|
أنظمة الطُغاة لم تعُدْ قابلةً للحياة
كيف جعلت هذه الأنظمة العربية الناسَ تُفضِّل الموت أحيانًا على أن تعيش في ظلها؟ بل كيف جعلت هؤلاء الناس الطيِّبين يفضِّلون المواجهة الخطرة لهذه الأنظمة على البقاء "سعداء"، "بأمنهم"، و"بكفافهم"، و"بفقرهم" و"بضيقهم"؟ ربما نحتاج إلى كثير من المحللين النفسيين والاجتماعيين (والأنتروبولوجيين) لتفسير ذلك، وربما اكتفى كل منَّا، بمقاربة مَعيشة وعينية وسياسية وأخلاقية خاصة. لكن ما الذي جعل هؤلاء يختزنون كل هذا الخوف الممزوج بالنقمة، والكبتَ الممزوج بالغضب، والصمت المليء بالانتظار، حتى خلنا أن هؤلاء الناس فقدوا كل امكانية تحمُّل فخضعوا، ويئسوا من كل احتمال تغيير فقبلوا. هنا بالذات يمكن القول إن هذا الاختزان الشعبي بدأ، اليوم، كصمت البراكين الجوفية، أو كهدوء الينابيع الباطنية، وأنه، عن وعي أو غير وعي، عن قصد أو غير قصد، كان هناك ترقب أو اصغاء ما. أو فلنقل لحظة ما. أو بارقة ما. أو بحسب التعبير الشائع، شرارة ما نائمة. فالشرارة قد تحدث في أي وقت. في الصحراء. في الهواء. في المنزل. ولكن لكي تنتشر، وتتحول نيرانًا، تحتاج إلى بيئة. وإلى مواد قابلة للاشتعال. إلى هشيم. أو يباس. أو عاصفة. أو صاعقة. وعندها ينفجر كل شيء. تُسابق العواصفُ النيرانَ، وتسابق الناسُ الساحاتِ والميادينَ والقرى. تزحف بكل طاقاتها الطبيعية والغرائزية والجسدية والصوتية والنفسية والفكرية والغيبية. انتقام الطبيعة الإنسانية ممّن سَحقها. انتقام "الوجود" الإنساني من امتهانه. تسونامي. نعم! وكما تتأثر الفيضانات والمياه والطبيعة من "تغيير معادلاتها" واعتسافها، هكذا كان للإنسان العربي، بعد أكثر من نصف قرن على أنظمة الطغاة، أن ينفجر في كل الاتجاهات، ثأرًا لوجوده، وحياته وذلِّه واحتقاره وقتله ونهبه من قبل هذه الأنظمة التافهة. وهنا بالذات يلتقي التسوناميان: تسونامي الحرية المجسدة في التحركات والثورات الشعبية، وتسونامي القمع، والتدمير، والإبادة الجماعية، والاعتقالات والمحاكمات الميدانية واستخدام الأسلحة الثقيلة، والطائرات والدبابات والمصفحات والمدافع لدك المدن والبلدات والبيوت والمدارس والمستشفيات. إنهما زمنان التقيا ثم تواجها، بكل عنفهما وتناقضهما: الطغاة ذهلوا لخروج هذه الجموع على طاعتهم، وامتثالهم وصبرهم فلجأوا إلى أقصى أساليب القمع، مدفوعين باحتقارهم "العريق" لناسهم وبحقدهم الدفين عليهم، وبرعبهم من أن يخلعهم هؤلاء الثوار عن كراسيهم، ويفضحون تواريخهم المشينة السوداء: زمنان: زمن خروج الناس إلى الهواء ليتنشَّقوه كلَّه دفعة واحدة، وإلى الضوء ليتنفسوه بصدورهم وقلوبهم ويمتصوه بعيونهم وحواسهم وإلى الميادين ليتحسسوها بأقدامهم وأجسادهم وإلى الحرية. وزمن آخر هو خروج الطغاة من كهوفهم المظلمة ليسدوا الطرقات ويطفئوا الضوء ويعدموا هذه التظاهرات. إذًا عالمان عادا لا يلتقيان. عالمان على طلاق. وعلى افتراق، أي على مواجهة معلنة وواضحة لا رجوع عنها. وهكذا سقط الطاغية الأول في تونس وهرب كالفأر. وتدحرج الطاغية الثاني في مصر وهو حاليًا في السجن... ليستمر الطغاة الآخرون يَعدُّون أيامهم الباقية بالقتل. يُحصون ساعاتهم الأخيرة بمنطق شمشون"علي وعلى شعبي يا رب"! (والرب بعيد عنهم، وعن حلفائهم الأميركيين والغربيين وإسرائيل! وهل نشك لحظة في أن هذه الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لا تتآمر على الثوار العرب: استعرضوا لهجة أوباما في تعامله مع حسني مبارك وبن علي... هذا التعامل الحاسم، وتعامله مع الطغاة الآخرين الذين يفوقون هذين المخلوعين إجرامًا وقتلاً وفسادًا). الطغاة "المتبقون" حتى الآن بالسحل والقتل والتدمير، صاروا على "آخرهم" وها هم يستنجدون بأصدقائهم "المعلنين" وبأصدقائهم "السريين" (إسألوا إسرائيل وحللوا مواقفهم تعرفوا من تساند سرًا وعلنًا) وبالتهديد بالحروب الطائفية (التي هم أربابها)، وبالتقسيم (وهم روَّاده) وبتغيير المعادلات في العالم العربي وبين إسرائيل – لم يطلق أي نظام عربي رصاصة واحدة على العدو الإسرائيلي وها هم اليوم أفاقوا... ويا للحسرة! لكن نسي هؤلاء أن هذه "المعزوفة" (الملقبة سابقًا بجبهة "الصمود والتصدي": يا عين! وبـ"دول الطوق") باتت قديمة وبالية كوجود هؤلاء القتلة وإن الناس لم تعد تصدِّق حكامًا قاموا على شعار مواجهة اسرائيل قبل خمسة عقود... وقمعوا شعوبهم تحت هذا الشعار، وسرقوا بلدانهم تحت هذا الشعار، وباعوا أراضيهم المحتلة تحت هذا الشعار... و"انتصروا" بهزائمهم المدوية تحت هذا الشعار". ولهذا كان عليهم أن يتمسحوا بذرائع أخرى يتوجهون بها إلى الغرب لإعانتهم: إن هذه الثورات تقودها المجموعات السلفية، والأمراء السلفيون، والقاعدة وبن لادن، والظواهري والعولقي... هكذا صرح القذافي، وقبله حسني مبارك من دون أن ننسى الرئيس اليمني وكذلك التونسي بن علي. معزوفة تافهة كحكاية "الصمود والتصدي"... (والغريب أن بعض هذه الأنظمة متحالفة مع القوى والأحزاب والأنظمة السلفية في المنطقة: وإيران يا معمر القذافي أليست سلفية؟) وبدت حُججهم وشاشاتهم وإذاعاتهم وأخبارهم وتلفيقاتهم صبيانية ومُضحكة ومسلية ولو في زمن الأسف. بدت خطبهم خشبية تنتمي إلى الخمسينات والثلاثينات وكأنما ورثها هؤلاء الطغاة من أمثالهم: ستالين وهتلر وموسوليني... "قديمة يا خوي" (يقول الناس): و"بائخة"! يقول آخرون: من يصدق يا معمر القذافي الأول، ويا معمر القذافي الثاني هناك ويا معمر القذافي الثالث هنالك بأن حفنة من السلفيين والقاعدة تمكنت من تجميع مئات الألوف بل الملايين من الثوار... وإذا كان الأمر كذلك فأي نظام "قوي" هذا الذي تهزه حفنة أصوليين من أقصاه إلى أقصاه، وتخترق جبروته وجدرانه الأمنية: إذا كان هذا صحيحًا، فعلى هذه الأنظمة التي ما زالت تعزف على أوتار القاعدة أن ترحل، لأنها عجزت عن حماية ناسها، وأمنها وسيادتها. ألم يكن يعتبر بعض هذه الأنظمة من أيام صدام حسين، والقذافي وبعض الوصايات الأخرى أن لبنان لا يستطيع "حماية" نفسه، ولا أمنه وأنه يحتاج إلى "الخارج" ليصون سلمه الأهلي ويسوس أموره، فتكون ذريعة "لإنقاذه" من نفسه وشعبه من شعبه، وطوائفه من طوائفه! فهذه الأنظمة التي عجزت عن حماية استقرارها ومجتمعاتها من "الطائفية" ومن "السلفية" ومن "القاعدة" ومن "الأميركان" ومن "إسرائيل"... أهي قادرة على حماية غيرها من الدول؟ نتكلم بمنطق هذه الأنظمة. أو بذرائعها وهي تدين نفسها بنفسها. وتدحض نفسها بنفسها. وتضحك على نفسها بنفسها. وكلنا بات يظن أن زمن "نظرية المؤامرة" الخارجية الإمبريالية أو الأميركية أو الأجنبية أو حتى المتصلة بصراع بعض الأنظمة العربية، صارت هي المؤامرة. نظرية المؤامرة التي يحتمي بها الطغاة هي المؤامرة على الناس؛ فباسمها قتل الألوف وسُحل الألوف ونُفي الألوف واعتقل الألوف... ضمانًا "للسلم الأهلي" (المزعوم). وعندما نسمع اليوم مثل هذه التفوُّهات كأنما نسمع سقى الله أيامه أحمد سعيد في "حقائق وأكاذيب" أو أبواق الأحزاب وتخرصات المأجورين. والغريب أن من يُروج مثل هذه الاتهامات، يعرف أنه لم يعد يصدقه أحد. غبار، ضجيج، تصويت، تنبير، نشاز، لا شيء أكثر. وَهمٌ. أكثر: صار هؤلاء عندما يطلقون شعار "المؤامرة" كأنما خارجون من مسرحية هزلية من أيام الأربعينات أو من فيلم سينمائي صامت! تفاوت زمني هائل. ناس ما زالوا في "الماضي" والثورات العربية في المستقبل. عربتان: واحدة تمشي إلى الخلف، وأخرى تتقدم إلى الأمام. عربة الطغاة غارقة في الرمال بلا عجلات وعربة الثوار مطهمة بألف جناح! هذا الواقع لم يفهمه بعضهم بعد. لأن "مخوخهم" مقولبة على زمن توقف. وعلى أمكنة صارت أنقاضًا. وأفكار باتت من بلاغات بالية، وإنشائيات جوفاء. الثوار اليوم، عثروا على كنز الخطاب الجديد. على ينبوع اللغة الجديدة. على منصة تشرف على التغييرات في العالم. لم يعُد يُريد أحدٌ في البلاد العربية الاستمرار في العيش في أزمنة وَلَّت، ولا في أمكنة مغلقة. ولا في ظل أنظمة انتهى مفعولها وانتهت صلاحياتها فازدادت مضارها وسمومها. لبنان كان السبَّاق إلى كسر هذه الحلقات الصدئة، وتحطيم جدران الأوهام والأبواب "المرصودة"... في 14 آذار 2005 وكانت ثورته السيادية والديموقراطية والاستقلالية والمدنية، الشرارة التي صارت نارًا... على دم الشهيد الكبير الرئيس رفيق الحريري وسائر الشهداء. ثم وبعد حين جاء دور تونس. فمصر. واليمن. وليبيا... والدور آت على أواخر الطغاة بإذن الشعب تعالى. والغريب أن بعض الأحزاب والتجمعات عندنا ما زالت ترفض ما تراه بأم العيون، وتسمعه بأم الآذان، من تغيير وانتفاضات وأزمنة تنفتح. ما زالت وبفضل ارتباطاتها العمياء، انتقائية واستنسابية: تُصَفِّق للثورة المصرية لأسباب تتصل بعلاقاتها بالنظام السابق، وليس بعناوين الثورة وفي الوقت نفسه تتهم الثورة الخضراء في إيران بالعمالة للغرب ولأميركا (أي ناس هؤلاء، ومن أي طينة فاسدة، يتهمون شعوبهم بالعمالة: عندنا 8 آذار خير مثال تافه!) أو تصفق للثورة التونسية أو البحرينية وتلتزم الصمت عما يجري في ليبيا. ذلك أن مخوخ هؤلاء "مجدورة" عادت لا ترى أكثر من مناخيرها؛ ذلك أن هؤلاء لم يعد عندهم ما يقولونه، عدة النصب والكذب والإثارة.. قد كسدت. تبقى الطائفية عندهم. والتهديد بحروب "أهلية" (لا بثورات جماهيرية) وبالتخريب. والقتل. وقلب الأمور: يعني لغة القرن الماضي يعني لغة الإفلاس. يعني لغة "بابلية" فقدت أبجدياتها. كل خطابهم السياسي انقلب عليهم. وماذا يتبقى لهؤلاء الأحزاب عندنا (الأحزاب المجوفة، وأحزاب ولايات الفقيه، والقائد الأوحد، والصوت الواحد...) سوى ما تبقى للطغاة، إنهما يتبادلان النهايات، ويصرفان عملة قديمة. ويستخدمان أسلحة صارت أقل من خردة. فالخلل أكثر من شكلي، أو عملي، الخلل عضوي ووجودي في هذه الأنظمة وما لف لفها من أحزاب: المشكلة أن هذا الخلل ما عاد قابلاً للإصلاح. المشكلة أن هذه الأنظمة وأحزابها الإلهية لم تعد قادرة على الحياة والاستمرار. هذا ما يخافه من لم يتهاوَ بعد نهائيًا من الطُّغاة: مسألة حياة أو موت. نعم! حرب مصيرية بينه وبين الشعب. نعم. حرب وجود بينه وبين زمن الثوار: نعم! حرب يا قاتل يا مقتول بينه وبين الزمن الجديد. نعم! حرب لمحاولة إعادة الزمن إلى الوراء... وبين الساعات التي تقرع مواقيت الآتي، نعم! إذًا، هذه الأنظمة التي تعيش "سكراتها" الأخيرة، مُصرَّة على مقارعة ناسها، ومحاربتهم حتى الرمق الأخير، ولكن من يستطيع مواجهة الشعب إذا خرج من قماقمه، وإذا حطم قضبان سجونه. لا أحد! وكل مواجهة معه... دونكيشوتية بامتياز، لا تؤدي إلا إلى الانتحار. "هيرا كيري طغاة" ونظن أن محاولات بعض الأنظمة استلحاق سقوطها بالتدمير والمذابح، والاعتقالات والترهيب والقصف والتخريب أو بمحاولة نقل المعركة إلى أمكنة أخرى لحرف الأنظار، أو لتوجيه رسائل إلى حلفائها الغربيين لنجدتها ضد شعوبها... ما عادت تُفيد: المعارك اليوم داخل كل قطر عربي. داخل هذه الأنظمة، مع هؤلاء الثوار في المواقيت والساحات المحددة، وليس في أمكنة أخرى، لا في لبنان، ولا في فلسطين ولا في العراق، ولا في أي صراعات "جانبية" مفتعلة! الأولوية اليوم للثوار! الساحات معروفة بالأسماء، والثوار معروفون والجغرافيات الممتد عليها زحف المنتفضين معروفة... وكذلك الطغاة حيث يستخدمون كل بربريتهم ووحشيتهم وهمجيتهم (المعروفة أصلاً) عبثًا. فهؤلاء معروفون جيدًا وبالأسماء وبالجرائم. إنهم على منصاتهم الأخيرة! والمنصات أيضًا معروفة ومُحددة وكل ما عدا ذلك محاولات يائسة لكسب الوقت، أو لتأخير تجرع الكأس الأخيرة! لكن لم يعد لديهم حتى الوقت، فما بالك بالأمكنة! أو ليس الوقت هو الأمكنة، والأمكنة هي الوقت: كل الوقت اليوم للثوار. وكل الأمكنة لهم. *** *** *** المستقبل، السبت 21 أيار 2011، العدد 4003، الصفحة الأولى، صفحة 1 |
|
|