قطوف من شجرة الحياة 21

 

د. اسكندر لوقـا

 

لا نعتقد أن تعبيرًا ما قادر، بحدِّ ذاته، على تفهُّم - لا مجرَّد فهم - مفردة "إنسان". فشأن المفردة هنا، في اعتقادنا، شأن إطار اللوحة الذي يوضِّح ما بين أبعاد اللوحة. ولهذا عندما نقول اختصارًا بأن الإنسان هو الإنسان وكفى نكون قد اختصرنا المسافات كافة كي نقرَّ بأننا، إلى اليوم، أعجز ما نكون لاكتشاف من هو هذا الإنسان. وبالتالي نتجنب عناء البحث عن سرِّ هذا المخلوق المحيِّر ولا نملك إلا أن نتعامل معه طوعًا على أنه لغز من الألغاز.

من منطلق هذه النقطة نستطيع العبور إلى رحاب عالم يختزن في ذاته معالم عظمته وسموِّه كما انحطاطه وانحداره في آن. وفي كلتا الحالتين يبقى الإنسان، صاحب هذا العالم، يبقى في داخل ذاته الأقدر من سواه على معرفة ماذا يضمر وكيف يختار دربه وصولاً إلى غايته. في سياق هذه الرؤية، كما أعتقد، تكتسب معادلة اختيار الإنسان المناسب ليكون في المكان المناسب أهمية إتقان عملية الفرز بين الأبيض والأسود، بين الضوء والعتمة، مع جزمنا بأنه لا يمكن التعامل مع إنسان لا لون له، لا هوية له، لا مبدأ له.

***

من البديهيات في الحياة أنه لا توجد مشكلة لا حلَّ لها ولكن شرط أن يكون المرء موضوعيًا في مقاربتها. ولكي يكون المرء موضوعيًا مطلوب منه أن يقول قول الحق وأن لا يتردد في هذا القول مهما كانت النتيجة التي يترتب عليه تحملها. وفي تاريخ البشرية قلما نجد كلمة حق قيلت ولم تكن حاضنة لمعاني العدالة والخير والمحبة والجمال. ومن هنا السؤال الذي سيبقى يطرح نفسه علينا، أفرادًا وجماعات، وهو ماذا يفيد الإنسان إذا هو اختار التشرنق داخل ذاته وأبقى نوافذ منزله أو مكتبه محكمة الإغلاق ولم يبقها مشرَّعة كي يرى ويسمع وبالتالي كي يتفهَّم أحوال من هم على مقربة منه ويقول قول الحق، تأكيدًا على أن الإنسان ليس من السهل أن يفصل نفسه عن تاريخه؟

إن شعور الارتباط مع الآخر، شعور لا يضاهيه شعور في حالة فرح حين يكون مسنده طلب التلاقي بينه وبين هذا الآخر أو ذاك. كلمة حق هنا هي وحدها التي تقود الخطى نحو التلاقي بين الإنسان والإنسان. وبكل تحفُّظ أحاول في قولي هذا الاقتراب مما عناه يوما قائل عبارة "الحق الحق أقول لكم" ومن ثم تابع سيره مع رجاء بخلاص الإنسان من مرض الـ "أنا" ولا أحد من بعدي.

***

يقف المرء أحيانًا حائرًا أمام ظواهر الطبيعة ويعجز عن تفسيرها. وهذا ما يحدث أحيانًا أمام الكلمات ومعانيها. وقد يسعى المرء، بينه وبين نفسه، بحثًا عن الجواب، وقد يجد الجواب أو لا يجده. إذ كما الطبيعة تحرص على أسرارها في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة، كذلك تتحدى الكلمات بمعانيها الكامنة في صلبها، تتحدى عقل الإنسان وقدراته الهائلة على الكشف والاستكشاف. إن شيئًا من هذا القبيل يحدث أمام معاني الكلمات التي تقال أو تقرأ. ومن هنا كثيرا ما نُنصح بقراءة ما خلف السطور وصولاً إلى المعنى المخبأ هناك.

وفي السياق المتصل، نستطيع القول إنه بمقدار ما يكون التحدي من طرف يكون التحدي من الطرف الآخر، ولهذا الاعتبار نجد الإنسان يتقدم من موقع إلى موقع بحثًا عن معاني الكلمات حين لا تكون واضحة تمامًا، ولهذا الاعتبار نجده كما الغطاس في أعماق البحار بحثًا عن طريدة، وكما رائد الفضاء داخل حجرته لاهثًا وراء مشاهدة معلم يراه مرة في العمر، كذلك متسلق الجبال الشاهقة الذي يعجب لقتال الناس بين بعضهم بعضًا لامتلاك ما ليس لهم من أملاك الغير على اتساع مساحة الكون. وهكذا هو العقل البشري لا يفتأ يلهث وراء الكلمات ومعانيها إلى أن يستقر ولا نعتقد أنه سوف يستقر يومًا.

***

من المعادلات الموضوعية القول بأن حركة التاريخ لا تسير من تلقاء نفسها لأنها من فعل الإنسان على مدى الأزمنة التي مرت والتي سوف تمر. ولأن التاريخ من فعل الإنسان هو قبل أن يكون حكاية شيِّقة أو غير شيِّقة، هو شاهد على حقائق قد يصيبها التشوه في بعض الحالات أيضًا بفعل الإنسان. وثمة مسألة ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذه السياق وهي أن الحقائق التاريخية شيء والوقائع الطارئة شيء آخر. الحقائق التاريخية تملك عنصر الثبات والإثبات، بينما الوقائع الطارئة تفقد تداعياتها مع زوال زمانها إلا بمقدار ما تكون قد خلفت من أثر على فئة من أطياف المجتمع لفترة زمنية محدودة. وهذا ما يوضِّح الفاصل بين الثابت والمتغير في الحياة.

إن الحقائق التاريخية كأسراب النجوم، ربما غطتها السحب حينًا، إلا أنها لا تفارق أمكنتها، كما الجذور العتيقة المتشبثة بأرضها وتصرُّ على البقاء عصية على اقتلاعها من تربتها. إن أبرز الحقائق التي يجب أن يراها الإنسان، هي الحقائق التاريخية الراسخة والمرتبطة بماضي الشعب وحاضره ومستقبله، وأما المتغير فإلى زوال.

إذا شاء أحدنا أن ينزع عن الثمرة قشرتها فإنه لن يستطيع إتقان عمله بالسهولة المتوقعة من دون أن يبقي جزءًا من القشرة ملتصقًا بسطحها، هذا إلا إذا أزالها مع جزء من الثمرة ذاتها. كذلك هي العلاقة بين الإرادة والمستحيل في حياة البشر، لأن المستحيل هو أحد طرفي هذه المعادلة، فإذا تحقق المستحيل لن تكون ثمة حاجة للإرادة كأداة تأثير على المتغيرات التي هي رهن الظروف الآتية التي تصيب فردًا أو مجتمعًا على سطح الكرة الأرضية.

الإرادة من هذا المنطلق في اعتقادي، كما الريح تضرب في أساسات هضبة رملية تبدو راسخة في قلب الصحراء كجبل لا تهزه الريح، فإذ بها تنتقل، برمالها المتحركة، لتستقر في مكان غير المكان الذي كانت تستقر فيه قبل هبوب الريح. كذلك هي الإرادة تضرب في أساسات المستحيل إلى أن تبدده كعقبة من العقبات التي تحول دون انتصار المرء على نفسه أو على محيطه. وإذا جاز لنا القول بأن الإرادة هي نقطة العبور إلى الفعل أو هي الفعل ذاته، لا بد من أن نضيف بأنها من صور الموقف عمومًا في حياة البشرية. والموقف، كما نعلم نعتقد، هو التعبير الصادق عن التمسك بقيمة وعن مبدأ لا يقبلان المساومة عليهما بأي ثمن.

20-11-2013

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني