|
التؤامة والحرب
لا يقبل الإنسان واقع الحرب، يحتاج إلى الكثير من الوقت والألم حتى يسلِّم به رغم قيام الدول إجمالاً بتحضير قاطنيها لذلك على مستويين: مستوى دائم منخفض الصوت كأنه صوت خلفي مكرَّر يعيد مقولات العسكرة والخطر والتأهب والأعداء، ومستوى عال النبرة مباشر يقوم على الأول ويكون نتيجة قرار تم اتخاذه من قبل الساسة أصحاب العلاقة، ويتم ذلك عبر التجييش الإعلامي الأيديولوجي الوطني الديني وغيره. وعادة ما يكون هناك متسع من الوقت بين قرار الحرب ووقوعها بحيث يقوم الإعلام بملئ الناس نقمة وكرهًا وخوفًا... إلخ بما يمهد للعنف القادم، فإن حدثتْ الحرب كان الواقع مهيأ لها وإن لم تحدث يعود التغني بالسلام والأمن والنصر إلى الواجهة، ودائمًا على خلفية صوت الحرب الخفيض. في سوريا لم يحدث شيء من هذا فقد وجد الناس أنفسهم في واقع عنف معمَّم غير مسبوق في العصر الحديث، مارسته الدولة أولاً ضد معارضيها، ثم هيأ له الإعلام العربي وحرَّض عليه ووجهه مستندًا إلى مواقف عبَّرت عنها الدول المؤثرة على الوضع السوري من خلال منحها المقاتلين ضمانات شفهية محرِّضة – ضمانات الخطوط الحمر التركية مثلاً. وقد رفض السوريون قبول الحرب فترة طويلة مؤكدين براءتهم وإنسانيتهم في وجه تبريرات العنف الكثيرة التي تشابهت كما في كل حرب: الوطن، الأمن، الدين، ودائمًا الإنسان، الإنسان ذاته التي تقتله الحرب هو مبرر قيامها وسلامته وحريته وأمنه هدفها. نعرف أن لا أحد يقبل دعم الحرب دون حامل أخلاقي عالٍ، فكل الدماء التي تراق تحت رايتها، وخصوصًا من حيث أنها تفتح الأبواب واسعة للكثر من تجار الدم على كل الصعد مما يعني إطالة أمدها إلى أقصى حد ممكن، لا يمكن أن يُقبل ضميريًا من قِبل من تقع عليهم فجائعها ومن يقومون بهذه الفجائع، دون أن يعلو صوتٌ قديم كان يكرِّر الوطن وصار مع انتقال الحروب إلى الثورات في هذه المرحلة المتشابكة يردد الحرية. الحرية التي، كما تقول حنه ارندت، تميز بين الحرب والثورة. في الحالة السورية قسر العنف الهائل الذي استخدمه النظام ضد الثورة وتدخلات الدول العربية والغربية والأقليمية الثورةَ على الوقوع في فخ الحرب الذي رسمه الإعلام بدقة، سواء عن طريق ترويج شكل طائفي للثورة يدعم مصالح رعاة هذا الإعلام أو عن طريق طمس وحجب كل المزايا التي تمنح الثورات اسمها بل استثمار هذه المزايا، كمطالب الحرية والكرامة والمواطنة، في خدمة الشكل الطائفي وتعزيزه من خلال نقلها من مكانها الفعلي الذي يمد الجسور وبالتالي ينقل فضائل الثورة إلى الآخرين إلى مكان آخر تصبح فيه هذه الفضائل فضائل طائفية. عنون الإعلام ثورة سوريا بالحرب منذ بدء الدعم (المحسوب) شبه العلني للسلاح إلى المعارضة التي قُسمت إلى معارضة سياسية فندقية مؤتمراتية إعلامية ومعارضة مسلحة تحولت في وقت قصير إلى حامل "الثورة-الحرب" الرئيسي. وفي حين تم توجيه المجريات العسكرية على الأرض من خلال تفضيلات (داعمي) "الثورة" بالسلاح، وتم من خلال ذلك تقليص الثورة لتصبح حربًا على النظام فقط، قامت المعارضة السياسة بمحاولة ملء الفجوة بين الثورة والحرب من خلال التذكير بالسلمية والمظاهرات، ومن حين إلى حين التحدث عن الحرية وكرامة المواطن. لكن عدم الاتساق بدا ويبدو واضحًا في مثل هذه العلاقة بين المعارضتين خصوصًا عند مقارنته مع ما بقي من الثورة الفعلية ممثلاً بمتظاهري بستان القصر في حلب وكفرنبل في إدلب، مثلاً لا حصرًا.
في الحرب تحدث تؤامة للأطراف المتصارعة على العكس من الثورة التي تقوم على نفي هذه التؤامة وتعميق الاختلاف بين طرفين: دعاة الحرية وممارسو الاستبداد. ورغم أنه من المؤكد أن لا ثورة نظيفة بالمطلق فإن احتفاظ الصراع بهذا الاختلاف جوهري للحفاظ عليها من السقوط في متاهة التؤامة. عندما تصر المعارضة السورية على التشبث بأساليب النظام الذي قامت الثورة ضده فإنها أساسًا تعيد استنساخه وتصبح شريكته في هذه الحرب مهما حاولت التملص من ذلك. قال أحد المعارضين منذ وقت قريب ردًا على سؤال عن الرهان على الحل العسكري مهما كان الثمن بقوله ما معناه أن سوريا دُمِّرت تقريبًا وبقي القليل من الأحجار فلا بأس بدمارها؛ هذا المنطق الذي يتجاهل أن ما يُدمَّر ليس الأحجار بل الأرواح ومستقبل من بقي حيًا، ويصر على أحقيته في الوصول إلى هدفه – الذي كان حرية الإنسان وحياته وكرامته وأصبح إسقاط النظام – بغض النظر عن الطريقة التي يستعين بها لا يمكنه بعد الآن انتقاد النظام على استخدامه الحل العسكري ونفي أية إمكانية لحل آخر. ومن الواضح أن الواقع الذي خلقه عنف النظام اللامحدود يتطلب التعامل معه بغير منطق العنف اللامحدود الذي تدعو إليه وتراهن عليه شخصيات معارضة بارزة مؤجلة كل شيء إلى مرحلة ما زالت في حيز التوقع لا غير. في الحرب تلتبس الحقوق فما أن تشرِّع قتل "العدو" حتى تصبح شرعية مطالبك وشرعية مطالبه في كفة واحدة، وتصبح مسألة من البادئ ومع من الحق في المرتبة الثانية خلف العناوين العريضة عن انتصارات وانسحابات وأعداد قتلى من طرفين وردود فعل على المعارك وتحليلات لها وتوقعات عنها... إلخ. حقي كشعب في الحرية والحياة يُصادر لصالح حق "عدوي" في الحياة والحرية. يبدو الأمر شبيهًا بمهزلة فالواقع واضح: المجرم واضح والضحية واضحة، من يمارس الاستبداد واضح ومن يريد الحرية واضح، من ثار من أجل الحق واضح ومن قتل من أجل الاحتفاظ بالسلطة واضح... إلخ. نعم، هذا كان هو الحال قبل الانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة المسلحة والتي نقلت الحالة إلى حرب. في الحرب لا شيء واضح: جميع المدنيين ضحايا، جميع المجبَرين على القتال ضحايا، كل من يفاخر بالقتل والسلاح مجرم. للعنف قانونه الحتمي بتوليد نفسه، ولا يمكن كسر هذه الدائرة إلا بعمل معجز لا ينتمي إلى العنف حتمًا. عندما تم تشكيل الجيش الحر كان الهدف حماية المظاهرات السلمية وتدريجيًا صار الدفاع عن النفس ولاحقًا صار الهجوم وتحرير المدن والقرى. ترسَّخت لغة الحرب وتراجعت لغة الثورة. صار الحديث في الشأن السوري حديثًا عسكريًا عن مواقع ومعارك وغيرها، ومن بين هذه الأنقاض تظهر لغة الثورة من حين إلى آخر في لافتات أو مظاهرات يجب أن ننتبه إلى أنها تنتقد طرفي النزاع، وهذا هو جوهر الثورة التي قامت أصلاً لنيل الحرية لا للوصول إلى السلطة. أما المعارضة التلفزيونية بمعظمها فما زالت تستخدم خطاب الثورة السلمية كلما جوبهت بسؤال فعلي يتجاوز مُكرَّر كونهم ضحية إلى حلٍّ يوقف هذه التضحية التي لا تتوقف، مبررين عنف المعارضة المسلحة بعنف النظام. وفي هذا التفصيل الأخير تنعدم كل جدوى من محاولة إيجاد حل؛ فالكل مجرم وضحية؛ والكل يسوق ما يدعم وجهات نظره من نفي الإجرام عنه والإبقاء على الضحية. تكرار دائم مع تغيير أسماء البلدان والأشخاص المسؤولين عن ترويج العنف والحرب كحل للعنف والحرب. يقول رينيه جيرار في كتابه العنف والمقدس: "ما من أحد لا يحلم بعنف يختلف جذريًا عن كل عنف سابق، عنف حاسم يضع حدًّا للعنف بشكل قاطع ونهائي". حدث مثل هذا في ليبيا ولم يحدث؛ حدث أن وضع العنف حدًّا لنظام القذافي ولكنه لم ينهِ العنف ولم يبن وطنًا. مأزق الثورة السورية أنها انطلقت من أساس صحيح وبالتدريج، وبوجود عوامل خارجية ضاغطة من مثل التدخلات التي لا صلة لها بأساس الثورة والعنف المعمم من قبل النظام، انتقلت إلى مكان مختلف تمامًا. يجب الاعتراف بهذا والوقوف أمامه وجهًا لوجه. يجب أن نرى أنه لا يمكن للعالم أن يدعم أيديولوجيا جبهة النصرة إلا بالحدِّ الضامن لخراب البلد، وعندما تظهر بوادر انتصارها سيتدخل هذا العالم لمنع هذا الانتصار-الهزيمة. هذه ليست مؤامرة على الثورة السورية، (المؤامرة) حدثت عندما صارت أيديولوجيا جبهة النصرة ممثلةً للثورة السورية والباقي تحصيل منطقي لنتائج هذا التمثيل. *** *** *** |
|
|