|
أحلام المدن المغدورة
القاهرة. دمشق. بغداد. بيروت. مدن شكَّلت واقعيًا رباعي الحداثة العربية منذ خمسينات القرن الماضي. هي مدن مغدورة، لكنها تشهد حراكًا ديناميًا فريدًا من نوعه، وتبحث عن الخروج من ركام الغدر والقتل والاستبداد، لخلق حداثة عربية جديدة، وعالم عربي جديد. كان السؤال دائمًا: "مَن سبقت الأخرى؟". الآن لم يعد ذلك السؤال ملحًا، بل لم يعد ضروريًا. لقد اكتشفنا متأخرين بعد كل هذا الخراب العميق، أن تحديث الفن لم يكن مصحوبًا بتحديث المجتمع. لكنه اكتشاف يخون الحقيقة التاريخية، بل ويزيِّف الكثير من الجدال. على الأقل يخلط الأوراق ويحكم بطريقة مبتذلة. فعليًا كانت هناك مجتمعات مدنية تذرَّع الفن بوجودها وصار يخطط لانتزاع اعترافها بحداثته، بقدرته على أن يكون خلاصًا. علينا أن نصدِّق أن الطرق الهوائية كانت سالكة بين تلك المدن الأربع وكان العصف الحداثوي يتنقل بينها بخفة ودعة. على سبيل المثال، فإن الشعر العربي بصيغته الحديثة ولد في بغداد (ينقسم النقاد فريقين في محاولة الإجابة عن سؤال من نوع مَن كان رائد هذا التحول: بدر شاكر السياب أم نازك الملائكة؟)، غير أن المسألة لم تكن بهذا اليسر لكي نفكَّ الاشتباك بين ما هو نظري وما هو عملي. كانت المدن الثلاث الأخرى قد استخرجت البشارة هي الأخرى من البئر الأولى بمواد مختلفة. لننس سعيد عقل والياس ابو شبكة وباكثير وجبران وجماعة "الديوان" ومجلة "الأديب" وحتى الجماعة السوريالية في مصر. في لحظة الفراق التاريخي تلك كان هناك أدونيس ومحمد الماغوط ونزار قباني في دمشق، وفي بيروت كان هناك خليل حاوي ويوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، أما القاهرة وهي التي كانت قليلة الشعر دائمًا فقد وهبتنا صلاح عبد الصبور ومن بعده بقليل أحمد عبد المعطي حجازي. سيقان وذئاب من المؤكد أن تلك المدن كانت تتبرج بحداثتها لكي تكون موجودة أو لتستحق أن تكون موجودة. سيقال إن بيروت كانت الأكثر تبرجًا. كانت مدينة البحر المتوسط بمثابة الغنج العربي المتمرد وقد عثر على خلاصته الذائبة. غير أن بغداد لم تكن محافظة هي الأخرى. البغداديات صرن ينافسن البيروتيات في التقاط آخر صرعات الموضة الفرنسية. المدينتان كانتا على الخطِّ نفسه. ولم تكن ذئاب السلطة قد استوعبت الصدمة. عري السيقان من تحت الميني جوب كان ظاهرة عربية مهَّدت لولادة وعي بصري جديد لدى شريحة مهمة من الشباب، هي الشريحة التي تبنَّت في ما بعد نظرية العمل الثوري والكفاح المسلَّح. ولم تكن دمشق المولعة بالانقلابات لتقع في الفخ لولا هلع الوحدة، حيث صار الغرام ناصريًا، وصارت الحداثة نوعًا من النزاع على الأصل الذي لم يكن منسيًا. لقد شكلت الناصرية عنصر إعاقة لمسيرة كان من الممكن أن تقوى بعطر الياسمين على سلطة الجامع. الوعد الناصري بكل نزاهته النظرية صنع جبلاً من أخطاء لم يُزله الانفصال. القاهرة نفسها انفصلت عن تاريخ نخبها الديموقراطي وعراقتها من جهة ما أنتجته على مستوى الثقافة المستقلة وصارت تستقوي بالرقابة على كل ما تعتبره تهديدًا لأمنها الفكري. كان توفيق صايغ مؤسس مجلة "حوار" ورئيس تحريرها، هو ضحيتها المثالية. في بغداد قرر صالح مهدي عماش أو شفيق الكمالي، وكلاهما شاعران من سلالة بعثية، وقياديان، أن يمنعا تداول مجلتي "شعر" و"مواقف" وكتب كل من يمت إلى الحداثة الشعرية بصلة، باستثناء العراقيين على مضض. هل كان مسموحًا للسوريين أن يقرأوا أدونيس؟ لا أدري. بيروت بلا قدمين مدينتا البعث وقد أصبحتا عدوَّتين في ما بعد، صارتا تصدِّران إلى بيروت بشرًا يائسين ومحطَّمين وفوضويين. بقايا شعراء وقوارب أخطأت طريقها إلى منفى لم يكن في حقيقته وطنًا مستقرًا. كان سركون بولص من أوائل الواصلين اللامعين من بغداد. نشر قصائده في مجلة "شعر"، ومن بيروت ذهب إلى كاليفورنيا ولم يعد بعدها إلا مسافرًا قلقًا. لم تتسلَّ بيروت إلا وقتًا قصيرًا. حريتها كانت نوعًا من الطعم اليائس. غدر بها أيلول الأردن الأسود، وخذلتها القاهرة حين اعتبرتها حديقة خلفية للتسويات المضنية. يومها امتزجت الحداثة في بيروت باستحقاق المقاومة الذي لا يزال يعصف بها حتى اللحظة، كما لو أنها الحائط الأخير. لم تكن فلسطين سوى الرتاج، أما خيال الأبواب فقد شمل القارات كلها. صارت بيروت مختبرًا لحداثة بلا قدمين. حداثة قول محلِّق، ولم يعد الإنجاز الفني مقياسًا للحكم. صار النضال سلمًا وكثر المنتفعون إلى أن حلَّت القيامة. حرب أهلية واجتياح اسرائيلي ووداع بدموع مهزومة وسفن كانت مخصصة لباقات زهور حملت من مقبرة. في المدن العربية الأربع، مدن الحداثة العربية الأولى، هل كانت هناك مجتمعات حديثة، بالمعنى الذي يجعلها قادرة على أن تدافع عن مفهوم متقدم لسبل العيش؟ ما نعرفه أن تلك المجتمعات لم تصمد طويلاً أمام هجمة الأرياف التي اكتسبت مع الوقت سلوكًا منظمًا. احتلال بصيغ إنسانية وضيعة. استبدال شعب مستقر بآخر مقتلع. اتسعت دمشق لتشمل ريفها. التهمت الضاحية الجنوبية بيروت. بغداد صارت ملحقة بمزاج فقراء مدينة الثورة. أما القاهرة فقد اختلط نهارها بليلها في غبش تصنعه أنفاس الهامشيين. صارت مدننا الأربع عصية على التصنيف. فهل هي بقايا مدن أم أرياف فقدت كرامتها وعزة ناسها؟ يومها وصلنا إلى عصر قصيدة النثر. حداثة مدرسية لن يكون النثر حلاًّ. أمسك المصريون برأس الخيط وصاروا يكتبون نثرًا كانوا يظنونه شعرًا. ذلك الشيء الذي يشبه الشعر كان مشكلة مصرية قديمة بامتياز. في الحقيقة فإن القاهرة كانت ولا تزال عاصمة للسرد الشعبي الرائع والمدهش ولا علاقة لها باللغة المتوترة، الهاربة من المعاجم والتي تقتنص قصيدة النثر لحظات هدأتها لتصنع من مادتها معجزاتها الصغيرة. ربما كان يوسف أدريس استثناء لا يتكرر. قصيدة النثر المصرية واحدة من أخطاء الحداثة التي لم تمض قدمًا إلى حتفها. هل صار علينا أن نصدِّق ذلك متناسين ما جرى للمجتمع؟ علينا أن نعترف أن الأنظمة السياسية نجحت خلال أربعة عقود، وربما أكثر، في أن تمحو المجتمعات. نعم، المجتمعات من فوق ومن تحت. ما لها وما عليها. في المقابل صار في إمكاننا بعد ذلك أن نجلس في الفصل الدراسي لنتحدث عن الحداثة باعتبارها واقعة أكاديمية نظيفة ولا غبار عليها. شيء من هذا القبيل كان يحدث دائمًا ليجعلنا أكثر انفصالاً عن الواقع. صارت التجربة الإنسانية موضوعًا محض دراسي. مجتمعات في قفص وأكاديميون في مختبر فضائي. عواصم من رمل "نغادر اليوم مدن العالم العربي القديم لننتقل إلى مدن العالم العربي الجديد". قرأتُ الجملة السابقة في كرَّاس دعائي لأحد المتاحف الخليجية الذي افتتح قبل حوالى سنة. كتبها بريطاني مجهول النسب والحسب. شخص لا علاقة له بتاريخ المنطقة، تهمُّه الجغرافيا أكثر باعتباره من بقايا الامبراطورية التي غربت الشمس عنها. كان ذلك الناشط الذي تسلَّم فجأةً مسؤولية إدارة نشاط نوعي في ذلك المتحف، إنما يشير نفاقًا إلى دبي والدوحة وأبو ظبي باعتبارها عواصم لما بعد الحداثة العربية. أما عواصم العالم العربي القديم التي أشار إليها فلم تكن سوى المدن المغدورة الأربع. وهي المدن التي ينبغي إلحاقها بالماضي التليد من وجهة نظره. ماضي المنطقة يوم كان هناك عالم عربي. كان الرجل معنيًا بالنظر إلى خريطة سياسية توزعت البلدان فيها بين شرق أوسط وشمال أفريقي. لكن معنى ما بعد الحداثة سيكون ملتبسًا إذا ما ارتبط بالمدن الخليجية المقصودة. فهي مدن رملية موقتة وعائمة. مدن لتسلية عابرة، وخصوصًا إذا تعلَّق الأمر بدبي. هل يمكن مثلاً التعويل حضاريًا على مدينة من نوع لاس فيغاس؟ الآن بعدما صارت دبي مرضًا عربيًا، علينا أن نفكر في مصير العواصم التي ارتبط وجودها بالحضارة العربية، في مختلف عصورها. صورتنا في القافية بغداد، القاهرة، دمشق، بيروت أربع مدن محاصرة منذ وقت طويل. محاصرة بكساد حظوظها. بمشيها عرجاء متأنقة بين الألغام كما لو أن أحدًا من قبلها لم يرشّ الشقاء على شفتيه ملحًا، برغبتها التالفة في الحضور على مسرح مهجور اتفق المقاولون على حذفه من الخريطة. هي مدن ميتة لولا قليل من الدعاية الغربية. بالنسبة إلى الغرب سيكون مخيفاً فعلاً أن تحاط إسرائيل بمدن ميتة. ما هذه الصحراء القاحلة؟ نفخوا في عمَّان، كما في البلد كله (الأردن) فلم ينفع النفخ. سنكذب من أجلنا. يكذبون من أجلنا. نكذب ويكذبون من أجلهم أيضًا. نحن حرَّاس المعنى الذائب. التماثيل من حولنا تتثاءب. زقورة سومر وأهرام الجيزة وأعمدة بعلبك والجامع الأموي. كلها واجهات سياحية. لقد هلكنا. تلفنا. استهلكنا. وماذا بعد؟ بعد "الربيع العربي" لن يطيع أحدٌ أحدًا. هذه صورتنا المباشرة. قاتلاً وقتيلاً. مريضًا ومعالجًا. فكرةً ورأسًا. عاطفةً وقلبًا. ولم تعد الحداثة تعني أحدًا. لقد استسلمت مجتمعاتنا لفجر التاريخ. ما قبله بقليل. الكاهن يرعى رعيته في حقول جرداء. شيخ القبيلة يمشي بالإبل إلى الواحة الافتراضية. ناقة صالح وقد انتقلت من المادة السائلة إلى المادة الصلبة. حجارتنا رُدَّت إلينا. البلاغة لا تنفع. هنالك فجر لطوائف تقف متأنقة في طريقها إلى البيت الحرام. ما من إسفاف. نحن نكرر عاهاتنا. الأزل يسكننا. مدننا تشبهنا. نحن نشبهها. لا فرق. الفجيعة تمشي بأقدام من سبقونا إلى المعجزات الخفية: كنا مناضلين في الأرض الخراب. البوم التي سبقت أهل الدار إلى النكبة. هل رأيت أحدًا قبلي؟ في بيروت كان المناضلون يتسابقون إلى ينابيع الثورة الدائمة. فيما كان الشيوعيون في بغداد يراهنون على ولادة كاسترو جديد من عجيزة صدام حسين، وكان البعث في سوريا يجدد قراءته للتاريخ العربي من خلال القافية "أسد إلى الأبد". وكانت القاهرة قد حسمت خيار الحرب لتدخل في عتمة سلام متعفن. ما الذي بقي إذًا؟ عواصم الشرق العربي القديم كلها صارت بائدة. ردود فعل مستهلكة. ألا يحقُّ لذلك البريطاني أن يبشِّر بولادة عواصم لشرق عربي جديد؟ بهذه الطريقة تكون الحكاية ناقصة. بين حقيقتين كنت إلى هذه اللحظة أتحدث عن مدن حقيقية. تحيا وتموت، تمرض وتشفى، تخطئ وتصيب، تحزن وتسعد، ترضى وتغضب. هي مدن حياة. تصبر حين تهزم، تتواضع حين تنتصر. تغرم ببشرها فتطوِّبهم قدِّيسين وتصنع منهم أيقونات وتخترع لهم صورًا غيبية، في الجنَّة أو في الجحيم، لا فرق. أما بالنسبة إلى مدن الخليج الذي حُرمنا دوليًا من أن نصفه بالعربي، بسبب جارتنا العزيزة إيران، وبسبب غرام بريطاني قديم، هذه المدن التي يرشحها جيش من الخبراء الغربيين الوصوليين والانتهازيين والمدسوسين وفق أجندات مخابراتية، عواصم للشرق العربي الجديد، فإن مشكلتها الأساسية تكمن في التركيبة السكانية الهشة – حيث لا تتجاوز نسبة السكان الأصليين خمسة عشر في المئة من مجموع السكان في أحس الأحوال. بحر من الأجانب وشعب يتضاءل عدده يقف حائرًا بين الصحراء وناطحات السحاب التي هي مقار لشركات عالمية عابرة للقارات. مَن الذي يقرر أن يكون حيًا في لحظة القيظ، حيث يستسلم الجميع للهواء المكيَّف وتعلو أخوَّة المصالح، حيث تتخذ الرفاهية معنى نسبيًا، ليس له علاقة بالعدالة ولا بحقوق الإنسان؟ الأهم من هذا كلَّه، أن الاصطدام بحاجز اللغة ليس صعبًا. هذه مدن تمارس شؤون حياتها اليومية من غير أن يكون لها لغة أمٌّ. قد لا تحتاج إلى العربية لو فكرت للذهاب من أجل العمل هناك. ذلك الشعب بدأ يفقد تدريجيًا لغته العربية. لغة السكان الأصليين هي مزيج من بقايا العربية ومما تعلَّموه من خدمهم من اللغات الأخرى. لقد رأيت شبابًا خليجيين لا يعرفون سوى الكلام بعربيتهم من غير أن يتعلَّموا الكتابة أو القراءة باللغة العربية الفصيحة. ناهيك أن اللسان نفسه قد تعرَّض للانحراف، فصار الكثيرون يتحدثون بطريقة خدمهم الذين تعلَّموا العربية في الشارع.
من جهة أخرى علينا الاعتراف بأن الاقتصاد الريعي الذي تعتمده دول الخليج قد أنتج
شعبًا لا يعمل ولا يصلح للعمل الحقيقي. مفهوم العمل نفسه قد تعرَّض للانحراف: من
طريق وظيفة إدارية نائمة يحصل الشاب الخليجي على دخله الشهري. أما العمل اليدوي فهو
من اختصاص أبناء شبه القارة الهندية والفيليبين واندونيسيا. العمل الفكري من اختصاص
ذوي الدم الأزرق. خمسون سنة من الأمل في الحملات الانتخابية التي تشهدها الكويت بين حين وآخر، يجتمع الكويتيون في الخيام. لمن القاعات الفارهة التي لا تخلو منها ناطحات السحاب والمزودة أحدث تقنيات التكييف إذًا؟ كنت أرى في الدوحة بين حين وآخر خيامًا نصبت بقرب بيوت هي أشبه بالقصور. حين سألت عن سر تلك الخيام قيل لي إنها المجالس. يجتمع فيها صاحب البيت لأصحابه. ألا يعبِّر ذلك السلوك عن انفصال مؤكد بين الواقع الاستعراضي والحاجة الحقيقية؟ ألا يعني ذلك أن الخليجيين يعيشون شكلاً فريدًا من نوعه من الغربة؟ لا تزال الصحراء، وهي ليست بعيدة، تقيم في أرواحهم فيما تصطدم عيونهم بمشهد المدنية الزائف، حيث تحوَّلت مدنهم مناطق للتقاطع الاقتصادي، في الأخص النوع الافتراضي منه. أنا على يقين من أن الكثير من الخليجيين يشعرون بالحزن لما انتهوا إليه. لما آل إليه مصير مدنهم. لكن قوة المال وهي التي تتحكم بالأمور، ليست خليجية خالصة. بل أن الارادة الخليجية لا تشكِّل إلا جزءًا صغيرًا من تلك القوة. علينا أن نتذكر نسبة السكان الأصليين قياسًا بعدد السكان الفعليين. المسألة نفسها دائمًا. قدرُ تلك البلدان كان مصممًا سلفًا. وهو ما كان مستحيلاً أن يحدث في مدن الحداثة الأربع إلا وفق برنامج للمحو استغرق التخطيط له وتنفيذه زمنًا طويلاً، من غير أن ينجح تمامًا. لقد أهدرت ثروات وأوقات وأنفس ومواهب وأفكار ونزوات في المكان الخطأ. كل ذلك حدث ولا يزال يحدث في المدن العربية، غير أن رصيد الأمل لا يزال مكتظًا بالبداهة. لا يزال هناك إمكان للعيش وسط جحيم زائفة. خمسون سنة من المعارك الجانبية لم تنتج يأسًا لدى شعب يمتلك لغة واضحة للتعبير. فلسطين وهي جرح المدن الأربع، أرُيد لها أن تتحول إبرة في الحنجرة، سكينًا في الخاصرة، ذرة الرمل الفالتة التي تجعل الوقت خطأ في كل لحظة تأمل. مع ذلك لم يقل أحد إن فلسطين زائدة. لم يقل أحد لنتركها لأصحابها، إلا في لحظات الحماقة النادرة. المستقبل لِمَن؟ ربما لم يكن المثقفون في مستوى المسؤولية التاريخية. لقد افقدتهم الخديعة بتقنياتها المتقدمة قوة الإيمان بما فعلوه. كانت النظرية دائمًا أقل من الفعل. تقدَّم الشعر. تقدَّم الرسم. حتى العمارة تقدَّمت، فيما بقي الفكر مترددًا بين خيارات يغلب عليها طابع الخصام بين ما هو تراثي وما هو معاصر. كان النقد عقدتنا. اليوم تشهد المدن الأربع حراكًا. كل واحدة منها تنصت إلى حيويتها بطريقة مختلفة. وكما يبدو لي فإن خريطة الشرق الجديد ستطوى، بعدما ثبت أن تركيا تقول كلامًا لا يفهمه العرب وهي في المقابل لا تفهم ما يقوله العرب، وأن إيران ماضية في احتقارها لكل ما هو عربي. الأمر الذي يعيدنا (يعيد الحكَّام مجبرين) إلى مفهوم العالم العربي باعتباره التعبير السياسي الوحيد الممكن في مواجهة التحديات المصيرية. نحن إذًا سنكون في مواجهة عالم عربي جديد، لا شرق أوسط جديدًا. في القاهرة لن يقوى "الإخوان" المسلمون على التماهي طويلاً مع الديموقراطية التي أتت بهم إلى السلطة وسيُهزَمون بأدواتها وآلياتها. في بغداد انتهى مشروع الاحتلال إلى الفشل ولم يعد أمام سماسرة ذلك المشروع سوى أن يتقاتلوا في ما بينهم أو أن يرحلوا، كل واحد بما تيسَّر له من الغنائم. دمشق من جهتها تشهد آخر الفصول في النزاع على السلطة، حيث لم تعد الانقلابات نافعة، وصار للشعب صوت وكلمة: الحرية. أما بيروت فقد وضعت كل حقائق العيش المباشر على طاولة التشريح. إما لغة لبنان موحدًا وإما لغات البلاد البعيدة. ولا بد أن تعي بيروت دورها التاريخي: بؤرة لغد هذا الشرق السعيد. لا ينفع سوى أن نكون متفائلين. في كل مدينة من المدن الأربع هناك شروط حياة تكمل ما تنطوي عليه حيوات المدن الأخرى من شروط. وعلينا أن نأمل من المثقفين، أفرادًا وجماعات أن يتبعوا أثر الخيط الخفي الذي يقود إلى روح الشعب. عليهم أن يعيدوا اكتشاف قوة الخلود في التاريخ. 28-1-2012 *** *** *** |
|
|