يُدخلنا في الجنة
علاء الدين عبد المولى
لا قادمًا من أسطورةٍ، ولا ينسجُ أسطورةً على نول ذاكرةٍ يقلِّدها، هو
القادمةُ منه الأساطيرُ، لتقومَ بوظائفها في رفعِ الأشياءِ إلى
مطْلقاتِها، ودفعِ العناصر إلى كلِّ ما من شأنه تفجير طاقاتها حتى آخر
صدى ممكن...
ذاهبًا في امتيازِ الاختلاف الجدير بعبقرية سلالة المبدعين الكبار، لا
يشبه أحدًا وقعتْ عليه قراءاتنا لا قديمًا ولا حديثًا... وهو على ذلك
ابنُ الإرث البعيدِ الذي أتقن كيفية توسيع فضائه ليشملَ الزمن المعاصر،
والزمن المغامر، وما يأتي من مستقبل، ليترك بدوره إرثًا سيشير إليه
الخلود بيده بكل جلالٍ ودون جدالٍ.
صوته نسيجٌ باذخ من خيوط ذهب اللغة، وقصائده قاماتٌ يقلِّدها السَّروُ
ويخجلُ منها الحَوْرُ، ويمدُّ اللهُ يده من عليائه ليباركها ويقول لها:
أنتِ امتدادٌ لمزاميري وأناشيدي وأناجيلي ومصاحفي.
شعرُهُ يحكُم، لا كما يحكم عرشٌ، بل كما يحكم مجدٌ لا يعرف خمرته إلا
الشعراء والرَّاسخون في فقه الجمال.
هو ذا: فقيهُ الجمال الخالدِ الذي لا يفتي إلا بإطالة عمر الأنهار على
الأرض، وتمديد الغمام أكثر في جسد الشتاء ليعتصره رعيانُ الحلم
ويقطِّروه نبيذًا معتَّقًا شغلَ يديه.
هو ذا: الذي رأى وارتأى وتراءت له الغوامضُ وأشاعت في معاجمه الحياةُ
سرِّها، وخصَّته بتأويلها وفرشت له درب الخلود بالسجاد القرنفلي
النبيذي العنبي الأنيق.
هو ذا: معلم الأناقة في شعره، من صورة وأسطورة وفتاة مسحورة، من خيال
ومجاز وذاكرة حجازٍ، من إيقاع متنوع تتصدع من خشيتهِ القلوب... أناقةٌ
تدلّ الروح على مهبط وحيها، وتهدي الضالين إلى سواء النشيد.
جاء إلى الأرض ليجعلها لا أكثرَ فرحًا؛ بلْ أقلَّ حزنًا. وقال لو حكمتْ
رؤى الشعراء العالمَ لخفَّت الحروب... آلمته الحروب، فهجاها، عكَّرت
الخياناتُ صفاءَ تأمُّله فعالجها بالوفاءِ لنارِ الجبال سرقها وعاد
بقبسٍ منها لأهل الصفاء... أبكتْه أنهارُ الدَّم فلملمها وطيَّر فيها
زوارقَ طاغور، ومركب رامبو السكران، واستغاثات شواطىء بيروت الضالعة في
حزنها النبيل.
فاجأه الضجيج العالمي والعربي، فوضع رأسه بين ينبوعين من حكمةٍ وغمامٍ،
وغادر بعيدًا في غابةٍ تنمو أشجارها بصمت، تعشقُ حيواناتُها بصمت،
ترقصُ ساحراتها مع أمراء الورد والنار بمتعة ولذة ما خطرت على بال موسم
ولا مرَّت في ذهن بائع النبيذ الواقف على باب الزمن ينادي على الندامى
الذين يعرفهم: أنْ طوبى لكم اشربوا وتهللوا قد جعلَ الشعر من تحتكم
سريًّا.
شاهد المرأةَ تبكي؛ بالورد قذفها، شاهدها تعشق غيره؛ بالندم تلقاها،
شاهدها تئنُّ شهوةً، بسريرِ الموج الإغريقيِّ عراها، وقال لها كوني
فكانت... دافع عن الخاطئة، حمى الفقير، تمهَّل في الحكم على الخريف
فصادقه، تأمَّل في الشتاء فاتخذه مغارةً لميلاد يسوعه الشعري الخاص...
سمع أنينَ المعذبين تحت سياط تجَّار الدِّين، فأخذهم نحو قصيدته وطردَ
التجار بعيدًا، وأعاد المعبد لأصحابه الحقيقيين: أبناءِ الملكوت
الفقير... لأنه يؤمن أن الله لا يصنَّفُ في كتب، ولا يعلَّبُ في هياكل،
بل يُرتشفُ مع الضوء سائلاً من الفرح الممجَّد.
هو ذا: رسول الحداثة الطالع من جذور اللغة، المتشكِّلُ في رحم الزَّمن
المتحوِّل، تراه تارة يشرق من غرب، ومرة يغرب في شرقٍ، يفتح نافذة قصره
لكل رياح العالم، ولا يخلع أبوابه ولا جغرافية مكانه المتجسد في حيوية
لغته الفريدة.
هو ذا: صيَّادُ الفكرِ من بحرِ الشعرِ، مكلِّلُ الشعر بتاجِ الفكرة،
جامعُ النقائض، كنيسةُ الفرح، ملكوت الصلاة دون تلقين، أعيادُ النبيذ
دون معلِّم لأنه المعلِّمُ.
شاعرٌ نتجمَّع حوله لنصغي إلى صمته الناطق باسمنا، هو مندوبنا في ليالي
البرد إلى جمر الحب، هو سفيرنا في زمن الحصار والدم الرخيص في جسدنا
العربي إلى جزيرة اللازورد المجهولة، يكتشفها برؤيته، ويغذِّيها
برؤياه... هو حارسُنا من الموت لأنَّ شِعرَه يحيي القلوب وهي رميم...
في وقت كثر فيه شعر الموت والجثث... شعره يصبُّ الزيت فوق نار الشبق
ليزيده إرادةَ حياةٍ وتفتُّحَ مغامرة.
هذا هو الشاعر زارعُ شجرة الأكاسيا، باني مملكة الخبز والورد، عازفُ
المزمار على منحنى الخصر، فاضحُ السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية،
شيخُ الغيم وعكَّازه الريح، مفجِّرُ الأنهار والمحيطات وقارىءُ
الفلسفات والأساطير وجامعُها كلها في المحبرة، هو ذا من جعلَ للحبر
مقصًّا، من طيَّرَ سنونوةً تحت شمسية بنفسج، ومن قال عندما ضاقت عليه
المجرَّات "طالع ع بالي فلّ"
ومن شيَّد من خريف الحياة، رخامَ الماء.
هو ذا من سلسلت السيدة الملكة الفيروزية الخالدة كلماتِه على شفتيها
فزادت الصَّلاة قداسةً، وأكثرتِ اللوزَ في الشَّجر، وطيَّرت المجدَ في
النسيم الذاهب نحو الربِّ الرَّحيم.
هوذا شاعر سيصيبكم بحُمَّى العطر، يبللكم بغيم الحلم، يمهِّد لكم
الدَّرب إلى غيبوبةِ السّحر، يأخذكم من أيديكم واحدةً واحدًا إلى
الجنَّة، يسقيكم شربة من شعره لن تظمأوا بعدها أبدًا.
يا معلِّم... أهلًا بك أضأتنا وأكرمتنا فطوبى لك... ما أبهانا في
حضورك، نحنُ ضيوفكَ لا أنتَ، هذا هو بيتكَ ونحنُ من لبَّى دعوتكَ يا
نبيَّ الجمال، يا جوزف حرب.
حمص في 7 آذار 2008
*** *** ***
كلمة
في تقديم الشاعر الراحل جوزف حرب في مهرجان مارليان الثقافي
بحمص، 7 آذار 2008.