|
على بساط الثلاثاء
حبيب عيسى
من: اليوم 30/1/2012 الساعة الثامنة مساء، أطل من شرفة منزلي على مشهد محبَّب، الزرقاء بقمرها ونجومها يحجبها غيم كثيف يكاد يلامس الأرض، والمطر غزير على غير العادة منذ سنين، تعزف قطراته على وتر الأرض ألحان لم يملك فنان بعد مجاراتها. المشهد لا يمكن مقاومته، لكن الدخول فيه ضرب من الجنون. غافلت جميع من في المنزل، واندفعت باتجاهه، طرقات ضاحية دمر الدمشقية الرئيسية والفرعية خالية تمامًا، لا بشر، لا مركبات، لا تشويش على عزف المطر. أكاد أعرف نغمة كل قطرة على حدة، تلك رنَّت على ورقة شجر، وأخرى داعبت تربة عطشى، وتلك نقرت على نافذة... و...، للمرة الأولى في حياتي أرى المياه تجري على طرقات المدينة صافية رقراقة تبرق تحت الأضواء الخافتة، لقد جرفت مياه الأمطار الزبد والسواد إلى المجارير، أو كادت. كانت قطرات المطر تداعب ما تبقى من الشعر على رأسي، تغازل حتى الذي أبيضَّ منه، المطر أرحم من البشر، لكن قطرات المطر كأفراد الشعوب إذا اتحدت تعرف كيف تجتاز العوائق. هكذا بدأت تلك القطرات تشكل جداول صغيرة تبحث في جسدي عن مسارب متعددة لكن باتجاه واحد. إنني أسير في بحيرة متحركة حلقت بي إلى عالم من الخيال، فأنا أسبح في فضاء مختلط هبطت فيه السماء إلى الأرض، وصعدت فيه الأرض إلى السماء، وانتصب السؤال ساخرًا أمامي كقوس قزح: من ماذا أنت هارب...؟ وإلى أين...؟ صرخت في هذا الفضاء العجائبي: أنا هارب من الأسئلة، خائف من الإجابات، هل كثير علي أن أنعم بلحظة أنسى فيها ما يؤرقني...؟ أحلم أن أغفو تحت المطر، والعنوان ليس من إبداعي، على أية حال، إنه تحريف لعنوان "فيلم سينمائي" حضرته في مطلع عقد الستينات من القرن المنصرم: حب تحت المطر. كنت في بداية مرحلة يطلق عليها علماء النفس مرحلة المراهقة، وبما أننا، خاصة في تلك الأيام، كنا نحمِّل أنفسنا مسؤولية تغيير العالم، فقد كان لا يليق بنا أن نجهر بمراهقتنا فنغلفها برجولة مبكرة... أقصى ما كنا نسمح به لأنفسنا هو الهروب إلى السينما لمشاهدة ما ننأى بأنفسنا عن فعله خوفًا أو تعاليًا لعدم خدش الجدية في شخوصنا حيث ننتعش بمشهد قبلة حارة بين البطل والبطلة، أو مشهد عاطفي، وعندما نغادر صالة السينما يدعي كل منا على طريقته تحليل موضوع الفيلم وإسقاطاته على الواقع... في ذلك الفيلم حب تحت المطر مشهد يجمعهما، وقد ارتوى جسديهما، بينما المطر ينهمر، ثم قبلة لا متناهية مازالت محفورة في الذاكرة تقلبها في الخيال لتهريب صاحبها من مطبات واقع مأساوي إلى أحلام وردية تحلق مع سيمفونية المطر. وبما أنني وحيد الآن تحت المطر، وإمعانًا في التحليق مع الحلم، فكفكت أزرار سترتي، وفتحت صدري للريح والمطر، ورفعت رأسي للسماء وصرخت: "أيتها السماء اغسلي وجه بلادي، يا صبايا بلادي، يا شبابها، وأنتم تقتحمون المستحيل، وتحققون المعجزات، المطر يناديكم، دعوا الريح والندى يبلسم الجراح، ويزيل غبار سنين السكون، ويطلق نفير الحرية...". ما كدت أخفض نظري حتى فوجئت بسيارة صغيرة يلفها الغبش تنطلق باتجاهي، لا أعرف كيف تصرفت، كل ما أذكره، أنني، وبيداي اللتان كانتا منذ لحظات تتضرعان إلى السماء نزلتا لاأراديًا لتواجهان الموقف، فدفعت بهما مقدمة السيارة، وبردة الفعل قذفتني بعيدًا مستلقيًا على ظهري، كانت السيارة عندها قد توقفت على بعد سنتمترات مني. حدقت في السماء، وابتسمت، إنني ما زلت حيًا... ترجَّل من السيارة على عجل رجل وسيدة مذعورين، بينما من كان خلف المقود لم يجرؤ على النزول، عندما لاحظا أنني أتحرك تسابقت عباراتهم: الحمد لله على سلامتك. اقتربا مني، مد الرجل يده، نهضت تحسَّست جسدي، هناك بعض الرضوض البسيطة في الصدر جروح في اليدين، اعتذرا: الرؤيا سيئة. طلبت إليهما أن يمضيا في طريقهما، اعترضا: لا بد من مراجعة المشفى فقد يكون هناك أمور لم تشعر بها بعد. رفضت، وتابعت المسير، لم يصدقا، لحق بي الرجل، وحاول الإمساك بي: رجاء دعنا نذهب إلى المشفى. طلبت إليه برفق أن يذهب في حال سبيله، وأنه لا توجد مشكلة. لحق بي مرة أخرى: يا أستاذ رجاء هذا الكرت باسمي، رجاء أن تتصل بي، قد تحتاج إلى علاج. استدرت باتجاهه، وقلت له بلهجة حاسمة: قلت لك اذهب. وعدت إلى ما كنت فيه أتابع سيري. وبعد أن ابتعدت عنهما قليلاً استدرت، وإذ بهما ما زالا غير مصدقين، مشدوهين، ربما يتسائلان، ما هذا الكائن الغرائبي...؟ صرخت بهما من بعد: أنا بخير، وتصبحا على خير... أخذت نفسًا عميقًا وتابعت المسير، هناك ألم في الصدر لكن المطر حري به أن يبلسم الآلام... ما أجمل أهل بلادي كان بإمكانهم الهرب من الموقف، لا يوجد كائن في المحيط، وأنا ملقى على الأرض، والرؤيا شبه معدومة، ومجرد إسعافي قد يعرضهم لمخاطر كبيرة ونفقات هم في غنى عن تحملها، لكن مواقفهم الإنسانية النبيلة الشجاعة ذهبت بآلامي وأعادتني إلى الحلم. نحن شعب عظيم، لسنا متوحشين، ولسنا متجهين إلى حروب أهلية وفتن. هناك من يحاول تشويه المشهد لكن إلى حين. إننا نتجه إلى الحرية والأنسنة بمعاييرها النبيلة. أيتها السماء، أيتها السماء، أيتها السماء، اغسلي وجه بلادي، وجوه الصبايا والشباب، وواصلي سكب المطر ليذهب بالزبد والسخام، ويطرح كل ما ليس منا إلى المجارير، الغدر والخسة والندالة والبخل والكذب والخداع والتوحش ليس من شيمنا، ومن يقربها ليس منا، كائنًا من كان. عل العمر يمهلنا، فننعم بيوم حرية، وبلحظة حب تحت المطر، ولو كان ببقايا شعر مبيض، وبخلايا نصف ميتة... تابعت المسير تحت المطر إلى أن انقطع ماء السماء، لكن إلى حين... كما حصل... الساعة العاشرة و45 دقيقة ليل 30/1/2012 *** *** *** |
|
|