|
كيف ينظر اليابانيون إلى العرب
العرب وجهة نظر يابانية، تأليف نوبوأكي نوتوهارا أستاذ الأدب العربي المعاصر في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية. يقع الكتاب في 141 صفحة من القطع المتوسط، طبع في دار الجمل 2003. والجدير بالملاحظة أنَّ الكتاب مدوَّن باللغة العربية، وليس مترجمًا عن اللغة اليابانية، لأنَّ المؤلِّف من المختصين بالأدب العربي. نوتوهارا ينقل انطباعاته عن العرب إنَّ الكاتب لم يُنصِّب نفسه كحَكم أو ناقد للشخصية والمجتمع العربي، بل هو ينقل انطباعاته الذاتية عمَّا رآه خلال تنقُّله بين الدول العربية، إذ أقام في ريف مصر وتعامل مع البدو في بادية الشام وزار حضرموت في اليمن، بالإضافة إلى دراسته وقراءته عن هذه المجتمعات. فقد كان ولمدة 40 عامًا طالبًا في قسم الدراسات العربية ثم مدرِّسًا للأدب العربي. حبُّه للغة والثقافة العربية واضح جدًا، هذا ما يؤهِّله للكتابة عن العرب، دون أن يجابه بنقد يغالي في رفض أن يكتب أجنبي عن العرب، فكتابة أمثال نوتوهارا عن العرب قد تسهم في عملية النقد من الخارج، التي تبيِّن لنا أمورًا لم نلتفت إليها سابقًا. كما أنَّ دراسة نوتوهارا تنفع علماء الاجتماع الذين يحلِّلون المجتمعات العربية كثيرًا، فهي تقدِّم صورة صادقة عمَّا عاينه ولمسه على أرض الواقع، وعلى الرغم من قلَّة مثل هذه المحاولات إلا أنها موجودة على أيَّة حال، ويجب أن نعطيها مكانة مناسبة وعدم تهميشها. العربي لا يعيش إنسانيته في المقدمة يشير الكاتب إلى – المعنى الذي طالما عشنا معه – غياب إنسانية المواطن العربي. فالمجتمعات العربية تفتقر إلى العدالة الاجتماعية، "المبدأ الأساسي الذي يعتمد عليه الناس"، ممَّا يعني غياب سيادة القانون وحقوق الإنسان، والديمقراطية، وهي المفردات التي نسمع عنها كثيرًا في الإعلام ولا نرى تطبيقها على الإطلاق، فالإعلام لدينا تابع للأنظمة الحاكمة بشكل أو بآخر، وهو يردِّد كلمات فارغة من المعنى ولكنها تطرب السامعين. أمر آخر يشير إليه الكاتب هو انعدام استقلالية الفرد، وسيادة القمع، فكلُّ شيء يتعلَّق بالمجموعة على حساب الفرد، فالدين حصري ولا يقبل المساومات، الحاكم واحد ولا يقبل التغيير بسهولة، القيم ثابتة ولا تتطوَّر... إلخ. ولكي ننجو من هذه المساوئ التي لا حصر لها، يقترح الكاتب أن نقوم بعملية نقد للذات، نعي من خلالها أخطاءنا ونحاول إصلاحها قبل فوات الأوان. العلاقة بين الأنا والآخر يناقش الكاتب موضوعًا شيِّقًا لم يحظى بعد بالاهتمام الكافي، وهو "علاقة الأنا بالآخر" في مجتمعاتنا التي تغيب فيها أبسط أسس الديمقراطية والتعددية الفكرية لا ننتبه إلى وجود "الآخر" علاوة على أن نعطيه حقَّه في أن يكون مختلفًا عنا، فثقافتنا مبنية على إرث طويل من الإقصاء والتكفير والنفي بكلِّ بساطة. والجدير بالذكر أنَّ ما يقصده الكاتب من كلمة "الآخر" هو المجتمعات لا الأفراد، ولهذا يؤسِّس حلولاً عامة، تتعلَّق بالإقرار بوجود الآخر المختلف، ثم تقبُّله كما هو، وبالطريقة التي يعبِّر بها عن نفسه، لا كما نتصوَّره، أو كما تمَّ إخبارنا عنه. وأمر آخر لا يقل أهمية هو ضرورة عدم إسقاط قيمنا وطريقة فهمنا للواقع الموجود في مجتمعنا على المجتمعات الأخرى، بل نحافظ على الخصوصية الموجودة لكل مجتمع وندرسه من خلال هذه الخصوصية، وفي هذا الصدد يقول الكاتب: إنَّ علينا أن نقبل قيم المجتمعات الأخرى كما هي دون أن نشوِّهها، أو أن نخفِّض قيمتها على ضوء قيمنا نحن، وعلينا إذن أن نرى المجتمعات الأخرى كما هي، وأن نقبلها كما هي عليه. (ص 21-22). بين المجتمع الياباني والمجتمع العربي يعقد الكاتب مقارنات كثيرة بين المجتمعين الياباني والعربي، ويركِّز على الاختلافات الموجودة بين هذين المجتمعين في نواحٍ عديدة، صحيح أنَّ المجتمع العربي لا يرقى إلى مستوى المجتمع الياباني في كثير من الأمور، إلا أنَّ المجتمعين يحتويان على نفس المكوِّنات، التي تجعلهما يواصلان وجودهما، وهي "الناس". لكن النقاط التي يجب التركيز عليها هي طبيعة الحياة والحرية في كل من المجتمعين، مثل القمع، الخوف، وعدم الإحساس بالمسؤولية... إلخ. وبديهي أن مجتمعاتنا تعاني بشكل مكثَّف من هذه الأمور، إلى درجة تجذُّرها في جميع أنماط حياتنا، ونموذج على هذا الأمر قول المؤلف: عندنا في اليابان نقول عندما لا نستطيع أن نتكلم بحرية: عندما أفتح فمي فإن هواء الخريف ينقل البرد إلى شفتي. والعربي عندما لا يستطيع أن يصرح بما في نفسه عليه أن يقول تحت لساني جمرة. ذلك أنَّ ظروف المجتمع العربي الشديدة تحتاج إلى جمرة بدلاً من تعبيرنا عن البرد. (ص 9) وهذا يعني أن الخوف موجود عندنا حتى في أمثالنا الدارجة، هذا في حين أن الياباني لا يخاف من سلطة ترهبه أو تؤذيه، فخوفه من الزلازل وما شابه هو شغله الشاغل. وعلى الرغم من كلِّ ما ذكرناه، يجب أن لا يغيب عن بالنا أن هذه المقارنات مجرَّد انطباعات شخصية للكاتب أو مجموعة أحداث حصلت له، وليست دراسات أو إحصائيات يعول عليها كثيرًا، وقد رأى نفسه جديرًا وأهلاً للكتابة عنها بعد أن عاش في كلا المجتمعين وحصل على خبرة جيدة بهما. انطباعات الأجنبي عنَّا الصورة التي يكوِّنها شخص أجنبي عاش مدَّة لا بأس بها في العالم العربي قد تكون فظيعة لو انتبهنا إليها أو لاحظناها جيدًا، وإذا كان نوتوهارا متفهِّمًا فغيره لا يستطيع أن يكون بهذا القدر من سعة الأفق، فقد تعرَّض هذا الرجل إلى مختلف التجارب التي نشاهدها يوميًا دون أن نهتم بها، وسجل جميع ما مر به لكي يذكرنا بالواقع المزري الذي نعيش فيه، من رشوة وسرقات – التي تعرَّض لها عدة مرات – الموظفين الحكوميين وتسول الأطفال، كل هذا وغيره لا يستطيع الأجنبي أن يفهمه لأنه من بلد لا توجد به مثل هذه الحالات. والتفسير الذي يضعه الكاتب هو وجود القمع والتسلط الحكومي على الشعب، فلا أحد يستطيع أن يتناول مواضيع "السياسة والجنس والدين أيضًا"، وهذان العفريتان (القمع والتسلط) ناتجان عن غياب الديمقراطية، "فالحكم الطويل يعلم الحاكم القمع إذا كان لا يعرفه". (ص 37). الازدواجية مرَّة أخرى ازدواجية الفرد العربي، فكرة طرحها ودافع عنها د. علي الوردي كثيرًا، وقد لا نجد كتابًا واحدًا له يخلو من ذكر هذا المصطلح. وملخَّص هذه الفكرة أنَّ الفرد العربي يستخدم نمطين من الشخصية بحسب طبيعة الموقف أو الشخص الذي يواجهه، فهو أمام السلطان والمسؤول خاضع ومتباكي، ولكن عندما يمتلك السلطة يصبح متعاليًا وكأنه شخص آخر تمامًا. نفس هذه الفكرة يطرحها الكاتب نوتوهارا ويدعمها بكثير من الأمثلة التي رآها ولم يفهمها إلا بعد الرجوع إلى "الازدواجية" كتفسير، وهو يضيف كون الثقة هي الأساس الذي يتعامل به اليابانيون فيما بينهم، والكاتب شخصيًا يحاول أن يعلم تلاميذه هذا الأمر، ولهذا فهو لا يراقب الطلاب في الامتحانات، بل يتركهم لحالهم ويذهب إلى غرفته الخاصة، وهو على ثقة تامة أنَّ الطالب الغشَّاش سيتمُّ تأنيبه من قبل أصدقائه ولن يسمح له أحد بهذا العمل. أمَّا في المجتمع العربي فالشرف، والعار، والمحسوبية وأمور أخرى كثيرة تستبدل بالثقة، وهنا يجب أن ننقل مجموعة من التساؤلات المهمة التي طرحها الكتاب حول الثقة، وهي: إنني أسأل الأسئلة التالية البسيطة عن المجتمعات العربية: - هل يثق الآباء بأبنائهم؟ وهل تثق الزوجة بزوجها؟ وهل يثق الفرد بأقربائه وجيرانه وأبناء مجتمعه؟ - هل يثق المواطن بأحزابه السياسية؟ أم هل يثق بحكامه؟ - هل يثق المواطن العربي بالصحافة والقضاء والقوانين العامة؟ - هل يثق العاملون بإدارتهم وأرباب عملهم؟ - هل يثق الفلاح بالتاجر الذي يشتري محصوله؟ وهل يثق المشتري بالبائع؟ إلى آخر هذه السلسلة عن الأسئلة الموجعة الجارحة. إنَّ الثقة لا تستورد ولكنها تنبت في النفوس وتنمو برعاية المجتمع كله. فمتى تعتمد المجتمعات العربية على رباط الثقة؟ (ص 64). الكرم والضيافة العربية عاشر الكاتب البدو في بلاد الشام طويلاً، وأحبَّ الفلاحين في ريف مصر، وأكثر ما أعجبه فيهم هو أخلاق الضيافة والكرم، ذلك أنَّ اليابانيين لا يملكون مثل هذه الثقافة، فـ"الضيف الياباني لا يطلب وإذا حدث وطلب فإنَّه يفعل ذلك بخجل". ونتيجة لهذا الحال، يستغرب نوتوهارا بل يصاب بالدهشة والإعجاب من الكرم العربي، فالفرد العربي يتَّصف بالكرم حتَّى في حالة العوز أحيانًا، ولا يسدُّ بابه أمام أيِّ ضيف قادم في جميع الأوقات، سواء وقت الراحة أو وقت العمل. وهذا الشكل من العلاقة بين الزائر والمكان المزار لا يحدث باليابان سوى في المعبد، فباب المعبد لا يغلق في وجه أحد، وهو دائم الترحيب بالناس، ولهذا يشبه الكاتب بيت أحد أصدقائه العرب الكرماء بالمعبد الياباني. الأدب كوسيلة للفهم بما أنَّ اختصاص الكاتب هو الأدب العربي المعاصر، فمن الطبيعي أن يستخدمه كوسيلة لفهم حياة وطبيعة العرب، وهو يستخدمه في قضيتين أساسيتين هما: 1. القضية الفلسطينية: يمثل الأديب غسان كنفاني مرشدًا فكريًا للكاتب، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث أنه لا يخفي شدة إعجابه به ومدى تعلُّمه منه، بالإضافة إلى حادثة حصلت له في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في سوريا حيث تأثر بحالة اللاجئين جدًا. وعلى إثر هذا كله يرى أن الجرائم بحق الفلسطينيين تقع على عاتق العالم أجمع لا على الإسرائيليين وحدهم، فالعدالة والإحساس بالمسؤولية يجب أن لا يغيبان عن البشر في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية التي تترجم ببساطة إلى أن جماعة بشرية جاءت من خارج فلسطين واستقرت فيها بقوة السلاح، وشردت الشعب الفلسطيني واغتصبت وطنه. ورغم هذا كله فالكاتب لا يعادي أحدًا، فهو لا يكن أي نوع من الكره لليهود، بل ينادي بحقهم في حياة كريمة لكن ليس على حساب حياة الآخرين وأمنهم، فإيجاد حل لمشكلة ما لا يتمُّ بخلق مشكلة أخرى. 2. حياة البدو: أعلن الكاتب حبه لحياة البادية أكثر من مرة، وقد عاش فيها فترات طويلة، وهو بكتابته عن البدو يحاول أن يغير الصورة النمطية التي كونها الإعلام الغربي عن هذه الثقافة الخاصة، ومصدره هو الاحتكاك المباشر بعالم البداوة أولاً، وما كتبه الأديب إبراهيم الكوني في وصف البادية ثانيًا. والكوني ينتمي إلى "الطوارق" وهم البدو الذين يعيشون في الصحراء الليبية، وعليه فإنَّ كتابته عنهم تشبه المرآة التي تعكس صورة لما يعيشونه فعلاً. ولهذا قام الكاتب بترجمة بعض أعمال الكوني من أجل التعريف به للقارئ الياباني. 3. المجتمع المصري: ذكر الكاتب أحداثًا كثيرة وقعت له في مصر، وأشار إلى المجتمع المصري مرارًا، وهو معجب بهذا المجتمع جدًا، ومرة أخرى يتَّخذ الأدب وسيلة لفهم المجتمع المصري إلى جانب معرفته المباشرة به، والأديب يوسف إدريس هو مرشده في هذه المرة. كتب إدريس القصص والروايات التي تنقل طبيعة المجتمع المصري إلى القارئ العربي بشكل عام والقارئ الأجنبي بشكل خاص، وهو يركز على الفلاحين باعتبارهم الذخيرة المثلى التي ستحدد مصير مصر. فالمثقفون ورجال الدين وسكان المدن لا يمثلون ضمانًا لمستقبل مصر في نظر إدريس. وهو بهذا أديب الشعب لا أديب السلطة، وقد عبَّر عن مواقفه بكل شجاعة، ولم يتوانى في الدفاع عن قضيته أبدًا. مقتطفات من الكتاب في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود القمع وتذوب استقلالية الفرد وقيمته كإنسان يغيب أيضًا الوعي بالمسؤولية. ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤوليته عن الممتلكات العامة مثل الحدائق العامة والشوارع ومناهل المياه ووسائل النقل الحكومية والغابات، باختصار المرافق العامة كلها. ولذلك يدمرها الناس اعتقادًا منهم أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم. (ص 9-10). إنَّ الإنسان بحاجة إلى النقد من الخارج ومن الداخل أيضًا مهما كان موقفه أو وظيفته أو صفته الاجتماعية. وبرأيي إنَّ الشخصية أو الحزب السياسي أو الهيئة الاجتماعية التي لا تقبل النقد تنحط وتتدنى يومًا بعد يوم حتى تصل إلى الحضيض. (ص 12). هكذا يبدأ القمع من سلطة الأب في المنزل إلى سلطة المعلم في المدرسة وهكذا يألف الطفل القمع كجزء من وجوده هذا إذا تغافلنا عن قمع الفقر والجوع الذي يطال قسمًا كبيرًا جدًا من أطفال الوطن العربي. (ص 40-41). إنني شبعت جدًا من كلمة (الديمقراطية) وكل من له علاقة بالكتَّاب العرب يعرف معنى التخمة من كلمة (الديمقراطية). وهذا الشبع الزائد الزائف يدل بوضوح على غياب الديمقراطية. فمثلاً تجلس مع كاتب يتحدث عن الديمقراطية بلا تعب ثلاث ساعات ولا يعطي مجالاً لأحد من الحاضرين بالكلام. عمليًا هو يمارس الدكتاتورية أو على الأقل سلطة النجم ومع ذلك يشكو من غياب الديمقراطية. (ص 52-53). حكاية يرويها الطوارق: "أوصى رجل عجوز وهو على فراش الموت ابنه فقال: يا بني إذا أردت أن تعيش حياة ناجحة فلا تشرب سوى الماء الطازج ولا تأكل إلا الطعام الجيد ولا تركب غير الجمل الأصيل الممتاز. فرد الابن قائلاً: يا أبي! كيف يستطيع رجل فقير مثلي أن يفعل ما طلبت؟ قال الأب: تحمل العطش إلى النهاية عندئذ كل ماء يصبح طازجًا ولا تأكل قبل أن يعضك الجوع بقسوة عندئذ يصبح كل الطعام شهيًا، وامش إلى جوار الجمل حتى يهدك التعب فإذا ركبت أي جمل سيكون أصيلاً ممتازًا. (ص 100). *** *** *** الأوان، السبت 26 كانون الثاني (يناير) 2013 |
|
|