جوهر الحكمة الإلهية 1
تشارلز ويبستر ليدبيتر
1.
ما هي الحكمة الإلهية؟
طوال عقود عديدة ظل البشر يتناقشون ويتجادلون، ويبحثون في بضعة حقائق
أساسية عظمى – مثل وجود وطبيعة الإله، وعلاقته بالإنسان، وماضي ومستقبل
البشرية. ولأنهم اختلفوا بشكل حاد حول هذه النقاط، وتهجَّموا على
معتقدات بعضهم البعض، وسخروا بشدة منها، فقد تكوَّن رأي شائع وراسخ
يقول بانعدام اليقين في كل هذه القضايا - فليس هناك سوى اجتهادات
مُبهمة نشأت عن خليط من الاستنتاجات الخاطئة المبنية على مقدمات ضعيفة.
وقد حصل ذلك رغم التصريحات الواضحة، التي لم تحظ بالتصديق، حول هذه
المسائل من مختلف الأديان.
إن هذا الرأي الشائع غير صحيح بالمرة، مع أنه ليس غريبًا في ظل هذه
الظروف. إذ يتوفر الكثير من الحقائق المؤكدة التي تقدمها لنا الحكمة
الإلهية، رغم أنها تطرحها علينا كمواضيع للبحث وليس بوصفها قضايا
إيمانية (كما تفعل الأديان). فالحكمة الإلهية ليست دينًا بذاتها، لكن
ما يربطها بالأديان هي العلاقة ذاتها التي جمعت بين الفلسفات والديانات
القديمة. إنها لا تنكر الأديان، بل تفسرها. وهي ترفض كل ما هو غير
عقلاني فيها بوصفه غير جدير بالإله لا محالة ويَحطُّ من شأنه؛ وتتبنى
كل ما هو عقلاني في أي منها وفي كلها، تشرحه وتؤكد عليه، ومن ثمَّ تجمع
كل ذلك في منظومة واحدة متكاملة.
والحكمة الإلهية تؤمن بأن الحقيقة حول كل هذه النقاط البالغة الأهمية
سهلة المنال – ويتوفر عنها سلفًا منظومة عظيمة من المعرفة. فهي تنظر
إلى كل الديانات المختلفة بوصفها تعبيرًا عن تلك الحقيقة من وجهات نظر
متعددة. ورغم أن الأديان تباينت كثيرًا فيما بينها بشأن المصطلحات
وأركان الإيمان، لكنها اتفقت جميعًا على المسألة الوحيدة ذات الأهمية
الحقيقية - نوع الحياة التي يتوجب على الرجل الصالح أن يسلكها،
والفضائل التي يكتسبها، والرذائل التي يتجنبها. وتتماثل التعاليم حول
هذه النقاط العملية في كل من الديانات الهندوسية، البوذية، الزرادشتية،
الإسلام، اليهودية والمسيحية.
تُطرح الحكمة الإلهية على الآخرين بوصفها نظرية ذكية عن الكون، لكنها
ليست نظرية بالنسبة للذين درسوها بل حقيقة؛ وذلك لأنها علم مؤكد يمكن
دراسته، وتعاليمه قابلة للبرهان من خلال البحث والتجربة لأولئك
المستعدين لتحمل مشقَّة تأهيل أنفسهم لمثل هذا البحث. إنها كشف عمَّا
تم معرفته (عرفانيًا) حتى الآن من الحقائق العظمى للكون، وهي خلاصة
لخطة التطور الخاصة بكوكبنا.
2.
كيف عُرفت الحكمة الإلهية؟
قد يسأل البعض: كيف عُرفت هذه الحكمة، ومن اكتشفها؟ ولأنها كانت معروفة
دائمًا عند الجنس البشري، رغم تعرضها أحيانًا للنسيان في بعض مناطق
العالم، لا يمكن الحديث عن كونها مُكتشفة. فلقد تواجدت على مر الدهور
طائفة من الرجال المتنورين، وهم ينحدرون من جميع الأمم المتقدمة، وليس
من أمة بعينها. وهؤلاء احتفظوا بهذه المعرفة بشكل متكامل. وفي حين ظلت
مبادئها العامة معروفة للعالم الخارجي، كان هناك على الدوام تلاميذ
يدرسونها بشكل خاص على يد هؤلاء المعلمين. إن هذه الجماعة من الحكماء
المستنيرين موجودة في الوقت الحاضر، كما وُجدت في العصور القديمة،
وتعاليم الحكمة الإلهية تُنشر في العالم الغربي بإيعاز منهم، ومن خلال
بعض طلابهم.
لقد أصرَّ غير العارفين بتذمر أحيانًا على أن هذه الحقائق، إذا كان
الأمر هكذا، كان يجب أن تُنشر منذ زمن بعيد. واتهموا ظلمًا أصحاب هذه
المعرفة بالتكتم المفرط في حجبها عن العالم بشكل عام. وقد نسوا أن كل
من طلب هذه الحقائق بِجدٍّ وجدها، وبأننا في العالم الغربي لم نبدأ في
البحث عنها فعليًا إلا في الوقت الحاضر.
لقد ظلت غالبية أوروبا قانعة بالعيش لقرون عديدة تحت وطأة أكثر
الخرافات تخلُّفًا. وعندما انطلقت أخيرًا ردة الفعل على سُخف وتعصب تلك
المعتقدات، فقد جلبت معها حقبة من الإلحاد اتسمت بقدر مماثل من الغرور
والتعصب، ولكن في اتجاه علماني. وقد بدأ الآن فحسب بعض من أكثر
رجالاتنا تَعقُّلاً وتواضعًا بالإقرار حقًّا بأنهم لا يعرفون شيئًا،
وراحوا يتساءلون عما إذا كان هناك معرفة حقيقية متيسرة في مكان ما.
ورغم أن هؤلاء الباحثين العقلانيين لا يزالون حتى الآن أقلية صغيرة،
فقد تأسَّست جمعية الحكمة الإلهية لتجمعهم سوية؛ كما نَشرت كُتبها
للجمهور حتى يستطيع الراغبون الاطلاع على هذه الحقائق العظمى، وتقييمها
ثم تعلمها، وتمثَّلُها روحيًا في مرحلة لاحقة. إن مهمتها ليس فرض
تعاليمها على العقول المترددة، بل عرضها ببساطة حتى يتبنَّاها من يشعر
بالحاجة إليها. فنحن لسنا على الإطلاق ضحية الوهم الذي وقع فيه أُولئك
البائسون المتغطرسون من المبشرين، الذين تجرؤا على إدانة كل من لم يؤمن
بهم والحكم عليه بعذاب أبدي. إننا ندرك تمامًا بأن الأمور ستكون على
أحسن ما يرام في نهاية المطاف بالنسبة لأولئك العاجزين حتى الآن عن
رؤية طريقهم لتَقبُّل الحقيقة، كما هو الحال للذين تقبلوها برحابة صدر.
غير أن معرفة هذه الحقيقة جعلتنا، وآلاف غيرنا، نتحمَّل الحياة بسهولة
ونواجه الموت بسلاسة. وما يحثنا ببساطة على تكريس أنفسنا للكتابة
وإلقاء المحاضرات عن هذه المواضيع إنما هي الرغبة في مشاركة هذه
المنافع مع الآخرين. إن الخطوط العريضة للحقائق العظيمة معروفة على
نطاق واسع في العالم منذ آلاف السنين، وهي معروفة كذلك في الوقت
الحاضر. ولقد بقينا وحدنا في الغرب نجهلها بفعل غرورنا العجيب، وعندما
نمر على أي شيء منها فإننا نسخر منه.
إن التفاصيل الكاملة في هذا العلم الإلهي، كما هي الحال في أي علم آخر،
تكون معلومة فحسب لأولئك الذين كرَّسوا حياتهم لتحصيلها. والرجال الذين
يعرفونها تمام المعرفة - ويطلق عليهم الحكماء - قد طوروا في أنفسهم
بصبر القدرات الضرورية للكشف الكامل. فثمة اختلاف في هذا المجال بين
مناهج التحقيق العرفاني[1]
وأساليب العلوم الأكثر حداثة؛ فهذه الأخيرة تكرِّس كل جهودها لتطوير
معداتها، بينما تسعى الأولى في الغالب لتطوير الباحث نفسه.
3.
طريقة اكتشاف حقائق الحكمة الإلهية
إن تفاصيل هذا التطوير ستأخذ مساحة أكبر مما يمكن تخصيصه في كتيب أولي
كهذا. وستجد المنهج الكامل مشروحًا بالتفصيل في كتب أخرى للحكمة
الإلهية. ويكفي الآن القول ببساطة إنها مسألة ذبذبات بالكامل. فكل
المعلومات التي تصل الإنسان من العالم الخارجي، تصله بواسطة ذبذبات من
نوع معين، سواء كانت من خلال حواس البصر والسمع أو اللمس. فإذا تمكن
الإنسان، بناءً على ذلك، من جعل نفسه حساسًا لذبذبات إضافية فانه
سيكتسب معلومات إضافية؛ وسيصبح ما يُعرف عادة "المستبصر"[2].
إن هذه الكلمة لا تعني، في الاستخدام الشائع، سوى تَوسُّع طفيف في مجال
حاسة البصر العادية. وبمقدور الإنسان أن يصبح أكثر حساسية للذبذبات
العالية، حتى يتمكن وعيه، باستخدام العديد من القدرات المُطوَّرة، من
العمل بحريَّة وفق أساليب جديدة ومتقدمة. عندئذ ستنفتح أمامه عوالم
جديدة مكونة من مادة دقيقة، مع أنها في الحقيقة أقسام مجهولة فحسب من
العالم الذي يعرفه سابقًا.
وبهذه الطريقة يعلم أن هناك كونًا خفيـًا شاسـعًا يتواجد من حوله طوال
حياته، ويؤثر عليه دومًا بطرق عديدة، رغم أنه لا يدركه على الإطلاق.
لكنه عندما يُطوِّر قدرات يستطيع بواسطتها إدراك هذه العوالم، يصبح
بمقدوره ملاحظتها بطريقة علمية، وتكرار ملاحظاته عدة مرات، ومقارنتها
مع ملاحظات الآخرين، وتصنيفها، ثم استخلاص النتائج منها.
كـل ذلك تَّم القيام به آلاف المرات. والحكمـاء الذين تحدثت عنهم
أنجزوه إلى أقصى حد ممكن، كذلك فإن العديد من الجهود قد بُذلت في
الاتجاه ذاته من قبل طلاب الحكمة الإلهية العاملين معنا. ولم تكن نتائج
تحقيقاتنا مُكرَّسة فقط لإثبات صحة غالبية المعلومات التي أعطيت لنا في
البداية من قبل أولئك الحكماء، بل لشرحها كذلك وتوسيع مداها إلى حد
كبير.
إن رؤية هذا الجزء الخفي عادة من عالمنا تزودنـا في الحال بكمية هائلة
من الحقائق الجديدة تمامًا والمثيرة لاهتمام عميق. وهي تَحلُّ لنا
تدريجيًا العديد من أكثر مشاكل الحياة صعوبة، وتزيح لنا الغموض عما
كنـا نظنه ألغازًا لفترة طويلة، وذلك لعدم إدراكنا في السابق سوى
القليل من الحقائق، ولأننا كنا ننظر إلى المسائل المختلفة من مسافة
قريبة، ونعتبرها أجزاء منفصلـة غير مترابطة، بدلاً من التعالي فوقها
إلى حيث نراها مفهومة بوصفها أجزاء من كُلٍّ عظيم.
وهي تحسم فورًا العديد من القضايا التي حظيت بجدل كبير - كتلك
المتعلقة، على سبيل المثال، باستمرار وجود الإنسان بعد الموت. كما
تزودنا بالتفسير الصحيح لكل الأطروحات المستحيلة عقليًا والتي تبثَّها
الكنائس عن الجنة والجحيم والمِطهَر[3].
إنها تبدد جهلنا وتزيل مخاوفنا من المجهول عبر تزويدنا بمنهج عقلاني
منظم. وسأحاول الآن توضيح ماهية هذا المنهج.
ترجمة: حكيم رشيد
*** *** ***
[1]
التحقيق العرفاني: إجراء التجارب على العوالم غير المرئية
للبصر العادي؛ وهي العالم الأثيري والنفسي والعقلي، الخ.
ويَستخدِم المُحقق العرفاني قدراته الخاصة للدخول إلى هذه
العوالم وجمع المعلومات التي تهمه. ومن هذه القدرات:
الاستبصار. [المترجم]
[2]
المُستبصر: الاستبصار هو القدرة على رؤية الأشياء والأحداث
التي تقع، مكانًا وزمانًا، خارج مدى رؤية الإنسان العادي.
ويَستخدِم المُستبصر قدرة الإبصار الأثيرية لرؤية ما يجري في
العالمين المادي والأثيري، وقدرة الإبصار النفسية لرؤية العالم
النفسي. كما يتضمن الاستبصار القدرة على تكبير الأجسام
المتناهية الصغر لجمع المزيد من المعلومات عن نشاطها وتركيبها.
والمستبصر هو الذي يمتلك القدرة على الاستبصار. [المترجم]
[3]
المِطهَر: في العقيدة الكاثوليكية يقع المطهر ما بين الجنة
والجحيم. وهو مكان للمعاناة، تقيم فيه نفوس المؤمنين الخاطئين؛
الذين يكفِّرون هناك عن خطاياهم قبل دخول الجنة. [المترجم]