الحدوة والجدار

 

طامي هراطة عباس

 

قبل الفجر كنا خلفه ببضع خطوات، منحنين على الأرض نتفحصها، نلامسها على مهل، نفتش عن (حدوة القدر الذهبية) التي رماها زعيمنا عند الغروب، كنا متلهفين تمامًا لمعرفة الجهة الجديدة التي تشير إليها تلك الفتحة المتشكلة من طرفيها المقوسين والتي ستحدد مسار رحلتنا القادمة حيث نواصل مسيرتنا جميعا شبانًا وشيوخًا، عجائز وفتيات صغيرات، راجلين أو راكبين دوابنا الشائخة والمتهالكة، متبركين بالغبار الذي تثيره عربات وخيول الموكب المميزة، قاطعين الوديان والسهول متشوقين لمعرفة مصيرنا المنقوش على حائط الخليقة، ذلك المصير الذي صورته لنا الحكايات التي حفظناها: فردوسًا أزليًا من سعادة وسكينة لا تنضب، فالتصقت بذاكرتنا أخيلة نساء الفردوس الباهرات والغابات والبساتين المثمرة، ثم تمددت وتوسعت، حتى صارت كل الأماني والأحلام الصغيرة في حياتنا معلقة بالوصول إلى هناك ومرتبطة بتلك الرموز والإشارات المسطرة على الجدار والتي لن يفك رموزها غير زعيمنا وذريته الذين يتوارثون حفظ معانيها وإشاراتها المقدسة.

تلقى (الحدوة الذهبية) عند الغروب في أول الشهر ثم نسير راجلين إلى حيث اتجهت فتحتها لمدة شهر كامل، وحين ينتهي الشهر ودون أن يظهر أي جزء من الجدار، يتهاوى حلمنا، فنتوقف عن المسير بأمر منه، ساعتها تكون الخيبة والحزن قد هدتنا تمامًا فننخرط ببكاء وكرب شديد حيث تبدأ أيام المواساة العشرة، فننشغل بسماع قصائد وأناشيد المواسين ونداوي أقدامنا المتورمة التي مزقتها حجارة الطريق وأشواكه، نتفقد مرضانا ونستجمع قوانا، نطوف في القرى والمدن القريبة نتلقى الهبات ونشترى المئونة للرحلة القادمة.

قال أحدهم دون حماس "ها هي..!!" ثم اتجهنا صوبه، كان جزء من الحدوة قد أنغرز في التراب ومع ذلك فقد كانت فتحتها تشير بوضوح نحو مطلع الشمس، ثبتنا سهم الإشارة على الأرض ثم سارعنا لدعوة الشيوخ لتثبيت الوجهة القادمة، أما هو فقد ظل بمكانه متيبسًا شاحب الوجه، كان ذلك الاضطراب جديدًا على المراقب الجوال لم يكن كذلك في السنوات التي عرفته فيها لكنه كان يتغير بشكل بطيء حين صارت جولاته في البلدات والمدن الصغيرة تأخذ وقتًا أكثر من المعتاد، ومضى يميل للانزواء في الأماكن البعيدة عنا.

حين اقتربنا من خيامنا المتهرئة دهمتنا صرخة حادة، كان وجع المخاض يمزق إحداهن، فكرتُ: ستلد كائنًا آخر، وسوف يعطى اسمًا يثبته كتبة الزعيم، هو سيكون مثلي ومثلهم، أبناء المسيرة وارثوا التجوال الأزلي في أرض الله، رواد البحث المضني عن جدار الخليقة، ولدنا في الطرقات والنياسم الضيقة ودفنا مواتنا في البوادي والأحراش، لا أحد فينا يذكر بأي أرض ولد ولا أحد يذكر من أي مكان جاء، كان الماضي والحاضر والمستقبل مخبئًا في أفخم عربات الموكب، لدى الزعيم المبجل.

***

أطفأنا نار المواقد عند الفجر، وتحركت قافلتنا بتثاقل نحو الشرق، كنا نسير دون حماس على أرض حصباء تمتد حتى نهاية الأفق، وكان صوت "المواسي" الحزين الآتي من أول القافلة يعبث بعواطفنا ويؤججها حين يتحسر على من فقدناهم في مسيرتنا الطويلة، وعلقوا في متاهات الجحيم، أولئك الذين لن يفرحوا مثلنا برؤية مصيرنا المدون على الجدار، ولن يحظوا بتلك الفرحة الطاغية التي يثيرها التبرك بحجارته المقدسة ولن ينعموا بسلام الفردوس الأبدي. وكانت نبرة الحزن العميقة في صوت "المواسي" توقظ وجع الخيبات المتكررة، وسفرنا الطويل المداف بالجزع والريبة والأسئلة السرية التي تثار عند المواقد المنعزلة في أماسي الشتاء الطويلة حين نكتشف أن الأفق مفتوح على أقصاه وليس ثمة جدار يلوح فيه وأن يقيننا يتأرجح ويهزل عند المساء ثم يستوي حين تغذيه أحلام اليقظة في النهار.

همست جدتي: "ربما سلكنا هذا الدرب من قبل، كنت صبية صغيرة، وكانت ذاكرتي منفتحة على هذا الوجود، أذكر إن عجلات عرباتنا تضررت بقوة واستغرق إصلاحها وقتًا طويلاً... أجل هذا هو دربنا القديم!!".

كان الطريق الوعر قد ترك بصمة مؤلمة في ذاكرة الكبار، عندها سرت إشاعة قوية بأننا ندور في حلقة مفرغة، فصارت عربات المقدمة بطيئة ومترددة، سقطت مسامير حدوات الخيول والبغال، ثم تلتها الحدوات نفسها، كان البيطار عاجزًا عن تلبية الطلبات، فصدرت الأوامر بالتوقف. خيمنا بمكان قفر، كان الزعيم بحاجة لترتيب الأمور، وكانت هناك اجتماعات طويلة مع الشيوخ وكبار السن يخرجون بعدها مكفهري الوجوه صامتين، فيما كنا ننشغل ليلاً بتكرار الحكايات القديمة، وكان المراقب الجوال يبدو لي متخمًا بالقصص التي سمعها من المدن التي جال فيها، وعلى نحو مفاجئ قال: "لدي سر صغير!!". توقفنا عن الكلام، كنا جماعة بسيطة مكشوفين لبعضنا لم يكن ثمة أسرار يمكن إخفاءها، لم تكن لدينا جدران تخفي الأصوات ولا أبواب محصنة، كنا نسكن خيمًا مهلهلة، لذا فقد كانت قلوبنا تخفق بشدة متلهفة لسماع السر. لم يتحدث أول الأمر، أخرج شيئًا من منديله ووضعه على الأرض، كانت آلة صغيرة من المعدن والزجاج يرتعش بباطنها عقرب متوازن على محور في منتصفها، وكانت من الدقة بحيث بدت لنا مثل أعجوبة صغيرة، ووسط انبهارنا قال: "إنها البوصلة، هي التي تحدد الاتجاه وليست حدوة الزعيم، مستقبلنا هنا تحت هذه الزجاجة...". ثم حدقنا ببلاهة بعقربها المرتجف.

كان حديثه التالي مخيفًا لكنه كان قادرًا على أن يفتح في أفق أحلامنا المتيبس على حجر الجدار الموعود شكلاً أخر من أحلام أرضية خضراء. أطبقت عيوننا وقلوبنا في ذلك المساء على حلم جديد صممنا على تحقيقه. كنا نحلم بمراعي وبحيرات وأنهار صافية ونظيفة، ثابتة موجودة على الأرض وليست في مخيلتنا أو في أماكن أخرى. نمنا فأطبقت عيوننا على ضوء نجوم متوثبة رابضة في سماء جديدة.

***

تراجعت خيوط النور سريعًا تحت ضغط غيوم سوداء منخفضة، فحل المساء باكرًا، لكنه بدا كثيفًا منذرًا ولزجًا حين شمر الزعيم عن ساعديه ورمى الحدوة الذهبية لأبعد مسافة ممكنة، التقطت آذاننا صوت ارتطامها بالأرض، كان قريبًا ولم ينجح برميها إلى مسافة أبعد، كانت قواه تضعف كلما تقدم في السن، لكن نفوذه لم يضعف بعد، كانت حاشيته متماسكة وحراسه ما زالوا يقظين.

يلملم المساء شتاتنا فنجتمع عند نار موقد بعيد، كان المراقب الجوال يشرح خطته همسًا: "سأسترشد بالوصلة وأغير اتجاه الحدوة نحو الشمال ولن يشك أحد بذلك، سنفعل ذلك بشكل دوري، لن أبقيها عندي، ستتنقل بيننا بشكل سري، ربما لن يتاح لي استخدامها مرة أخرى كما إن مهمتنا لن ينجزها رجل واحد".

نجحت خطة المراقب، وتحركنا عند الفجر، كنا مترعين بأمل جديد وكانت الليالي تنقضي بطيئة وثقيلة كنا نستعجل الرحيل باتجاه الشمال هدف رحلتنا الجديد، وراحت طبيعة الأرض تتغير بعد شهرين من المسير، وصار بوسع دوابنا أن ترعى أعشابًا يابسة وخضراء في أحيان أخرى، أكلنا ثمارًا برية وعثرنا على عيون ماء صافية، قل اعتمادنا على المؤن الجافة، وصار بوسعنا أن نقترب من المدن ونستمتع بموسيقى وأغاني الأعراس، كنا نستشعر تغيرًا طفيفًا في حياتنا وحضور طاغ لأحلام جديدة، ورغبة ملحة بالانفصال عن عوالم الحزن والبكاء. كان ثمة فرح طارد للأسى ينمو في دواخلنا ورغبة غامضة للتحرر من أسر ما.

كنا نستعد للرحيل متلهفين مرة أخرى، افتقدنا المراقب الجوال، كانت خيمته الصغيرة ما تزال منصوبة على غير العادة، وجدناه بداخلها مطعونًا غارقًا بدمه وظل ابتسامة غريبة يطبع وجهه. أذكر أنه أمسك بيدي بقوة وقال بما يشبه الهمس: "ما زلنا على أطراف الشمال، لم نصل بعد...".

دفناه في أرض كثيفة العشب، أدركنا المخاطر الداخلية المترتبة على توجهنا الجديد، وتلك الكآبة التي أغرقت الأتباع والحراس كلما واصلنا الاندفاع نحو الشمال، تحركنا مثقلين بأحزان فقده. كنا نسير في مجموعة كبيرة قريبين من بعضنا وكان ذلك يبدو مثل عرض لقوة جديدة نامية ومتوعدة، فيما كان موكبه يتقدمنا وينفصل عنا أحيانًا، فتضعف أصوات المواسين ولا نكاد نسمعها. صرنا نؤلف أناشيدنا الخاصة، كانت تتحدث عن المدينة التي سنشيدها عند ضفاف النهر الكبير وعن بيوت تصمد بوجه الريح وسقوف تحفظنا من هطول المطر.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود