على طريق طرابلس – حمص، وبالعكس أيضًا

 

بشار عباس

 

حدَّثني صديقٌ، فقال: لطالما كنتُ أؤكدُ أن القتل على الهوية وعلى الشبهة لأسبابٍ طائفية إن هو إلا محضُ وهم تبثُّهُ السّلطة، ولكنني وجدت نفسي أصوِّب عيناي إلى أقصى اليسار لألتقط أية إشارة تُنبئ عن حقيقة السائق الّذي أقلَّني وحيدًا من طرابلس إلى حمص؛ كنتُ قبل ذلكَ بشهر قد خضتُ جدالاً مع أخي استندتُ فيه على ما أوتي لي من منطق وصراخ وقفز كي أقنعه أنَّ "الشّعب السّوري واحد" وأنَّ كلَّ ما يُقال عن فتنة حاصلة بين أبناءهِ ليس إلا أضغاثًا، لكن ما أن انطلقت التاكسي حتى ضبطتُ نفسي متلبِّسًا أستعيدُ كلَّ ما قلناه في تلك المناظرة التي انتهت بزعلٍ وخصام بلغَ أن سافرتُ حينها دونما أن يودِّع أحدنا الآخر

يومها كنتُ مُحاطًا بالضوء والمدفأة وكؤوس الشاي وأجلس متكئًا على طنافس مصنوعة من صوف الخراف تليق بأفخم المناظرات، ليس كهذه السيارة المظلمة التي تخفق ماسحات بلُّورها محيلةً المشهد إلى مبهمٍ طورًا، وصحوٍ تارة أخرى مع صريرٌ يبعث على الرغبة بالكزِّ على الأسنان، والحقيقة أنَّ حالة الأسنان هذه لم تكن ناجمة عن ذلك الصرير فقط، بل عن لهجة السائق حين نطق ذلك السؤال الوطني الشهير: من وين الأخ؟ فاخترتُ له مدينةً تعايشية متنوِّعة، وحين تعمَّق بالسؤال عن الحيِّ والزقاق والجيران راوغته وقلت أننا لسنا أصلاء في تلك المدينة بل جئنا من قرية نائية اخترعتُ اسمها بعناية تفوق ما قام به غابرييل غارسيا ماركيز عندما اخترع اسم القرية التي تدور فيها أحداث عزلته المئوية، ورددتُ عليه سؤاله فأدلى لي بهويته الجغرو-طائفيّة

كان آخر ما أشتهيه هو أن نتحدَّث عن الأوضاع الراهنة فالتزمت الصمت، ولكن لا مناص فهاهو يبدأ حديثًا عامًا عن صعوبة التعامل مع زبائن هذه الأيام وعن بخلهم، ويرجع ذلك إلى قلَّة وعيهم بمشاق مهنته، التي عزاها إلى غلاء البنزين؛ ومن هو المسؤول عن غلاء البنزين وغيره من المشتقات؟ هكذا وجدنا أنفسنا متورِّطين تمامًا في هذا الدور؛ أنا أستميت بالدفاع عن ثورة الكرامة ضدَّ النظام المجرم الفاسد  أما هو فقد التمس للنظام الممانع الإصلاحي سبعين عذرًا  انتبهت أنَّ هجومي على النظام لم يكن كله حقيقيًا وكنتُ أبالغ، وأثناء هذه المبالغة كان جزء من ذهني يهمس لي أنَّ هذا السائق لربما مستعدٌ للوقوف ليس فقط إلى جانب الناتو، بل إلى جانب دزينة من الشياطين ضدَّ النظام، ولهذا مزجتُ كلامي بالكثير من المفردات المحلية المتنوِّعة جغرافيًا لأغشي بصيرته عن تحديد هويتي، فأصبحتُ قاموسًا ومجمعًا للهجات يركب في تاكسي، وأخيرًا أفلتت إشارة من يديه مصحوبة بكلمة كشفت أنَّه هو أيضًا خائفٌ ويمثِّل ما يظنُّ أنَّه يحميه مني، في حين كان مثل فعله فعلي، كلُّ هذا زاد في الطين بلَّةً.

عرضَ عليَّ سيجارة فأخذتها دون تردُّد، لعلَّهُ إذا شعر بالكرم والحنو حتى على مستوى منح سيجارة يتراجع عن قراره بذبحي عند أول ناصية طريق. عاد الجدال الصاخب الذي دار بيني وبين أخي عن حوادث القتل والخطف الطائفي الذي يحدث في نفس المنطقة التي ينحدر منها هذا السائق الرابض بجانبي على مسافة طعنة. لقد كنتُ أأمل حين وصلتُ إلى محطة تجمُّع السيارات التي تسافرُ إلى سوريا أن يكون السائق لبنانيًا، وقبل أن أنظر إلى لوحة الأرقام علمتُ من نظرة سريعة على السيارة التي تنتظر على الدور والمنحدرة من حقبة الستينات بمصباحيها الكئيبين "فانوس"، علمتُ أنها ليست لبنانية وإلا لكانت أكثر حداثة. وبعد انتظار عبثي أن تمتلئ السيارة ركَّابًا لم يكن من بدٍّ إلا أن طلبتُ منه الإنطلاق بي وحدي معلِّلاً النفس بأنه لربما كان لبنانيًا، لكن، لسوء حظي، سرعان ما عرفتُ أنهُ سوريٌّ من أبناء وطني، ومن أهلي، وماذا ينفعُ الندم الآن؟ ها نحنُ في منتصف الطريق ولا سبيل إلى التراجع، فتحتُ النافذة لدخان السيجارة فانسلَّ مثل السحاب ودخل مكانه هواءٌ مثلَّجُ ومنعش، تذكَّرتُ جارنا الذي قضى في لبنان على حاجز للكتائب منذ ثلاثين عامًا عندما أشهرَ هوِّيتهُ السورية، يا له من زمن جميل عندما كانت هذه الجنسية توحِّدنا، وإن كان على حواجز الذبح.

مدَّ يدهُ وأدار مفتاح الراديو، فانسابت أغنية أصنِّفها في الظروف الطبيعية على أنها هابطة، أمَّا الآن في الليل الداجي والريف النائي الذي يبتعد نصف ساعة عن حدود الوطن فإنها وصلت إلى مسمعي بحيرةً للبجع وكسَّارةً للبندق وسوناتا لضوء قمر كان غائبًا لحظتئذٍ. نقلّ إبرة المذياع إلى قناة إخبارية، فسألتهُ منتفضًا كالملسوع أن يُبقيها على الأغنية التي قد تُرخي أعصابه المتوترة، وحين حاول لم يعثر عليها فعاد للأخبار: هنا البي بي سي لندن، شعرتُ أنَّ المذيع ليس في لندن، وإنما في تابلو السيارة يلصقُ وجهه إلى فتحة التكييف. حرَّكتُ حدقتا عيني إلى أقصى اليسار دون أن التفت بوجهي لأستطلع أيَّ تفصيلٍ صغير عن رأي السائق وتعابير وجهه فيما يقوله الراديو عن الأزمة السورية، فتخيَّلتُ أنه يفعل مثلي تمامًا وينظر بعينيه إلى أقصى اليمين ثمَّ يبتسم حين تلتقي أعيننا، فأحجمتُ عن النظر. شرعتُ بحديثٍ معه فلم يتجاوب. وبعد قليل لاحت أضواء نقطة حدود الدبوسية، مثل منارة في متلاطم من حومةِ الغرق.

نزلتُ من السيارة وفعل مثلي فبدا نحيلاً وقصيرًا، لا كما كان قبل دقائق وحشًا تمتلأ يده التي وهبتني السيجارة بالشعر الكثيف الملتف على خاتمِ يُحيط بخنصره. لم أعطه جوازي ليختمه كما ادَّعى أنَّه بذلك يصون الوقت، خشيتُ أن يقرأ كنيتي أو مدينتي. دخلنا أضواء الصالة فانقشع القلق عني لمَّا رأيت العشرات من رجالات موظَّفي الهجرة والداخليّة، وضاع السائق في الزحام وعاد يرنُّ في ذاكرتي النقاش الذي دار بيني وبين أخي، وعاد يقيني أنَّه واحد واحد واحد.

أيقظتني الصفقة العنيفة للباب من هذا الوهم، وعاد الطريق مُظلمًا موحشًا تشرف عليه أشجارٌ كالأشباح، وحجارة كبيرة على الجانبين مثل رجال يجلسون القرفصاء ينتظرون لحظة الوثب بخناجر ذات نصال طويلة بيضاء، وكانت الأمور في طريقها للأسوأ مع دنوِّنا من تلك النقطة التي يُخلي فيها السائق مكانه لسائق آخر، هذا ما تعلَّمتهُ من أسفاري المتكرِّرة على هذا الطريق؛ فبالقرب من ذلك الجسر نتوقَّف كلَّ مرَّة فنجد رجلاً يقف بجانب دراجة نارية أو بجانب بيك–آب قديمة على قارعة الطريق، يكون عادةً شريك السائق أو قريب أو صاحب السيارة الفعلي ليتبادلا الأدوار ويكمل السائق الجديد بنا، ويذهب الحالي على تلك الدراجة أو السيارة فيندس في فراشه القابع في بيت ريفي له ضوء خافت على الطريق، ومن وراء الزجاج المحجَّر لنافذة غرفة نومه ينطفئ ضوءٌ فيغدو الدخان المنبعث من مدخنة المدفأة أكثر وضوحًا وكثافة.

ماذا لو هجم الإثنان باتجاهي وفعلوا بي كما تتناقل الشائعات؛ هل أقف أمامهما واجترح خطبة عن فارس خوري؟ أم أشرع أصدح بمقدِّمة العقد الاجتماعي لروسّو؛ لو كان معي مسدسٌ مفضض أو أسودٌ يلمعُ لكان خيرًا لي من جميع ثقافتي المصطكة بردًا من خيط الهواء الداخل عبرَ النافذة. هدَّأت السيارة من سرعتها وانعطفت نحو محطة بنزين، فتقدَّم نحونا عاملٌ يافعٌ على وجهه ملامح تشي بأننا أيقظناه، فشعرت نحوه بمشاعر احترام وثقة أكثر مما أشعر نحو حسن الأشمر أو ابراهيم هنانو، وكانت كلمتاه المقتضبتان وهو يملأ خزَّان السيارة أزكى من كلِّ بيان سلطان باشا الأطرش حين قال: "يا أحفاد العرب الأمجاد، هذا يوم ينفع المجاهدين من جهادهم والعاملين في سبيل الحرية والإستقلال عملهم".

عادت السيارة لتخبَّ السير ولتتوقَّف حيث كنت أتوقَّع، لم أشعر بشيء فقد كان خوفي في الذروة فاستسلمتُ له، نزل وتبادل مع الآخر القليل من الكلمات والأوراق النقدية وتولى السائق الجديد القيادة. زال جل الخوف إذ إنَّ الأسوأ كان قد انقضى، وزال نهائيًا حين توقَّفنا على حاجز عسكري يقف فيه بضعة جنود حول تنكة تنبعث منها ألسنة نيران تُضيء بطون أكفهم الممدودة فوقها ووجوههم في مناطق الذقن والجبهة وعظام الوجنتين، بينما تغوص محاجر أعينهم وأفواههم في ظلام أسود فتبدو وجوههم من عالمٍ آخر، وراحت الأبنية ترتفعُ على جانبي الطريق، وعاد شعوري بالوحدة الوطنية إلى أحسن أحواله، ومع هذا لم أتبيَّن حتى الآن من منا كان حقيقيًا؛ هل "أنا" حين كنتُ محاطًا بالأهل والأصحاب أو بالشوارع المزدحمة، أم "أنا" الذي كان يجلس في تلك التاكسي على طريق طرابلس–حمص؟ أيُّ "أنا" منهما كان سرابًا، ومحض وهم باطل؟

*** *** ***

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود