|
المسلسلات التلفزيونية كأدوات سياسية
مع انتقال الفعل الثقافي العربي من حقول الكتب والندوات الفكرية والصحف والمجلات المطبوعة إلى التلفزة والإنترنت، تنبهت السلطات السياسية والدينية والمالية من جهة، وكذلك بعض الفئات النقدية والمعارضة والداعية إلى الإصلاح السلمي والتدريجي في حدود الإمكان من جهة أخرى، إلى أهمية استغلال هذه الأدوات الإعلامية الشديدة التأثير لمزيد من إمعان السيطرة على المتلقين فكرًا وإنجازًا. وقد حفلت شاشات العرض التلفزيونية العربية في شهر رمضان المنصرم بعديد من الأعمال الدرامية التي أثارت نقاشات مجتمعية غنية حول أمور الدين والسلطة والسياسة والمجتمع والفساد. وقد برزت أعمال سعت من خلالها بعض السلطات السياسية وأدواتها الفنية والتمويلية إلى توجيه رسائل متعددة الاتجاه، وكذلك مسلسل يحمل حنينًا إلى سلطان عثماني مستبد، في محاولة لممارسة غزلٍ بدائي تجاه السياسة التركية في الشرق العربي واعتبار العمل مساهمة في تعزيز التقارب العربي التركي في حين أن الأتراك قد تجاوزوا بسنوات ضوئية هذه الحقبة من ماضيهم القريب. أو مسلسلات واجهت الصعود الأصولي من خلال الإدانة المباشرة، والمعالجة التبسيطية التي تقارب السذاجة لمرجعيته الفكرية ولممارساته العنفية في إطار العائلة أو في حدود المجتمع، والقيام بتسليط الضوء على النساء كضحاياه الأساسيين. إضافة إلى أعمال تهدف إلى ترسيخ "قيم" محافظة ورجعية تصدرتها ما سمُّوه في بلاد الشام بأعمال البيئات المحلية، والتي تزعم أنها تخاطب ذاكرة المتلقي التي تحمل حنينًا إلى الماضي القريب، وهي تكاد تدعو المواطن العربي إلى أن يسعى في اتجاه إعادة الاعتبار إلى ماضٍ متخيل مليء بالجرعات التخلفية، في حين أنه كان أكثر تقدمًا بكثير مما تم تقديمه عبر هذه الأعمال، وذلك عوضًا عن تحفيزه إلى السعي في اتجاه تبني مفاهيم التقدم والإصلاح والحداثة والمراجعة النقدية. إضافة إلى ذلك، فقد جرت بعض المحاولات لطرح مواضيع إنسانية ومجتمعية بعينٍ تحمل رؤية نقدية أكثر انفتاحًا، ولكنها ظلَّت محدودة في التعبير من خلال سطوة الرقابات الدينية والرسمية والمالية. إلى جانب هيمنة وتأثير السلطات السياسية وتوجيهها المباشر أو المستتر لنتاج الدراما الخاصة، برزت مصادر التمويل كراسم أساسي لما يراد أن يصار إليه الحراك المجتمعي والوطني. وكان عنوانها الأبرز السعي إلى ترسيخ فهم محافظ للعلاقات الاجتماعية، وإعادة الاعتبار إلى شخصيات سياسية لفظتها الذاكرة القومية والوطنية كبعض الملوك والرؤساء الذين لم تكن إضافاتهم النوعية إلا مزيدًا من التخلف والاستبداد وجرعات كبيرة من الفساد. ومن خلال بعض الأعمال الدرامية، ظهرت المرأة كعنصر ضعيف وقاصر فعلاً في المجتمعات التقليدية "المثالية" واقتصر دورها على إنجاب الأولاد وقبول الزواج المتكرر لرجلها، بل وحتى الامتنان منه، أو أنها، وفي أحسن الأحوال، لعبت دور العنصر الخبيث الذي يشبك المؤامرات لرجلها. واعتبرت مشاهد إهانتها وامتهان كرامتها جزءًا طبيعيًا بل ومحبذًا من الوجبة البصرية المقدمة. في خضم هذا الإنتاج الكثيف والمترامي الأهداف السياسية والاجتماعية، تميزت الدراما السورية بهامش مفاجئ نسبيًا من حرية التعبير المبرمجة والمؤطرة. فقد تطرقت إلى التطرف الديني بشكله القائم فعلاً داخل المجتمع المحلي، والذي يكاد يكون العنصر المشترك الأبرز بين المجتمعات العربية، وأبرزت بشكل مبطن تقاطع التحالفات المصالحية التي تنشأ أحيانًا بين سلطات سياسية تدعي العلمانية وأشاوس التطرف الديني وأصحاب المال والأعمال. وقد أجج ذلك غضب بعض رجال الدين الذين تأخروا في فهم المغزى الحقيقي للرسالة التي حظيت بمباركة رسمية وظنوا حقًا بأن الإبداع الفني قد تحرر بالمطلق من قيوده كافة وبأن من واجبهم التصدي إلى ما يعتبرونه تعديًا على مجالهم المحمي بعلم من السلطات السياسية ذاتها منذ فترة ليست بقليلة، جرى استعمالهم خلالها كأدوات امتصاص تحت السيطرة. مما دفع بالجهات المسؤولة إلى المسارعة إلى توبيخ المنتقدين وإفهامهم بأن حرية معالجة الموضوع الديني التي برزت في هذه الأعمال الفنية ليست إلا جزءًا من سياسة رسمية بدأت تحاول القيام بإعادة ترتيب البيت الديني وسحب البساط مما سبق وأفردت لهم مجالات عدة على حساب التيارات التنويرية. لقد تحوَّلت المسلسلات التلفزيونية أدوات سياسية فاعلة في أيدي من لهم السيطرة على أدوات إنتاجها، ولا فروقات هامة بين قطاع خاص وآخر عام لأن العملية الإنتاجية تجري في ظل نظمٍ تسلطية لا تفسح للإبداع مجالاً إلا بقدر تقديرها الذاتي لحاجات المرحلة. إن هذه النظم وآلياتها المتشعبة قد عرفت تمام المعرفة أثر الدراما على الوعي العام وبدأت باللجوء إليها في إعادة تشكيله أو في تعديل بعض أسسه من خلال إعادة قراءة التاريخ وبل القيام بإعادة كتابته بما يتماشى مع أهداف معلنة وأخرى أقل تصريحًا، معدلةً فيه وفي معالجته وفي الاجتهاد في فهمه. أما الوعي العام العربي الذي يستند أكثر فأكثر إلى "التعليم" البصري ويبتعد أكثر فأكثر عن أي مصادر أخرى أكثر صرامة علمية وأكثر متانة معرفية، فهو يخضع لعمليات إعادة تشكيل وتطويع بحيث أضحى مطيةً سهلة الانقياد وأضحت مصادره ومستنداته الفكرية هي أعمال درامية، وفي أحسن الأحوال، برامج حوارية تشكِّل له تفكيره والتي هي في حقيقة الواقع تقوم على تحديده وتأطيره وقولبته وتجميده وتساهم في تقهقره. وبعد أن أضحى المشهد البصري هو الفاعل والمؤثر في بنية الذهنية السياسية، أصبح من الملائم أن يؤخذ هذا الواقع بالدراسة والبحث، مع التأكيد على أهمية الفعل الثقافي والفكري الحقيقي في إصلاح المجتمعات العربية أو إعادة بنائها، بعيدًا عن السقوط في التبسيط البصري الذي يسعى صانعوه إلى إيقاع المتلقي فيه، ربما. *** *** *** * أستاذ جامعي مقيم في فرنسا. |
|
|