قطوف من شجرة الحياة 15

 

اسكندر لوقا

 

أحيانًا تستطيع فرض وجودك على الآخرين بسبب قوة العضلات أو وفرة المال أو حجم نفوذ الموقع الذي تحتله أو حتى بجمال الصورة ، بيد أنك لا تستطيع أن تفعل ذلك عندما يخلو رصيدك تمامًا في حقل المعرفة، معرفة هذا الآخر الذي تريد أن تفرض وجودك عليه. معرفة الآخر تعني معرفة الإنسان لا من حيث شكله أو صورته بل من حيث كونه حاضنًا لقيم تضفي عليه صفة الإنسان المتوازن لا الإنسان الهوائي المزاج، يكون حيث يراد أن يكون لا حيث يريد هو أن يكون.

***

إن يومًا مضى في حياتنا لا يعني حُكمًا بأن صفحة في سجل حياتنا قد طويت إلى الأبد، بل يعني ذلك بدء دفقة جديدة في حياتنا تذكر بطلوع الشمس في يوم كان معتمًا. ومع تجدد الدفقات لا بدَّ أن يزداد أحدنا خبرة تساعده على الخطو نحو الأمام والارتقاء نحو الأعلى، كما تولد الخلية الحية في أعقاب موت خلية غير ذات نفع. هذه المعادلة تأخذ أبعادها في حياتنا عندما نتجنب الهروب إلى الأمام، لأن ما خبرناه بالأمس مثله مثل الخميرة التي تنضج التجربة في الحاضر.

***

ظاهرة التضاد من الظواهر الصحية في أي من المجتمعات في الزمن الحالي، كما كان حالها دومًا في الأزمنة السابقة، وذلك لأنها تحمل في ثناياها معالم تطور ما بشكل أو بآخر هنا وهناك. هذه الظاهرة لا تقل شأنًا عن ظاهرة التجانس، في الوقت ذاته، بين أفراد المجتمع الذي ينتمون إليه بحكم الولادة على وجه التحديد، بل تدعمه وتنميه. وبطبيعة الحال، بحكم الموضوعية في تقييم هاتين الظاهرتين، فإن خطًا رفيعًا لا بدَّ أن يجري البحث عنه وتقويته لجعلهما يعملان للنهوض بالمجتمع لجهة الحاضر والمستقبل.

***

ليس المهم أن نبدأ حياتنا بالرقم صفر كما الولادة في المزود أو بأحد الأرقام الفلكية كما الولادة في قاعة ذهبية في قصور أباطرة العصر وملوك المال. المهم أن تجسِّد هذه الحياة، في المحصلة، معنى تذوق الماء بعد رحلة مضنية في صحراء قاحلة بحثًا عما يطفئ العطش، وبالتالي أن يلتقي نبع ماء في أحد أطراف هذه الصحراء من دون توقع أو انتظار. كثيرون من الناس يكتسبون قيمتهم الذاتية من انتماء إلى أسرة أو طائفة أو معتقد أو جنس وسوى ذلك. وينسى هؤلاء الناس أنهم حين يغادرون الحياة يتساوون مع من ولدوا في مزود لا في قاعة ذهبية. وفي تفاصيل حكاية رحيل القائد المقدوني الإسكندر الكبير خير دليل لمن يعود إليها ويقرؤها بإمعان.

***

عندما يكبر المرء ويتقدم في العمر الزمني، تكبر مسؤولياته. ومن هنا تغدو الطفولة محببة لديه كما لدى الناس كافة وذلك لخلوها من تبعات المسؤولية التي يتحملها الكبار بمعناها الوصفي. ولهذا الاعتبار يبقى الحنين إلى سنوات لطفولة حاضرًا في حياتنا وفي كل وقت. ومع ذلك فإن الكبر لا يخلو، بحد ذاته، من متعة بمقدار ما. ويزداد حجم هذه المتعة عندما نزداد اقترابًا من لحظة عطاء نجنب فيه طفلاً من السقوط والانزلاق في تجربة السرقة أو التسوُّل أو إقصائه بفعل الذات أو بفعل الآخر عن مقاعد الدرس. وهنا يتضح ما عنيته بالحنين إلى الطفولة، التي غالبًا ما تعكس صورة طفولتنا في ذاكرتنا البصرية، وخصوصًا عندما تكون طفولة معذبة لا نرضى رؤية معالمها على وجه أي طفل على وجه الأرض.

***

إن خوض أية تجربة لا يعني أنها حُكمًا تأسر صاحبها. إن أية تجربة يخوضها الإنسان في حياته تشبه دخوله غابة مجهولة الأبعاد أو وقوفه على شاطئ بحر آفاقه بعيدة ولا ترى بالعين المجردة. بيد أن هذا لا يعني، بالضرورة، عدم إمكانية الخروج من الغابة أو الاستمتاع برؤية الأفق على وجه مياه الحر. التجربة بهذا المعنى فيها شيء من المغامرة شئنا أم أبينا، ولكن في الوقت ذاته فيها الكثير من متعة الاكتشاف. ومن دون تجربة يتعرض لها الإنسان، لا يكون له حضور بل مجرد وجود. وثمة فرق كبير بين هاتين المعادلتين.

***

ثمة عواطف في كيان الإنسان لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، وفي رأس سلم هذه العواطف عاطفة الأم نحو أبنائها. لم يرد في تاريخ البشرية ما ينفي هذه الحقيقة في حال كانت الأم تستحق هذا الوصف. الأمومة هنا هي الكنز الذي لا ينضب من عطاء، وبالتالي من فرصة وفاء لدورها في الحياة. ولأن الوطن هو الأم الحاضنة لرعاياها فإن ما يقال عن الأم يقال عن الوطن. ولهذه الاعتبارات قرأنا في تاريخ سورية، على سبيل المثال، عن يوسف العظمة وعزمه على قتال المحتلين الفرنسيين في عشرينات القرن الماضي رغم معرفته مسبقًا بأنه ذاهب ولن يعود إلى أهله وذويه. وفي سياق هذا العمل البطولي يبقى اسمه حتى اللحظة يتردد في أسماعنا وتبقى صورته حاضرة في أعين أبناء وطنه.

***

من حيث المبدأ، يلعب التنافس بين الساعين إلى تسجيل موقف هنا أو هناك، دورًا إيجابيًا، ولكن حين يكون هدف هذا الموقف شعار "من يصل أولاً" لترسيخ قيمة تتعلق بالعمل من أجل حاضر البلد ومستقبله في آن. وربما تطلب هذا الأمر الابتعاد عن العواطف الطارئة التي تستجيب لمقتضيات الغرائز غير المشبعة بروح وطنية. ولهذا السبب كثيرًا ما نرى سقوط القيم والمثل العليا حولنا. وبذلك يحدث الشرخ بين هذا وذاك من أبناء الوطن الواحد.

***

هاجس الدولة، أية دولة تسعى إلى النهوض بواقعها، سواء أكانت من فئة الدول المتطورة أو المتخلفة أو من دول العالم الثالث، وسوى ذلك، هو توفر قواسم مشتركة تجمع بين مواطنيها. وفي هذا السياق تحتاج حُكمًا إلى خطة وإلى رؤية قادرة على استيعاب تداعيات المعوقات على درب وصولها إلى أهدافها المنشودة في البناء والاستقرار. وحين لا تتوافر مثل هذه الأمور البديهية، فمهما جرت محاولات للخروج من واقعها فإنها لن تعطي ثمرًا طيبًا، وبالتالي يبقى الدوران في المكان الأكثر حضورًا فوق أرض الوطن.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود