تجليات اللغة الشذرية من تكسير البنية إلى تجديد الرؤيا
قراءة وتأويل للمجموعة الشعرية ما بين طين وعشق للشاعر الدكتور علي
مجيد البديري
رياض عبد الواحد
امنحيني وضوحًا كافيًا
أيتها الحروف –
كي لا تسحقني العربات.
بهذا الزخ الإبداعي والصياغة (الأسطورية)، والتعابير الفارهة، يضعنا
الشاعر أمام نصوص غرائبية فاتنة، نصوص تدفعنا إلى لجة الاكتشاف والكشف
عن خباياها، ممراتها، دهاليزها وأفقها الواسع. لقد منحنا الشاعر مسحات
فنية راقية، وصياغات شعرية مفعمة بالدلالات الخفية لعالم مليء بالأسى،
عالم يبحث عن أفق لا تغيب فيه شمس الإنسانية ولا تنبت زهرة في أرض
بوار. أطلقت المدارس النقدية الحديثة على القصيدة القصيرة مجموعة من
التسميات منها على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة النانو وقصيدة التوقيع
وقصيدة الومضة والقصيدة الشذرية (من الشذرات) وقصيدة الدهشة. وإذا
أردنا أن نقف على تعريف لهذا النوع من القصائد لكي نتمكن من استجلاء
بنيانها الهيكلي فلا ضرر من إيراد التعريف الآتي للناقد الانكليزي
هربرت ريد: "القصيدة التي يكون فيها الشكل والمحتوى مندمجين في عملية
الخلق الأدبي". إذن، القصيدة الشذرية تحاول لملمة وتبئير الكلمات من
أجل إزاحة كبرى وبؤرة مركزية (مجموعة الأفكار) تتشظى في أكثر من موقع
ومكان. لهذا، فإن هذا النوع من القصائد يخلق ديالكتيكية متولدة من
كينونته المتحركة، والقابلة للانسياب في فضاءات وأمكنة وأزمنة سيالة
بواسطة ما تمتلك من طاقات ذاتية تعرش عليها مجموعة من التغريبات،
والنشاز اللغوي المحبب، وقلب الأفكار، وكسر تابوات التعابير الكلاسيكية
لتشكيل عمارة شعرية بنحو مغاير. من ذلك كله، ينبغي أن يتطابق شكل
القصيدة (هيكلها العام) مع ما ترمي إليه من معان تتقلب في مواقع كثيرة.
إن ما سبق لا يعني أن تتخلى هذه القصيدة عن سمات أضحت من أولويات
القصيدة الحداثوية، ونعني امتلاكها لأبعاد لا تدخل في مبنى الشعرية،
بمعنى استفادتها من التواشج مع الفنون الأخرى، فهي تستفيد من الرسم ومن
السينما والموسيقى ومن الخطوط لكي تستكمل هيكلها التام، إنها باختصار
لوحة متكاملة من الوجوه كافة، أي أنها القصيدة التي تخفي كل شيء لكنها
في الوقت نفسه تقول كل شيء.
مرآتية الذات
كيف يمكن للشاعر أن يعكس دواخله على الورقة بخط ذي نقاط مشبعة بالكلمات
المموسقة والإيقاع الرزين والتتابع الشفيف مما يخلق فسحة بصرية تسعى
لسد الفراغات البينية التي هي مساحة المتلقي. في القصيدة الشذرية يسعى
الشاعر إلى إرباك مخيلة المتلقي بواسطة تفعيل فائض الرؤية لديه لأنه
يفترض أنه يتعامل مع عين مثقفة، تبحث في ما وراء الأشياء ولا تقف عند
حدودها المرئية. إن ما سبق لا يعني انفضاض ذات الشاعر عن الاحتشاد داخل
النص لكي تصبح حركة تلك الذات الداخلية أكبر من حركتها الخارجية لأن
سيرورة الأخيرة هي مآل الشاعر في خلق سمة طاغية بواسطة المؤثر الداخلي
المنبثق تلقائيًا حتى تصبح اللغة لغة إدراكية ترمي إلى بنية مرجعية
تخاطب العقل قبل الشعور.
مصاحبات النص وطاقاتها الايحائية
يعد العنوان من المناطق "الرخوة التي تتيح مواجهة النص، والتصادم معه
تمهيدًا لمنازلته، الأمر الذي يجعل من العنوان مفتاحًا لفك لغز النص
وإسراره".
هذه المنطقة الرخوة لها سماتها. إذ تتحدد بها "بؤرة الإثارة لهذا
يسميها البعض (صاحب البيعة) لأنه حظي بمبايعة النصوص عند عتبة الغلاف،
ليعتلي عرش العنونة الرئيسة بمصداقية مطلقة".
عنوان هذه المجموع من بين طين وعشق يتوزع بين المكان والزمان،
فالطين بنية مكانية تصلح للإنبات وتكون الحياة، وهي في الوقت نفسه بنية
مكانية طاردة لكل ما هو حي حين لا يمتلك مقومات الحياة. أما العشق فهو
بنية زمانية كونه لا يستقر على حال، ويمتد في أزمنة كثيرة، وقد لا
تتحقق استكمالاته الروحية فيشيع الجدب في الروح. إضافة إلى هذا فقد حمل
العنوان بنية الحذف، إذ لم نتعرف على الذي بين الطين والعشق إلا ما هو
سائد عرفيًا ومنطقيًا، وقد لا يكون هو المقصود، لهذا يبقى الفراغ متروك
ليملؤه المتلقي بما يناسب الحال العام، وبهذا نجح النصيص في مهماته
الأساسية أيما نجاح.
تمظهرات التغيير البصرية
يتمظهر التغيير البصري في الشعر ليكشف عن الامتداد باتجاهات حركية
متباينة بيد أنها ذات تدرج زمكاني يوحي بالمساوقة بين الصوت والصورة:
من جعل نافذتك
هكذا...
معتمة
وعصرية جدًا
...
حين أمشطها... بأضلع عيني
أُقطر
عوسجًا
و
كهولة...!
إن استدعاء الشاعر للعتمة، وسؤاله الارتيابي يوحي بأن النوافذ لم تكن
دائمًا "معتمة" بل أن ثمة أزمنة بيض تعتليها وإلا يفقد السؤال بريقه
المطلوب. وعلى الرغم من حصول هذا الاختلاط إلا إن الشبابيك-المستقبل ظل
يمتلك حداثته لأنه منفتح على أفق الأمل ولو لم يكن كذلك لما حصلت عملية
التمشيط الروحي بواسطة الرؤية المهيمنة عبر وسيلة الرؤية البصرية. إذن،
الخطاب – هنا – ينتمي إلى المجال البصري الذي يزودنا بمجموعة من
المهيمنات والتمظهرات المهمة داخل بنية الخط–بصري
scripto-
visual
والذي يتجسد في مجموعة من الفراغات التي تعد عنصرًا بنيويًا وهو، بعد
ذلك، إخفاء يؤدي حتمًا إلى التأويل، إضافة إلى ما يؤديه الفراغ المنقوط
من تضعيف للبنية النصية بسبب من اشتماله على أفق مشتت يحتاج إلى قراءة
نسقية. ووعيًا من الشاعر بأهمية كسر المعتاد هندس قصائده بنحو تشكيلي
متضمنة وحدات تركيبية تحمل دلالات الانطفاء، أو التشبث الروحي.
ذروة الانعتاق:
حفنة من سكينة،
بضعة حروف،
وشراع
أو
ورقة يابسة
تحت شجرة
في...
منفى
كافية لاحتدام النخيل... في القلب.
إن هذه الوحدات التي تحاول هجرة أماكنها، أو التشبث بها يخترقها الفراغ
الذي يمارس فعل النفي الأبدي:
المسافة
بين مدخنة النحيب
وممرات الذهول...
مزلاج القبر.
إنه الغياب المتشظي، إذ إن الذات – هنا – هي الطاردة للذات. بمعنى
طاردة لنفسها بسبب من فقدانها لانسجامها من خلال الخط الواصل بين
النحيب والقبر. هكذا يستمد المعجم الشعري عند علي مجيد غناه من تعددية
مراجعه التي يجمع بها بين الهامشي، والبشع والمقلوب في مراجعة وجدانية
رائعة:
البشعة
العاهرة
المنحطة
والمنحطة دومَا
للآتين...
تنشر ملابسها الداخلية... على حبال أعمارنا القصيرة.
إنه الاختلاف في الشعر الذي يحرر مدلولاته مما يعلق بها حتى تصل إلى
درجة اللامعنى. في السطور آنفًا يتحدث الشاعر عن الحرب بطابع ساخر لكنه
باعث على القرف منها. إنه يبحث في الكتابة عن أفق يحقق كينونته الرافضة
لكل ما هو غير إنساني، ولكل ما مضيء فيها.
ولم يقف الشاعر عند شكل معين إلا وأردفه بمنعطف شكلي يزيد من فاعلية
التلقي والتأويل من اجل اكتمال المنظومة الهيكلية للنصوص، وها هو ينبري
باقتدار لظاهرة التشظي البصري محاولة منه لتقطيع بدن الكلمة للتعبير عن
تمزق الإنسان وتغريبته الروحية:
حين
طش
الخليط...
....
غ
ر
ق
إن هذا التشظي الحرفي-البصري ما هو إلا دليل على هبوط الإنسان لقاع
المصيبة بسبب من فظاعة السلب المخيم على ذاته، لهذا ينزل إلى القاع،
قاع الزمن لتبتلعه المحن وتنغلق أمامه المسارب من أجل أن يستسلم لما
يواجه.
أو قول الشاعر:
ت
ت
ف
ت
تُ
وجوهم الداكنة
.......
يمتد بنا الطريق.
إن تقطيع الفعل ما هو إلا تقطيع لحالة الانكسار النفسي الذي يعرش على
الذات، أو ذوات الآخرين، إذ أراد الشاعر أن يرمز بالشكل إلى الواقع
المتآكل الذي أدى إلى تهشيم القيم والذي انعكس سلبًا على وجوه الآخرين
حتى اتسمت بالدكنة، غير إن هذا التفت لم يثنهم عن مواصلة الدرب مهما
امتدت المسافات وتعقدت المسالك والسبل وصولاً إلى شمس الحقيقة الممتدة
مع امتداد طريق الحياة.
*** *** ***
خالد حسين حسين، شؤون العلامات من التشفير إلى التأويل،
ط1، دار التكوين، 2008، ص 47.