|
إسقاطات عبرمناهجية على القصص القرآني
هذا مثال على قراءتي العبرمناهجية لآيات القرآن الكريم توضيحًا للفهم العبرمناهجي لآيات القرآن. وفي مثال آخر (في مقالة أخرى) سأوضح كيف أن آيات القرآن تشير إلى ضرورة الفهم العبرمناهجي للكون والطبيعة عبر حادثة الإحياء والموت باعتبارهما حدًا فاصلاً بين الوعي بالمفهوم الإنساني واللاوعي، أو بين مستويات مختلفة من الوعي الكامن في المادة على مستويات مختلفة. المثال الأول هو الآية (260) من سورة البقرة حول الفهم العبرمناهجي للطبيعة أو وفق النموذج العبرمناهجي لمفهوم الطبيعة (ص78 من كتاب بيان العبرمناهجية). تقول الآية: وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم. ولعل السبب في اختيار هذه الآية هو البساطة في التعبير عن ظاهرة غاية في التعقيد وما زالت غير مدركة من قبل العلم. فالموت والحياة، بالمفهوم الإنساني، هما انتقال من حالة إلى حالة فيزيائية أخرى. ويمكننا القول إنها عملية تحوُّل على مسار التطور الكوني: مادة – طاقة – معلومة (وعي). أو بتعبير آخر هما "حالة كوانتية" فيها تحول دائم للطاقة – الجوهر – المعلومة. أو العكس في حال اعتبار القوانين معلومات تتجسد من خلال اكتشاف وإدراك التحولات في المادة – أي وفق المسار العكسي: وعي – طاقة – مادة. إن التعبير الكوانتي عن ظاهرة الموت والحياة (الفهم الكوانتي للظاهرة) هو أحد المقتربات الضرورية لفهم هذه الظاهرة واكتشاف أسرارها، فما دام الكون المادي من حولنا يعمل وفق قوانين فيزياء الكوانتوم فإن أي انتقال أو تحول في المادة يمر عبر مستوى معين من الوعي يجب أن يفهم على أساس كوانتي. في الآية المذكورة عدة قوانين لا بد من استنباطها واستخراجها كأساس لمنظومة المعرفة الإنسانية الكلية. ولعل روعة المثال في عملية الإحياء والموت كونهما مستويات للواقع متقاربة ومتجاورة وذات مستويات تعقيد مختلفة في آن، ولا ينضوي الواحد منها تحت الآخر، وإنما كلاهما على درجة تعقيد مستقل وعلى مستويات وعي مختلفة، بل وقد ينفي أحدها الآخر. وما يدل على ذلك هو أن الفكر والوعي والإدراك الإنساني (الطبيعة الذاتية) المرافق لأحد خطي التحولات لمستويات الواقع – (الحياة-الموت) يتحرك نحو الاضمحلال في نهاية خط التحول، بينما تغيب عنه وإلى اليوم آلية فهم الإرجاع أو الاتجاه الآخر للتحولات باتجاه بزوغ ونمو الوعي في المادة (الموت-الحياة). مع ملاحظة أن الوعي الإنساني يتوقف في نهاية المسار الأول "الحياة-الموت" عند خط الفصل ولا يبحث في درجة تعقيد الحالة النهائية "الموت" مع ظنه الجازم بأنه مدرك للحالة الأولى "الحياة"، والتي هي أشد تعقيدًا نظرًا لدخول الوعي كطرف وعامل إضافي في التحولات وفق مسار التحولات: مادة – طاقة – وعي. وتساؤل سيدنا إبراهيم عن عملية إحياء الموتى تتوافق ومسيرة الفكر الإنساني أو النموذج الذي يسير وفقه الوعي الإنساني، أي الافتراض بأنه فهم الحياة والموت وما عليه إلا معرفة نقطة الفصل بين مستويات التعقيد المختلفة، أي لحظة الانتقال من مستوى التعقيد الأول إلى مستوى التعقيد الآخر. إذًا، تساؤل إبراهيم لا يمس مستويات التعقيد المختلفة فقط، إنما يمس فهم عملية الانتقال من مستوى إلى آخر ليتمكن من الفهم والانتقال بين مستويات تعقيد مختلفة رغم إدراكه لدرجة تعقيدها. وهو الأمر الأهم من الناحية العبرمناهجية. إذًا، سؤال سيدنا إبراهيم هو سؤال عبرمناهجي بحق. فمستويات التعقيد بحد ذاتها ليست هي المشكلة لديه كما في المنظور العبرمناهجي تمامًا، إنما طريقة الانتقال والربط والفهم. أي، وحسب الفهم العبرمناهجي للطبيعة، فإن المسألة لدى إبراهيم هي في الطبيعة الذاتية وليس في الطبيعة الموضوعية؛ في طريقة الانتقال من الطبيعة الموضوعية إلى الطبيعة الذاتية. فإبراهيم يحاول ربط مستويات الواقع بمستويات الإدراك، أي جعل الطبيعة الموضوعية أكثر ذاتية، وهو ما يتوافق ومسيرة الوعي أو التسخير والاستخلاف. أما الإجابة في نص الآية على تساؤل إبراهيم فإنها عبارة عن إضفاء الموضوعية على الطبيعة الذاتية عبر آلية ربط مستويات الإدراك بمستويات الواقع. إذ لا بد من تجريد الذاتية البحتة جزئيًا لتصبح أكثر موضوعية بحيث يتم تمتين الارتباط وتوثيقه بين مستويات الإدراك ومستويات الواقع (الصورة مع الواقع). فالنظرية والتجريد غير كافيين لفهم الطبيعة الحية. إننا إذا فهمنا الآية وفق المنظور العبرمناهجي فإننا سنصل إلى طريق القدسي أو سنقف على الطريق التي توصل إلى القدسي، وهو القوانين الناظمة للطبيعة التي تربط مستويات مختلفة (تعددًا وتعقيدًا) للواقع ببعضها وتجعل فضاء المعرفة مفتوحًا أمام الوعي والإدراك. نعود مرة أخرى إلى الآية: إن مطالبة سيدنا إبراهيم بأن يرى كيف يتم إحياء الموتى يدل على عجز إبراهيم عن فهم آلية الانتقال من مستوى معين إلى مستوى آخر وليس تشكيكًا في قدرة الله الخالق. وعلى الرغم من عدم اهتمامه أو فهمه للحياة والموت كظاهرتين أو (كطبيعة موضوعية حسب تعبير نيكولسكو) إلا أن اهتمامه ينصب على آلية الربط والفهم بين مستويات التعقيد المختلفة. أي الربط بين الذاتي والموضوعي. ففي عملية الموت هناك قطع للإدراك وغياب للفهم للمستوى الآخر الجديد الذي يتصف بالموضوعية فقط. أما عملية الإحياء ففيها انتقال الطبيعة الذاتية إلى الطبيعة الموضوعية الملموسة. فيها انحلال للألطف في الأكثف. أي أنه خلال عملية الإحياء يتم طرح بعد آخر ألا وهو البعد الذاتي للطبيعة. أي فيها ارتباط أكبر وأوثق بين مستويات الواقع ومستويات الإدراك. أي أن إبراهيم طالب بفهم تشكل وآلية خضوع الطبيعة الموضوعية للطبيعة الذاتية، أي فهم حدود وآلية ارتباط مستويات الواقع بمستويات الإدراك. فهو يطالب إذًا بطرائقية علمية نظرًا لتشديده على الموضوعية المحسوسة والملموسة وهي الحياة. وبكلام آخر فإنه يطالب بفهم علمي للطبيعة الموضوعية عن طريق إخضاعها للموضوعية الذاتية أو الإدراك. إنه تساؤل عن انحلال المادة الألطف في المادة الأغلظ والأكثف. وقد يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف يمكن استخراج كل هذا من آية واحدة؟ إن الجواب في الآية نفسها: قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. فإبراهيم لم يكن يدرك القدسي، أي القانون المعاكس لعملية الانتقال من الحياة إلى الموت. فعملية الموت هي مدركة ومرتبطة في الواقع بانعدام الحياة وهو أمر ملموس ترتبط فيه مستويات الإدراك بمستويات الواقع ارتباطًا وثيقًا – ظاهريًا على الأقل. أما ما لم يتمكن من إدراكه، أو أن مستوى إدراكه كان قاصرًا عنه، فهو الربط بين مستويات الواقع الجديدة بعد الإحياء، وإدراك ذلك أو إمكانية إدراك ذلك، أي إضفاء الموضوعية أكثر على الطبيعة الذاتية لعملية الإحياء وذلك بأن يصبح ذلك ملموسًا ومحسوسًا. فنظريًا هو يؤمن بإمكانية الإحياء وما لا يدركه هو تجسيد الأمر ليصبح واقعًا ملموسًا، لتتاح له إمكانية الربط بين مستويات الواقع المختلفة. إذًا، كما قلنا إبراهيم كان يبحث عن القانون الذي يتم عن طريقه الانتقال أو ربط مستويات التعقيد المختلفة بمستويات الإدراك المختلفة، أي كان يبحث عن القدسي، عن الثالث المشمول أو العبرطبيعية حسب تعبير نيكولسكو. يقول بسراب نيكولسكو في ص79 من بيان العبرمناهجية: العبرطبيعية تختص بمجال القدسي، ولا يمكن مقاربتها بدون اعتبار مظهري الطبيعة الآخرين في الوقت نفسه. والآية تثبت مقولة نيكولسكو، مع إضافة هامة سآتي عليها بعد حين. إن اطمئنان قلب إبراهيم يتم عند الكشف عن طريقة الربط بين مستويات التعقيد المختلفة للواقع مع مستويات التعقيد المختلفة للإدراك. أي عند تيقنه من وجود قانون وآلية لذلك. وهذا بحد ذاته معالجة منطقية وعلمية صحيحة، فبدون معرفة القانون الرابط بين المستويات المختلفة للواقع والوعي لا يمكن فهم أي ظاهرة طبيعية. ولعل الاستدلال على طريقة الربط هذه يأتي في تتمة الحوار: "قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم". وهنا لا بد من فهم للآيات والتعابير والمسميات مخالف لما هو متوارث ومتعارف عليه. فالأمثال في القرآن ليست للتسلية والإعجاب بأي حال من الأحوال. نعم قد تكون ظاهرة الموت والحياة في مستويات شديدة التعقيد أو أشدها تعقيدًا في الطبيعة، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود قانون ناظم وحاكم لها. والمثال يجب أن يفهم أنه ثابت لأشد حالات التعقيد أو مستويات التعقيد ويصح تطبيقها على مستويات أبسط أو أقل تعقيدًا حيث يتأمن نطاق معرفة مفتوح يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية المحلية لمستويات الواقع المختلفة. وهذا القول برأيي لا يتناقض مع مقولة الفيزيائي فالتر تيرنغ: "إن قوانين كل مستوى لا تتعين تعينًا تامًا بقوانين المستوى الأعلى". وتتطابق كليًا مع المقولة الثانية: "إن قوانين مستوى أدنى تتوقف أكثر على انبثاقها، أكثر من توقفها على قوانين المستوى الأعلى". إن قوانين وقوى ما تتوقف بالدرجة الأولى على التشكيل المحلي الذي ترجع إليه هذه القوانين. لكل مستوى للواقع إذًا نوع من الاستقلالية المحلية الخاصة به... (فصرهن إليك). فمطالبة إبراهيم بأن يأخذ أربعة من الطير (المواضيع، مستويات الواقع) وتفهمها واستيعابها وإدراكها والتمكن التام منها (فصرهن إليك) ثم تحليلها ونشرها على مستويات إدراك مختلفة (الجبال) (ثم اجعل على كل جبل منها جزءًا) تعبر عن مطالبة لتحليل المستويات المعقدة للواقع إلى مستويات أبسط وفهمها بذاتيتها وموضوعيتها وفق مستويات إدراك مختلفة لكل مستوى للواقع (على كل جبل منهن جزءًا) أي دراسة كل مستوى مبسط للواقع وفق مستويات إدراك مختلفة. فلكل مستوى خصوصيته (لكل جزء من أجزاء الطيور الأربعة خصوصيتها). وتتمة الآية تبين أنه إذا فهمنا المستويات الأدنى بخصوصيتها الذاتية دون إهمال ارتباط هذه الخصوصيات في مستويات الإدراك المختلفة فإننا سنتملك القوانين الناظمة لهذه الظاهرة وسنضع يدنا على الارتباط القائم بين مستويات التعقيد المختلفة (داخليًا فيما بينها) وكذلك بينها وبين مستويات الإدراك بحيث لا يبقى علينا سوى: ثم ادعهن يأتينك سعيًا، أي أننا سنكون قادرين على استدماج مستويات التعقيد المختلفة وفهم الظاهرة ككل وإدراكها وفق مستويات إدراك مختلفة مترابطة فيما بينها ترابط مستويات مستويات الواقع نفسها. فمهما تباعدت مناهج المعرفة (مستويات المعرفة: الجبال) فبمجرد فهم المستويات الدنيا المختلفة والمركبة لمستويات واقع أكثر تعقيدًا يمكننا فهم الظاهرة وامتلاك قانونها الداخلي الذي لا بد أنها تخضع له وستتحقق وفقه حتمًا: (يأتينك سعيًا). أي أن القدسي (المؤقت، المرحلي) يصبح مشهودًا ولا يعود غيبًا أو مجهولاً بالنسبة للذات الموضوعية. وهي المهمة التي أوكلت لأدم منذ لحظة التكريم والاستخلاف في الأرض. كما نرى فإن الآية تثبت مقولة فالتر تيرنغ الثالثة: "إن القوانين سابقة الوجود على بداية الكون والاختلاف هو في مستويات التعقيد للواقع والإدراك". أما الإضافة التي ذكرت أنني سآتي عليها بعد حين هي أن في العبرطبيعية قانون صارم يشترط أخذه بعين الاعتبار لمظهري الطبيعة الآخرين. فالقدسي قد يكون غيبًا (مستوى أعلى من التعقيد) إلا أن هناك قانونًا يحكمه مهما كانت درجة التعقيد ويتوقف استكشاف هذه القوانين (الارتباطات بين مستويات الواقع والإدراك وآليت الانتقال فيما بينها) على درجة فهم التبادلية بين الطبيعة الموضوعية والطبيعة الذاتية. أي أن القانون الداخلي (يأتينك سعيًا) لن يتحقق ما لم يتم الفهم والربط الصحيح بين المستويات المختلفة للواقع. ولعل إعجاز القرآن يتجلى في الكلمة الأخيرة من الآية: "واعلم أن الله عزيز حكيم". فالآية إذًا استدلالية علمية بحتة لا علاقة لها لا بطيور لها أجنحة ومناقير ولا جبال وصخور ولا أشجار والدليل: "اعلم أن الله عزيز حكيم". حيث تكون العزة (القدسية) للقوانين التي تربط مستويات التعقيد المختلفة للواقع والتي يعجز إدراكها بشكل مباشر دون استحضار مستويات إدراك متنوعة تتوافق ومستوى التعقيد قيد الدراسة. والحكمة (اختصار التجربة والخبرة المعيشة) هي للأمثال القرآنية العلمية التي توضح هذه القوانين وتساعد على فهمها وتفتح المجال لاستثمارها عند دراسة مستويات مختلفة للواقع مهما بلغ التعقيد دون الحاجة إلى تكرار العملية في كل مرة وعند دراسة كل ظاهرة أو موضوع. إن الابتعاد عن التفاسير السلفية المجمدة منذ أربع عشرة قرنًا والقبول بفهم كلمة الطير على أساس مستويات مختلفة للواقع (وذلك في أكثر من موقع من آيات القرآن الكريم) يقود إلى واقع رباعي الأبعاد يشكِّل فيه الزمن البعد الرابع. وهو ما يوافق شكليًا المنطلق النظري لنسبية آينشتين. على أن نفهم البعد الرابع مطلقًا وليس محددًا بمحور محدد إنما عكوسًا كما في فيزياء الكوانتوم. فالآية تتحدث عن عملية عكوس وهي الإحياء بعد الموت. وبشكل أو آخر يمكننا القول بأن الآية تبين أن الزمن ليس وحيد الاتجاه إنما هو عكوس ويجب دراسته كذلك (وهو ما تؤكده آيات المثال الثاني). أي دراسة الواقع بمستوياته المختلفة من التعقيد في فضاء زمكاني عكوس وليس أحادي الاتجاه. ولعل(جعل على كل جبل منهن جزءًا) تعبير عن ضرورة أخذ الزمن العكوس بعين الاعتبار دائمًا، بحيث يرافق عملية تبسيط الواقع المعقد دائمًا. فلا واقع بدون زمن ولكن هذا الزمن يتمتع بخاصية العكوسية حتى بالنسبة لأبسط مستوياته (الإحياء والبعث واستعادة الوعي بعد البعث دليل على عكوسية العملية بالنسبة للزمن). أما فهم الجبال على أنها مستويات المعرفة الراسخة المختلفة، وهي غير محددة عدديًا في الآية، فإنه يساعد على نشر المستويات المختلفة للواقع على عدد لانهائي من مستويات المعرفة، وهذا يعني بشكل أو بآخر ضرورة دراسة مستويات الواقع على كافة فروع المعرفة دون استثناء من أجل الوقوف على الحقيقة. فمستويات المعرفة إذًا ليست محددة بزمان أو مكان، وهي مطلقة وراسخة في آن شأنها شأن الجبال. فالمعرفة تتمتع بخاصية عكوسية الزمن التي تساعد على فهم الواقع. أي أن الآية وكأنها تقول إنه لفهم ظاهرة ما لا بد من نشرها على مستويات معرفية مختلفة كما في حالة النشر الرياضي للمعادلات على سلاسل عددية مبسطة وقابلة للفهم والمعالجة والربط. نصل إلى نتيجة ما تقدم وهي أن الطبيعة الذاتية غير محدودة بالزمكان، بينما الطبيعة الموضوعية محدودة بالمكان والزمان الذي قد يكون عكوسًا حتى في جزئه الماكروفيزيائي. (فهل مهمة الإنسان تحقيق عكوسية الزمن للطبيعة الموضوعية؟). وباستدماج هذين المظهرين للطبيعة نكون قد تلمسنا الطريق إلى الطبيعة الحية أو العبرطبيعية. والآية بحد ذاتها تبحث عن عملية الإحياء أي الطبيعة الحية أو قوانينها الثابتة. وبذلك يمكن فهم الآية على أنها مدخل إلى طريقة جديدة لمعرفة الطبيعة الحية وقوانينها الناظمة. أي ضرورة اكتشاف الثالث المشمول في كل مراحل البحث سعيًا إلى الوصول إلى الثالث المشمول المطلق: المهمة الأبدية للإنسان. إذا كانت عكوسية الزمن من خواص العالم الميكروفيزيائي والطبيعة الذاتية في آن واحد فإن القبول بالطبيعة الحية التي تكون فيها الطبيعة الموضوعية غير عكوسة زمنيًا وموجودة في آن مع الطبيعة الذاتية المتميزة بعكوسية الزمن أمر لا يناقض الواقع الحي والكون الذي نراه حولنا، بل على العكس فإن التواجد المتلازم لهذين المظهرين للطبيعة هما الكفيل بالوصول إلى القدسي أو قوانين الظواهر والأحداث. إن وجود مستويين للطبيعة يكون في أحدهما الزمن عكوسًا وفي الآخر غير عكوس يشير إلى تعقيد مستويات الواقع المختلفة والتي لا بد من دراستها بشكل متواز دون إهمال أحدها. ولعل عكوسية الزمن هي مفتاح الانتقال المستمر بين مستويات الواقع المختلفة ومستويات الإدراك شأنها شأن الأنزيمات المساعدة على تفكيك المواد العضوية لتسهيل عملية الهضم. وتجدر الملاحظة إلى أن التطور يسير نحو التعقيد بقدر ما يوجد مستويات تعقيد مختلفة للواقع. فإذا قبلنا أن الوعي والإدراك هما في أعلى مستويات التعقيد للمادة التي صنع منها الكون وهما يتميزان بعكوسية الزمن (الطبيعة الذاتية) فإن مسيرة التعقيد لا بد أن تقود إلى اضمحلال الجزء الذي يتميز بأحادية اتجاه الزمن، أي أن هناك انتقالاً في الطبيعة مستمرًا من الموضوعي إلى الذاتي، والمادة التي يتألف منها الكون تسير باتجاه ازدياد الوعي أي التعقيد المستمر، وبالتالي فإن الطبيعة الذاتية سوف تغلب وتسود على الطبيعة الموضوعية، وكلما ازدادت الطبيعة الذاتية تعقيدًا كلما تكشف لنا ذلك القسم المبهم من الطبيعة الموضوعية (وهنا ندخل في مجال معرفة الغيب المستمرة أو الشهادة أي الوقوف على الواقع بحق مهما اختلفت مستويات التعقيد، فالقدسي هو مفتاح الغيب). إن واقعًا افتراضيًا يكون فيه الزمن عكوسًا بالكامل يعبر عن واقع يؤول فيه دور وأهمية الزمن كبعد رابع إلى الصفر أو إهماله بالكامل. إنه واقع الطبيعة الذاتية البحت حيث تكشفت ماهية الطبيعة الموضوعية كليًا ولم يبق من الغيبيات شيء، وهي الأمانة التي حملها آدم. تلك الحالة هي الحالة النهائية لتطور الوعي والإدراك، وهي لا تتحقق ولا يمكن تصورها إلا في الجنة، حيث لا يعني الزمن شيئًا وحيث تتوحد الطبيعة الحية مع الوعي في أداة إدراك وتحكم فائقين. ولأجل ذلك لا بد من إعمال العقل من أجل نمو الوعي وامتلاك ناصية الطبيعة الموضوعية كاملاً عن طريق استنباط مناهج بحث جديدة تتوافق وقوانين الطبيعة الحية. إن العاقبة للطبيعة التي تتميز بعكوسية الزمن (للطبيعة التي يكون لها ذاكرة)، وعليه فإن الطبيعة ليست كتابًا ميتًا، بل كتاب حي ما انفك يكتب بقلم الطبيعة الذاتية وبإرادة الثالث المشمول. إن هذا يقود إلى أن العالم الماكروفيزيائي إن كان يخلو من مظهر من مظاهر الوعي فإن اكتشافه أيسر بكثير وهذا ما فعلته العلوم الكلاسيكية عندما نظرت إلى الطبيعة على أنها كتلة من الجمادات الخالية من الحياة. لقد جردت الطبيعة من الوعي بشكل كامل. وهذا الأمر قاد بشكل طبيعي إلى الفصل بين العلوم التقنية والعلوم الإنسانية والدخول في نفق من التناقضات لانهاية له والإعلان عن موت الإنسان ونهاية التاريخ. يمكننا أن نصل بعد ما تقدم إلى أن نجزم أن للواقع الواحد مستويات مختلفة بالنسبة للذات الراصدة للواقع. فنحن كبشر نتمتع بمظهري الطبيعة الحية – الموضوعي والذاتي – في آن ونبحث عن القدسي في نفس الوقت. فكوننا موجودون موضوعيًا (أجسادنا لها أشكال وأبعاد) فإننا نملأ القسم الموضوعي من الطبيعة وكوننا ندرك أبعادنا ونعي مكاننا خارجيا فإننا نملأ القسم الذاتي. إن الإنسان، على الأقل حتى الآن، هو الكائن الوحيد الذي يمكنه النظر إلى الطبيعة من مستويات مختلفة كما يمكنه إدراك ذاته الراصدة للواقع من مستويات مختلفة. إننا الكائن الوحيد الذي تتحد فيه خاصيتا الزمن: أحادية الاتجاه وعكوسيته دون أن يكون هناك تناقض داخلي لطبيعتنا الحية (وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً. الكهف 54). إن ذلك يمكننا كراصد للواقع من رصد الواقع الأحادي الاتجاه والعكوس بآن واحد، وهو ما يميزنا عن بقية الكائنات. ولعل هذه الخاصية هي التي تدفعنا باستمرار لمعرفة القدسي وتمكننا من ذلك. تلك المهمة الأزلية للإنسان التي ما فتئ ينوء بحملها، إنها الأمانة التي خشيت السماوات والأرض والجبال أن تحملها وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولاً (على أن يفهم الظلم والجهل بطريقة منطقية جديدة لا علاقة لها بالفهم السلفي المدمر، فهي مفاهيم معرفية تدخل في تكوين المنظومة القرآنية للمعرفة). لقد تم التعبير عن وجود مستويات متعددة لإدراك الذات الراصدة للواقع في مثل قرآني آخر يمكن أن نفرد له بحثًا مستقلاً للتأكيد على نظرية هسرل. إن مفهوم اللاانفصالية المشوه والمنقوص في مناهج البحث العلمي الكلاسيكي قد أوصل البشرية إلى طريق مسدود أمام إيجاد منظومة علمية وفكرية متكاملة. ولعل أحد نتائج ذلك هو ظهور مصطلحات كنهاية التاريخ ونهاية الإنسان وما شابه. لقد أوصلت التخصصات الدقيقة في فروع المعرفة كافة إلى موت الإنسان بحق نظرًا لافتقادها إلى تكاملية المناهج وعدم إدراكها لوحدة المعرفة. إنها لم تكتشف نطاق عدم المقاومة والفضاء المعرفي المفتوح بين فروع المعرفة فتكلل ذلك بمبدأ المردودية الذي استبعد الطبيعة الذاتية من الطبيعة الحية المتكاملة. إن المناهج العلمية المعمول بها إلى الآن لم تحقق إلا القسم الأول من الآية موضوع البحث: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك. وهي لم تهتد إلى الآن إلى القسم الآخر من الآية: ثم اجعل على كل جبل منهن جزًا ثم ادعهن. وبذلك غاب عن المعرفة الإنسانية سحر وآلية الفهم الصحيح لمستويات الواقع المختلفة، مبدأ "يأتينك سعيًا". فهل تكون الرؤية العبرمناهجية هي الوسيلة لتحقيق المعرفة الإنسانية الشاملة؟ إن عبارة "يأتينك سعيًا" آسرة بحيث لا يجوز المرور عليها دون التوقف عند مدلولاتها الأخرى. فمثلاً، ألا تشير هذه العبارة إلى مبدأ اللاانفصالية أو ذاكرة المادة؟ في الصفحة 63 من بيان العبرمناهجية نقرأ: إن منطق الثالث المشمول... حتى استنفاذ كل مستويات الواقع المعروفة أو القابلة للتصور. أليس ما ورد في كلام الكاتب بسراب نيكولسكو يعني ما تنص عليه الآية في عبارة "فصرهن إليك"؟ أي تفهم الارتباط والعلاقة بين مستويات الواقع المتعددة والمختلفة في درجة تعقيدها بمستويات إدراك مختلفة بحيث لا تبقى أية حواجز بينها ويبدأ النطاق المفتوح لسهم المعرفة. إن نطاق عدم المقاومة الذي يقابل القدسي حسب كلام المؤلف قد تم التعبير عنه بعبارة "يأتينك سعيًا" حيث تزول الحواجز أمام المعلومات في عملية انتقالها من الموضوعية البحتة المجردة إلى الذات الموضوعية. نعم فقط خلال انتقالها من الموضوعي إلى الذاتي، فما هو تحت ليس كما هو فوق، والمادة الألطف تتخلل المادة الأغلظ. فالوعي والإدراك (الروح) يتخللان أجسادنا. إن الفهم العبرمناهجي لآيات القرآن الكريم يعني تحقيق الموضوع العبرمناهجي من حيث هو "جملة مستويات الواقع ونطاق عدم مقاومته المكمل" ص67، أي توفير نطاق عدم مقاومة للإدراك وبالتالي اتساقًا لمستويات الإدراك وبالتالي ذاتًا عبرمناهجية قادرة على فهم مستويات واقع أشد تعقيدًا، ورد ذكرها في القرآن الكريم ومازال الإنسان المسلم يتساءل عنها ويمر عليها مرور الكرام. في الصفحة 68 يقول الكاتب: "على نطاقي عدم المقاومة... الذي يسمح بتوحيد الذات العبرمناهجية والموضوع العبرمناهجي على اختلافهما". إنني أفهم هذه المقولة من خلال عبارة "يأتينك سعيًا". فنطاق عدم المقاومة يعني الوصول إلى القدسي أو الثالث المشمول ألا وهو القوانين الناظمة التي تبقى غيبًا حتى يتم إدراكها فتتحول إلى مشهود وحاضر (عالم الغيب والشهادة)، فعندما تظهر القوانين الناظمة لجملة من مستويات الواقع المعقدة وتدرك بمستويات معرفية متعددة (بسيطة أو معقدة) يصبح سهم المعرفة مبحرًا حرًا طليقًا في نطاق عدم مقاومة مطلق، أي في نطاق معرفي مفتوح (يأتينك سعيًا) بحيث تزول السرية التي تغشى الثالث المشمول ويتحول إلى مشهود ومعلوم. إن انفتاحًا كهذا لخط المعرفة في نطاق عدم مقاومة مطلق يعمل كسلسلة التفاعلات الذرية دون توقف بحيث يفكك كل مستويات الواقع المعقدة المجاورة لما كان يتم معالجته بمستويات إدراك مختلفة. ولعل هذا حسب نظرية غودل هو سحر الثالث المشمول، وهو سر وميزة من ميزات المنطق الجديد: المنطق العبرمناهجي. (تجدر هنا العودة إلى الصفحة 88). إن كل ما سبق لن يفيد الإنسانية في شئ ما لم يتم إسقاطه على المستوى الاجتماعي، ولعل ذلك يجب أن يكون أحد الاتجاهات الرائسة للبحث العبرمناهجي كيلا يتحول إلى منطق صوري تجريدي بحت تحت تأثير طروحات ناقصة الفهم أو تحت ضغط مبدأ المردودية الهدام، (فما ينفع الناس يمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء). هناك مفاهيم قرآنية وردت في القرآن الكريم وما زال المسلمون بعيدين عنها فهمًا وتطبيقًا، وهي إن فهمت بحق فإنها ستنقل المسلمين من قارعة القرن الثامن الميلادي إلى مواكبة عصرنا الحالي. يقول الكاتب في الصفحة 90: "العلم والوعي، ركنا الديموقراطية العالمية المقبلة، يتعاضدان... إن المسئولية عن التجاوز الذاتي – مسئوليتنا – هي الثالث المشمول الذي يوحد العلم والوعي". إن ما يتحدث عنه الكاتب هو الثالث المشمول الإنساني-الكلي، إنها الأمانة الأبدية التي كلَّف الله بها الإنسان. دمشق 21-6-2011 *** *** *** |
|
|