علم النفس الإيكولوجي
ecopsychology
معين رومية
كان
للتقدم العلمي التكنولوجي أثره العميق في المجتمع وقد أدى إلى تغيرات
عميقة في أسلوب حياة الإنسان على الصعيدين الفردي والجماعي. هكذا نشأت
وازدهرت المدن الكبرى كبيئات اصطناعية وحيدة النوع إلى حد كبير،
وانعزلت عن البيئات الطبيعية، هذا إذا لم تكن قد قامت على حساب
تدميرها. وبات الإنسان في المجتمع الحديث والمعاصر يعيش ويعمل في مواقع
لا يكاد يخرج منها إلا لمامًا. فهل كان لأسلوب الحياة هذا أثره على
السلوك البيئي للإنسان؟ ثم ما هي عواقب هذا الأسلوب على النفس
الإنسانية؟
تمثل هذه الأسئلة نواة علم النفس الإيكولوجي كفرع بينمناهجي يبحث في
البعد النفسي للأزمة البيئية ويطمح إلى فهمها بوضع معطيات علم النفس في
سياق إيكولوجي. فكما بدأ فرويد باستخدام النكات وزلات اللسان والتوريات
والهفوات ليبين كيف تعبر هذه الخبرات اليومية عن الدوافع الجنسية
والعدوانية المقموعة في العقل اللاواعي، كذلك يقترح ثيودور روزاك
Theodor Roszak،
وهو من مؤسسي علم النفس الإيكولوجي، البدء بالتقارير عن التلوث
والنفايات السامة وثقب الأوزون... الخ والنظر إليها كإشارات على
الاختلال العميق الناجم عن اللاوعي الإيكولوجي
ecological unconscious،
وعلى القمع الذي يثقل على إحساسنا الفطري بالوفاء نحو كوكب الأرض.
يضع روزاك مبادئ من أجل علم نفس إيكولوجي ويطمح إلى أن تكون بداية
لحوار جديد بين الفكر العلمي والمطلب الإنساني، ويمكن تلخيص هذه
المبادئ كما يلي:
-
إن اللاوعي الإيكولوجي هو نواة العقل وإن قمعه يعد الجذر الأعمق
للجنون الجمعي التواطئي في المجتمع الصناعي، والانفتاح على هذا
اللاوعي هو سبيل السلامة العقلية.
-
إن فحوى اللاوعي الإيكولوجي هو السجل الحي للتطور الكوني منذ حدث
الانفجار الأعظم
Big Bang
وحتى الآن. فقد انبعثت الحياة والعقل من هذا التاريخ التطوري
باعتبارهما ذروة المنظومات الطبيعية.
-
يهدف علم النفس الإيكولوجي إلى شفاء الاغتراب
alienation
الأساسي بين الإنسان والبيئة الطبيعية، ويلتمس لأجل هذا الغرض
إيقاظ وتحرير الإحساس الفطري القابع في اللاوعي الإيكولوجي.
-
يتجدد اللاوعي الإيكولوجي من الإحساس السحري بالعالم عند الطفل.
وباعتبار أن المرحلة الحاسمة في نمو الشخصية هي حياة الطفولة، فإن
التربية التي تحافظ على هذا الإحساس وتنميه وتعمقه تجعل في الوقت
ذاته الحاجة العلاجية إلى علم النفس الإيكولوجي نافلة.
-
لكن التربية في الثقافة الصناعية–المدينية تنحو باتجاه قمع
الأحيائية animism
الفطرية لدى الطفل، لذلك فإن علم النفس الإيكولوجي يسعى إلى
استرجاع هذه الخبرة لدى "الراشدين" بما يؤدي إلى إيجاد الأنا
الإيكولوجي
ecological ego.
-
يحمل الأنا الإيكولوجي الناضج إحساسًا بالمسؤولية الأخلاقية تجاه
كوكب الأرض يعادل خبرة المسؤولية الأخلاقية تجاه البشر الآخرين.
-
يتبنى علم النفس الإيكولوجي مهمة إعادة تقييم بعض السمات
"الذكورية" التي تتخلل البنى السياسية للسلطة بضروبها المتنوعة
والتي تدفع باتجاه السيطرة على الطبيعة كما لو أنها عدو غريب أو
ميدان لا حقوق له.
-
كل ما يسهم في النشاطات الاجتماعية والشخصية على نطاق صغير من شأنه
أن يغذي الأنا الإيكولوجي، وكل ما يصارع من أجل السيطرة على نطاق
كبير ويقمع الشخصية من شأنه أن يضعف الأنا الإيكولوجي. لذا يشكك
علم النفس الإيكولوجي تشكيكًا عميقًا في السلامة الجوهرية لثقافة
المجتمع الصناعي–المديني، سواء أكان التنظيم الاجتماعي رأسماليًا
أم اشتراكيًا. وهو يشير بتضييق النطاق وتخفيف السرعة وتفريع السلطة
وتبني الديمقراطية.
-
يرى علم النفس الإيكولوجي أن هناك تفاعلاً
تكافليًا بين سلامة الكوكب وسلامة الشخص البشري، أو بتعبير آخر: إن
حاجات الكوكب هي حاجات الشخص وحقوق الشخص هي حقوق الكوكب.
وقد برزت في سياق هذه المبادئ بحوث تتناول جوانب متنوعة من العلاقة
النفسية بين الإنسان والبيئة. ففي دراستها عن الذات الإيكولوجية
ecological self
في مرحلة الطفولة، تلاحظ أنيتا باروس
Anita Barrows
أن نظريات النمو في علم النفس تركز على نمو نفس الطفل عبر صلتها بالناس
الآخرين وحسب، كما تركز على تنسيب الطفل إلى المجتمع الإنساني فقط،
برموزه وعاداته وقيمه، بحيث يطور الطفل استقلاليته وتتعزز لديه الوظائف
التنفيذية للأنا لتأخذ مكانها في عالم من الذوات الفردية المستقلة
المنفصلة.
لا تستغرب باروس هذا النموذج للذات المعزولة فهي تعده نتيجة محتومة
للنظريات النفسية التي نشأت في بيئات مدينية وعلى يد منظرين يعيشون في
المدن. لذا فهي تدعو إلى إزاحة هذا النموذج نحو رؤية لذاتٍ شفافة
مرتبطة، ليس فقط مع الذوات البشرية الأخرى، بل مع كل الكائنات
والسيرورات الحية. يعني ذلك أن نظرية جديدة عن مرحلة النمو الطفولي سوف
تأخذ باعتبارها أن الطفل يولد ليس في سياق اجتماعي فقط، بل في سياق
إيكولوجي.
والسياق الإيكولوجي مغيب سواء في النظريات النفسية أم في أسلوب الحياة
المعاصر الذي يدفع نحو الاستقلالية والسيادة والتنافس، أي نحو كل ما
يعزز الانفصال والتفردن في سيرورة نمو الطفل. وتلاحظ باروس أن ما
نتصوره كإسهام في سيرورة انفصال الطفل يمكن فهمه أيضًا كإسهام في إحساس
الطفل بالترابط مع العالم. فحركة الطفل بعيدًا عن أمه ليست تمزيقًا
لوحدة سابقة فحسب، بل يعني أيضًا قدرة متزايدة على الاقتراب من البيئة
المحيطة وصوغ ارتباطات معها. لذلك تقترح باروس انزياحًا في وجهة النظر
ترى من خلاله أن ما يتحرك الطفل الدارج نحوه هو على درجة حاسمة من
الأهمية كالذي يبتعد عنه. وتفسر ذلك بأنه سعي نحو دائرة أوسع من
الوحدة. وبذلك فإن مفهومًا للنمو على أساس إيكولوجي يقر اتجاهين
أساسيين للشخصية هما الميل نحو الاتحاد والميل نحو الانفصال كاتجاهين
متكافئين وضروريين بالدرجة ذاتها.
*** *** ***