|
الكَرَم مرآة الحب
في جنَّة ما، يملكها ساحر، تلي الجنَّة صحراء واسعة تليها غابة جميلة، مرَّ البهاء من تلك الجنَّة، وكان طريقه إلى الغابة؛ إذ أنَّ هذه الجنة لشدَّة سطوع ما فيها لجمالها كان ما فيها لا يُرى، فالتقى البهاء بالساحر، فقال له الساحر: إنَّ عندي لك هدية أيُّها البهيُّ: خاتم ثمين جميل وهو يتحوَّل إلى ما تريد – إذا شئت – مرَّة واحدة لكن إلى أشياء تكون بثمنه، خذه في طريقك إلى الغابة كي يعيلك وأنت تجتاز تلك الصحراء الواسعة التي تفصل الغابة عن هذا المكان. أجاب البهاء: شكرًا لك أيها الساحر لكني لست بحاجة إلى الهدايا فأنا ضوء خفيف سريع، ولست بحاجة إلى طعام أو شراب أو ما شابه ذلك، وغير ذلك، إني سأصل إلى الغابة خلال فترة قصيرة جدًا. وذهب الضوء-البهاء مسرعًا. وفي طريقه في الصحراء رأى الضوء غرفة جدرانها من الخارج سوداء، ولحبِّه بالإضاءة والكشف أراد أن يكشف تلك الغرفة ثمَّ يمضي فدخلها، لكن كانت جدران الغرفة تلك من الدّاخل وسقفها وأرضها مرايا فبدأ يدور ويدور ويدور فيها بسرعة كبيرة ولم يعد يستطيع الوقوف أو الثبات حتى يفتح الباب ويخرج، فظلَّ سجينًا فيها. ومرَّ البخل من تلك الجنة فأهداه الساحر خاتمًا وأخبره عن تحوُّل الخاتم إلى ما يريد بثمنه متى يريد كي يعيله في طريق الصحراء الواسعة. أخذ البخلُ الخاتمَ ومضى وكان في طريقه يشم طعامه شمًا ويلمس الماء بلسانه لمسًا. وبذلك كان يتعب كثيرًا حتى يصل إلى مرحلة لا يحتمل فيها العطش والجوع ويقع على الأرض لشدَّة إرهاقه، يبدأ بالشرب والأكل حتى يكاد ينفجر، وبهذا يصير خَمولاً كسولاً يسير ببطء. ثمَّ بعدها يشمَّ الماء والطعام شمًا ويحدث ما حدث من قبل، وهكذا. وبسبب ذلك كان طعامه الذي يشمُّه يفسد والماء يتبخَّر معظمه. لذا لم يستطع أن يأكل من ذلك الطعام لأنه سيتسمم إذا أكله فيضطرُّ مرغمًا على رميه. ثمَّ يفتح حقيبته ويأخذ منها الطعام ويملأ كأسه ماء طالما تبخَّر معظمه. وكان ينظر إلى الخاتم ولا يطلب منه شيئًا. وبعد أن قطع مسافة ما من الصحراء، وهو في حالة عظيمة من التعب والإرهاق والضعف، سمع صوت ذلك الضوء السجين في غرفة المرايا يصرخ: ساعدوني افتحوا الباب. لكن البخل قبل أن يفكِّر كيف سيساعده رأى أنه إن خرج ذلك السجين فإنه سيصطحبه معه وبذلك سيشاركه طعامه وشرابه، فأبى البخل أن يُساعده بل حتى أن يُفكِّر في مساعدته أو كيف يساعده. فتركه ومضى. وعندها نفذ طعامه وشرابه صار يزحف ويزحف دون أن يطلب من الخاتم شيئًا. ولمَّا لم يعد يستطيع الحركة ورأى أنه إن بقي هكذا سيموت طلب من الخاتم أن يتحوَّل إلى مياه وأطعمة وفواكه بمختلف الأنواع وهذا لشدَّة عطشه وجوعه إذ صار يشتهي مختلف أنواع الطعام والشراب، فتحوَّل الخاتم إلى ما طلبه منه البخل، لكن حينها لم يستطع البخل على الحراك كي يشرب أو يأكل أو يتفكَّه فقد خارت قواه ولم يعد يستطيع الحركة، وظلَّ على هذه الحال محاولاً أن يتحرك إنما دون جدوى حتى مات. ومرَّ الطمع من تلك الجنة فأهداه السَّاحر خاتمًا وأخبره بقصَّة تحوُّله، فشكره الطمع ثمَّ تذلل له حتى يعطيه خاتمًا آخر فأهداه ثمَّ تذلل له متوسِّلا أن يعطيه خاتمًا ثالثًا فأهداه وبقي يتذلل للساحر ويطلب منه خاتمًا تلو الخاتم حتى ملأ أصابعه العشرة – في كلِّ إصبع خاتم وحينها اختفى الساحر نفورًا. مضى الطمع، وبدأ يُفكِّر ماذا وماذا سيطلب من الخواتم أن تتحوَّل فرأى أولاً أنَّ يطلب فتاة حسناء ترافقه في سفره هذا ليتزَّود بالمتعة التي تنقصه. وبعدها يرى ماذا سيطلب ثانيًا وثالثًا... وعاشرًا. طلب من خاتم أن يتحوَّل إلى فتاة باذخة الجمال عذراء طاهرة تكون زوجة له، فاجتمعت الخواتم العشرة مع بعضها وتحوَّلت جميعها إلى عجوز قبيحة شمطاء وكانت زوجة له، فبُهت الطمع وصرخ غاضبًا مُشمئزًا: إني طلبت زوجة فتاة حسناء جميلة عذراء طاهرة، وطلبت من خاتم واحد وليس من كلِّ الخواتم فكيف حصل هذا؟! أجابت العجوز الشمطاء بصوت خشنٍ يقشعر له البدن: إنَّ مجموع تلك الخواتم العشرة عظيمة الثمن وهي تُساوي ثمني لا أكثر أمَّا ما طلبته فلا يُقدَّر بثمن، وعندما طلبت ما طلبت اجتمعت الخواتم كلَّها حتَّى تحقق لك طلبك إنَّما لم تستطع إلاَّ أن تتحوَّل إلى ما تحوَّلت، أي إليَّ وأنا الآن زوجة لك. فمضى الطمع في حسرة وألم واشمئزاز مع زوجته تلك، وكانت تقاسمه طعامه وشرابه الذين كان يحملهما من قبل في حقيبته، وإضافة إلى ذلك – لضعفها وعجزها – كانت تتوكَّأ عليه طيلة الطريق وتمشي ببطء حتَّى لم يبلغا مسافة قصيرة من الصحراء إلى الغابة نفذ الطعام والشراب وأرهقهما التعب فنفذت قواهما حتَّى مات الطمع حسرة واشمئزازًا وتعاسة وندمًا وظمأ وجوعًا وتعبًا، وماتت العجوز أيضًا معه وهي في الأصل كانت على أبواب الموت. ومرَّ الإسراف من تلك الجنة فأهداه الساحر خاتمًا وأخبره بقصَّة تحوُّل الخاتم. أخذ الخاتمَ الإسرافُ ومضى. وعندما وصل الصحراء رمى الماء والطعام الذين معه بما أنه يملك ذلك الخاتم ويطلب منه أن يتحوَّل إلى طعام ألذَّ وأشهى من الطعام الذي يحمله ومشروبات يتلذذ بها غير الماء الذي يملكه. وبعد أن رماها ومضى طلب من الخاتم أن يتحوَّل إلى ألذِّ وأشهى الأطعمة وإلى خمور وعسل ومشروبات من أشهى وألذِّ المشروبات، وإلى ألذِّ وأشهى المُكسَّرات، وإلى ألذِّ وأشهى الحلويات، وإلى أجمل الثياب وأثمنها، فتحوَّل الخاتم إلى ما طلبه منه. ومضى الإسراف وهو يُخرج ما يزيد حاجته من الطعام والمشروبات والمكسَّرات... يتناول بعضها من جميع أنواعها حتى يشبع ويُتخم فيملُّ منها ويرمي ما تبقَّى منها ويمضي. وبذلك كان يمشي ببطء وكسل. وعندما وصل إلى الغرفة التي سُجن فيها الضوء-البهاء سمع صراخ الضوء من تلك الغرفة: ساعدوني. وكان الإسراف حينها في حالة شبع وتخمة واشمئزاز من الطعام والمشروبات و...، وكان سكرانًا من شرب الخمور، فوضع كثيرًا – من جميع ما يملك – أمام الغرفة ومضى. وبعد فترة قصيرة نفذ كلُّ ما يملك فبدا يمشي تارة ويزحف تارةً أُخرى حتى خارت قواه فمات. ولم يستفد الضوء شيئًا فهو لا يحتاج إلى طعام أو شراب أو ما أشبه ذلك وهي لا تفكُّه من السجن. ومرَّ العقل من تلك الجنة فرحَّب به الساحر ترحيبًا كبيرًا، وأهداه خاتمًا، وأخبره بقصَّة تحوُّله. فأخذ الخاتمَ العقل شاكرًا الساحر، ومضى. وكان في طريقه في الصحراء إلى الغابة يهرول هرولةً فلا يركض ركضًا حتى لا يرهق ويجوعَ ويظمأَ زيادةً عن حالته، ولا يمشي ببطء حتى لا يتأخَّر فينفذَ الطعام والماء لديه. وكان يأكل ويشرب بشكل منتظم فلا يأكل حتى يجوع وإذا أكل لا يشبع حتى لا يُتخمَ ويخمل ويتكاسل وكذلك الأمر مع الشرب، وطلب من ذلك الخاتم أن يتحوَّل إلى تاج فتحوَّل الخاتم إلى تاج عظيم وكان يقيه حرَّ الشمس وسطوعها المبهر. وبينما هو في الطريق سمع صوت الضوء السجين ينادي: ساعدوني أخرجوني من هذا السجن. لكنْ لم يكن باستطاعة العقل أن يفتح له الباب أو يساعده في شيء فتركه ومضى حتى وصل أخيرًا إلى تلك الغابة العظيمة المعتمة الشديدة الظلام، وبدأ يسير على تخومها حتَّى دار دورة كاملة ثمَّ وقف حيث وصل وعندها ثبت ولم يعد يستطيع الحراك فجمد وصار حولها – وقد أحاطها – حلقة تحيط بها. أخيرًا مرَّ من تلك الغابة الكرَم. رحَّب به الساحر ترحيبًا عظيمًا وأهداه خاتمًا، وأخبره بقصَّة تحوُّله. فسُرَّ الكرمُ وسأل الساحرَ في حيرة: أيها الساحر العظيم ما اسمك؟ أجاب الساحر: أنا الحبُّ. فأخرج الكرم طعامه كلَّه وشرابه فأهداه إلى الساحر-الحب. فقال الحبُّ لست بحاجة لها لكني سأقبلها منك وأشار إلى الطعام أنْ صر لذَّة فصار. وأشار إلى الشراب أنْ صر نشوة فصار. وأهدى الكرمَ طوقًا يتحوَّل إلى ما يريد، بثمنه، إذا شاء. فاضطرب الكرم ونادى في حيرة: أنا الكرم، أنا الكرم. أيها الحبُّ الساحر لقد أهديتني خاتمًا عظيمًا، ولم أهدك سوى هذا الطعام والشراب وهما كلُّ ما أملكه، والآن عدت وأهديتني هذا الطوق العظيم، ولم أجد شيئًا أعطيكه. لكن أنا، أنا الكرم. أيها الحب الساحر العظيم، أنا الكرم، وإني وهبتك كلِّي فخذني فإني ملكك استخدمني لما تريد وإن اضطررت فاذبحني واستفد من لحمي وعظمي. أجاب الحبُّ: أيها الكرم الرائع الطيب الزَّكي العظيم إني في هذه الجنَّة منذ الأزل وحدي وإني أحببت أن تحيا تلك الغابة التي أنت راحل إليها، وتنعم بجنَّتي هذه وأن ألغيَ تلك المسافة–الصحراء بيني وبينها. لكن وجب أن تكون هنالك في الغابة مرآة وضوء لتعكس المرآة – عن طريق الضوء – سحري وجنَّتي. إنَّما لم توجد مرآة حتَّى الآن، والضوء سجن في غرفة داخلها مرايا في الصحراء. فقال الكرم: أيها الحبُّ الساحر العظيم الرقيق عهدًا عليَّ أني سأسعى بكلِّي على فكِّ ذلك الضوء من سجنه ليصل إلى تلك الغابة، وعهدًا عليَّ أني إن وصلت إلى الغابة لأكوننَّ مرآتك فيها. ومضى الكرم بعد عهده ذاك، حول عنقه ذلك الطوق، وحول إصبعه ذلك الخاتم. وعندما شعر بالعطش والجوع طلب من الخاتم أن يتحوَّل إلى طعام وماء فتحوَّل الخاتم إلى ما طلبه منه الكرم لكن في نفس الوقت ظلَّ الخاتم حول إصبع الكرم. وتابع طريقه وكان أثناء مسيره تارة تجتمع حوله طيور من تلك الصحراء وتارة حيوانات منها الزواحف جائعة ظمأى، وتطلب من الكرم ماءً وطعامًا، وكان الكرم يعطي كلَّ من يسأله ما يسأل حتى نفذ الماء والطعام لديه فيعود ويطلب من الخاتم أن يتحوَّل إلى ماء وطعام فيتحوَّل، وفي نفس الوقت يبقى الخاتم حول إصبع الكرم، وهكذا حتى رأى في طريقه طائرًا باذخ الجمال، لكنه حزين بشدَّة وكان يغني أغنيات يرثوا بها الجمال. فقال له الكرم: ما بك أيُّها الطائر الجميل الأجمل. أجاب الطائر بحسرة وحزن: أنا الجمال وقد كنت في تلك الغابة العظيمة أجمَّلها لكن القُبح ملأ الغابة واستولى عليها وكان ذا حجم عظيم ومنقار كبير ومخالب حادَّة فلم أستطع مقاومته وقد طردني من تلك الغابة وها أنا هنا أكاد أموت. فقال الكرم: خذ هذا الخاتم السحري العظيم وعد إلى الغابة وحين تصل إليها اطلب من الخاتم أن يتحوَّل إلى غطاءٍ برزخيٍّ يغطي القبح كلَّه فيغيب ولا يستطيع أن يمسِّك أو يمسَّ الغابة. ففرح الطائر كثيرًا وأخذ الخاتم وذهب إلى الغابة وفعل ما أشار عليه الكرم فغاب القبح حينها. وتابع الكرم طريقه وبعد حين شعر بالعطش والجوع، فصبر عليهما، وبعدها بدأ يظهر عليه التعب والإرهاق حتَّى وصل إلى مكان لم يعد يحتمل شدَّة العطش والجوع فأراد أن يطلب من الطوق أن يتحوَّل إلى ماء وطعام، لكن حينها سمع صوت الضوء في سجنه ينادي: ساعدوني أخرجوني من هذا السجن. فأشار الكرم إلى الطوق أن تحوَّل إلى مفتاح يفتح باب هذا السجن، فتحوَّل الطوق إلى ما أمره الكرم فأخذ الكرم المفتاح يريد أن يفتح الباب، ولحظة فتح الباب سقط على الأرض مغميًا عليه وغاب عن الوعي لشدَّة عطشه وجوعه وإرهاقه. لكن بعد مدَّة قصيرة صحا الكرم من غيبوبته إثر رشقات ماء على وجهه، فبعد أن فتح عينيه رأى نفسه في تلك الغابة والضوء والجمال من حوله. وبعد أن سقوه الماء وأطعموه سأل الكرم كيف وصلت إلى هنا؟! أجابه الضوء: أيُّها الكرم أنت فككت أسري من ذلك السجن اللعين، وعندما خرجت منه رأيتك فحملتك معي إلى هنا ردًا على مساعدتك العظيمة لي. وإني سريع جدًا فقد وصلنا بسرعة إلى هنا. وبدأ الجمال يطوف ويُغرِّد حول الكرم شاكرًا إيَّاه على مساعدته العظيمة له، وكان يُنشده أحلى الأغاني من الفخر به ومدحه. وقالا له: أيها الكرم اطلب منَّا ما تشاء فإنَّ لك فضلاً عظيمًا علينا. تذكَّر الكرم حينها عهده إلى ذلك الساحر-الحب، فقال للجمال: أيُّها الجمال عانقني حتَّى تجلوني فأصير أملسًا حتَّى أصير مرآة. فعانقه الجمال حتَّى صار الكرم مرآة. وبعدها قال للضوء: أيُّها الضوء ارفعني إلى أعلى قمَّة في هذه الغابة. فرفعه الضوء إلى أعلى قمَّة في تلك الغابة فانعكس، لحظتها، الضوء من المرآة-الكرم إلى ذلك الساحر-الحب، فدبَّت الحياة في الغابة وتحوَّلت الصحراء إلى بحر عذب. وهكذا صار الكرم مرآة الحب. 2005 *** *** *** |
|
|