|
قصص نعمة 2
كنتُ أسكن غرفة صغيرة عند عائلة "أبو مراد" المؤلفة من أربعة أشخاص. أما "أبو مراد" صاحب الصالون الذي غسلتُ فيه شعري لأول مرة في حياتي وجربتُ هذا النوع من الرفاه، فهو الحلاق الوحيد الذي عرفته أو سمعتُ عنه الذي يفضل الصمت أثناء مزاولته لمهنته، وإذا تكلم فهو يتكلم عن العمل لا غير. المكان الوحيد الذي من الممكن أن تسمعه يتكلم ويمزح فيه بحرية هو بيته ومع أفراد أسرته، حيث كان يلاطف زوجته ذات الوجه الطفولي ويناديها باسمها "نجلاء" مضيفًا "السأسوءة" كلقبٍ للدلع لتصبح "نجلاء السأسوءة" الأمر الذي كان يحرجها دائمًا فترد عليه ضاحكةً بحياء! أمَّا ابنتاه الوحيدتان فإحداهما مراهقة اسمها "روعة" والثانية طالبة جامعية تدرس اللغة العربية وينادونها "وردة" وقد ذكر لي "نعمة" ذات مرَّة أن اسمها الحقيقي "تماضر" لكنها لم تحب هذا الاسم واختارت أن تكون "وردة" ويبدو أنها كانت كذلك بحق . لـ "وردة" قصة طريفة سمعتها من "نعمة"، تقول: أن "وردة" قبل عدة أعوام أحبتْ بشكلٍ جنوني شابًا اشتهر بخجله الشديد كان مستأجرًا عندهم الغرفة ذاتها التي أسكنها اليوم. لم يعرف أحدًا سبب إعجاب "وردة" به ووقوعها في غرامه من النظرة الأولى، إلا أنَّ هذه الأسئلة تبقى عالقة بلا أجوبة شافية إذ لا يمكن أن تجد مقياسًا لمثل هذه الأمور يصلح لكل الناس. أمَّا "وردة" التي كانت على درجة كبيرة من الجرأة فلم تتردد بإبداء اهتمامها بالشاب بل تعدتْ ذلك إلى بعض الحركات والتحرشات الصغيرة حيث كانت تتعمد لمس يده أو كتفه بشكل خفيف حين مرورها قربه مما يجعله يتعرَّق ويضطرب كأن كارثةً حلَّت به أو كأن الحمى زارته فجأة من غير ميعاد. بقيتْ "وردة" تتحمل سلبيته وسلوكه غير المفهوم بالنسبة لها إلى أن ضبطته ذات صباح يسترق النظر إليها من نافذة غرفته وهي تسقي أزهار الحديقة الصغيرة أمام البيت فما كان منها إلا أن ذهبت وطرقت باب غرفته حاملة بعض الزهور التي كانت تسقيها منذ قليل إلا أنه تمترس في الداخل ولم يفتح الباب. أذكر جيدًا أن "نعمة" الخبيث ضحك ملئ شدقيه وهو يقول: أدفع نصف عمري لو أعرف ماذا كان يفعل داخل الغرفة أثناء هذا الوقت. فقلت له: ولماذا لم تسأل من روى لك القصة؟ أجاب بحماس: ومن قال لك إنني لم أسأله؟ هو نفسه من روى لي القصة لكنه تحفظ على هذا الجزء ولم يفصح عما كان يفعله ويشعر به حتى الآن! لكنني أظنه اختبأ تحت السرير أو في الخزانة. و كالعادة غلب الضحك "نعمة" وهو يضع السيناريوهات ويسرد لي أغرب التفاصيل مما جعلني أضحك من قلبي وأشاركه بدوري في صياغة المشهد الذي انسجمنا فيه لدرجة أننا كدنا نصدق الذي قلناه. وعندما طلبتُ منه متابعة القصة نظر إليَّ باستغراب قائلاً: أي قصة ؟! فغلبنا الضحك من جديد. أخيرًا استطعنا العودة إلى طبيعتنا وتابع "نعمة": عندما لم يفتح المسكين الباب كتبتْ له رسالة ودسَّتها بين دفتي الشبَّاك المغلق هو الآخر بإحكام وكتبت فيها: بعد قليل سيذهب الجميع ونبقى وحدنا...! وعلى ذمة "نعمة" أن المسكين حاول الهرب بعد قراءته الرسالة بدقائق لكنه عندما شق الباب ليتفقد الطريق وجدها جالسة في الباحة الداخلية تقرأ ببراءة عجيبة رواية كان يراها بين يديها منذ عدة أيام تحمل عنوانًا غريبًا وذات سماكة لا تتناسب مع أصابع يديها الناحلتين. فعاد وأغلق على نفسه ثانية لا يعرف كيف سيجابه عيني "وردة" وماذا سيفعل لو عادت ثانية. بعد وقت قصير سمع صوت اصطفاق الباب الخارجي وساد صمت رهيب ذكَّره بالتشبيه الذي قرأه كثيرًا في أكثر من مكان ولم يعرف معناه الحقيقي حتى اللحظة: "هدوء ما قبل العاصفة". لم يطل انتظاره كثيرًا حتى بدأ باب غرفته يعلن ساعة الصفر. بقي يسترق السمع للحظات وصوت دقات قلبه يتصاعد إلى رأسه ويُترجم على شكل نظرات رعب تتقافز من عينيه وتصطدم بالجدران. أخيرًا سمعها تقول هامسة: افتح، لن آكلك! فتح الباب وهو يرتعش ليجدها أمامه وفي يدها وردة حمراء تبرمها وتتلاعب بها أمام وجهها ثم تمدها إلى تحت أنفه ليشمها فيفعل وهو يرتجف وينقل نظره حوله فوق كل شيء سوى "وردة" التي استغلت فرصة اضطرابه وانسلَّت إلى الداخل لتجلس على طرف سريره وهي تبتسم وتدعوه للاقتراب. مشى كالنائم وجلس بعيدًا عنها قليلاً فاقتربت منه ودون مقدمات هجمتْ عليه وأمسكتْ رأسه بكلتي يديها وقبَّلته قبلة غرامية طويلة استطاع بصعوبة التملص منها قافزًا إلى وسط الغرفة وهو يرتجف صارخًا كمن يهذي: لأ ... لأ ... لأ !! ثم استدار وخرج راكضًا تاركًا "وردة" ووردتها الحمراء خلفه غارقتان بالمرارة والخيبة. أذكر أن "نعمة" توقف هنا أيضًا وسألني: ما رأيك، ماذا ستفعل "وردة" الآن؟ قلت: لا أعلم، ربما تنتف الوردة وتحطم له بعض أثاث الغرفة ثم ترمي بنفسها على السرير وتبدأ البكاء. ضحك قائلاً: كأنَّكَ متأثر بالأفلام المصرية القديمة! ليست "وردة" من تفعل ذلك. يا سيدي الذي حصل أن "وردة" لحقت به إلى الشرفة وشاهدته من هناك وهو يخرج إلى الشارع راكضًا فما كان منها إلا أن خلعتْ "بابوجها" الخشبي ورمتْ به بأقصى ما استطاعت فحالفها الحظ واستجاب لرغبتها فأصابته في منتصف رأسه ويقال أنها أطلقت صيحة نصرٍ وهي ترى الدم يسيل فوق وجهه وعلى رقبته، فبدا كالديك المذبوح نصف ذبحة وهو يركض في الشارع ويتمايل مذهولاً بعد أن فقد توازنه من شدة الضربة وسط استغراب المارة والجيران. كنت أستعيد هذه القصة في ذهني وأنا في طريقي إلى غرفتي وأحمد الله أن "وردة" سافرت قبل سكني عندهم بعدة أسابيع للعمل في الخليج لصالح إحدى الصحف المحلية هناك. فأنا لا أفرق كثيرًا عن الشاب الذي حدثني عنه "نعمة" الخبيث والذي لا أعرف إن كان له وجود أصلاً في هذه الحياة. بعد يومين مررتُ بـ "نعمة" فوجدته جالسًا يدردش مع بعض الزبائن. ما إن رآني حتى رفع يده يدعوني بإلحاح لمشاركتهم الجلسة. بعد أن سلَّمتُ وجلستُ على كرسي واطئٍ وضع "نعمة" يده على ركبتي قائلاً: كنت أحدِّث الشباب عنك. قلت: خير إنشاء الله! عن ماذا كنت تحدثهم؟ قال غامزًا: عمَّا حصل معك وأنت تتسلق ذلك الجبل في الهند. شعرت بالإحراج ولم أعرف بماذا أجيب فأنا لم أزر الهند طيلة حياتي ولم أتسلق شيئًا أعلى من السرير الذي أنام عليه، ثم أضاف وهو يغمز لي ثانية: لا تخجل يا رجل، لا تخجل! غيرك كان سيفاخر بما حصل معه. لم أحب أن أحرج "نعمة" وأخسره للأبد، كنت متأكدًا أنَّ جوابي سيحدد مصير علاقتي به، لذا قلت دون أن أعرف الحكاية: إنها قصة بسيطة ولكن المعلم "نعمة" يرويها بحماس كبير من شدة حبه لي. صدرتْ بعض الهمهمات من الشباب وارتسمتْ علامة الانتصار على وجه "نعمة" أما أنا فكنت من الإحراج إلى الدرجة التي لاحظ أحدهم أنَّ وجهي بدأ يحمر وسألني إن كنتُ أشكو من علَّة فشكرته ولم أجب بشيء. ما إن ذهب الشباب وبقينا وحدنا حتى بادرني"نعمة" قائلاً: جئتَ في وقتك، قصتي كانت في خطر شديد فأحدهم لم يقتنع أنَّكَ بقيت ثلاثة أيام مغمورًا بالثلج ونجوتَ من الموت بأعجوبة بعد أن حفرتَ نفقًا طويلاً أفضى بك إلى جرف صخري عالٍ اضطررتَ للقفز عنه إلى شجرة ضخمة في أسفل الوادي تكسَّرت بك أغصانها واحدًا تلو الآخر لتسقط على الأرض ويغمى عليك، ثمَّ تستيقظ بعد أيام وتجد نفسك في بيت طيني بسيط مستلقٍ فوق سرير خشبي قديم تغطيك الجلود وحرامات الصوف السميكة وقربك فتاة رائعة الجمال تعتني بجراحك وتحنو عليك... لم تعجبني القصَّة التي أظن أن "نعمة" استلهمها من أحد الأفلام التي تتحدث عن الانهيارات الثلجية ومغامرات متسلقي الجبال، وما أكثرها! فقاطعتُه مجاملاً وأنا أضحك: توقف أرجوك، أكاد أصدق أنني كنتُ هناك. ضحك بدوره وقال: صدقني لقد كنتَ هناك ولكنَّكَ لم تنتبه! قلت باسمًا: صدَّقتكَ. كالعادة، حضَّر "نعمة" النرجيلة وطلب لنا القهوة وهو يثرثر عن أشياء وحوادث غريبة عجيبة ما أنزل الله بها من سلطان. كان منطلقًا بشكل غريب ولا بدَّ أن إنقاذي له من ورطته هو ما جعله يشعر بكل هذا السرور. جاملته قليلاً ثم طلبتُ منه أن يفي بوعده ويقص لي حكاية "أمل" و"العم بلال". فابتسم باعتداد وقال: حاضر يا سيدي، حاضر، حاضر يا أحلى متسلق جبال في العالم، ثم أضاف وهو يضاحكني: كنتُ أعرف أنَّك لن تفوِّت هذه القصة فهي ستعجبك بالتأكيد. عبَّرتُ عن اهتمامي وجلست بشكل يوحي أنني جاهز للاستماع، فتنحنح "نعمة" كأنه سيغني ثم بدأ الكلام: ... يا سيدي الكريم، في ذلك الوقت كان صاحبنا شابًا ولم يصبح بعد "العم بلال" وكانوا يسمونه "بلال المصري" – إذًا، بقي "بلال المصري" في المشفى لمدة أسبوعين بعد أن نجا من الموت بقدرة قادر، وأثناء هذا الوقت عرف أهله أنه حي وأرسلوا بعض المال لمساعدته في تدبير أموره والعودة إلى الديار. عندما تعافى وخرج من المشفى كان أول ما فعله هو البحث عن منقذه والتعرف إليه. ودون مجهود كبير عرف اسم وعنوان الرجل وذهب لزيارته محملاً بالهدايا. عندما طرق الباب لم يخطر في باله أن حياته ومصيره سيتغيران خلال لحظات. فُتح الباب وأطلَّ منه وجه "أمل" ابنة الرجل الذي أنقذه وهي تبتسم وتسأله ماذا يريد؟ وقف مذهولاً أمام جمالها ولم يدر بماذا يجيب، فابتسمتْ له تلك الابتسامة التي بقي يتذكرها حتى آخر يوم في حياته وسألته مجددًا عن حاجته. فقال متلعثمًا: هل هذا بيت "إسماعيل الحوت" – هكذا كان اسم الرجل – فأجابته: وصلت! كان "إسماعيل الحوت" صياد سمكٍ مشهور ببأسهِ ومهارته في اصطياد الأسماك الضخمة وقد ورث هذه المهارة عن والده الذي ورثها بدوره عن والده أي جد "إسماعيل الحوت" الذي صارع في أحد الأيام الشتائية الباردة حوتًا كبيرًا بعد أن رماه برمح طويل مربوط بحبل متين إلى قاربه فانغرز الرمح في ظهر الحوت عميقًا وبقي "الجد" يجاهد لساعات وساعات ولم يستسلم ولم ييأس رغم أن الحوت سحبه خلفه إلى أعماق البحر حيث لم يصل أحد قبله من الصيادين. استمر الصراع ليلة ونصف الليلة واستطاع "الجد" أن ينتصر بعد أن نال التعب من الحوت واستسلم أخيرًا تحت ضغط الجرح النازف فربطه "الجد" بقاربه وسحبه خلفه إلى الميناء. وهناك اجتمع العديد من الصيادين وأهالي المدينة ليشهدوا حدثًا لم يتكرر من يومها وليستحق الجد لقب "الحوت" الذي أصبح يلازمه ويلازم أبناءه منذ ذلك اليوم. سألت "نعمة" بعد أن استمعتُ إلى قصة "الجد الحوت": سيد "نعمة" هل قرأت يومًا رواية الشيخ والبحر لـ "أرنست همنغواي"؟ فكر قليلاً ثم أجابني بالنفي مدعيًا أنه لم يقرأ الرواية لكنه سمع عنها في مكانٍ ما. لم أضغط كثيرًا عليه هذا لا يهمني ربما حصلت القصة فعلاً فالبحر موجود هنا وهناك، كذلك الصيادين والخيال. طالبت "نعمة" بإكمال القصة، فتابع قائلاً: روى لي "العم بلال" أنه بقي لعدة أيام يتردد إلى بيت "إسماعيل الحوت" وصار يخص "أمل" ببعض الهدايا ولا أنسى حماسه وهو يحدثني كيف جاء ذات يوم ليجدها تلبس فستانًا من هداياه فاعتبر هذا جوابًا على نظراته الهائمة فلم يفوِّت الفرصة وطلب منها لقاءً خارج البيت. في لقائهما هذا عرف أن "أمل" امرأة مطلَّقة وليست فتاةً كما كان يظن! وعرف أن سبب طلاقها عدم قدرتها على الإنجاب، كذلك عرف أن زوجها السابق ندم ندمًا شديدًا لفعلته وحاول بعد عدة أشهر الرجوع إليها لكنَّها أبتْ رغم كل محاولاته المستميتة فاختفى الرجل من المدينة كلها ولم يره أحد بعدها حتى هذا اليوم. وعرف أيضًا أن "أمل" يتيمة الأم وهذا ما دفعها لاحقًا لتشترط عليه البقاء في بلدها قرب والدها وأخوتها الصغار. وحزن جدًا عندما روت له كيف ماتت والدتها على أثر حريق شبَّ في بيتهم أثناء إيقادها "بابور الكاز" كي تسخن الماء لتغتسل وأولادها الأربعة وكانت "أمل" أكبرهم وبطريق الخطأ اشتعل طرف فستانها أثناء مرورها قرب "البابور" وشبت فيه النار بسرعة كبيرة فأخذتْ تحاول إخمادها وسط صياح أطفالها المرعوبين اللذين اندفعوا نحوها لإنقاذها فما كان منها خوفًا عليهم إلا أن أغلقت الباب على نفسها وأخذت تتخبط في الداخل وحيدة فانزلقت قدمها على بلاط الحمام وسقطت مغشيًا عليها لتكمل النار عملها وتنهي حياتها تاركة خلفها "أمل" وثلاثة أطفال. لذلك عندما عرفت أن "بلال المصري" كان الوحيد الذي نجا من حادثة الحريق الذي التهم سفينته شعرت كأن القدر يعيد إليها ما أخذ بطريقة ما وانجذبت إليه بعد أن عرفت قصته وأعجبت به أيما إعجاب. بعد هذا اللقاء ازداد تعلقه بها وأحس أنَّ القدر دبَّر الحريق في سفينته فقط كي يلتقي بها، فشكر الله على الحريق وعلى كل شيء. "أمل" التي أحبَّت لهجة "بلال المصري" المصرية كانت تطالبه في كل لقاء أن يقول لها "إزَّيك يا بت" فكان يفعل بسرور مستغربًا هذا الطلب وكانت تضحك من قلبها وتطالبه بالمزيد، هكذا يومًا بعد يوم ولقاء بعد لقاء توطدت علاقتهما وأصبحا عاشقين رسميين ولم يكن ينقصهما إلا بعض الألاعيب الصبيانية وبعض القبل الغرامية كي تكتمل حكايتهما لكنها بقيتْ ترفض الفكرة وتشيح بوجهها كلَّما حاول ذلك إلى أن غامر عاشقنا المتيَّم ذات مساء وهو يودعها عند باب بيتها فسرق قبلة من شفتيها الطريتين وكاد من اللذة والانفعال أن يغمى عليه! أما هي فركضت مسرعة واختفت خلف الباب ولم تعد تخرج ولم يعد يراها حتى حين كان يزورهم واستمر الوضع على هذه الحال عدة أيام وكاد عاشقنا أن يُجَن وصار يأتي كل ليلة ليجلس قبالة نافذتها محاولاً رؤيتها ولو من بعيد بل صار أحيانًا يبقى في الحديقة القريبة حتى ساعات الفجر الأولى وهو يدندن بعض الأغاني الشعبية التي يتغنى بها عشاق مصر واستمر على هذه الحال حتى أصابه النحول وبدا كجروٍ جائع لم يذق يومًا اللحم... قاطعتُ "نعمة" قائلاً: بصراحة لم أفهم موقفها! طالما هي تحبه أو على الأقل ترتاح له وقد خرجتْ معه في أكثر من موعد، لماذا تتصرف بهذه الطريقة بعد القبلة الأولى التي لا بد أنها كانت تتوقعها في أي لحظة؟ نظر "نعمة" إليَّ نظرة خبث ثم قال ضاحكًا: وما أدراني أنا! وأضاف بلهجة ساخرة: والله لو كنت مكانها لقبَّلته "كمان وكمان"! وانفجر ضاحكًا بجنون وضحكت معه كما لم أفعل من قبل! وبعد أن هدأ تابع قائلاً: ربما كانت تتدلل أو تخجل أو ببساطة شعرت بالارتباك. ثم سكت برهة وتابع كأنه وجد شيئًا كان يبحث عنه: هي في النهاية أنثى والأنثى كما تعلم بحر عميق لا قرار له... وهكذا نسي "نعمة" القصة وبدأ لأول مرَّة أسمعه فيها يخوض حديثًا مملاً عن النساء وسلوكهن ومشاكلهن مع الرجال والمجتمع وبقي كذلك حتى كدت أموت من الضجر واضطررتُ لمقاطعته والطلب منه العودة إلى قصتنا الرئيسية فتوقف بالفعل وعاد فورًا كأنه جهاز تسجيل، فأضحكني سلوكه هذا وضحك الخبيث معي مما جعلني أتأكد أنه افتعل هذه المسرحية فقط كي يمتحن صبري ويضحك علي ونجح فعلاً واتضح لي أنه يجيد الحديث حتى فيما هو ممل وفي كل شيء. المهم أنه عاد ليكمل قائلاً: ... بقي عاشقنا يتلوَّع ويكابد المرَّ حتى أشفقتْ أخيرًا محبوبته عليه وفتحتْ نافذتها ذات ليلة ورآها تلوح له بيدها تلويحة بسيطة جعلتْ الأرض تميد من تحته وجعلته يتأكد أن حياته لا قيمة لها دونها وأن مستقبله مرهونٌ بعلاقته بهذه الـ "أمل" وقرر أن يحسم الأمر صباح الغد. توقف "نعمة" عن الكلام كأنه يريد إنهاء الحديث فرجوته أن يكمل القصة إذ لا طاقة لي على الانتظار حتى الغد. ضحك كعادته وشعر بسعادة عارمة وأنا أطلب منه متابعة الحديث وفعلاً رضخ لرغبتي وتابع قائلاً: في اليوم التالي فكَّر أن يذهب ويطلب يدها لكنه كان بحاجة لفكرة مبتكرة تبقى ذكرى لهما على مر الأيام، ولن تتخيل ولن يخطر على بالك من الذي أعطاه الفكرة التي كان يبحث عنها. فكَّرتُ قليلاً ولم أعرف الجواب، فقال "نعمة": لن تعرف، لذا سأريحك وأقول لك: إنه صاحبك "المهلهل" الذي كان يجالس "بلال المصري" في ذلك الزمن ويقضي معه الكثير من الوقت ويقال إن "المهلهل" كان حافظ أسرار "العم بلال" وهو الوحيد الذي عرف منه سر حريق السفينة وحمولتها الذي بقي لغزًا بالنسبة لسكان المدينة حتى اليوم! المهم يا سيدي أن "بلال المصري" ذكر أمام أكثر من صديق حاجته إلى فكرة مبتكرة لطلب يد "أمل" وعندما سأله بعضهم لماذا لا يذهب ويطلب يدها بكل بساطة مثلما يفعل كل الناس، قال: وهل "أملي" مثل كل الناس؟! ثم روى لهم مشهدًا من فيلم شاهده منذ سنوات وشرح لهم بالتفصيل الممل كيف اشترى البطل عددًا هائلاً من الأزهار الحمراء وفرشها في الشارع أمام بيت حبيبته التي استيقظت صباحًا كعادتها لتذهب إلى العمل، وما إن فتحت الباب حتى رأت حقلاً من الأزهار يحتل الشارع كاملاً فوقفت مندهشة وللوهلة الأولى اعتقدتْ أنها في حلم، ثم يظهر حبيبها وهو يغني أغنية عن الحب يختمها ببضع كلمات لطيفة طالبًا منها الزواج فتعانقه وهي تبكي ويقبلان بعضهما قبلة غرامية ساخنة يصفها "بلال المصري" بأمانة ودقة شديدة مما جعل أحد الصيادين الشباب يسأله بحماس إن كان سيُقبِّل هو الآخر "أمل" بعد أن يطلب يدها للزواج ، فيجيبه "بلال المصري" نافيًا أي نية لذلك، مضيفًا بمرح: على الأقل الآن! فيضحك الجميع وتبدأ الاقتراحات العجيبة تنهال عليه. كان أغربها الاقتراح الذي قدمه "أبو فتيلة" الصياد الذي فقد إبهامه الأيسر وجزأً من أنفه حين انفجر في يده أصبع ديناميت كان يعده ليصطاد به سربًا من الأسماك، حيث اقترح أن يساعده في توزيع عشرة أصابع من الديناميت حول بيت "أمل" ثم يربطها بفتيل واحد ويفجرها تباعًا فتخرج "أمل" مرعوبة لتستطلع الأمر وتشاهد "بلال المصري" العاشق المتيم واقفًا وسط الساحة يغطيه الغبار وهو يصيح بأعلى صوته أنَّه يحبها ويريد الزواج منها فتوافق هي على الفور - حسب رأي الأخ - ويبقى على بطلنا فقط أن يتقدم نحوها ويطبع قبلته المنشودة فوق شفتيها وسط تصفيق وتهليل الجميع. وهكذا يبقى هذا اليوم ذكرى للأبد في حياتهما وحياة باقي سكان الحي. ذكر لي "العم بلال" قبل سنوات عندما روى لي هذه الحادثة أنه كاد يموت من شدة الضحك على هذا الاقتراح الرهيب مما أغضب "أبو فتيلة" غضبًا شديدًا ولولا تدخل باقي الأصدقاء واعتذار "العم بلال" لكان حصل ما لا تحمد عقباه ولتحولت المناسبة السعيدة إلى مأتم أو شيء من هذا القبيل! ضحكت بدوري من هذا الاقتراح كما ضحك "نعمة" وهو ينهي الحديث مخاطبًا صبي المقهى "أدهم" ليجلب له جمرًا ورأسًا جديدًا للنرجيلة مع كاسين من الشاي. في هذه الأثناء كنت أبحث بدوري عن فكرة مبتكرة لمثل هذه المناسبة وتذكَّرتُ ابن عمي "حمُّود" الفلاح البسيط الذي تركته في القرية منذ عدة سنوات كيف ذهب ذات يوم ليطلب يد قريبته "امتثال" مصطحبًا معه بقرة صغيرة الحجم جافة الضرع بارزة الأضلاع. وعندما وصل بيتها طرق الباب الخشبي القديم بعصاه الغليظة عدة طرقات جعلت الغبار يتصاعد من شقوقه وتتساقط منه بعض النثرات. ما إن ظهرتْ "أم امتثال" الأرملة التي فقدت زوجها في حرب النكسة وبقيت وحيدة مع ابنتها وعنزتان! حتى قال لها دون مقدمات مشيرًا للبقرة التي كان يمسكها من قرنها: بصراحة يا "أم امتثال" أنا جاي أخطب بنتك وجايبلك هالبقرة هدية. شو قولك؟! أغلقتْ "أم امتثال" الباب بأسرع مما فتحته وسمع صوتها يلعلع في الداخل شاتمةً إسرائيل ومن كان السبب في فقدانها لزوجها الذي لو بقي حيًا لما تجرأ أحد مثل "حمود" ليأتي ويطلب يد ابنتها التي كان جمالها على حد تعبيرها يضاهي جمال الممثلات. عندما رويت لـ"نعمة" هذه القصة قال معلِّقًا: تبقى البقرة أفضل من الديناميت! ثم قص عليَّ مجموعة من المواقف الغريبة عرفتُ أنها من بنات خياله إذ كيف يمكن للمرء أن يصدِّق أن عاشقًا قام ذات يوم بقطع أصبعه وإرسالها إلى الفتاة التي يحبها محفوظة في ظرف أنيق مع خاتم خطبة طالبًا منها أن تلبسه إيَّاه ليصبح خطيبها بشكل رسمي فأغمي على الفتاة حين رأتْ محتوى الظرف ونُقلتْ إلى المشفى لتبقى هناك تحت المراقبة عدة أيام. وعندما عاد العاشق بعد فترة ليسترد الخاتم أنكر والد الفتاة معرفته بمصيره فحصلت بينهما مشَّادة عنيفة كادتْ تتحوَّل إلى معركة حقيقية لولا تدخل أولاد الحلال. في النهاية عاد العاشق خائبًا تاركًا خلفه قصة عجيبة غريبة ستروى من بعده لعدة أجيال. سألتُ "نعمة" بعد أن توقف عن الكلام وقبل أن يدخل في شروده المعتاد: ماذا حصل للخاتم وأصبع العاشق المسكين؟ قال: تبيَّن فيما بعد أنَّ والد الفتاة باع الخاتم سرًا في سوق الجمعة بعد أن رمى الأصبع للكلاب. منذ فترة وأنا أراقب "نعمة" كيف يتحدث بشغفٍ قلَّ نظيره وأصبحتُ موقنًا أن أغلب ما يقصَّه عليَّ ما هو إلا خليط من خياله الغريب ورغبته بما يُحب أن يكون مطعَّمًا بالقليل من الوقائع التي حصلت فعلاً والتي لا بد منها كأدوات للإقناع. كنت حينها أجهل سبب هذا السلوك ولم أعرف السر إلا بعد سنوات. لكنني أيضًا كنتُ أستمتع بهذا الخليط العجيب وأستمتع أكثر بأسلوب "نعمة" الذي نجح نجاحًا باهرًا في شدِّي إليه ليصبح من القلائل اللذين أجالسهم وأستمتع بصحبتهم ليس فقط كوني أعشق القصص والحكايات بل لأنني شعرت بحدسي أنه بحاجة لمن يستمع إليه. اليوم وأنا أراقب تعابير وجهه تذكَّرتُ أنه فاتني أن أصف لكم هذا الرجل العجيب الذي أسرني واستطاع أن يخدعني بألاعيبه مرَّاتٍ ومرَّات واستطاع أن يضحكني ويبكيني كما لم يفعل قبله أحد، كنت ابتسم وأنا أراقبه ولاحظ ذلك فابتسم بدوره مستفسرًا عن ابتسامتي المريبة. قلت: لا شيء، كنت أراقبُ وجهك وأفكِّر أن أكتب قصصك هذه في سلسلةٍ وأنشرها ليقرأها الناس، ما رأيك؟ قال بعد تفكير قصير وقد بدا عليه الانزعاج: لا أريد أن أُسجنَ في كتاب! لفتتْ انتباهي جملته لكنني لم أجادله بل قلت: كما تريد يا صديقي لن أَسجنك في كتاب. لـ "نعمة" شارب صغير مشذَّبٌ بدقة بالغة حتى يبدو كأنه رُسم رسمًا ويشبه شارب "هتلر" إلى حد بعيد، لأول وهلة تجده يثير الضحك ثم مع الوقت تعتاده و تشعر أنه يليق به بشكل غريب! أمَّا نظَّارته الطبية السميكة التي تغطي عينيه الزرقاوين فقد كانت تكسبه مظهرًا رزينًا ينسجم مع تسريحة شعره المرتد إلى الخلف بعناية مبالغ فيها أيضًا تذكِّر بأبطال أفلام هوليوود في الستينيات. لم يكن طويلاً لكن نحوله الشديد وهندامه الضيق كانا يوحيان بذلك لكن ما إن تقترب منه وتحاذيه حتى تكتشف أنه متوسط الطول بل يميل إلى القصر أكثر!! ومن اللافت للانتباه في مظهره ذقنه العريضة الممهورة في طرفها الأيسر بأثر جرحين متقاربين يبقى مكانهما خالٍ من الشعر لو طال! مما يجبره على حلاقة ذقته يوميًا لأنه كما قال لي لا يحب أن يبدو وجهه مرقَّطًا! وعندما سألته كيف حصل على هاتين الندبتين قال: كان مكانهما شامتان نافرتان تزعجانني أثناء الحلاقة وفي لحظة غضب أخذتُ الشفرة و"قششتهما" عن سطح الجلد ودفعتُ ثمن ذلك عدة أيام في المشفى بعد أن تقرَّح الجرح وتمكَّن مني الالتهاب حتى كدت أخسر وجهي، ثم أضاف غامزًا بمرح: وأخسر معه كل صبايا الحي! ذكرتني هذه القصة بأحد أقاربي الذي كان يملك في إحدى قدميه ستة أصابع مما كان يزعجه أثناء المشي ويربكه إن اضطر لخلع حذائه في بيوت الآخرين. فما كان منه في يوم من الأيام وهو يقطع الحطب إلا أن أخذ البلطة ودون تردد انهال بها على الأصبع الزائدة ففصلها عن قدمه بضربة واحدة ثم ضمدها بورق الجلنار والدخان المفروم وتابع عمله كأن شيئًا لم يكن! والعجيب أن جرحه لم يلتهب ولم يخسر من جرَّاء ذلك أي شيء سوى خجله الذي كان يمنعه من الزواج فتزوج بعد هذه الحادثة بعدة أشهر ورُزق بصبيان وبنات لهم خمسة أصابع في كل قدم مثلهم مثل الغير. وبالعودة لـ"نعمة" فإن ابتسامته الطفولية الرائعة هي الشيء الوحيد الذي كان يكسر هيئته الجادَّة فما أن يبتسم حتى يتحول إلى طفلٍ صغير ويحولك معه إلى ما هو عليه وهذه الابتسامة السحرية لم تكن تفارق وجهه مذ عرفته إلا في حالاتٍ قليلة منها لحظات الشرود الغريبة التي كانت تحمله بعيدًا إلى مكان قصي لم يفصح أبدًا عنه. فجأة عاد من شروده وقال: لم تسألني عن فكرة صاحبك "المهلهل"؟ أجبته: كنت سأفعل لكنك ذهبت بعيدًا، بربك قلْ لي إلى أين وصلت في شرودك؟ قال: إلى مكان لا تريد الذهاب إليه! ثم تنحنح كعادته طالبًا مني الإصغاء. فعدَّلتُ جلستي وأصغيت. اقترح "المهلهل" على "العم بلال" أن يصطاد سمكة كبيرة ثم يشتري خاتمًا ذهبيًا ويضعه في بطن السمكة ملفوفًا بورقة كُتبَ عليها بعض أبيات الشعر الغزلية ثم يذهب بها إلى معشوقته ويقدمها لها طالبًا أن تدعوه في اليوم التالي إلى الغداء. وعندما تنظف السمكة كان من المفترض أن تجد الورقة والخاتم داخلها وتقرأ أبيات الشعر فتعرف أنه فعل هذا كي يبهجها فتطير من الفرح وتنتهي الحكاية أخيرًا بأن يتزوجا ويعيشا في ثبات ونبات ويرزقا بالبنين والبنات. علمًا أن عاشقنا كان يعلم أن "أمل" غير قادرة على الإنجاب إلا أنَّه بقي ينتظر معجزة سماوية طيلة السنوات التي قضتها معه ولم يمتْ حلمه حتى ماتتْ هي منهية كل إمكانية لتحقيق هذا الحلم. لم تعجبني الفكرة فقاطعته متسائلاً: ومن أين جاء "المهلهل" بهذه الأفكار الغبية؟! فالفكرة ليست مبتكرة ومن الغريب أن تعجب "العم بلال" قال: لا أعلم لكن صاحبنا اقتنع بها، لذا خرج صبيحة اليوم التالي مع رفاقه الصيادين اللذين تعرف إليهم خلال تردده إلى مقهى المرفأ وعاد في الظهيرة حاملاً سمكةً كبيرة جدًا وفعل كما قال له "المهلهل" حرفيًا ونام تلك الليلة وهو يحلم بـ "أمل" ويتخيلها عروسًا بثوب الزفاف وهو إلى جانبها بكامل أناقته تغمره السعادة حتى أنه استيقظ من شدة الفرح فشرب كأسًا من العرق ودخَّن سيجارتين ثم نام! في اليوم التالي ذهب إلى موعد الغداء وقلبه يسبقه فوجد الجميع بانتظاره لكنه لم يلحظ على "أمل" أي تعبير خاص مما أدخله في حالة من التوتر والترقب فلم يستمتع بالطعام وبقي طيلة الوقت يبحث في وجه حبيبته عن أي أثر للخاتم أو لأبيات الشعر لكن دون جدوى ولم يفهم الذي حصل إلا بعد عدة ساعات وبعد الانتهاء من طعام الغداء، عندما سألها مباشرة إن كانت وجدت شيئًا غريبًا في بطن السمكة وعرف من جوابها البريء أنها لم تجد الخاتم فبدا عليه الحزن مما أربكها وجعلها في حيرة من أمرها وبقيتْ تلاحقه بالأسئلة حتى روى لها القصة من الألف إلى الياء وكادت هي الأخرى تموت من القهر وقررتْ الذهاب معه إلى حيث رمتْ بالأحشاء والبحث عن الخاتم علَّه يكون وقع هناك في زاوية ما، وهذا ما فعلاه. لكنهما لم يفلحا بالعثور على أي شيء رغم أنهما قضيا ساعات في البحث حتى أنهكهما التعب فعادا أخيرًا بخفي حنين وهما موقنان أن الخاتم أستقرَّ في بطن إحدى القطط المنتشرة في المكان. هكذا انتهى اليوم الذي حلم به "بلال المصري" وهذا ما انتهت إليه أفكار "المهلهل" الرومانسية؛ خاتمٌ ضائع في بطن إحدى قطط الحي وعاشقان خائبان! إلا أن الأمور لم تنتهِ هنا عند أحدهم ففي اليوم التالي أثار انتباه أهل الحي منظر بعض القطط المرمية قرب مكب النفايات وقد بُقِرَتْ بطونها وأُخرِجتْ أحشاؤها بشكل وحشي وتحولت إلى لغزٍ شغلهم طويلاً ولم يعرفوا سرَّه إلى اليوم. عندما سمعت "أمل" بما يتناقله الجيران عن ذبح القطط والتمثيل بها سألت "بلال المصري" إن كان هو الفاعل فأنكر معرفته بالأمر إلا أنه اعترف بإخباره القصة لرفاقه في المقهى وعلل الأمر بأن الطمع قد يكون دفع بأحدهم للبحث عن الخاتم الذي كان ثمنه يساوي ثروة بالنسبة لبعضهم؛ لم تقتنع تمامًا إلا أنها حمدتْ الله قائلةً: أقسم لو كنت الفاعل لما مسستَ شعرة من رأسي طيلة حياتك. توقف "نعمة" فجأة عن الحديث كعادته وقد شغله شيء ما وعاد من شروده عندما رآني أضحك من هذه القصة الغرائبية ثم سألني: هل عندك للسر مكان؟ قلتُ وأنا أتحرَّق شوقًا: بئر عميق... عميق. فتابع قائلاً: في الحقيقة إن من قام بهذا الفعل الشنيع هو صديقك "المهلهل" الذي شعر بالذنب واعتبر نفسه مسؤولاً عن ضياع الخاتم لأنه من اقترح الفكرة على "العم بلال" وقرر التكفير عن ذنبه والبحث عنه فلم يجد طريقة أخرى سوى اصطياد القطط التي تجوب الحي والبحث عن الخاتم في بطونها قبل أن تخرجه مع برازها وتطمره كعادة القطط في مكان ما ويصبح من المستحيل العثور عليه. لذا اشترى نصف كيلو من اللحم وخرج ليلاً متلثمًا ليجلس في مكانٍ مظلم قرب مكب النفايات ويرمي بقطع اللحم حوله وما إن تقترب إحدى القطط حتى يمسك بها بحركة خاطفة ويبقر بطنها بسكينه الحاد ثم يبدأ البحث. كانت حصيلة هذه المذبحة تسع قطط مسكينة قبل أن ينجح وبأعجوبة حقيقية بالعثور فعلاً على الخاتم في بطن إحداها فحمله وهو غير مصدق ثمَّ في البيت قام بغسله جيدًا وخبأه معه لفترة من الزمن قبل أن يعيده لـ "العم بلال" الذي فرح به فرحًا شديدًا وأقسم ألا يبوح بهذا السر لأحد وبشكل خاص لـ "أمل". قاطعته هنا وسألته: وكيف عرفتَ إذًا بهذا السر؟ فقال متأففًا: أعرف الكثير من الأسرار ولعلمك فهو الخاتم نفسه الذي خطب به "بلال المصري" حبيبته "أمل" والذي أصبح مصدرًا للتفاؤل بالنسبة له باعتبار أن القطط كثيرة الإنجاب لكن تفاؤله كما تعلم لم يودي به إلى أي مكان. فجأةً ظهر"المهلهل" وكأن الأرض انشقَّتْ عنه. كان يقف في باب المقهى ويكاد يسدُّه بجسده المهول. عندما دخل ضاربًا الأرض بعصاه شعرت بشيء من الخوف لكن كلام "نعمة" طمأنني قليلاً حين دعاه للجلوس وشرب الشاي. اقترب الرجل وجلس على كرسيٍّ منخفض واضعًا عصاه الغليظة على الأرض راميًا قربها جريدته البالية وحبله الكتاني العجيب دون أن يسلِّم أو ينبس بأي حرف. لم يطلب "نعمه" من الصبي "أدهم" جلب الشاي بل ذهب بنفسه ليجلبه وبقيتُ والـ "المهلهل" وحدنا كغريمين في ساحة حرب! ظلَّ الرجلُ مطرقًا بعض الوقت؛ أمَّا أنا فكنتُ حذرًا كما لو أنَّ وحشًا سيغافلني وينقض علي، وكم خجلتُ عندما رفع نظره وسألني بهدوء: أخائفٌ أنت؟ جاءني صوته لطيفًا وأبويًّا أكثر من اللزوم. تلعثمتُ وقلتُ كاذبًا: لستُ بخائفٍ، لماذا أخاف؟ ومِن مَنْ؟! قال بالهدوء نفسه: لا أعلم! ولكن الخوف بادٍ عليك. عاد "نعمة" بالشاي وجلس مرحِّبًا بالضيف. لم يعامله كمتشرد لا قيمة له أو شحَّاذ كما توقعت، كان في أسلوبه شيء من الاحترام الخفي؛ احترام لا يُرادُ له الظهور كأني به يجاملُ فردًا من عائلته طال غيابه حتى بات وجوده مربكًا فلا هو غريبٌ ولا هو من أهل البيت..! تغيَّر حال مضيفي خلال لحظات فتخلَّى عن روحه المرحة وتحوَّل إلى رجلٍ جدِّيٍ. وكم بدا مضحكًا حين وجَّه كلامه لي يسألني مجاملاً عن صحتي بعد أكثر من ساعة على جلوسنا سويًا! ففهمتُ أن بقائي أصبح غير مستحب. نهضتُ مودِّعًا وبقي "المهلهل" على حاله، لم يودعني ولم يرفع رأسه كأني ما كنتُ وكأني ما ذهبت. عندما التقيتُ "نعمة" في اليوم التالي استقبلني بحرارة مفرطة حتى أنه احتضنني بقوة وقبَّلني عدة قبل على خدي فقابلته بالمثل! ما إن جلستُ حتى عاجلني بسؤال: ما أخبار سفرك؟ نظرتُ إليه غير مصدق فأنا لم أخبره ولم أخبر أحدًا غيره عن مشروع السفر الذي كنت أعمل عليه. كنت طيلة الأشهر القليلة الماضية التي قضيتها في هذا الحي أنتظر رسالة قبول من إحدى الجامعات الفرنسية وكان أملي على وشك التبخر عندما سألني "نعمة" هذا السؤال فأعاد لي حماستي ويبدو أنه التقط هذا الشعور فأخرج من جيبه وهو يبتسم رسالة مطوية كُتِب عليها اسمي وعنواني تزينها بعض الطوابع الملونة التي غيرت خلال لحظات لون مزاجي – لو كان للمزاج لونًا – من الأسود إلى ألوان قوس قزح البهي. خطفتُ الرسالة من يده وفتحتها متعجلاً وما أن قرأت كلمة "قبول" حتى صرختُ بفرح وبدأت أقفز كالمجنون؛ و"نعمة" يراقبني ضاحكًا ويلوح بيديه كمن يرقص حتى ملأت ضحكاتنا المقهى وأثرنا انتباه بعض الزبائن الجادِّين فتوقفنا عن الهرج والمرج خجلين. عانقني "نعمة" ثانية وبدا عليه التأثر أكثر من ذي قبل فعانقته بدوري وشعرت بانقباض مفاجئٍ يشتد في صدري وبشيءٍ حزينٍ ينسكب في أوردتي ويستبيح جسدي! أحسستُ أنني بدأتُ أفقد كل شيء فطريقي إلى فرنسا يبدأ من هنا؛ من اللحظة التي سيبعد فيها "نعمة" يديه عن كتفي معلنًا ابتداء العد العكسي! لن يكون هناكَ "نعمة" ولا قصص "نعمة" ولن يقبلني شخصٌ بهذا الود، لن أحظى بعناق كهذا العناق ولن يترك أحد أثر دموعه على خديِّ، يا لهذا العمر الذي لا يفارقنا فيه الحزن، يا لهذا العمر! انتهت نوبة الفرح ومن بعدها موجة الحزن وجلسنا نشرب الشاي بالقرفة والليمون و"نعمة" الذكي يشرح لي كيف وصلتْهُ الرسالة التي توقَّع محتواها فور معرفته مصدرها حين تسلَّمها من قريبه ساعي البريد عندما وجده يسأل عني بعض صبية الحي. وهاهو يسلمني إيَّاها دون أن يكذب هذه المرَّة في شيء. خلال أيام قليلة أنهيتُ باقي الأوراق المطلوبة للسفر وذهبتُ إلى القرية لأودِّع الأهل حيث عُقدتْ جلسات البكاء الممزوجة بالفرح والضحك مع الأصدقاء والأقرباء وكثيرون ممن لم أرهم من قبل! أنهيتُ كل ذلك بسرعة قياسية لم أقدرها تمامًا إلا حين مسَّت عجلات طائرتي أرض المطار في باريس، في هذه اللحظة بالذات شعرت أنني كنت في غيبوبة خلال الأيام القليلة الماضية وفجأةً صحوت. انشغلتُ بنفسي لأسابيع ثم أخذتني الدراسة بعيدًا وكانت صور الأصدقاء وخيالاتهم تتوارد إلى ذهني لمامًا فأسهو قليلاً معهم وابتسم ثم أعود إلى عملي متناسيًا كل شيء. مضت أربع سنوات تقريبًا قضيتها في العمل الشاق لتأمين لقمة العيش ومصاريف الدراسة الباهظة ولم أستطع خلالها الذهاب في إجازة إلى الوطن بل كنت أستغل فترات العطل بالعمل والمزيد من العمل كي أؤمن ما يكفيني من النقود لباقي العام وأرسل بعضه للوالد للمساعدة في مصاريف البيت لأكتشف بعد عودتي أنه لم يتصرف بأي قرش بل جمع المبلغ كلَّه وناولني إياه كاملاً مما أذهلني وجعلني حزينًا لعدة أيام قبل أن أعيده بطريقة أخرى إليه. كانت تمر الأيام تباعًا، دراسة، عمل، دراسة، عمل، وقليل جدًا من فترات الراحة والسياحة الداخلية التي كنت بحاجة شديدة لها إذ من غير المعقول أن أقضي سنوات في فرنسا دون زيارة بعض مدنها ومعالمها الشهيرة. في هذه الظروف الرتيبة عدتُ ذات يوم إلى غرفتي لأجد رسالة بانتظاري في صندوق البريد قرب مدخل غرفتي. عرفتُ من النظرةِ الأولى أنها من الوطن. لم يكن يصلني الكثير من الرسائل لذا كنت أشعر بفرح عارم كلَّما رأيت رسالة في صندوقي البريدي وكنت أتمهل في فتحها بعض الوقت متيحًا لنفسي فرصة الاستمتاع بهذا الشعور أطول وقتٍ ممكن قبل أن أغوص فيها. لم يصلني قبل هذه الرسالة إلا عدد قليل من الرسائل آخرها كانت من أبي يبلغني فيها سلامات أمي وأخوتي وباقي الأهل. فتحتُ الرسالة قبل فتحي الباب واكتشفتُ أنها من "نعمة" ولم أصدق عيني حين قرأتُ في رأس الصفحة: "صديقي الجميل" فتأثرتُ وبكيت. دخلتُ غرفتي، جلستُ خلف طاولتي وتابعت القراءة: ... هذه أول مرَّة أكتب فيها رسالة لأحد إذ لا أعرف أحدًا أراسله غيرك. أتذكرك دائمًا وأتذكر جلساتنا الطويلة في المقهى وأنتَ جالس تستمع لقصصي وذكرياتي وكم أحسستُ بالندم لأنك سافرت قبل أن أجد الجرأة لأعبر لك عن مدى امتناني لاستماعك لي كل ذلك الوقت. أشكر مجاملتك لي ودعمي في كثير من المواقف. صديقي الجميل، لا أعرف كيف يكتبون الرسائل ولا أعرف إن كان يجب أن أبدأ بشكل مختلف ولكنك لن تدقق على ذلك أعرفك جيدًا فهذه الأمور آخر ما يشغلك. أكتب لك لأخبرك أن "المهلهل" مات منذ عدة أسابيع. مات منتحرًا. وجده بعض الصبية معلَّقًا في أحد مستودعات المرفأ القديمة وقد شنق نفسه بالحبل الذي يجره معه أينما ذهب "يبدو أنه وجد أخيرًا ما يربطه به" حزنت كثيرًا لموته ولم أتخيل في حياتي أن تكون نهايته كذلك. أنت لا تعرف "المهلهل" جيدًا فهو آخر شخص يمكن أن يلف حبلاً حول رقبته لذا كانت طريقة موته صاعقة بالنسبة لي. وهذا ما دفعني للكتابة لك اليوم وبالإضافة إلى ذلك فأنا يا صديقي أشعر أن نهايتي اقتربت أيضًا فالمرض يشتد علي وأعتقدكَ لا تعرف أنني أصبت بالمرض "إيَّاه" بعد سفرك بفترة قصيرة وساء وضعي جدًا ثم تحسن قليلاً بسبب الأدوية والآن عاد الوضع إلى أسوأ مما كان لذا يراودني إحساس أن النهاية اقتربتْ وأنني في المحطة الأخيرة وبحاجة لمن يسمع قصتي الأخيرة فلم أجد أفضل منك ولو كنت على بعد آلاف الأميال. أولاً أود أن أعتذر منك على بعض الوقائع التي حرَّفتها قليلاً في قصصي أحيانًا لرغبتي في جعل القصة أجمل وأحيانًا تلبيةً لنداء داخلي يدفعني دفعًا إلى إثارة بعض الغبار من حولي ولهذا أسباب ستعرفها اليوم. من أين ابدأ؟ سأبدأ من المعلومة الأهم والتي ستصدمك بكل تأكيد. سأبدأ بأن أفشي لك أحد أكبر الأسرار في حياتي ولا أعرف لماذا أفعل ذلك الآن! أعتقد أنها الرغبة في التخفف من كل ما يعيقني في رحلتي الأخيرة. هل تذكر حين حدَّثتك عن "المهلهل" والسيدة التي وجدها في أحد مستودعات المرفأ ومعها الطفل؟! لا بد أنك تتذكر ذلك فقد أعجبتك الحكاية. وقتها ادَّعيتُ أنها قصة من خيالي وأقنعتك بذلك لكن الحقيقة يا صديقي غير ذلك. الحقيقة هي أن القصة كانت حقيقية وأظنها القصة الحقيقية الوحيدة التي سمعتها مني! يا سيدي، الطفل في هذه القصَّة هو أنا والسيدة هي أمي التي اختطفها أحد وجهاء المدينة الفاسدين اللذين حدَّثتك عنهم ذات مرَّة وحبسها في مزرعته البعيدة لعدة أشهر ثم عندما تبين أنها حامل منه طردها في ليلة ظلماء ولم تتجرأ على العودة إلى بيتها لأن أخوتها كانوا سيذبحونها لو قبضوا عليها فالتجأت إلى أحد أقاربها في ضاحية المدينة إلى أن ولدتني وفي هذا الظرف الرهيب عرف أخوها الأكبر (خالي العظيم) مكانها فهاجم البيت مدعومًا من قبل العائلة واستطاعت أمي الفرار بأعجوبة على عكس مضيفها الذي تم الاعتداء عليه وكاد يلقى حتفه لاعتقادهم أنه الفاعل ولم ينجُ بحياته إلا بعد أن تدخل الكبار واستمعوا لقصته التي صدقوها أخيرًا وعفوا عنه. بقيتْ والدتي مشردَّة لعدة أيام قبل أن تهتدي لمستودع الحبوب حيث وجدها "المهلهل" وأنا معها. فأحبها من النظرة الأولى وساعدها كثيرًا فكان يأتي لها بالطعام والملبس وكل ما تطلب وصنع لها في آخر المستودع غرفة صغيرة خفيَّة من أكياس القمح لها باب خشبي بسيط ومدَّد لها سرًا أنبوب ماء وهكذا صارت تشعر بالأمان قليلاً وبدأت تشعر بالحب تجاه "المهلهل". وهكذا يومًا بعد يوم تطورت علاقتهما شيئًا فشيئًا حتى اتفقا أخيرًا على الزواج وبدأ الرجل البحث عن غرفة تليق بحبيبته وابنها. ملاحظة: أرجو أن لا تدقق أيضًا على طريقة عرضي للأحداث فأنا أخوض تجربة الكتابة للمرة الأولى. أضحكتني الملاحظة وتخيَّلت "نعمة" بشاربه الهتلري يضحك ويضرب بكفه ركبته. مرَّ هذا المشهد بخيالي بسرعة خاطفة وتابعتُ القراءة: في يوم من الأيام عاد مساءً وتكاد الأرض لا تحمله من السعادة إذ استطاع أخيرًا تأمين العشِّ المطلوب وعندما وصل المستودع ودخله أحس بحركة مريبة وشاهد رجلاً يركض باتجاهه قاصدًا باب المستودع يريد الهرب. كان يحمل على حضنه لفَّة بيضاء كانت "أنا"! وبيده الأخرى كان يحمل خنجرًا ما زالت أثار الدماء بادية عليه. ساعدت الإضاءة القوية في المستودع "المهلهل" والتي حرص سابقًا على وجودها من أجلي وأمي، ساعدته كثيرًا في التصرف إذ عندما رأى الرجل حاملاً الخنجر وأنا على حضنه فهم الوضع فورًا فاعترض طريقه واشتبك معه واستطاع تخليصي من بين يديه لكنه تلقَّى طعنة في خاصرته كانت لتقتله لولا تلافيه لها بحركة سريعة جعلت الخنجر يمس الجلد مسًا ويشقُّه بطول عدة سنتيمترات. حاول الرجل الإفلات من جديد إلا أن "المهلهل" استعاد زمام المبادرة وقبض على ذراع الرجل الحاملة للخنجر بيده وهجم مستميتًا على رقبته وأطبق فكيه عليها بشكل عنيف وبقي كذلك حتى خرَّ الرجل صريعًا يتخبط بدمه الذي صبغ وجه ورأس "المهلهل" فبدا كأسدٍ أنهى على فريسته للتو! نهض مسرعًا بعد تأكده من موت الرجل وهو لا يزال يحملني على حضنه وركض باتجاه أمي ليراها متمددة في بركة من الدم ومذبوحة من الوريد إلى الوريد. بعد هذا الموقف الرهيب لم يفكِّر "المهلهل" طويلاً بل بدأ العمل بشكل سريع كأنه كان يتحضر لذلك فقام بجر الجثتين إلى زاوية قصية ولفهما ببعض الخرق ونظف المكان جيدًا حتى أعاده كما كان. ثم أخذني وذهب إلى صديقه "العم بلال" وروى له القصة من البداية إلى النهاية طالبًا منه المساعدة في أخفاء الجثتين فلم يتردد الرجل وذهبا معًا بعد أن وضعاني عند إحدى قريبات "المهلهل" فسحبا الجثتين ووضعاهما في قارب ثم جدفا إلى عرض البحر وقاما برميهما بعد أن أثقلاهما ببعض الحجارة التي جلباها معهما من البر لهذه الغاية. وعلى عكس كل الجرائم لم تُكشف هذه الجريمة أبدًا ولم يعرف أحد مصير الشاب الذي اختفى فجأة دون سابق إنذار، كذلك قصة أخته (أمي) بقيتْ سرًا لم يعرف به سوى "المهلهل" و"العم بلال" وأنا فيما بعد، وها أنت الآن عرفت. كنت أقرأ وتكاد أنفاسي تتوقف. إذا هذه قصتك يا صديقي؟! هذا ما يدعوك إلى إثارة الغبار من حولك من خلال قصصك الجميلة (الكاذبة). لقد نجحت بهذه الإستراتيجية فعلاً. لقد استطعت بث عدد هائل من الأكاذيب والقصص حولك تتضارب فيها الأحداث والوقائع والتواريخ المتناقضة حتى بات من المستحيل القبض على خيط يوصل إليك. تابعت القراءة وعرفت أن أغلب القصص التي كان يرويها لي لا أصل لها كما توقعت تمامًا فهو لم يتزوج أصلاً ولا أولاد لديه ولم يرسم لوحة واحدة في حياته وفوق ذلك فقد ترك المدرسة باكرًا ولم يخطو خطوة واحدة في الجامعة. وكل التواريخ التي ذكرها كانت وهمية إذ أن حادثة "المهلهل" مع أمه في المستودع كانت قبل ذلك بكثير وعمره نفسه كذلك لم يكن دقيقًا. "العم بلال" ويا لهول المفاجأة لم يكن مصريًا!! ولم تحترق سفينته بل احترق قاربه الصغير والسفينة التي احترقت فعلاً كانت سفينة عابرة لا أحد يعرف عنها شيئًا. كنت أقرأ وأضحك وأبكي وأشتم "نعمة". أعجب به تارة وتارة أخرى أحقد عليه! أي خيال يملك هذا الرجل وأي روح يحمل بين جنباته. أحببتكَ يا "نعمة" أحببتكَ رغم كل شيء. كم كنت ستكتب قصصًا رائعة لو أنك تعلمت ووظفتَ هذه الموهبة في الأدب! كم كنت ستسعد أناسًا بقصصك وكم كان سيتعلم منك العشاق. يا "نعمة" يا "نعمة" الخبيث الجميل! إذًا لا سمكة و لاخاتم ولا قطط مبقورة البطون! من أين أتيتَ بكل هذا يا رجل وأي بئر تحوي في داخلك أيها الصديق. يا "نعمة" جعلتني سعيدًا لسنواتٍ وربما غيَّرتَ مسار حياتي كلَّها وأنتَ لا تدري ماذا فعلت. يا "نعمة" ربما كانت الحياة ظلمتكَ كثيرًا وآلمتك فعشتَ ناقمًا لكنك يا "نعمة" كنتَ نعمة علي. تابعت من جديد القراءة وفي كل سطر كنت أكتشف شيئًا جديدًا عن "نعمة"، شيئًا مذهلاً يجعلني أعجب بقدرات هذا الرجل أكثر. وكم ضحكتُ حين قرأتُ ما كتبه في آخر الرسالة إذ أصرَّ أن يعود "نعمة" الذي أعرفه. فقد حدَّثني عن المعارك التي خاضها في سبيل الوطن وبدأ بسرد أحداث عاشها حدثت قبل ولادته بفترة طويلة وضحكت أكثر حين ادعى أنه قاد إحدى معارك حرب الـ 48 (حرب النكبة) وكذلك حرب الـ 67 (حرب النكسة) مؤكدًا أنه انتصر في جميع المعارك وأنه كبد الأعداء خسائر لن تقوم لهم قائمة من بعدها واستدرك قائلاً: أعرف أن العرب خسروا هاتين الحربين لكن أنا لم أخسر، صدِّقني لقد ربحت. فليخسروا هم، أنا انتصرت. أخيرًا جاءت الخاتمة والغريب أن "نعمة" كتب كلمة "خاتمة" في نهاية الرسالة ثم وضع عدَّة نقاط وتابع: أذكر أنَّك طلبتَ مني مرَّة أن تكتب ما أقصُّه عليك ليقرأه الناس. وقتها قلت لك كما أذكر: لا أريد أن أُسجن في كتاب. واليوم أعدتُ النظر بهذا الموقف ورأيت أن لا بأس بذلك بعد أن جرَّبتُ واختبرت سجن الحياة. أخيرًا، وفي الختام، هل تذكر "العم بلال"؟ هل تذكر أنه تزوَّج "أمل" ومات دون أن يكون عنده أولادًا؟ لا بد أنك ما زلت تذكره. "العم بلال" يا صديقي وبعد أن تأكد أنه لن يرزق بأولاد طلب مني أن اسمي ابني سواء كان صبيًا أو بنتًا، طلب مني أن أسميه "أمل" وأنا كما عرفتَ الآن لم أتزوج ولم أرزق بأولاد لذا أنقل لك رغبة "العم بلال" راجيًا أن تسمي ابنك أو ابنتك "أمل" لربما يكون حقًا أنَّ لكل امرئ من اسمه نصيب فينالنا بعضه من أبنائنا بعد أن فشلنا بمنحهم إيَّاه. انتهت الرسالة بهذا الشكل وبدأت عندي الأفكار تتكاثر مثل الفطر. بقيتُ مشغولاً برسالة "نعمة" لعدة أيام. قرأتها أكثر من مرَّة وفي كل مرَّة كنت أحبه أكثر وأجد نفسي مدينًا له أكثر وأحزن عليه أكثر. كان تاريخ كتابة الرسالة يشير إلى عدة أشهر مضتْ. يبدو أنَّ "نعمة" كتبها على مراحل وظهر ذلك من تغير لون الحبر وانسياب الخط. شعرت برغبة شديدة بالاتصال بالوطن والاستعلام عن "نعمة" وعن صحته إلا أنني كنت أرتجفُ كلما ذهبت إلى كشك الهاتف وأمسكتُ بالسماعة. حدسي كان يخبرني أن "نعمة" رحل قبل أن تصلني هذه الرسالة ولم أكن بحاجة لحزنٍ جديد. كنت أريد أن يبقى "نعمة" حيًا إلى أن أعود، كنت أريد أن أصطحب يومًا ابنتي "أمل" إلى مقهاه ليقص عليها بعض قصصه ربما حينها سيكون الوضع قد تغير وقد تسمع "أمل" منه قصصًا جديدة، قصصًا حقيقية، وربما تنقلب الأدوار وتُسمعنا "أمل" قصصها التي فيها من اسمها نصيب. *** *** *** عن صفحة الكاتب على فيسبوك |
|
|