من التشاكل بين الواقعة
الفنية والواقعة الحقيقية التي يحيل عليها، وتسهم هذه المشاكلة في
إيهام المتلقي بإمكانية حدوث الوقائع الفنية فيتقبلها وينفعل لها ويعمل
تبعا لتوجيهاتها، لأنه "كلما توفرت دواعي الإمكان كان الوصف أوقع في
النفس وأدخل في حيز الصحة".
ومن هنا رفض حازم الأحداث الخرافية/ الأسطورية التي تغلب على أشِعار
اليونان، لأنها تناقض العقل ولا تشاكل الواقع، وبالتالي لا تساعد على
خلق الإيهام بإمكانية الحدوث مما يجعلها تقف عائقا أمام حصول التأثير،
ولذلك يقرر حازم – متبنيًا رأي ابن سينا - أنها "قصص مخترعة لا توافق
جميع الطباع".
ويفيد ذلك أن حازمًا يشترط في مادة الشعر أن تكون ممكنة بحسب الضرورة
أو الاحتمال، يقول:
إن الأمر إذا كان ممكنًا سكنت إليه النفس، وجاز تمويهه عليها، والمحال
تنفر منه النفس ولا تقبله البتة، فكان مناقضًا لغرض الشعر، إذ المقصود
بالشعر الاحتيال في تحريك النفس لمقتضى الكلام، بإيقاعه منها بمحل
القبول بما فيه من حسن المحاكاة والهيئة، بل ومن الصدق والشهرة في كثير
من المواضع.
أ-ب موضع الأقل/ الأكثر:
وهو موضع التصغير والتكبير مثل "المبالغات التي يمكن أن نتصور لها
حقيقة، وأن تصرف إلى جهة الإمكان"
ويمثل حازم لذلك بقول المتنبي:
وأنى اهتدى هذا الرسول بأرضــه وما سكنت مذ سرت فيها القساطل
ومن أي ماء كان يسقي جيـــــــــاده ولم تصف من مزج الدماء
المناهل
لقد شعر حازم بما في هذين البيتين من مبالغة قد تخرجهما إلى الاستحالة،
فعلق قائلاً:
فهذا مستساغ مقبول من حيث يمكن أن تتصور له حقيقة وإن لم تكن واقعة، إذ
كانت كثرة الجيوش لا حد لها، ومتى قدرت الزيادة في مقدار منها وإن كثر
أمكنت.
أ-ج التمثيل الخطابي:
التمثيل الخطابي قياس مضمر حذفت منه المقدمتان أو النتيجة، ليكون في
مستوى الجمهور، إذ "ليس ترد المقاييس في الأقاويل الشعرية والخطابية
المقصود بها البلاغة إلا محذوفة إحدى المقدمتين أو النتيجة"
والغاية منه الإقناع وليس البرهنة، لأن مقدماته قائمة على الاحتمالات
العرفية وليس على حقائق صادقة كما هو الحال في القياس البرهاني.
يعتبر أرسطو التمثيل الخطابي (إلى جانب القياس المضمر) المقوم الإقناعي
الرئيس، يقول:
كل الخطباء من أجل إنتاج الإقناع، يبرهنون بالأمثلة أو بالقياسات
المضمرة وليست هناك وسائل أخرى غير هاتين.
ويأتي التمثيل الخطابي تابعًا للكلام الذي يراد الاستدلال على صحته،
يقول حازم:
وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي، وهو الحكم على جزئي موجود
في جزئي آخر بما يماثله.
ولتوضيح الطابع الحجاجي للتمثيل الخطابي نورد بيت المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يريد المتنبي الاستدلال على احتمال وجود شخص شريف مثل سيف الدولة وسط
كثير من السفلة والمنحطين، فيعمد لإثبات هذه الواقعة إلى ربطها بواقعة
أخرى تماثلها، حيث يرى أن وجود شخص متفوق على الطبيعة الإنسانية لا
ينبغي أن يدهشنا، لأن في الطبيعة أشياء كثيرة تناظر هذا الأمر، ويمثل
لذلك بالمسك الذي يعتبر مادة نفيسة، بينما هو في الأصل يرجع إلى مادة
خسيسة هي دم الغزال.
يقوم التمثيل الخطابي على رصد علاقات المماثلة بين الوقائع المتناظرة
لغايات إقناعية، وهو ما يجعل منه مقومًا حجاجيًا بالنظر إلى المتعة
التي يثيرها، والتي لا يمكن أن تكون موضع طعن، إنه "مماثلة إقناعية"
كما يلحظ ذلك رولان بارت، ومن ثم "ينتج إقناعًا أكثر لطافة وأكثر
استحسانًا من قبل العامة، إنه قوة نيرة تدغدغ اللذة الكامنة في كل
تشبيه".
أ-د الشاهد التاريخي:
يُعتبر الشاهد التاريخي أكثر الحجج استخدامًا، نظرًا لقدرته العالية
على إثارة التصديق لاعتماده على الحقيقة، والشاعر يستغل التاريخ ليحرك
المتلقي ويؤثر فيه عن طريق الكشف عن العلاقات التي تربط الحاضر
بالماضي، ومن هنا يلجأ الشاعر إلى التاريخ لتأمله واستخلاص العبرة من
أحداثه.
ومن هذه الزاوية لا يتعامل الشاعر مع أحداث التاريخ باعتبارها ماضيًا
مفصولاً عن حاضر متلقيه، ولكنه يعالجها باعتبارها أحداثًا متصلة
بالحاضر وفاعلة فيه، من خلال حضورها في الذاكرة الجماعية للقراء
المعاصرين، وبهذا الفهم يمكن للتاريخ أن يشكل قوة دفع، توجه المتلقي
الوجهة الصحيحة، وذلك عن طريق "الإحالة" - باصطلاح حازم - حيث يشير
الشاعر إلى الحوادث التاريخية "إحالة تذكرة، أو إحالة محاكاة أو مفاضلة
أو إضراب أو إضافة".
ويبدو حازم متأثرًا في دعوته إلى استغلال التاريخ - بما عرفه من خلال
شروح شعرية أرسطو من أن هذا النوع من الشعر موجود بكثرة في أشعارهم
التي "يذكرون فيها انتقال أمور الزمان وتصاريفه، وتنقل الدول وما تجري
عليه أحوال الناس وتؤول إليه،"
كما لحظ أن بعض الشعراء العرب قد عنوا بهذا النوع من الشعر، ويمثل لذلك
بابن دراج القسطلي الذي اهتم بالتاريخ وتقلبات الدول. ومن هنا دعا حازم
الشعراء إلى تأمل التاريخ واختيار القصص المشهورة المناسبة للأغراض
التي يوجهون إليها كلامهم، يقول:
وملاحظات الشعراء الأقاصيص والأخبار المتطرفة في أشعارهم ومناسبتهم/
بين تلك المعاني المتقدمة، والمعاني المقاربة لزمان وجودهم (والكائنة)
فيها، التي يبنون عليها أشعارهم، مما يحسن في صناعة الشعر.
يمكننا التمثيل لفعالية الإحالة التاريخية في الإقناع بقول النابغة
الذبياني:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظـــــــرت إلى حمام شراع وارد
الـــــــــــــــثمد
يخفــــــــــــــــــــــــــــه جانبا نيق وتتبعه مثل
الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت:" ألا ليتما هذا الحمام لنــــــــــا إلى حمامتنا ونصفه
فــــــــــــــــــــقد
فحسبوه فألفـــــــــــــــــــــوه كما حسبت تسعا وتسعين لم
تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيهـــــــــــــــــا حمامتها وأسرعت حسبة في ذلك
العدد
فهذه الأبيات من قصيدة طالعها "يا دار ميَّة بالعلياء فالسند"، وقد
قالها النابغة في مدح الملك النعمان معتذرًا إليه عما رماه به الوشاة.
ولإقناع الملك ببراءته يدعوه إلى إمعان النظر قبل الحكم، محيلاً إياه
على قصة زرقاء اليمامة التي استطاعت أن تعد الحمام بفضل تدقيقها النظر.
يشترط حازم في الإحالة التاريخية أن تكون مشهورة، أي لصيقة بالوعي
الجماعي وليست مفارقة له، كما يلح على مبدأ المشابهة بين قصص الماضي
ووقائع الحاضر حتى يتمكن المتلقي من الربط المؤثر بين الواقعتين.
أ- هـ الصور الحكمية
لقد كان طبيعيًا أن يلتفت حازم إلى الحكمة مادام يركز على الأدوات التي
تكفل الإقناع، نظرًا لما تمتاز به من قدرة على الإيحاء والإقناع، بفضل
كثافتها التعبيرية التي تختزل خلاصة تجربة حياتية، ولذلك فهي ترد على
سبيل الاستدلال لتحدث عند المتلقي استجابة مقترنة بالتصديق، لأن الشاعر
يردف بها كلامه في ضرب من الاستدلال
لترغب فيما يجب أن ترغب فيه، وترهب مما يجب أن ترهبه، وليقرب عندها ما
تستبعده، ويبعد لديها ما تستقربه، ولتبين لها أسباب الأمور وجهات
الاتفاق.
وينبغي للصور الحكمية أن تقترن بوسائل التخييل حتى ترتفع فعاليتها
الحجاجية، فتتمكن من إغراء المتلقي للإقبال على موضوع الخطاب، لأن
الاستمالة والإقناع يتطلبان المزاوجة بين المضمون العقلي للحجة وصورها
البيانية، حتى يلتبس التبرير العقلي بالعناصر التزيينية، مما يساعد على
تمرير رسالة النص.
نمثل لذلك بقول المتنبي – الذي يعجب حازم بطريقته في صوغ الأبيات
الحكمية -:
أفاضلُ الناس أغراضٌ لذا الزمنِ يخلو من الهمِّ أخلاهم من
الفطنِ
فالمتنبي يقرر هنا حقيقة مفادها أن الفاضل من الناس غرض للزمن، يرميه
بنوائبه فلا يزال حزين البال مهموم الفؤاد، ولا يهنأ بالعيش الرغيد إلا
الخالي من الفطنة. وقد وفر الشاعر لهذا المضمون الفكري ألبسة أسلوبية
وبلاغية، وطاقات صوتية وإيقاعية مكنته من إحداث التأثير المطلوب.
إن اقتران المضمون الفكري - في الصور الحكمية – بالمحسنات البلاغية
يجعله أكثر فاعلية في الإقناع لأن وظيفة الصور الحكمية – في هذه الحالة
- لا تقتصر على الإبلاغ والإعلام، ولكنها تتحول إلى عملية أسلوبية تنشط
الخطاب، وتؤثر في متلقيه من خلال المزاوجة بين الإمتاع والإقناع.
ب - المظهر العاطفي للقائل: (الإيتوس)
يتصل هذا النوع من الحجج بالصفات الشخصية التي يتقمصها المتكلم، أو
مظهره العاطفي الذي ينبغي أن يكون موضع قبول من طرف المتلقي، وهذه
الصفات مجرد مظاهر لا يشترط فيها الصدق بقدر ما يشترط فيها أن تكون
مقنعة خلال بث الخطاب وتلقيه،. يقول أرسطو:
ليس من الضروري فقط أن ننظر كيف نجعل الخطبة نفسها برهانية، بل من
الضروري أيضًا أن يظهر الخطيب أنه على خلق معين.
إن هذه المظاهر التي يتقمصها القائل تمثل في مجملها السلطة الشخصية
للمتكلم، وبقدر ما ينجح القائل في الظهور بالمظهر المناسب لخطابه، بقدر
ما يكون خطابه مقنعًا، ويتحقق ذلك
بإظهار القائل المبالغة في تشكيه أو تظلمه وغير ذلك، وإشراب الكآبة
والروعة وغير ذلك كلامه، ما يوهم أنه صادق، فيكون ذلك بمنزلة الحال
فيمن ادعى أن عدوًا وراءه وهو مع ذلك سليب، ممتقع اللون، فإن النفوس
تميل إلى تصديقه وتقنعها دعواه.
ج - نوازع المتلقي وميولاته: (الباتوس)
ليس الإقناع عملية عقلية خالصة، بل إن استثارة عواطف المتلقي ضرورية
بالنسبة للمتكلم حتى يتمكن من توجيه المتلقي نحو مقصده عن طريق التحكم
في الانفعالات التي ينبغي إثارتها، يقول ميشيل مايير:
إن القدرة على الحجاج الجيد، أي القدرة على الإقناع تقتضي المعرفة بما
يمكن أن يحرك الذات التي نتوجه إليها بالخطاب، أي معرفة ما يحركها.
إن معرفة القائل بنوازع المتلقي التي تمثل نزوعًا طبيعيًا في الإنسان،
يمكنه من تحقيق مقاصده عن طريق إثارة هذه النوازع وتهييجها. لقد أدرك
حازم أن المتلقي لن يتأثر بالشعر إلا إذا كان يعالج موضوعات متصلة
بحياته، وإلا ضعفت الاستجابة الجمالية وتعطل الأثر، ولذلك قرر أن
ما فطرت نفوس الجمهور على استشعار الفرح منه أوالحزن، أو الشجو، أو حصل
لها ذلك بالعادة، هو المعتمد في الأغراض المألوفة في الشعر والمبني
عليه طرقها.
يرتبط غرض الشعر عند حازم بالإقناع، ولا سبيل إلى تحقيق الإقناع من دون
حجج. ولذلك كان الإقناع مرتبطًا – من هذه الزاوية - بمجموعة من الأبنية
الاستدلالية والوسائل الحجاجية التي تمكن من ترجيح الرأي وتسويغه
عقليًا، ومن ثم التأثير في المتلقي لاستمالته وجعله يتقاسم مع المخاطب
اعتقاده الخاص أو إغرائه للقيام بالفعل الذي يريده المتكلم.
2- الترتيب
يعتبر الترتيب نوعًا من البناء المعتمد على الكلمات والأفكار، ويدخل
ضمن اهتمام البلاغة بشروط إنتاج الخطاب لغايات إقناعية، إذ الترتيب كما
يشير هنريش بليث "فن التنظيم الفعال للمواد (الحجج)، في مجموع الخطاب
(نص)".
إن اهتمام حازم بالترتيب نابع من اقتناعه بأن الحجة وحدها لا تكفي، بل
ينبغي صياغتها صياغة جيدة لتكون فعالة، ومن هنا عني بالأمور المتعلقة
بالترتيب، حيث يضطر الشاعر إلى التدخل لاعتماد ترتيب صناعي عوض
الطبيعي، من أجل لفت انتباه المتلقي، الذي يعجب بالنصوص التي تفاجئه
بترتيب مصطنع ولكنه جذاب، ويستغل المبدع ذلك في الإقناع، حيث يسمح له
بتمرير رسالته المرتبة.
لقد عني حازم بالترتيب لأغراض تداولية وجمالية، فلكي يكون الكلام
ناجعًا، يشترط حازم ألا يكون هناك تنافر في العناصر المكونة للقصيدة،
حتى تحافظ على نوع من التماسك بين مكوناتها الموضوعية والأسلوبية،
ويربط حازم هذا النوع من الترتيب بالمتلقي الذي تعود على الكلام
المتسلسل المعاني، وكل إخلال بهذا الترتيب من شانه أن يفاجئ المتلقي.
يقول حازم:
فالذي يجب أن يعتمد في الخروج من غرض إلى غرض أن يكون الكلام غير منفصل
بعضه عن بعض، وأن يحتال فيما يصل بين حاشيتي الكلام، ويجمع بين طرفي
القول حتى يلتقي طرفا المدح والنسيب، ولا يظهر التباين في أجزاء
النظام، فإن النفوس والمسامع إذا كانت متدرجة من فن من الكلام إلى فن
متشابه، ومنتقلة من معنى إلى معنى مناسب له، ثم انتقل بها من فن إلى فن
مباين له، غير جامع بينهما وملائم بين طرفيهما، وجدت الأنفس في طباعها
نفورًا من ذلك، ونبت عنه.
يرى حازم أن القصيدة تتكون من "فصول" متناسقة ومترابطة، حيث حدد شروطًا
لكل فصل لا بد من توفرها فيها مثل "الترتيب والاستقصاء وإيراد المعاني
الجزئية"
ويرجع السبب في تقسيم القصيدة إلى فصول إلى ضرورة الملاءمة بين القصيدة
والحالات النفسية للمتلقي، لأن "النفوس تسأم التمادي على حال واحدة
وتؤثر الانتقال من حال إلى حال وتنفر من الشيء الذي لم يتناه في الكثرة
إذا أخذ مأخذًا واحدًا ساذجًا، ولم يتحيل فيما يستجد نشاط النفس لقبوله
بتنويعه، والافتنان في أنحاء الاعتماد به"،
مما يشي بأن حازمًا يتناول الترتيب لأغراض تداولية وجمالية، إذ يقرر
أنه "يجب أن يقدم في الفصول ما يكون للنفس به عناية، بحسب الغرض
المقصود بالكلام ... ويتلوه الأهم فالأهم".
إن ترتيب الفصول عند حازم خاضع لقوانين كلية يراعيها المتمرس بصناعة
البلاغة، إذ ينبغي - في ترتيب الفصول - مراعاة المبدأ التداولي الهام:
"ما يكون للنفس به عناية"، ثم الغرض الذي يوجه إليه الكلام. ويبدأ
الشاعر بالأهم فالأهم، ليتلاءم ترتيب الفصول مع الشؤون النفسية
للمتلقي، وبالتالي تنجح القصيدة في تحقيق التأثير المطلوب.
غير أن هذا الترتيب الذي يقدمه حازم مرن يستجيب للتغييرات التي تمليها
الاعتبارات التداولية، إذ يمكن للشاعر أن يترك الترتيب الأصلي إذا ما
بدت "التفاتة ونسبة بين فصلين تدعو إلى تقديم غير الأهم على الأهم"،
لكونه يحقق للنفس "استراحة واستجداد نشاط، بانتقالها من بعض الفصول إلى
بعض، وترامي الكلام بها إلى أنحاء مختلفة من المقاصد"
ونسوق هنا مثالا لترتيب الفصول من كافورية المتنبي "أغالب فيك الشوق
والشوق أغلب" التي اتخذ منها حازم مثالاً تطبيقيًا يوضح من خلاله نظرته
للترتيب الفعال - كما يتصوره:
الفصل 1:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
أمـــا تغلــــط الأيـــام في بــــــــــأن أرى بغيضًا تنــائي
أو حبيبًــا تقــــــــــــــــــرب
ضمن الفصل الأول تعجيبًا من الهجر الذي لا يعقبه وصل.
ثم أكد التعجيب في البيت الثاني – وهو تمام الفصل - بذكر بعد الأحباب
وقرب الأعداء، "وكان ذلك مناسبًا لما ذكر من الهجر".
الفصل 2:
ولله ســـــيـــري مــا أقل تئيـــــــــــــــــــــــــه عشية
شرقي الحدالى وغرب
عشية أحفى الناس بي من جفوته وأهدى الطريقين الذي أتجنب
افتتح الفصل الثاني بذكر الرحيل وهو مناسب للأول خصوصًا بعد أن بين
الشاعر حاله وحال من ودعه.
الفصل 3:
وكم لظلام الليل عندك من يد تخبر أن المانوية
تكــــــــــــــذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليه وزارك فيه ذو الدلال المحجب
افتتح الفصل الثالث بذكر العهود السارة وتعديدها، وهو مناسب لمفتتح
الفصل الثاني لأنه تذكر فيه موطن البين، فتلا ذلك بتذكر موطن الوصل في
صدر هذا الفصل، ثم تمم هذا الفصل بذكر محاذرة الرقبة.
الفصل 4:
ويوم كليل العاشقين كمنته أراقــب فــيه الشمس أيــان
تــغـرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه من الليل باق بين عينيه كوكب
افتتح الفصل بتذكر الحال التي حاذر فيها الرقبة عند رحيله عن سيف
الدولة، فشبه ذلك اليوم بيوم العاشقين في الطول.
الفصل 5:
لحى الله ذي الدنيا مناخًا لراكب فكل بعيد الهمِّ فيها
مُعذَّب
افتتح هذا الفصل بذم الدنيا لتقلب أحوالها.
لقد أوضح حازم في تحليله للقسم الأول من هذه القصيدة أن تقسيمها إلى
فصول إنما هو استجابة لحاجة نفسية عند المتلقي الذي يميل إلى التنويع،
إذ علق بعد انتهائه من التحليل:
فاطرد له الكلام في جميع ذلك أحسن إطراد، وانتقل في جميع ذلك من الشيء
إلى ما يناسبه، وإلى ما هو منه بسبب، ويجمعه وإياه غرض، فكان الكلام
بذلك مرتبًا أحسن ترتيب، ومفصلاً أحسن تفصيل، وموضوعًا بعضه من بعض
أحكم وضع.
إن إشادة حازم بحسن الاطراد في قصيدة المتنبي (يسميه أحيانًا الترتيب
والتفصيل) يدل على مدى العناية التي يوليها لانسجام القصيدة، وتسلسلها
تسلسلاً منطقيًا، باعتباره عنصرًا مهمًا في الإقناع. يظهر ذلك جليًا في
نحته مصطلحي "التسويم" و"التحجيل"، وتحديده الشرائط التي ينبغي توفرها
في حالتي التسويم والتحجيل، (أو المطلع والتخلص والاستطراد كما سماها
القدامى)، فإذا كانت وظيفة التسويم تكمن في الدلالة على غرض الشاعر
وتنبئ بمقصده، فإن التحجيل ينهض بوظيفة مغايرة تتمثل في تعزيز معنى
الفصل باستدلالات عقلية، وهذا التحديد لترتيب الفصول نابع من تفكير
بلاغي مستلهم للتسلسل المنطقي الذي ينبغي أن تخضع له القصيدة لتكون
ناجعة ومؤثرة، يتضح ذلك من قول حازم "كثيرًا ما يقع - بوضع معاني
الفصول على هذه الصفة - تعجيب للنفس وانقياد إلى مقتضى الكلام، لكون
المعاني الكلية مظنة لوقوع الاقتداء والائتساء بها للسامع أو عدمها،
حيث يقصد التأنيس بوجودهما أو التنفير من فقدان ذلك".
الترتيب النظمي للقصيدة
بما أن الغاية الأساس من الخطاب هي إقناع المتلقي، فإن ترتيب أجزاء
القصيدة يخضع بالضرورة لهذه الغاية، وانطلاقًا من هذا التصور البلاغي
المحتكم إلى غايات عملية، ينظر حازم لأقسام القصيدة التي تخضع عنده
لشروط التأثير في المتلقي، حيث كل قسم ينبغي أن يوضع في مكانه المناسب
حتى يكون أشد فاعلية، لما يوفره للقصيدة من اتصال أجزاء وتلاؤم فصول.
ومن هنا كانت القصيدة الشعرية – في تنظير حازم - تتكون من عناصر
مترابطة ومتناسقة، لأن البيت المعزول عن سياقه لا قيمة له، شأنه في ذلك
شأن الحرف المفصول عن الكلمة.
واستنادًا لهذا التصور البلاغي العملي لانسجام القصيدة، يشترط حازم أن
يكون البيت جيدًا في ذاته، وجيدًا في موقعه بالنسبة للبناء الكلي الذي
تنظم فيه القصيدة.
الإبداع في الاستهلال
لقد شكل الإبداع في الاستهلال سمة أسلوبية حرص عليها الشعراء، حيث
اعتبرت البراعة في الاستهلال دليلاً على الحذق بصناعة الشعر، يؤكد ذلك
ما قرره حازم من أن
تحسين الاستهلالات والمطالع من أحسن شيء في هذه الصناعة، إذ هي الطليعة
الدالة على ما بعدها، المتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرة.
لقد عني حازم بالاستهلال، بالنظر إلى قوته التأثيرية، وقدرته الفائقة
على جذب انتباه المتلقي، فالاستهلالات تشكل "الطليعة الدالة" من
القصيدة، ولذلك كانت البراعة فيها "تزيد النفس بحسنها ابتهاجًا ونشاطًا
لتلقي ما بعدها، إن كان بنسبة من ذلك، وربما غطت بحسنها على كثير من
التخون الواقع بعدها، إذا لم يتناصر الحسن فيما وليها".
إن الإبداع في الاستهلال – من هذه الزاوية - استجابة للمطلب الإقناعي،
أكثر منه مظهرًا أسلوبيًا أو مقياسًا جماليًا، إذ الغاية منه إثارة
انتباه المتلقي، وتهيئته للإفادة من أجل استمالته، وكسب تأييده لتحقيق
غايات عملية تؤول غالبًا إلى الممدوح الذي يتوجه إليه الشاعر بخطابه.
الإبداع في التخلص والاستطراد
يمكن إدراج عناية حازم بالتخلص والاستطراد، ضمن اهتمامه بالوسائل التي
تحقق للقصيدة وحدتها وانسجامها، وهو في ذلك ينظر لوحدة القصيدة
باعتبارها مطلبًا إقناعيًا يساعد على تحقيق التأثير المطلوب. يقول:
فالذي يجب أن يعتمد في الخروج من غرض إلى غرض أن يكون الكلام غير منفصل
بعضه من بعض ... وكذلك النفوس والأسماع إذا قرعها المديح بعد النسيب
دفعة من غير توطئة لذلك، فإنها تستصعبه ولا تستسهله، وتجد نبوة في
انتقالها إليه من غير احتيال وتلطف.
لقد أشاد حازم "بحسن التخلص" الذي هو خروج بتدرج، لأنه يساعد على الربط
بين الاستهلال والغرض المركزي، مما يوفر للقصيدة تلاحمًا بين الأقسام
يكون له أكبر الأثر في إقناع المتلقي واستمالته.
الانتهاء
عني حازم بنهاية القصيدة، وطالب الشعراء بالحرص على تجويد النهاية،
لأنها آخر ما يقرع السمع، وبقدر ما تكون محكمة النسج، بقدر ما تتمكن من
إطالة مدة التأثير. وهناك نوع من الانتهاء سماه حازم "التحجيل"، وذلك
عندما يذيل الشاعر أواخر فصول القصيدة بأبيات حكمية و استدلالية، وإذا
تحقق ذلك "زادت الفصول بذلك بهاء وحسنًا، ووقعت من النفوس أحسن موقع"،
وبالرغم من أن حازمًا يجعل التحجيل نهاية الفصول لا القصيدة، فإنه يقرر
في موضع آخر أن
الاختتام" ينبغي أن يكون مناسبًا للغرض، فيكون بمعان سارة في التهاني
والمدح، وبمعان مؤسية في التعازي والرثاء.
لقد عني حازم بالترتيب بوصفه تابعًا للوظيفة الإقناعية ومقومًا من
مقوماتها، وعيًا منه بأن مادة التأثير لا تكفي وحدها لحصول الإقناع،
ولكنها في حاجة إلى الترتيب الجذاب الذي يثير انتباه المتلقي، ويجعلها
أكثر فعالية في أداء وظيفتها.
3-العبارة :Elocuti
بعد مرحلة البحث عن الحجج وترتيبها في نص أو خطاب، تأتي مرحلة
"العبارة" التي تتكفل بنقل الأفكار - التي عثر عليها في الإيجاد وثم
ترتيبها – إلى الصياغة اللغوية أو ما يسميه بعض البلاغيين "الزي
اللفظي"، إنها مرحلة التجسيد المادي للأفكار.
تجد البلاغة في الحجاج حقلاً خصبًا لممارسة تحققاتها بوصفها فعالية
قولية وظيفية وأدائية، تتلبس ألبسة لسانية وأسلوبية من أجل التأثير في
المتلقي لاستمالته أو تعديل موقفه.ولتحقيق هذه الغاية يلجأ المتكلم إلى
استراتيجية بلاغية ممثلة في المؤثرات الأسلوبية والصيغ الاستعارية،
التي تضغط على حساسية المتلقي وتدفعه إلى الاقتناع بغرض المتكلم، ومن
ثم الاستجابة له، وهو ما يجعل الوجوه البلاغية تتحول من وسائل إمتاع
إلى عناصر إقناع. هذا ما تؤكده الباحثة "روس" التي تعتبر أن الصور
البلاغية "عملية أسلوبية تنشط الخطاب، ولها وظيفة إقناعية".
وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن البلاغة تزاوج بين البعد الاستدلالي
والبعد الإمتاعي، أي المزاوجة بين البيان الذي يكفل الإقناع، والبديع
الذي يضمن الإمتاع، حيث "الحجاج يبني ويسوغ الرأي الصائب والصادق، أما
الأسلوب البلاغي فهو يعرض هذا الحجاج وموضوعه في صور وتقنيات تقتضيها
جمالية الإيصال والتلقي".
لقد ركز حازم على فعل النص في متلقيه، انطلاقًا من تصوره العام للتواصل
البلاغي القائم على التأثير، ومن هنا اهتمامه بالوجوه البلاغية لأنها
أكثر فعالية من الحقيقة في تحريك المتلقي، ودفعه إلى الاقتناع بمقاصد
المتكلم والالتزام بالقيم التي يضمنها خطابه، إذ الغاية من القول
الاستعاري تغيير المقاييس التي يعتمدها المتلقي في تقويم الواقع
والسلوك، ويترتب عن ذلك أن يتعرف المتلقي الواقع والقيم كما يراها
الشاعر، ومن ثم يقبل على خطابه ويتبع توجيهه.
يمتاز التصور البلاغي لحازم بطابع نفعي واضح، إذ إن لجوء النص الشعري
إلى أصناف البيان من محسنات صوتية وإيقاعية واستعارية، لا يتم لأغراض
جمالية خالصة، ولكنه يستهدف فعالية التأثير في المتلقي وتعديل سلوكه
تبعًا لمقاصد الشاعر وحاجاته، مما يشي بأن المكون الجمالي عند حازم
يمتاز بالوظيفية والأدائية، ويرجع ذلك إلى المنزع الأخلاقي الذي يصدر
عنه حازم في تقويمه للنص الشعري، بحيث أصبحت جمالية القول الشعري أداة
استدراج لحصول الإقناع وليس غاية في حد ذاتها.وعلى هذا الأساس تصبح
الوجوه البلاغية جزءًا من الاستراتيجية التي ينتهجها الشاعر ليجعل
خطابه ناجعًا ومؤثرًا.
يعتمد النص الشعري في تحقيق مقاصد منجزه على الصياغة المؤثرة، ومن هنا
ارتباط الإقناع بالوجوه البلاغية والصيغ الأسلوبية المتنوعة، التي
يستغلها الشاعر باعتبارها عناصر حجاجية تضغط على حساسية المتلقي وتفرض
عليه الاقتناع بالمضمون الفكري أو العاطفي الذي تحمله القصيدة، وهو ما
يدفع الشاعر إلى الإبداع في صناعة الشعر، والتأنق في صياغة مكوناته عن
طريق التنويع في الصيغ الأسلوبية وخاصة صيغ الأمر وأساليب الإنشاء
لإبراز التجاوب بين التلوينات الأسلوبية والحالات النفسية للمبدع، إذ
الشاعر المجيد – عند حازم - هو الذي يستطيع "الترامي بالكلام إلى أنحاء
شتى في جهة جهة وتركيب تركيب وصيغة صيغة"،
كما أن الإيهام بالواقع يحتاج إلى قدر من المبالغة في إظهار الشكوى أو
العتاب، لأن الغلوَّ سمة بلاغية نصية من شأنها أن توهم المتلقي بصدق
الخطاب، فيكون حال الشاعر "بمنزلة الحال فيمن ادعى أن عدوا وراءه، وهو
مع ذلك سليب، ممتقع اللون، فإن النفوس تميل إلى تصديقه وتقنعها دعواه".
ولما كان النص الشعري – في تصور حازم - قائمًا على النجاعة والمنفعة،
فقد حرص على عدم إغراق النص بالمحسِّنات البديعية والحيل المجازية،
التي من شأنها أن تطمس في النص قدرته على الإبلاغ، ومن هنا إلحاحه على
الوضوح أي شفافية الخطاب التي تمكن النص من أداء وظيفته الإفهامية، وقد
بلغ به الحرص على ذلك أن خصص "معلمًا" بكامله عرض فيه "ما يزيل الغموض
والاشتكال في المعاني".
عندما يهدف النص الشعري إلى تحقيق منفعة مباشرة، فإن الوجوه الأسلوبية
تتحول إلى عناصر إقناع غايتها إثارة انفعالات المتلقي من أجل القيام
بفعل ما أو توجيه سلوكه الوجهة التي يريدها صاحب النص، مثل الدعاية
لحاكم أو نصره عقيدة دينية أو كلامية. فلجوء الشاعر في هذه الحالة إلى
الصور المجازية لا ينبع من حاجة داخلية يمليها الوفاء بشرائط الإبداع
الفني الخالص، وإنما يأتي لدواع إقناعية وحجاجية هدفها التأثير في
المتلقي تأثيرًا تتحقق معه مقاصد صاحب النص، والغايات التي رسمها
لخطابه.
ويمكننا التمثيل للوجوه البلاغية التي تستخدم لغايات إقناعية
"بالتفسير" و"التفريع".
-
التفسير
من أنواع التفسير التي يرصدها حازم نوع يسميه "تفسير إيضاح" ويحدده
بأنه "إرداف معنى فيه إبهام ما بمعنى مماثل له، إلا أنه أوضح منه".
مثل قول المتنبي:
ذكي تظنينه طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما نرى غدا
وهناك نوع آخر يسميه حازم "تفسير تعليل"
مثل قول أبي الحسن مهيار بن مرزويه:
بكيت على الوادي فحرمت مـــاءه وكيف يحل الماء أكثره دم
إن التفسير مقوم من مقومات الإقناع، لأن الشاعر يحتاج – لإقناع الآخرين
بفكرة ما - إلى شرحها وتوضيحها حتى يقربها من عقل متلقيه، ومن ثم يغريه
بقبولها وتصديقها.
-
التفريع
وهو من الوجوه البلاغية التي يلجأ إليها الشاعر بغرض التأثير
والاستمالة، لما له من قدرة على توضيح المعنى والكشف عنه من خلال
المماثلة والمشابهة، إذ التفريع – كما يحدده حازم –
"أن يصف الشاعر شيئًا بوصف، ثم يلتفت إلى شيء آخر يوصف بصفة مماثلة أو
مشابهة"،
فيكون ذكر الثاني بمثابة فرع للأول، نحو قول ابن المعتز:
وكــــــــأن حــمرةَ لـونـها مـن خـــدِّه وكأن
طيبَ نسيمها من نشره
حتى إذا صبَّ المزاجَ تبسمت عن ثغرها فحســـبته ـمن ثغره
مــــازال ينــجــز لـي مواعدَ عينه فمهُ وأحسب ريــــقَه
مـن خمره
تنبع أهمية الوجوه البلاغية عند حازم من طريقتها الخاصة في تقديم
المعنى، حيث تتجاوز الإبلاغ إلى التأثير، لما تحدثه في المعنى من ضروب
التحسين والتزيين، فتمكنه بذلك من إثارة مشاعر المتلقي والتحكم في
انفعالاته وتوجيهها حسب رغبات المتكلم، مما يفيد أن حازمًا ينظر إلى
الجانب الوظيفي لهذه الوجوه باعتبارها مقومات حجاجية تستطيع من خلال
التحسين والتقبيح أن تحث على القيام بأمر أو الكفِّ عنه.
إن نظرة حازم للأساليب والحيل المجازية والاستعارية بوصفها تابعة
للوظيفة ومحققة للمقاصد، يواجه إشكالاً عويصًا، يتمثل في التساؤل حول
الوسائل والغايات التي يعتمدها القول الشعري من أجل تحقيق منفعة الخطاب
ونجاعته، هل هو المقومات الشكلية أم الدلالية، ذلك أن الكلام ملزم
بانتهاج المباشرة والوضوح لتحقيق النجاعة المطلوبة، وهو ما يتعارض مع
الشرط الجمالي الذي يتطلبه التواصل الشعري.
من أجل تجاوز هذا الإشكال ينص حازم في كثير من المواضع من "منهاجه" على
ضرورة المزاوجة بين خصائص النص الفنية ووظيفته البلاغية، وعيًا منه بأن
إقصاء البعد الجمالي في النص الشعري، والاقتصار على البعد النفعي
المباشر من شأنه أن ينسف جهوده التي حاول من خلالها إقامة قوانين
بلاغية كلية على أساسها يتفاضل الكلام، لأنه يدرك أن استعمال ألفاظ
رديئة في الشعر، يقف عائقًا أمام الإدراك الجمالي لأنه ينفر المتلقي،
ومن ثم يعطل الأثر، "فلذلك كانت الحاجة في هذه الصناعة إلى اختيار
اللفظ وإحكام التأليف أكيدة جدًا".
إن الصور البلاغية أو الإنزياحات التي يبنى عليها الخطاب الأدبي لا
تشكل – من منظور حازم - عرقلة للتواصل الأدبي بين مرسل الخطاب ومتلقيه،
وإنما تكشف عن رغبة المرسل في إقامة تواصل سامٍ يتجاوز الخطابات
التقريرية إلى مراق فنية شامخة، وعيًا منه بأن التواصل الأدبي يتطلب
معاناة ومكابدة لتحقيق التأثير، لأن حضور التأثير في الخطاب يدل على
مخالفته للتواصل اليومي ويدمغه بسمة "الجمالية"، وهو ما يجعل الخطاب
يحيا بحياة متلقيه ويتنامى عبر اكتشاف عناصر التأثير فيه، من خلال
سلسلة التلقيات التاريخية التي ستتعاقب عليه.
خاتمة
لقد تقصدنا من هذا البحث تحقيق هدف مركزي هو إعادة بناء مفهوم البلاغة
عند حازم من خلال خلفية بلاغية معاصرة مكنتنا من الوقوف على معالم
التوجه التداولي الذي طبع تصور حازم لبلاغة النص الشعري، وقد تطلب ذلك
إنجاز قراءة تركيبية تضع حازم في قلب اهتمامات الراهن النقدي دون أن
تفصله عن سياقه الثقافي والإنساني، وعيًا منا بأن المنجز البلاغي لحازم
– وبالرغم من طابعه التجديدي الواضح - فإنه يضرب بجذور عميقة في التراث
البلاغي العربي، الذي وعاه حازم وتشربه من مصنفات سابقيه، كما أن
انفتاحه على البلاغة الأرسطية من خلال جهود الفلاسفة المسلمين، جعله في
قلب الاهتمامات النقدية الراهنة، إذ من المعروف أن البلاغة الأرسطية
شكلت التراث الهام الذي رجع إليه البلاغيون الجدد من أجل بناء بلاغة
جديدة وحديثة.
إن اهتمامنا بتداولية النص الشعري هو محاولة لإبراز الأبعاد التداولية
لبلاغة حازم، اعتقادًا منا أن ذلك سيساعدنا – من منظور التواصل البلاغي
الذي نتبناه هنا - على فهم أحسن للعلاقات التي تربط الشاعر كمرسل،
والقارئ كمتلق، والنص الشعري كإرسالية، والمقام التواصلي الذي تتحقق
فيه هذه العلاقات. وذلك في محاولة لتجاوز نموذج التواصل اللساني،
للانفتاح على الشروط التاريخية والاجتماعية التي يتنزل فيها النص، من
أجل إدراك أفضل للنص الشعري كما ينظر له حازم من زاوية التواصل
البلاغي.
*** *** ***
المصادر والمراجع:
- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد
الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، ط3، 1986.
- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محيي
الدين عبد الحميد دار الجيل، بيروت، ط5، 1981.
- ابن خلدون، المقدمة، دار القلم، بيروت، ط6، 1986.
- ابن المعتز، كتاب البديع، تحقيق: كراتشوفسكي، دار المسيرة،
بيروت، ط3، 1982.
- ابن الأثير، المثل السائر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة،
دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة (د.ت).
- محمد مفتاح، الدراسات الاستعارية في المغرب (من التنظير إلى
التعليم)، مجلة المناظرة، ع4، 1991.
- محمد العمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، إفريقيا
الشرق، البيضاء، 2007.
- محمد العمري، البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، إفريقيا
الشرق، ط1، 1999.
- حمادي صمود، التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن
السادس، منشورات الجامعة التونسية، 1981.
- شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، ط9، (د.ت).
- محمد الولي، الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي،
المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط1، 1990.
- أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين،
وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت، (د.ت).
- الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق درويش جويدي، المكتبة
العصرية، بيروت، 2005.
- عمار الطالبي، موقف ابن رشد من الشعر، مجلة الأقلام
(العراقية)، ع11، 1980.
- نوال الإبراهيم، طبيعة الشعر عند حازم القرطاجني، فصول، مج5،
ع2، 1986.
- عباس ارحيلة، الأثر الأرسطي في النقد والبلاغة العربيين إلى حدود
القرن الثامن الهجري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية،
الرباط، ط1، 1999.
- جابر عصفور، مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، دار
التنوير للطباعة والنشر، ط2، 1982.
- رومان ياكبسون، قضايا الشعرية، ترجمة محمد الولي، ومبارك
حنون، دار توبقال للنشر، ط1، 1988
- هنريش بليث، البلاغة والأسلوبية نحو نموذج سيميائي لتحليل النص،
ترجمة محمد العمري، إفريقيا الشرق، 1999.
- طه عبد الرحمن، الاستعارة بين حساب المنطق ونظرية الحجاج،
مجلة المناظرة، السنة2، ع4، مايو، 1991
- محمد الولي، ثلاث لحظات في تاريخ الشعرية، أرسطو وحازم
وجاكبسون، علامات المغربية.ع13، 2000.
- ألفت كمال الروبي، نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي
حتى ابن رشد، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر.
- تزيفتان تودوروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن
سلامة، دار توبقال للنشر، البيضاء، ط2، 1990.
- فان ديك، النص بنياته ووظائفه، مدخل أولي إلى علم النص، ترجمة
محمد العمري، ضمن نظرية الأدب، افريقيـا الشرق، ط2، 2005.
- فان ديك، علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، ترجمة سعيد بحيري،
ط1، دار القاهرة للكتاب، 2001.
- ديوان النابغة الذبياني، شرح وتقديم عباس عبد الساتر، دار
الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1986.
- حبيب أعراب، الحجاج والاستدلال الحجاجي، عالم الفكر، عدد1،
مجلد30، 2001.
[85]
حازم، المنهاج، ص 170.