فن اللاعنف
مارتي براناغان
مقدمة
لم يحظ أسلوب اللاعنف بذلك الاعتراف الواسع عبر الإعلام بالرغم من وجود
أدلة كثيرة على فعاليته (سومي: 2000، ص 4-5)، وذلك مع نجاح الحملات
التي ارتبطت بقادة اللاعنف أو بعض المفاهيم المتعلقة بـ "سلطة الناس"
التي تم تعريفها
على نحو
خاطئ، وبالطريقة ذاتها تتمثل الفنون في العديد من حملات اللاعنف، غير
أنها لم تنل من الثقة سوى القليل بوصفها وسيلة لمبدأ اللاعنف، ولذا فإن
ذكرها غالبًا ما يرد في الإعلام، فعلى سبيل المثال نقلت صحيفة غود ويك
إند عام 1979 عن الحركة المناهضة لقطع الأشجار ضمن حركة تيرانا كريك
بأن:
مجموعة من الهبيين الذين يرتدون الخرز والبيئيين من حركة العاشقين لقوس
قزح قاموا بسد الطريق والعزف على آلات الناي والماندولين كما قرعوا
الطبول، ورقصوا وغنوا وصرخوا وأنشدوا أمام رجال الشرطة الغاضبين وقاطعي
الأشجار الذين انتابتهم سورة من الغضب عند استخدامهم للمناشير ذات
السلاسل إلا أنهم عمدوا إلى مواصلة عملية قطع الأشجار الكبيرة. (هولي:
2003، ص19).
إلا أن تلك الفنون نادرًا ما كانت تدرس بعمق، لاسيما فيما يتعلق
بالطريقة التي تنسجم فيها تلك الفنون مع التطبيق العملي لنظرية
اللاعنف، إذ حتى ضمن حركات الاحتجاج لا يعتبر البعض تلك الفنون بمثابة
نشاط على خط المواجهة الأمامي، ولهذا بقيت تلك النظرة تمثل فلسفة
ازدواجية كونها ترى في المواجهة المباشرة الشكل الأكثر فعالية للتغيير
الاجتماعي، ولهذا فقد أبقت هذه النظرة على عنصر الرجولة لعلم السياسة
الذكوري، وعلى النموذج الذي ينظر للعنف نظرة تسامح كونه وسيلة مقبولة
لحل النزاع، ولهذا قامت الكثير من النساء اللواتي يؤمن بالحركة النسوية
بتوجيه انتقادات محقة لهذه الرؤية (شماه: 1998، ص 31-33).
وهنا تناقش هذه المقالة أن الفنون هي جزء مهم في مبدأ اللاعنف كونها
تسهم في دعم تلك الحملات بأساليب متعددة، فبعد مراجعة لكل ما كتب حول
هذا الموضوع، سنبحث في مقالتنا بشكل مختصر ووجيز في مبادئ اللاعنف التي
تتصل بالنشاط الفني، وحول ذلك تقدم مقالتنا رؤية شاملة للعلاقة القائمة
ما بين هذه الفنون ومبدأ اللاعنف، مع الإشارة في الوقت ذاته إلى ضرورة
قيام أبحاث أخرى بتعميق الدراسة في الموضوع ذاته. ثم تورد المقالة بعد
ذلك أمثلة حول الفنون التي تواجدت ضمن حالات لاعنف مباشرة وذلك من
منظور شخص مطلع ومشارك (كيليهير: 1993، ص21)، لاسيما ضمن الحركة
الشعبية الواسعة التي دافعت عن السلام وحماية البيئة والتي وصفها
باكوليسكي بأنها "صرخة بيئية" (1991، ص 158-160).
ما كتب حول هذا الموضوع
تشير معظم الأثار والمراجع التي كتبت حول اللاعنف غالبًا إلى الفنون
المستخدمة في حركات الاحتجاج والمقاومة، فعلى سبيل المثال عمد
التشيليون إلى إقامة حفلات موسيقية لموسيقى الروك في ثمانينات القرن
الماضي، حيث عزفت تلك الموسيقا المحظورة كنوع من الاحتجاج على
دكتاتورية بينوتشي (آكيرمان
&
دوفان: 2000، ص 267-302)، بينما قامت محطة فاكلاف هافيل الإذاعية ببث
برامجها عبر إذاعة سرية وذلك لدعم حركة المقاومة التي قامت ضد الاحتلال
السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا (باورز
&
فوجيلي: 1997، ص 230)، أما اليهود الروس فقد كانوا يغنون أغان احتجاجية
في مخيمات الإبادة التي أقيمت لهم خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك
قام الناشطون المناهضون لسياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بإتباع
الاستراتيجية ذاتها ومثلهم المحتجون البوذيون في جنوب فيتنام (شارب:
1973، ص 150-151)، وقد ذكرت الأبحاث والدراسات التي أجريت حول الحركات
الاحتجاجية في أستراليا ومنها ما ذكره كوهين (1997) وسومرفيل (1995)
وكوك وآخرون (2000) وكذلك ورد في الأثر العالمي (ويلتون
&
وولف: 2001، شيبارد
&
هايدوك: 2002) ظهور النشاط الفني خلال الحقبة الأخيرة، إلا أنه لم يكن
المحور بل ظهر بصورة جانبية أو مرافقة، وبالكاد يمكن للمرء أن يجد
تحليلاً منهجيًا لذلك، إذ تعتبر الأعمال التي قدمها كل من كلارك (1997)
وبونيهادي (2000) وبليكر (2001) أعمالاً قيمة، إلا أن معظمها يدرس الفن
المعارض المنشق دون أن يتطرق للفن الذي يعتبر جزءًا من عملية الاحتجاج،
فيما يقدم ليبمان (1996) أفكارًا متميزة حول الفنون، ولكن في مجال حل
النزاع وليس عمليات اللاعنف المباشرة، أما شارب (1973) فيدرس وبالتفصيل
العديد من الحركات التي تشتمل على عنصر فني، دون أن يوغل كثيرًا في
تحليل ذلك العنصر، إذ يكتفي بالإشارة إلى أن الهدف من تلك الفنون هو
التأثير على الجمهور العريض ويشمل ذلك المعارضين بهدف كسب تعاطف ودعم
طرف ثالث، إلى جانب كسب أولئك الذين انشقوا وانضموا للمعارضة.
فيما يتحدث فاهي (2000) وكذلك اتحاد البنائين والعمال (1975) عن موسيقا
الاحتجاجات دون تقديم تحليل موسع لذلك، وثمة عمل آخر يتصل بهذا الموضوع
ألا وهو ذلك العمل الذي قدمه سبنسر (1990) الذي يرى بأن الموسيقى كانت
عنصرًا أساسيًا في حركة الحقوق المدنية التي قامت في الولايات المتحدة
الأمريكية، إذ يرى أن الموسيقى كانت وسط القمع العنيف تشحذ همم
الناشطين وتشجعهم على أن ينشدوا وبأعلى صوتهم تلك
الأغاني والرسائل التي رسخت في العقول لتخلق إيمانًا غرس فيهم الشجاعة
على أن يكون لهم وجود. (1990، ص 88)
أي أن الموسيقا كانت طريقة للتفاعل مع الأحداث وللرد على المؤسسات
بطريقة سماعية وللنطق بمجموعة معقدة من المطالب والاحتجاجات، كما
استطاعت الموسيقا أن تحصد دعم الطرف الثالث
فمع الحاجة لحشد الأنصار ونشر المعلومات... تعاظم دور الموسيقا بوصفها
وسيلة لنقل طبيعة وشدة الصراع للجماهير الموجودة خارج النطاق الجغرافي
لنشاط الحركة. (ريجيون & سبينسر: 1990، ص 89)
إذ كان نشيد "سننتصر" يستخدم
كطريقة لإضفاء البركة على طقوس الاجتماعات الجماهيرية وكان بمثابة
تمثيل لاعتناق ذلك التحالف الداخلي والمبادرة الجماهيرية لنظام اجتماعي
ديني جديد يتسم باللاعنف. (سبينسر: 1990، ص 84)
وثمة دليل آخر على الصلة القائمة بين الموسيقا واللاعنف يمكن أن نلمحها
من خلال الحقيقة القائلة بأن أحد أعظم الخطباء المفوهين في مجال
اللاعنف وهو مارتن لوثر كينغ كان قد كتب أولى الأغاني التي أشعلت حركة
الحقوق المدنية في البلاد، فهو يرى بأن:
أغاني الحرية تمثل روح الحركة، وتقربنا من بعضنا وتساعدنا على السير
معًا. (في سبينسر: 1990، ص 92-93)
لذا وبالرغم من قلة ما كتب حول ذلك عمومًا، إلا أنه لدينا بعض الأبحاث
الذي تثبت قدرة الموسيقا على دعم ومساندة حركات اللاعنف، ولكن قبل أن
نقوم بمناقشة أشكال فنية أخرى، علينا أن نعرف مفهوم اللاعنف أولاً.
اللاعنف
فلسفة اللاعنف هي فلسفة شاملة بعيدة عن الازدواجية (جونز: 1985، ص 149)
ولهذا فهي تعتبر الوسيلة هامة وأنها على نفس القدر من أهمية الغاية،
كونها ترى في العنف طريقة للحط من قدر الإنسان وخلق حالة من التنافر
بين الأهداف والسبل بشكل لا يمكن التوصل معه إلى أية حلول، كذلك تهتم
هذه الفلسفة بآليات القوى المحركة للمجموعة ويشمل ذلك أساليب المساواة
في اتخاذ القرار كطريقة الإجماع والبنى البعيدة عن التراتبية والتسلسل
والمؤلفة من مجموعات صغيرة ذات صلة وذلك لخلق قوة لامركزية وإقامة
روابط قوية مع تضافر الجهود (شماه: 1998، ص 31-32)، ولهذا يفضل النشاط
الشعبي عند الانخراط في مجلس الشعب، مع القيام بتغير دائم يحدث من
القاعدة عبر العمل الاجتماعي والتعليم بدلاً من الاستئثار بالسلطة
والقيام بإصلاحات من القمة (برويز: 1989، ص 6)، فمن خلال الإقناع لا
الإكراه يسعى الناشطون إلى جعل خصومهم والأطراف الثالثة يتبنون وجهة
نظرهم، ولهذا لا بد من التواصل مع هؤلاء بطريقة واضحة وبأسلوب يحترم
الآخر، مع السعي لخلق قاعدة مشتركة بين الطرفين إلى جانب خلق حالة من
الانفتاح بدلاً من الدفاع بطريقة خفية، ومن الضروري هنا الاحتفاظ بحالة
اللاعنف حتى عند التعرض للاستفزاز، وهذا بحد ذاته يتطلب انضباطًا
وتدريبًا ذاتيًا.
ولكي يكون المرء مقنعًا بدل اللجوء إلى أسلوب المواجهة، يمكن الاعتماد
على طريقة مشروعة تتم عبر إنشاء بؤر متعددة للحملات بدلاً من قيام
مجموعة كاملة بالتركيز على نقطة معينة، أي بالمعنى الفعلي للكلمة إن أي
حالة حصار تعني تواجد عدد من الناشطين في أماكن مختلفة بطريقة مشروعة
بدلاً من تجمهرهم جميعًا أمام بوابة معينة، وهذا التنوع يخفف من وطأة
حالة التعارض والتهديد التي يفرضها الفعل، بينما يكون له أثر أقسى على
السلطات التي تسعى لضبطه والسيطرة عليه.
ويرى مارتن لوثر كينغ بأن أي حركة تحتاج لقاعدة جماهيرية لتحقق نجاحًا
(في باورز
&
فوغيلي: 1997، ص 289-290) وبالرغم من أنه يمكن للمجموعات الصغيرة أن
تكون فاعلة، إلا أن الحركات الجماهيرية يمكنها عمومًا أن تحرك الرأي
العام بسهولة أكبر وأن انتشار أعمال الحملة بين مجموعة أكبر من الناس
يزيد من استمرارية ودوام الحملة، فالشمولية تخدم الغاية المتمثلة في
خلق حركات جماهيرية، وذلك لأنها تدافع عن نفسها بتبني الفكرة القائلة
بأنها تفتح المجال أمام أي شخص يرغب بالانضمام إليها فعلاً، فمن منظور
شمولي يمكن أن نصل إلى النتيجة القائلة بأنه لا فائدة ترجى من تكوين
مجموعة تتمتع بامتيازات وتستفيد في الوقت الذي يحرم الآخرون فيه من كل
تلك الامتيازات، وهذا يمكن أن يناقض الأنظمة العسكرية والاشتراكية التي
تميل إلى تبني حالة من إقصاء الآخر، بالإضافة إلى اعتمادها على التسلسل
الهرمي والسلطة الذكورية والسرية والازدواجية والقسرية (برويز: 1989، ص
6)
وفي الوقت الذي تظهر فيه الحاجة لإظهار التعارض، يعمل النشطاء على خلق
حالة مثالية من التوازن بين ذلك وبين إقامة ممارسات إيجابية أو "مؤسسات
موازية" (باورز
&
فوغلي: 1997، ص 434) والتي يقودها القدوة بشكل يظهر ما يجب أن يكون
عليه المجتمع، ومع توسع وانتشار تلك الممارسات تنتقل السلطة من الدولة
التي تحكمها النخبة إلى المجتمع المدني (إيبيد).
وبذلك تمثل فلسفة اللاعنف فلسفة معقدة واضحة المعالم تتعلق بالتغير
الاجتماعي وتشدد على حالة التحول بدلاً من الاعتماد على أسلوب المواجهة
والإكراه، وعلى الرغم من أهمية الأهداف قصيرة الأجل، إلا أن الناشط
الذي يتبنى مبدأ اللاعنف
يهتم غالبًا بالتغير الجذري في المجتمع ويقيس ذلك التغير بمدى الوعي
والتحضر بدلاً من التغيرات التي تطرأ على الحكومة أو التي تحدث
للمسؤولية البيروقراطية. (برويز: 1989، ص 6)
أما الفنون فهي جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، وكما سنناقش في هذه
المقالة فإنه يمكن للفنون أن تلعب دورًا أساسيًا في تغيير وعي الأفراد
وتغيير القيم التي يتبناها المجتمع، إلى جانب الإسهام في دعم
الاحتجاجات التي تتسم باللاعنف بطريقة تكتيكية.
الفن واللاعنف
ثمة العديد من الأساليب التكتيكية التي يمكن من خلالها للفن أن يخدم
قضية اللاعنف، فكما أوضح سبينسر (1990، ص 84) يمكن للموسيقا أن تلهم
النشطاء وأن تشجعهم، إذ يمكن لها، عند فتح مجال لهم للتنفيس عن غضبهم
وعن طاقتهم العصبية أن تبقي الاحتجاجات سلمية، بدلاً من إفسادها عبر
الدخول في مهاترات مع الخصوم، كما يمكن أن تعزف الموسيقا لتهدئة الحشود
الغاضبة كما حدث في عام 2001 خلال المسيرة التي قام بها بعض
الأستراليين في مقاطعة آرميديل ضد وحشية رجال الشرطة، وذلك عندما عمد
أحد الرجال المسنين إلى غناء أغنية هادئة فكان لها أثر كبير في منع
حالة من الشغب، وغالبًا ما تقوم الفنون بأشكالها بأداء أدوار متعددة في
آن واحد، كما يحدث حينما يتم وضع عدد من اللافتات الملونة عند القيام
بمحاصرة الطرقات وذلك لتحذير السيارات والمركبات من المرور ونقل رسائل
معينة للحكومة ولإعلام الجميع بأن الحصار هو عبارة عن عمل جماعي غير
عنيف بدلاً من إظهاره بمظهر عدواني.
هذا وتعمل مجموعات المساواة على تعزيز حالة الإبداع التي تعتبر القاسم
المشترك بين مبدأ اللاعنف وبين الفن، ففي عام 1998 ظهرت حركة جابيلوكا
وهي عبارة عن حركة مناهضة لاستخدام اليورانيوم قامت بإنشاء هجاء بطريقة
محترفة بالرغم من الظروف المؤقتة والموارد الضئيلة والتهديد بالاعتقال،
كما يمكن للفنون أن تتعامل مع القضايا المتعلقة بالقوى المحركة
للمجموعات كالتمييز على أساس الجنس، ورهاب الجنسية المثلية والتدخين،
وكمثال على ذلك نذكر العروض التي أقيمت في فريجر آيلاند عام 1995 والتي
حملت اسم "غريت ووك" والتي عالجت مسألة المجتمع المحافظ والعدالة
الاجتماعية، وتعمل الفنون أيضًا على تعريف الناشطين ببعضهم أي أنها
تعمل على كسر الجليد وتساعدهم على خلق حالة من التضامن فيما بينهم،
وسنرى لاحقًا كيف أن الفنون هي أمثل وسيلة لخلق العديد من البؤر والحد
من حالة العنف.
تساعد الفنون على خلق احتجاجات متنوعة وشاملة يتواجد من خلالها التعبير
الإنساني المتنوع كوسيلة لخلق حالة من الانشقاق بحيث لا يقتصر الأمر
على إلقاء الخطابات، وبذلك يمكن للنشطاء الانخراط في عدد من الأنشطة مع
توظيف العمل الجماعي والمهارات المختلفة، بحيث يمكنهم العمل على عدة
مستويات من الكثافة مع البقاء ضمن حركة الاحتجاج، الأمر الذي يجعل من
العملية أكثر شمولية، ويبعد النشطاء عن الشعور بحالة من الإرهاق جراء
تركيزهم على مجال معين بشكل متواصل، كما يمكن للعمل الفني أن يثمر عن
نتائج ملموسة منها اللافتات التي تحمل الشعارات والتي يمكن أن تحقق
نتائج مرضية حينما تفشل أمور أخرى مثل ممارسة الضغط عبر مجموعة معينة
أو كتابة استرحام أو تحقق نجاحًا محدودًا، إذ من خلال الفن يمكن
للناشطين أن يظهروا مدى إبداعهم وأن يكونوا منتجين إلى جانب قيامهم
بتوجيه الانتقادات وموازنة العناصر السلبية بالإيجابية، وهذا ينسجم
تمامًا مع مبدأ اللاعنف الذي يهتم بالمؤسسات الموازية التي أتينا على
ذكرها سابقًا، والتي يمكن للناشطين من خلالها أن يحاولوا خلق نموذج
لمجتمع بديل إلى جانب الاحتجاج ضد المشكلات السائدة في المجتمع الحالي
القائم، وبذلك يكوِّن فنانو الاحتجاجات هيئة للعمل تتمتع بقيمة ثقافية
بالإضافة إلى قيمتها المتمثلة بالانشقاق عن المجتمع القائم.
هذا وللشمولية دور في نشوء بديل عن منظمي الحياة الحاليين، ويشمل ذلك
الأشخاص الذين يقومون بإدخال تعديلات كبيرة على نظام الحياة وينشئون
مؤسسات موازية كالتجمعات المقصودة (ديرلينغ
&
هانلي: 2000)، ومن تلك التجمعات تنشأ العديد من الحركات الاحتجاجية
كحركة تيرانا كريك التي أنشأت في شمالي مقاطعة نيو ساوث ويلز
ثقافة رديفة قامت عليها مجموعة محلية كاملة سعت نحو التجديد على
الصعيدين الاجتماعي والثقافي. (هاولي: 2003، ص 23)
هذا وتساعد الموسيقا وفن العمارة والشارات والعبارات التي تلصق على
المصدات الخلفية للسيارات والأزياء بما فيها الأقمشة وتسريحات الشعر
والوشم وتثقيب الجسد المحتجين في التعرف على المتعاطفين معهم وتكوين
شبكات واسعة غير رسمية.
وتعتمد الاستراتيجية الهامة التي تنتهجها الحركة بنية التطور ولتنقل
روح الجماعة التي تتبناها بشكل أوسع وأسرع على الانخراط في مجال
الإعلام، فبالرغم من مشكلات التحيز التي يتبناها بعض العاملين في هذا
المجال، إلا أن الإعلام يتمتع بجمهور واسع ويمكن أن يكون حليفًا مفيدًا
في أي حملة، ولذلك يقوم الكثير من الناشطين بالتخطيط لاحتجاجات فنية
ومسرحية بغية لفت نظر الإعلام إلى أبعد حد ممكن، إذ يمكن أن يمثل عدد
المشاركين في مسيرة ما أحد العوامل التي قد تلفت الانتباه، ولكن يمكن
لأي تصرف صغير يتطرق لمواضيع حساسة أن يكون له عظيم الأثر، كما هي حال
المسيرات التي أصبحت أمرًا شائعًا نسبيًا فلم تعد تستقطب انتباه
الإعلام كما كانت في السابق، ولعل ما ينافس ذلك في التأثير والفاعلية
هي تلك الأعمال الكبيرة التي تتسم بالإبداع والتناغم والخيال.
وكما هي الحال مع بقية الناشطين الذين يتبنون مبدأ اللاعنف، ينشد
الفنانون تحويل الآراء عبر إقناع الآخرين، إذ يمكن أن تختصر الفنون
معلومات معقدة لتقوم بنقلها بطريقة مبسطة (كيرتس: 2002، ص 2). كما
تساعد الفنون على "إقامة جسور" مع الخصوم، وإيجاد قواسم مشتركة منها
المرح أو الحب الذي تتسم به الموسيقا، وكما هي الحال مع مبدأ اللاعنف،
يفضل الفنانون الانفتاح بدل السرية، ويسعون لعرض أعمالهم على الجمهور
وذلك لأنه من العبث إنشاء أعمال فنية سياسية دون أن يضع الفنان جمهوره
نصب عينيه، ويستثنى من ذلك فن الكتابة والرسم على الجدران الذي يتم في
الخفاء عادة، إلا أنه يسعى للوصول لشريحة واسعة من الناس، هذا ويصل
تأثير الفنون إلى مستويات مختلفة منها العاطفي والجسدي وكذلك الفكري
(ليبمان: 1996). ففي الوقت الذي يرغب فيه الناشطون إلقاء الخطب، إلا أن
هذه العملية، رغم مشروعيتها، لا تعتمد على الكثير من المهارات
والإمكانيات، ولهذا تقوم الفنون باستكمال ما وصفه شيلدز (1993) على أنه
"جوهر علم السياسة". ففي الوقت الذي لا ينظر فيه إلى السياسة على أنها
تتسم بالازدواجية كونها بعيدة عن الحياة العاطفية بل وثيقة الصلة بها،
وحتى على المستوى الفكري تقوم الفنون بإدراج أنماط مختلفة من التفكير،
كتلك الفنون التي تعتمد على النماذج الأصلية بدل الكلمات، أو تعمل بشكل
شمولي يعتمد على الحدس بدل الاعتماد على الأسلوب الخطي (إدواردز: 1999،
ص 12). كما يقوم العمل الفني في الحملات الموسعة بطرح مبدأ اللاعنف
المتمثل بالانقلاب والتحول، فينقل بذلك رسالة أو روح العصر من عدة
مصادر بشكل يسهم في تقبل المجتمع لها، وفي هذا مثال واضح على النشاط
الجماهيري اللامركزي.
أما التغيرات التي يمكن أن تطرأ على الفلسفات والأفكار التي يتبناها
الناس جراء حركات اللاعنف الفنية فلا تعد ولا تحصى، ولا يمكن أن تظهر
فورًا، وذلك لأن تأثيرها قد يصل إلى عتبة ما دون الوعي، ويمكن أن توصف
تلك التغيرات بأنها تغيرات معرفية تحررية (نيومان: 1995، ص 253-254)،
وفي حال توسع وانتشار تلك التغيرات فإنها يمكن أن تؤدي إلى تغير
اجتماعي كبير وذلك بيد الشعب الذي تعرض لتغيرات جذرية، وهذه التغيرات
أيضًا تغيرات لا تعد ولا تحصى، كونها تمكنت من تغيير مواقف المجتمع في
السابق وبذلك يمكن أن تأتي على شكل تغيير واضح، وهنا تظهر الحاجة إلى
المزيد من الأبحاث حول هذا الموضوع وذلك للتعرف على كم المعرفة التي تم
اكتسابها والطريقة التي تؤثر بها تلك العملية على التغير الاجتماعي
الذي يتم ضمن نطاق أوسع.
بيد أنه من الواضح أن الفنون تجسد طائفة من الإشارات التكتيكية
والتعليمية لفلسفة اللاعنف، ولهذا لابد من دراستها بعمق وتمعن، بحيث
يجب البدء كخطوة أولى بتحديد أنواع الفنون التي تتسم بها الاحتجاجات
السلمية والطريقة التي يتم بها الاستعانة بتلك الفنون.
أشكال الفنون المعتمدة في الاحتجاجات:
1.
الفنون البصرية
تتم الاستعانة بأنواع كثيرة من الفنون في الاحتجاجات وذلك لتحقيق أغراض
متعددة، حيث يتم الإعلان عن عمل معين عبر الفنون البصرية وبالاستعانة
بالتصميم الجغرافيكي الذي يستخدم مع الملصقات والمنشورات والرسائل
والمواقع الإلكترونية، وهكذا تظهر ضمن الاحتجاجات اللوحات والألبسة
المطبوع عليها علامات ورسائل معينة إلى جانب المنحوتات ودعائم المسرح
كالبراميل المشعة الشهيرة التي أوجدها بيني زابلز، وغالبًا ما يقوم
الإعلام بتصوير الاحتجاجات دون إجراء مقابلات مع عدد كبير من الأشخاص
الذين لابد وأن يطرحوا مظالمهم وشكاويهم. إذن فاللافتات أهمية كبيرة في
نقل الرسائل المرجوة والإشارة إلى كثرة المجموعات المشاركة. ولقد كان
للافتات حضور بارز في مسيرات السلام العالمي التي أجريت ما بين الخامس
عشر والسادس عشر من شهر شباط في حملة مناهضة للغزو الأمريكي للعراق،
حيث حملت تلك اللافتات عبارات ذكية ولاذعة مثل: "محور الشر؟ أم الوصول
للديزل؟" أو "لا يوجد طريق للسلام... السلام هو الطريق"، أو حتى: "بوش
خادم لشارون.... إننا نكرهه!". ولقد قامت إحدى الصحف وقتئذ بإجراء
مقابلة مع شخص كان يقوم بكتابة تلك اللافتات كما عمدت إلى إدراج صورته
في صفحة الغلاف (سودهولز: 2003)، كما ظهرت أيضًا شعارات وكلمات لأغان
نقدية تمت طباعتها على تلك اللافتات (حرب الكلمات: 2003)، وفي ذلك
إشارة مشجعة إلى أن السواد الأعظم من الصحفيين قد بدؤوا بمنح المحتجين
بعض الثقة، كما أن الذكاء الذي اتسمت به تلك الرسائل قد ساعد على تغطية
تلك الأحداث إعلاميًا.
ثمة وسائل متعددة استخدمت في المسيرات، لعل أكثرها حسية وسيلة التعري
كما حدث في احتجاج بايرون باي الذي قامت فيه 750 امرأة بعرض أجسادهن
التي كتبت عليها عبارة: "لا للحرب" مع شعار قلب. أما شعارات السلام فقد
تم إعدادها من قبل تيريغال وذلك بالاعتماد على أشخاص يرتدون تلك
الملابس وكذلك عن طريق ساوث بول وذلك بالاعتماد على الثلوج. أما في
مسيرات وارسو فقد خرج أشخاص فيها بعد أن قاموا بطلي وجوههم. أما في
سيدني فقد قامت سيدات حوامل بطلي بطونهن، وفي اجتماع للصلاة في منطقة
آرميديل تم إظهار صورة كعكات السلام، في حين كتب على أحد المعابر
عبارة: "قنابل ذكية = قادة أغبياء" و"لا للحرب". أما المتظاهرون
الأتراك فخرجوا وهم يحملون الشموع، في حين حمل الفرنسيون لافتات تصور
بندقية موجهة لرأس طفل عراقي. ومن بين الخمسة آلاف متظاهر في أستراليا
خرج من يحمل حمامات بيضاء مصنوعة من البوليستيرين ومن يرتدي قبعات على
شكل محطة تعقب عبر الأقمار الصناعية أو على شكل ملك الموت هذا إلى جانب
السير بطوالات الأقدام وإظهار "ملائكة السلام" المجنحين الذين يرتدون
عباءات بيضاء، الأمر الذي أضاف إلى الأجواء الكرنفالية لتلك المسيرات،
أما اللون الذي كسا الساحات في عطلة نهاية الأسبوع فكان اللون
الأرجواني في إشارة واضحة للحركة النسائية والروحانية.
يمكن اعتبار كل تلك الوسائل على أنها وسائل فنية، لاسيما منذ بدء ظهور
فن الأداء، حيث ساهمت الأحداث وحركة ما بعد الحداثة في تفتيت الطبيعة
الإقصائية للفنون (هنري: 1974). أما العمليات الفنية فقد ساعدت على
تكوين ثقافة الاحتجاج السلمي الذي كان سمة بارزة للمشاركين وساهم في
إشراك المشاهدين والإعلام، في حين سحرت الأجواء الاحتفالية الجماهير
وجعلتهم ينخرطون فيها، في الوقت الذي حملت فيه المظاهرات التي اتسمت
بمظاهر فنية عنيفة بأدنى قدر ممكن (كالأغاني العنصرية) عنصر التخوف
والإقصاء. ولقد تأثر كثير من الناشطين الفنيين الذين تعاملت معهم
بالدادانيين (انظر أرونسون: 1998) ومن تبعهم من اليبيين والموقفيين
الذين اخترعوا "أذكى خليط من المكونات الرئيسية للنشاط خلال حقبة
الستينيات وهي: الاحتجاج والفن والثقافة المضادة والتسلية" (مارويك:
1998، ص 32). ولقد تابع ذلك الخليط تطوره، فكانت عناصره التي شملت الفن
والتسلية من أهم العناصر التي أسهمت في تكوين حركات موازية أو بديلة
رغب الناس بالانضمام إليها بصورة فعلية.
2.
الموسيقا
تعد الموسيقا من أهم ركائز الفنون كونها على بساطتها تحتاج لصوت وليدين
لتصبح بذلك وسيلة شاملة، كما يمكن أن يكون لها تأثير عميق، فلقد حدثني
أحد رجال الشرطة بأنه كان يستمتع بأداء مهامه عند قيام حصار معين، إلا
أنه على حد تعبيره لم يكن يتمكن من التخلص من تلك الأغاني اللعينة لعدة
أسابيع بعد أي حصار، ومن هنا يتضح لنا أن الأغنية وما حملته من رسائل
ضمنية قد استقرت في أعماقه. هذا ولقد لعبت الموسيقا المسجلة دورًا
محوريًا خلال احتجاج روكسباي داونز المناهض لاستخدام اليورانيوم (جنوب
أستراليا) وذلك في عام 1983، حينما أخذت سيارة مزودة بنظام صوتي مضخم
ببث أغنية ميدنايت أويل التي جعلت الجماهير ترقص عند بوابات المنجم،
لدرجة جعلت البعض يتصرف بعاطفية بالغة ويرفض مغادرة المكان مما أدى إلى
اعتقالهم، الأمر الذي أبطأ من وتيرة العمل وأدى إلى كسب المزيد من
التغطية الإعلامية. أما الشعر فيتصل اتصالاً وثيقًا بموسيقا الراب حيث
تم الاعتماد على كليهما خلال مسيرة اللاجئين التي نظمت في كانبيرا عام
2002.
أما مسيرات شباط للسلام فقد قادها قارعوا الطبول وعازفوا الساكسفون
والغيتار، ليعقبها حفلات موسيقية مجانية، وقد قامت جوقات ارتجالية
بإحياء صلوات المساء عبر غناء تراتيل الستينات المحببة بعد إضافة كلمات
جديدة للألحان القديمة مثل أغنية: "ماذا سنفعل بسفينة حربية نووية؟"
التي تم تعديلها لتحل محل ترنيمة: "البحار السكير". هذا وقد قامت
مجموعة غنائية مقرها في لندن بطرح ألبوم غنائي على قرص مدمج حمل عنوان:
"السلام لا الحرب"، ليظهر من بينهم فنان هو بيلي براغ، ومن هنا يتضح
لنا الدور الذي لعبته الموسيقا في حركة اللاعنف والتي كان لها مزايا
تكتيكية تمثلت بخلق حالة من التضامن مع تشجيع وإلهام الحركات، ويمكن
للموسيقا أيضًا أن تعمل على نقل رسائل ضمنية وأن تقوم بتثقيف الناس
بطريقة محببة وملفتة للانتباه.
3.
المسرح
يمثل مسرح الشارع بأفضل حالاته وسيلة إعلامية مؤثرة بارعة قادرة على
تحويل رأي الجماهير بطريقة لطيفة ولبقة، فقد تعامل أحد رجال الشرطة
بمحبة مع هجاء وجِّه له في روكسباي. كما يمكن لمسرح الشارع أن يخلق
نوعًا من المحاورة وهذا ما ساعد رجل الشرطة على أن يرى في المتظاهرين
مجرد أشخاص متعاطفين ومحبين بدلاً من النظر إليهم على أنهم رعاع ينظرون
للمجتمع بعدائية، وبذلك قد تتغير نظرته لعملية استخراج اليورانيوم
لاسيما في حال تكرار تلك الحركات. ومن تجربتي أقول بأنه من المستبعد أن
يقوم رجل شرطة باعتقال مهرج ومعاملته كمعاملة أي متظاهر غاضب، حتى لو
قام كلاهما بتجاوز القوانين، وذلك لأن الزي الذي يرتديه المهرج يخفف من
حدة التهديد الذي يمثله الناشط، وبذلك يمكن لهذا النوع من النشطاء أن
يجوب صفوف الشرطة وكأنهم غير مرئيين، في حين ينقل باقي النشطاء إلى
الحجز، وفي حال اعتقال الجميع، لابد وأن ينصب التعاطف العام على المهرج
أو يبقى الرأي العام محايدًا أو يسأل عن مصيرهم بدلاً من دعم الموقف
الذي مارسته الشرطة عليهم.
ويشير إيان كوهين الذي عمل كناشط ونائب للرئيس ثم نائب في البرلمان
(1997، ص 29) إلى كيف أن تلك الحركات غالبًا ما تشتمل على عنصر مسرحي
فيقول:
عبر إظهار خلفية مؤلفة من نهر أو بحر، وإظهار الشرطة باللون الأخضر
والغابة باللون الأخضر، وعرض قارب مبهرج وجرافة تظهر بطريقة التقنية
اللونية، يصبح لدينا بيئة مسرحية استثنائية، إذ يعتمد مسرح البيئة على
صقور الإعلام (وفي ذلك أداة تستخدمها المؤسسات عادة) لعرض القصة، ثم
نسترخي ونؤدي أدوارنا ضمن ظروف غير مستقرة في أغلب الأحيان، بطريقة
تجعل منا ومن عرضنا قضية لا يمكن للصحافة أن تتناساها أو تتغاضى عنها،
فبالرغم من أنها مجرد مسرحية أي لعبة ينقصها عنصر الاحترام، إلا أنها
في الوقت ذاته تقدم قناة حيوية تتسرب عبرها الرسائل الضمنية التي لا
يمكن نقلها إلى عالم الاحتكار، وعلى الرغم من ضعف مواردنا المالية، إلا
أننا اقتحمنا ذلك المجال القائم على النفوذ والقوة وكأننا سحرة ولقد
تمكنا عند اقتحام ذلك المجال من خلق كيمياء التغيير.
ويستعين سكالمر (2002) أيضًا بالصورة التي يتم من خلالها تشبيه
الاحتجاجات بالمسرح العام أو خشبات المسارح شبه العمومية، مع القيام
بتصنيف احتجاجات معقدة على أنها وسائل للتحايل في الوقت ذاته وبشكل
يصعب تفسيره، ولذلك يربط عمله الحالة المسرحية للاحتجاج برغبة وسائل
الإعلام الجامحة للعثور على شيء جديد كل الجدة وممتع كل الإمتاع.
ووسط جدية حالات العصيان المدني تتمتع النكتة المسرحية بميزات تكتيكية
لتقلب حالة العدائية، في الوقت الذي يستقطب فيه وهجها وسائل الإعلام،
ولذلك تتمتع الفنون عامة بدور بارز في لفت نظر الإعلام بصورة إيجابية
وفي ذلك فرق شاسع بينها وبين الحركات الاحتجاجية العنيفة، وذلك لأن أهم
ما يميزها هو حشد ذلك الجمهور من المتفرجين بدلاً من الحشود الغاضبة،
وفي ذلك ما يساعد العملية التي تبتعد عن العنف في تحويل خصومها
والأطراف الثالثة إلى متعاطفين، إذ كلما كان الموقف يعتمد على المشاهدة
ولفت الأنظار، زاد انتشاره وتوسع وغالبًا ما تبثه القنوات الإعلامية
وذلك لأن وكالات الأنباء تسعى دومًا نحو المواد التي تستحق النشر، وإن
ما يدعم هذه إلى جانب كسب دعم الخصوم والأطراف المحايدة يمكن أن يلهم
ناشطين آخرين فيجعل منهم خطباء مفوهين ومبدعين بطريقة مماثلة.
4.
مسرح الدمى والرقص ومهارات السيرك
وكان مما عرض في مسيرات شباط للسلام مسرح الدمى فمن المواضيع التي
طرحها صانعو الدمى تلك الفكرة القائمة على أن هوارد هو مجرد خادم لبوش
الذي تلاعبت به شركات نفطية متعددة الجنسيات، لذا فإن تشكيل دمى تمثل
تلك الشخصيات بدا وكأنه عملية هجاء منطقية، بالرغم من أن محركو الدمى
في مدينة سيدني قد ذهبوا أبعد من ذلك وجعلوا من هوارد كلبًا لبوش
وجعلوا من أنفه مشابهًا لمؤخرة بوش. ولقد تم تطبيق الوسيلة ذاتها في
آرميديل حينما صنع المحتجون دمية لهوارد أخذت تنظر لكولن باول. هذا
وتتميز الدمى بشعبية بين صفوف الأطفال والوسائل الإعلامية.
وأحيانًا تظهر لوحات راقصة خلال الاحتجاجات، كما سبق وأسلفنا الحديث عن
موضوع أغنية ميدنايت أويل، ولقد اتبع أسلوب اللوحة الراقصة بالطريقة
ذاتها خلال عرض أيديكس للقوات الحربية ضمن حصار عام 1992 في كانبيرا
حيث قامت فرقة إيرث ريجاي الموسيقية بالعزف، أما الطريقة المبتكرة
للرقص فقد ظهرت حينما اعترض راقصون يرقصون رقصًا شرقيًا للشاحنات التي
تقوم بقطع الأشجار ليوم كامل في بولغا بنيو ساوث ويلز عام 1995 (انظر
حركة وينغهام فورست 1996c).
وبالنسبة لمهارات السيرك كإطلاق النار من الفم على شكل دوائر أو
الشعوذة فيمكن لها أن تضفي عنصر التسلية والمتعة بالنسبة لحشود
المحتجين والعمال ورجال الشرطة بحيث تقوم بخلق أجواء احتفالية عوضًا عن
الأجواء العدائية، بحيث تساعد تلك الأمور بوصفها بؤرًا متعددة للإبهار
على منع أي حالة عنف، وكمثال على ذلك نذكر ما حدث حينما قام عدد من
المحتجين بمواجهة عدد من رجال الشرطة الذين كانوا يحرسون منجم روكسباي،
ففي موقف كهذا يتصاعد فيه العنف، تقدم ناشط ماوري ووصل للمساحة الفاصلة
بين الفريقين ثم أخذ يعزف على غيتاره ويغني، فتفرق الجمعان، وأصابتهما
حالة من الارتباك جراء هذا التصرف الذي لم يكن في محله، إلا أنه
بهلوانًا قام بعد ذلك برمي نفسه ضمن المساحة الفاصلة بين الفريقين وقام
بعدة شقلبات تمكن من خلالها من فض الاشتباك بين الطرفين، وبذلك تمكن
هذا البهلوان بفضل شجاعته ومهارته الفائقة التي بدت في حركاته من نزع
فتيل التوتر بأسلوب ناجح.
5.
تسجيل الاحتجاجات
بالرغم من الامتيازات التي تتمتع بها البؤر المتعددة إلا أنها تجعل من
العمليات الاحتجاجية أكثر تعقيدًا، الأمر الذي يصعب المسألة على
الإعلام الميال بطبيعته للتبسيط في نقل الخبر، وهنا تصبح عملية تسجيل
في غاية الأهمية، إذ قد يتم ذلك عبر تصوير أفلام أو صور ضوئية أو رسم
الواقعة أو عبر إتباع الأسلوب الصحفي، وبالاعتماد على الحاسوب يمكن نقل
الاحتجاجات عبر بث مباشر ليصل إلى مختلف بقاع العالم. وهنا يمكن القول
بأن الإعلام السائد والشعبي يعتمد على تلك التسجيلات التي تستخدم
لمشاركة المعلومات الخاصة بالجماهير أو لأغراض توثيقية وتاريخية، وقد
تكون بعض تلك التسجيلات متخيلة (كرواية إيليز، 1994، التي تحدثت عن
عمليات حصار غابة بينان المطرية" أو يمكن أن تتحول إلى أغان كأغنية
سوايلز، بلاك كاري، أو أغنية كارمودي آند كيلي التي تحمل عنوان: "فرم
ليتيل ثينغز" أو أغنية سمول: "وومين أوف غرينهام كومون") ويمكن
الاستفادة من التسجيلات في مكان آخر فمثلاً يظهر فيلم جابيلوكا بوابة
يفتحها رجال الشرطة بدلاً من البوابة التي حطمها المحتجون كما ادعت
الشرطة، وهذا ما دعم القضية التي رفعت أمام القضاء والتي حكم لي
ولامرأة عجوز فيها بالبراءة من تهم التعدي وتجاوز القوانين. ويمكن
الاستفادة من هذا الفيلم في عملية التدريب على اللاعنف بحيث يتم عرض
هذا الفيلم على المبتدئين ليتعرفوا على الأمور التي قد تواجههم ليصبحوا
على أتم استعداد لملاقاتها.
6.
النشاط الفني في المجتمع
يأتي النشاط الثقافي في المجتمع ليرافق العمليات التي تتسم باللاعنف
ليكون ذلك خير مثال على الشمولية، بحيث يمكن لأي شخص أن يساهم في
الحملة بحسب إمكاناته، حيث نظمت معارض في داروين وواجا لدعم حملة
جابيلوكا، أما مع حملة نهر فرانكلين التي ظهرت عام 1982 فقد قام ريدغام
بالتجول وعمدت جوانا إلى تسجيل أغنية لها، أما الحفلات فتعمل على تثقيف
الجمهور عبر الموسيقا والخطابات، أو تساهم بجمع التبرعات كما تساعد
الناس على التعارف بصورة شخصية خلال اللقاءات غير الرسمية بعيدًا عن
الصراعات التي تسود المظاهرات.
هذا ويظهر العمل الفني الذي يتصل بموضوع الاحتجاج على يد أولئك الذين
تمثل الاحتجاجات مصدر إلهام لهم، دون أن يكون لهم أي دور رسمي فيها،
فالعديد من الفنانين يصبغون أعمالهم برسائل معينة سواء أكانوا يتبنون
مذهب النسوية البيئية أو المذهب الطبيعي الفطري أو يدافعون عن المعاقين
أو تحرر الحيوان أو ينادون بالحرية للسجناء كالفرقة المسرحية التي تطلق
على نفسها اسم سامباديز دوتر، حيث يسهم جميع هؤلاء الفنانين في التغير
الاجتماعي وذلك عبر طرح تحديات أمام النماذج السائدة وعبر التأثير على
القواعد الفكرية والثقافية للسلوكيات البشرية، وبذلك تصبح تصرفاتهم
مشروعة كمشروعية أولئك الذين يقفون على خط النار، وبالطبع قد يحتاج
الفنان بمفرده إلى قدر أكبر من الشجاعة ليعبر عن رأي غير سائد، في حين
أن انضمامه لمجموعة من المحتجين الذين يشاطرونه بالأفكار قد يدعمه
ويشجعه على طرح مثل هذا النوع من الأفكار.
الخاتمة
إن اعتماد الناشطين على الفنون هو أمر شائع وهو يساعد على خلق احتجاجات
سلمية بطريقة مبتكرة يزج من خلالها بالجماهير (عن طريق وسائل الإعلام)
عبر سمات أهمها الحداثة والإبداع والمرح، وهذا ما يساعد تلك الحركات
على التوسع بشكل كبير وسريع. هذا ويتم الاستعانة بالعديد من الفنون
التي تتمتع بوظائف ومهام متعددة ومتنوعة غالبًا سواء على الصعيد
التكتيكي أو التثقيفي، ولهذا يتوافق النشاط الفني مع المبادئ الأساسية
لفلسفة اللاعنف كتحويل الآراء والشمولية والبؤر المتعددة والمؤسسات
الموازية والانفتاح والقوى المحركة للجماعة والابتعاد عن العنف، وبذلك
تسهم الفنون بشكل كبير في مجال ممارسة ثقافة اللاعنف، بيد أنه من الصعب
تحديد مدى فعالية تلك الفنون في تشكيل حركة ما والمحافظة عليها وتوسيع
نطاقها، وكذلك الأمر بالنسبة لخلق حالة تغير اجتماعي عبر التأثير على
المبادئ التي يتبناها الناس، بيد أن العمل قد بدأ حاليًا في منظمة
UNE
حيث يقوم ديفيد كيرتس بدراسة تأثير الفنون على الوعي البيئي، كما قد
تظهر دراسات وأبحاث مماثلة في مكان آخر، فلقد طرأت تغيرات هائلة على
المواقف تجاه البيئة خلال العقود الأخيرة من الزمان، وقد تجلت تلك
التغيرات بالصعود من مرتبة الفرد إلى مرتبة المجتمع وخير مثال على ذلك
انتشار ثقافة التدوير، وعليه قد تتمكن الأبحاث من تبيان كيف تأثرت هذه
التغيرات بالنشاط الفني.
ولعل أبلغ دليل على قوة الفنون يتجلى في الجهود المبذولة لمراقبته،
فلقد ألغيت أمسية شعرية في البيت الأبيض عام 2003 وذلك لأن الشعراء
تواطئوا على تحويل تلك الأمسية لندوة احتجاجية ضد الحرب، في الوقت الذي
تمت فيه تغطية لوحة بيكاسو المناهضة للحرب والتي تحمل اسم: "غيرنيكا"
والموجودة لدى الأمم المتحدة في نيويورك قبل زيارة كولن باول إلى مقر
الأمم المتحدة هناك، وهذا ما تسبب بظهور حالة من الغضب على المستوى
الدولي، ولذلك قام المتظاهرون في برشلونة في شهر شباط بحمل نسخة مطابقة
عن تلك اللوحة وبحجمها الكامل، وهذا يعني أنه لا يمكن لأحد أن يخرس فن
الاحتجاج.
ترجمة: محمد الطبل
*** *** ***
References
Ackerman, P. & Duvall,
J. (2000) A force more powerful: A century of nonviolent
conflict. New York: Palgrave.
Aronson, M. (1998)
Art attack: a short cultural history of the avant-garde. New
York: Clarion Books.
Bleiker, R., ed.
(2001) Painting Politics. Social Alternatives, 20 (4).
Bonyhady, T. (2000)
The colonial earth. Carlton: Miegunyah Press.
Builders. Labourers.
Federation (1975) Builders.
Labourers.
songbook.
Camberwell:
Widescope.
Burrowes, R. (1989)
Nonviolent struggle . A strategy for total revolution.
Nonviolence Today, 11 (October/ November), 6-7.
Burrowes, R. (1996)
The strategy of nonviolent defence: A Gandhian approach. Albany:
State
University of New York
Press.
Clark, T. (1997)
Art and propaganda. London: Orion Publishing.
Cohen, I. (1997)
Green fire. Pymble: HarperCollins.
Cooke, G. & Fulton, J
& Rayner, A. & Wallace, D. (2000) Look at me now: A community
under siege.
Emerald Beach: Lamn
Arts Project Committee.
Curtis, D. (2002)
How the visual and performing arts shape environmental behaviour.
Armidale: University of New England.
Dearling, A. & Hanley,
B. (2000) Alternative Australia: Celebrating cultural diversity.
Dorset: Enabler Publications.
Edwards, B. (1999)
Drawing on the right side of the brain. New York: Tarcher/Putnam.
Ellis, S. (1994)
Horizontal lightning. Glebe: Gaia Ink! & Fast Books.
Fahey, W. (2000)
Ratbags & rabblerousers: A century of political protest, song and
satire. Strawberry Hills: Currency Press.
Hawley, J. (2003, June
28) Tree amigos. Good Weekend, pp.18-23.
Henri, A. (1974)
Total art: Environments, happenings, and performance. New York:
Praeger.
Jones, L. ed. (1985)
Keeping the peace. London: The Women.s Press.
Kellehear, A. (1993)
The unobtrusive researcher: A guide to methods. St
Leonards:Allen & Unwin.
Liebmann, M., ed.
(1996) Arts approaches to conflict.
London: Jessica
Kingsley Publishers.
Marwick, A. (1998)
The sixties. Oxford: Oxford University Press.
Newman, M. (1995)
Adult education and social action.
In G.Foley (Ed.)
Understanding adult education and training (pp. 246-260). St
Leonards: Allen & Unwin.
Pakulski, J. (1991)
Social movements: The politics of moral protest Melbourne:
Longman Chesire.
Powers, R. and Vogele,
W. (1997) Protest, power and change. New York: Garland
Publishing.
Salla, M. & Tonetto,
W. & Martinez, E. (Eds). (1995) Essays on peace: paradigms for
global order.
Rockhampton: Central
Queensland University Press. Scalmer, S. (2002) Dissent events:
Protest, the media and the political gimmick in Australia.
Sydney: UNSW Press.
Schmah, K. (1998),
Ecofeminist stategies for change: A case study in Western Australia.
Perth: Deakin University.
Sharp, G. (1973)
The politics of nonviolent action.
Boston: Porter
Sargent.
Shephard, B. & Hayduk,
R. (2002) From ACTUP to the WTO: Urban protest and community
building in the era of globalisation. London: Verso.
Shields, K. (1993)
In the tiger.s mouth: An empowerment guide for social action.
Newtown:
Millenium Books.
Somerville, M. (1995)
The body/landscape journals: A politics and practice of space.
Armidale: University of New England.
Spencer, J. (1990)
Protest and praise: Sacred music of black religion. Minneapolis:
Fortress Press.
Sudholz, C. (2003,
February 5) Anti-war protest on the march. Armidale Express Extra,
p.1.
Summy, R. (2000) That
nasty .N. word. Social Alternatives, 19 (4), 4-5.
War of the words
(2003, February 17) Sydney Morning Herald, p. 3.
Welton, N. and Wolf,
L. (2001) Global uprising.
Gabriola Island: New
Society Publishers.
Wingham Forest Action
(c1996) A walk on the green side. Wingham: Author.