|
جورج طرابيشي وتحرير الذات العربية من الانغلاقات التراثية
إلى متى سيظل الماضي يتحكم بالحاضر، والعصور الوسطى بالعصور الحديثة؟ ما الذي ينقصنا الآن بشكل موجع؟ الخبز والملح دون شك. ولكن بعد ذلك مباشرة يجيء الفكر: قصدت التحرر من تراثية التراث، أو ماضوية الماضي التي تشدُّ إلى الخلف وتعرقل الإقلاع الحضاري. وكيف نتحرر مما هو أقرب إلينا من حبل الوريد؟ بالقفز فوقه؟ بدفن الرؤوس في الرمال كما تفعل النعامات أو حزب البعث وبقية الأحزاب التقدمية العربية؟ أبدًا لا. عن طريق مواجهته وجهًا لوجه. وهذا ما يفعله جورج طرابيشي في كتابه الضخم الصادر عن دار الساقي في أكثر من ستمائة صفحة. إنه يستعرض تاريخ التراث من أوله إلى آخره: من اللحظة القرآنية إلى اللحظة المعاصرة مرورًا بكيفية تشكُّل السنَّة والفقه وعلم الكلام والصراع الحنبلي-المعتزلي وانتصار الحنابلة وهزيمة العقل وسقوط الحضارة العربية الإسلامية برمَّتها والدخول في عصور التكرار السكولائية الاجترارية أو ما يدعى بعصر الانحطاط إلخ. إنه يقوم بغربلة كاملة للتراث وما أحوجنا إلى مثل هذه الغربلات النقدية الجريئة. قد يقولون: وما علاقة كل ذلك بحاضرنا والمشاكل الملحة الملتهبة التي نعاني منها؟ لماذا تريد أن تغطسنا في الماضي، بل والماضي البعيد، ونحن أحوج ما نكون إلى الانهماك في الحاضر ومشاكله العويصة؟ لطالما سمعت هذا الاعتراض من السطحيين والمتسرعين. علاقته أكثر من علاقة. هل انتهت السلفية؟ هل انتهت الحنبلية؟ هل انتهت العقلية التراثية الطائفية أم أنها لا تزال تتحكم برقابنا من المهد إلى اللحد؟ انظروا إلى اكتساح الإخوان والسلفيين لكل الانتخابات العربية مشرقًا ومغربًا. هذا الانتصار يؤكد أن الماضي هو الذي يتحكم بالحاضر وليس العكس. الأموات هم الذين يحكمون الأحياء وليس العكس. هذا يعني أننا لم نصفِّ حساباتنا مع الماضي حتى الآن ولم نتجاوز العقلية التراثية بل ولم نتجرأ على مواجهتها أو مساءلتها بالفعل. والسبب هو نقص الكتب الفكرية التي تستعرض تاريخ التراث بشكل علمي تاريخي، لا بشكل غيبي تقديسي أسطوري. فهذا الأخير يملأ المكتبات والمدارس والجوامع والجامعات. كتب التراث تملأ معارض الكتب، بل وتفترش الشوارع والأرصفة في كل المدن العربية. طرابيشي والحفر الأركيولوجي عن أعماق التراث من لم يطلع على التراث الإسلامي من خلال مصادره الرئيسية، من لا يملك الوقت الكافي لنفض الغبار عن كتب التراث وقراءتها قراءة متأنية والصبر على وعورة أسلوبها القديم المغرق في القدم، فليطلع على كتاب جورج طرابيشي وبقية الكتب التجديدية المعمقة. إنها توفر عليه معاناة كبيرة ووقتًا ثمينًا جدًا. بعد قراءتها تشعر بأن التراث استضاء أمامك كصفحة بيضاء، متسلسلة من أوله إلى آخره. وأهم ميزة للبحوث الفكرية الرائدة هو أنها تسقط التصورات اللاتاريخية الضخمة عن التراث العربي الإسلامي. وهي تصورات تسيطر على وعي الملايين من الهند والباكستان وبنغلاديش وأندونيسيا إلى بلاد الفرس والترك والعرب وحتى الجاليات الإسلامية في البلدان الغربية المتحضرة. وهي الجاليات التي صوتت لحزب أصولي تونسي بنسبة كبيرة مؤخراً. هل تريدون أمثلة على ذلك؟ لنأخذ مصطلح النبيِّ الأمِّي الذي يفككه طرابيشي ويحرره. أقصد يفكك المعنى التراثي الراسخ في العقلية الجماعية منذ مئات السنين، ويحلُّ محل المفهوم العقائدي الإيماني اللاتاريخي المفهوم التاريخي الحقيقي. كل الأبحاث الريادية الجديدة تصدم الناس في البداية وبخاصة جمهور المؤمنين التقليديين لأنها تطيح بيقينيات راسخة رسوخ الجبال. هذا ما فعله كبار مفكري الغرب بالنسبة للمسيحية. انظر مثلاً ارنست رينان وكتابه الشهير عن يسوع. وهذا ما يفعله طرابيشي هنا بالنسبة للإسلام. لا تحرر بدون صدمات كهربائية، بدون خلخلات عقلية. لنفكر هنا ولو للحظة بالعصبيات الطائفية والمذهبية التي تعمر العقول والتي تهدد الآن دولنا بالحروب الأهلية، فالانشطار والتقسيم. من يجرؤ على نقدها أو تفكيكها؟ من يجرؤ على نقد المقدسات؟ ذلك أن نقد الطائفية يعني نقد حديث الفرقة الناجية وهو مقدس ومعصوم في الوعي الجماعي ولا يمكن المساس به. ما دام هذا النقد ممنوعًا في الثقافة العربية فلا تحرير ولا حرية، لا ديمقراطية ولا دولة مدنية دستورية حديثة. كله كلام فارغ للاستهلاك المحلي أو للمتاجرات السياسية. كتاب جورج طرابيشي يعتبر بمثابة حفر أركيولوجي في أعماق التراث بغية الكشف عن الجذور الدفينة لهذه المعتقدات اللاهوتية والعصبيات الطائفية الراسخة. بهذا المعنى فهو كتاب تحريري بدون شك. كل الكتب التحريرية تعود إلى الماضي البعيد لنبشه وتبيان تاريخيته أي بشريته ونزع هالة القداسة والمعصومية عنه..لنفكر هنا ولو للحظة بكتب سبينوزا التي عرَّت العقائد اليهودية-المسيحية وشكلت فضيحة كبرى في عصرها بسبب ذلك. نفس الكلام ينطبق على نقد نيتشه للمسيحية أو نقد ارنست رينان المذكور آنفًا. ومعلوم أنَّه يقدِّم صورة تاريخية عن نشأة المسيحية وشخصياتها الكبرى بما فيها شخصية يسوع ويسقط التصورات التبجيلية الأسطورية التقديسية اللاتاريخية. ولذلك غضبوا عليه وهددوه. فقد صدم الوعي المسيحي آنذاك في الصميم. محمد أركون في كتابه الجديد الذي من المقرر أن يصدر بالفرنسية والعربية بشكل متزامن الشهر المقبل يمشي في هذا الاتجاه بالطبع. وفيه يتحدث لأول مرَّة بشكل مطوَّل عن حياته الشخصية ومساره الفكري. ويمكن اعتباره بمثابة وصيته الأخيرة التي تصدر بعد رحيله. إنه يشبه كتب المذكرات إلى حدٍّ كبير. وقد فاجأني العنوان لكيلا أقول صدمني للوهلة الأولى. فإذا صدمني أنا فما بالك بالجمهور العريض؟ العنوان نيتشوي بامتياز: التشكيل البشري للإسلام. (منشورات ألبان ميشال، باريس. والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء). إنه يذكرك بالعنوان الشهير لكتاب نيتشه: بشري، بشري أكثر من اللزوم. كتاب موجه إلى "الرجال الأحرار" وبالطبع إلى النساء الحرائر أيضًا، أي إلى كل شخص حرٍّ يريد أن يخرج من سجون الماضي وأغلاله وتصوراته الغيبية اللاتاريخية. وهو مهدى إلى فولتير: إلى فولتير، أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن سوف أطمئن القارئ فورًا: هذا الكتاب لا يعني إطلاقًا إنكار البعد السماوي الإلهي المتعالي للقرآن والإسلام. وإنما يعني فقط الكشف عن البعد الآخر الذي طمس بعد هزيمة العقل المتزامنة مع سقوط المعتزلة والفلاسفة وانتصار الحنابلة: أي الكشف عن البعد التاريخي والإسهام البشري في تشكيل تراث الإسلام. وبالتالي هدؤوا من روعكم. لكن لنعد إلى كتاب من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث الذي لا يخرج أصلاً عن إطار هذا التراث الفلسفي الطويل العريض الممتد من سبينوزا وحتى اليوم، تراث الأنوار الأوروبية والعالمية للفكر البشري. يفرق طرابيشي منذ البداية بين القرآن والسنة. وهو نفس التفريق الوارد لدى بلاشير وتلميذه أركون بين الحدث القرآني، والحدث الإسلامي. لماذا هذا التفريق؟ لأنه يوجد لدى الوعي الإسلامي خلط كبير بينهما حتى ليكادان يشكلان شيئًا واحدًا. ولكن القراءة التاريخية المتدرجة التي يتبعها طرابيشي تثبت العكس. فلحظة القرآن غير لحظة تشكل السنة والحديث النبوي والفقه والتشريع... من هنا عنوان الكتاب: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. هذا لا يعني أنه لا توجد علاقة بينهما! ولكن يوجد تمايز لا ينبغي إغفاله. من هنا تلك العبارة الشهيرة التي يستشهد بها طرابيشي ويضعها في مقدمة كتابه: السنَّة هي القاضية على القرآن وليس القرآن هو القاضي على السنة. بالطبع لا ينبغي أن نفهم هذه العبارة المنسوبة إلى الإمام الشاطبي أو الإمام الأوزاعي قبله على أساس أنَّ السنَّة أعلى من القرآن أو أفضل منه. وإنما ينبغي أن نفهمها على الأساس التالي: بما أن السنة جاءت بعد القرآن من حيث الزمن فإنها هي التي عن طريقها نفهم القرآن ونحكم عليه (قاضية)، وليس عن طريق القرآن نحكم عليها. القرآن ليس حكمًا أو قاضيًا على السنة لسبب بسيط: هو أنه جاء قبلها وبالتالي لم يعرفها فكيف يمكن أن يحكم عليها؟ لكي يوضح طرابيشي فكرته أكثر عن الفرق بين إسلام القرآن وإسلام الحديث أو السنة فإنه يدرس بشكل تاريخي كيفية تشكُّل السنة على مدار القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة العربية الإسلامية وارتباط ذلك بتشكل الفقه ومجموعات الحديث الكبرى. وهنا يكشف عن الدور الكبير الذي لعبه الفرس في تشكيل السنة. ومعلوم حجم المنافسة التي حصلت بين الفرس والعرب في القرون الأولى. والواقع أن معظم مؤلفي كتب الحديث والمذاهب كانوا من الموالي لا من العرب: أبو حنيفة، والبخاري، وسيبويه فيما يخص علم اللغة، ... إلخ. يقول المؤلف بالحرف الواحد: ذلك أنه ما كان لنار النزعة الإثنية الفارسية أن تخمد تحت رماد الإسلام. فالإسلام الذي حمل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدمتهم الفرس، كان إسلام قرآن لا يد لهم فيه، وما أنزل أصلاً برسمهم. بالمقابل فإن الإسلام الذي أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلام سنة كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه، وهو الإنتاج الذي استطاعوا أن يؤسسوا أنفسهم من خلال إتقان صناعته - كما سيتضح في الفصول التالية - في طبقة متفقهة عاتية النفوذ حبت نفسها، عن طريق التطوير المتضافر للمدونة الحديثية والمدونة الفقهية، وبالتالي للمؤسسة الإفتائية، بسلطة تشريعية لم يقر بها القرآن للرسول نفسه. ص 103 لقد أصبحت طبقة رجال الدين هي الوسيطة بين المسلم والله في حين أن القرآن لم يقرّ بأية وساطة اللهم إلا للنبي نفسه مبلِّغ الرسالة. وهكذا تحول الإسلام إلى دين كهنوتي مثله في ذلك مثل غيره في حين أن المسلمين يرددون مفتخرين على المسيحيين: لا كهنوت في الإسلام! ولكن ماذا يفعل القرضاوي اليوم ومئات شيوخ الفضائيات؟ القرضاوي أصبح رئيسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين: أي تقريبًا البابا أو حتى الناطق الرسمي باسم الله على الأرض! فتاواه أصبحت أشهر من نار على علم! إنه يأمر وينهي، يزجر ويردع، على هواه، أو قل على هوى الأوامر التي يتلقاها من دويلة قطر العظمى التي أصبحت تتحكم بالعالم العربي وتريد إدخال كل العرب في العصر الوهابي السلفي الإخواني. والغرب الأبله يصفق! كما يقول المازري حداد. كتاب طرابيشي وإن لم يكن يتحدث عن ذلك مباشرة إلا أنه يكشف لنا كيف وصلت الأمور إلى هنا. إنه يعرِّي لنا الجذور الأولى الدفينة لكيفية تشكل طبقة الفقهاء العاتية النفوذ. فالقرضاوي ليس بدايتها ولا نهايتها وإنما حلقة من حلقاتها الممتدة على مدار التاريخ. إنه أحد فقهاء السلاطين لا أكثر ولا أقل. أقول ذلك رغم أنه يبدو لي أحيانًا أكثر وعيًا واستنارة من بعض مشائخ السلفية الآخرين المغلقين كليًا على العصر الحديث. على أي حال فالقصة طويلة تعود إلى ألف سنة على الأقل. من هنا صعوبة مواجهة رجال الدين في العالم العربي حاليًا. لا أحد يتجرأ على مناقشتهم أو دحض أفكارهم المتخلفة. يستحيل على أي مثقف عربي أن يواجه أصغر رجل دين على شاشات التلفزيون. إنه مهزوم سلفًا أمامه. لماذا؟ لأنهم يستطيعون تكفيرك في أي لحظة من لحظات النقاش بل ويدعون إلى قتلك علنًا وشرعًا. ويصدقهم الجمهور البسيط الجاهل بشكل أتوماتيكي. من هنا اكتساحهم لكل الانتخابات والاستفتاءات الشعبية. فهم يتمتعون بمشروعية تعود إلى ألف سنة إلى الوراء. هذا في حين أن عمر الحداثة قصير لدينا. ولذا فإنها تبدو غريبة، طارئة، لا مشروعية لها ولا جذور راسخة في الأرض العربية الإسلامية. الجذور الراسخة هي للأصوليين فقط. لماذا يكتسحون الانتخابات "الديمقراطية" حاليًا؟ لذلك أقول بأن المواجهة غير متكافئة على الإطلاق. ولن تصبح متكافئة قبل مرور وقت طويل. وضعنا الحالي يشبه وضع المسكين جان جاك روسو أمام مطران باريس كريستوف دو بومون الذي لم يكن يقل طغيانًا وهيمنة عن القرضاوي حاليًا. ومع ذلك فإن روسو تصدى له بكل جرأة وشجاعة في إحدى أهم معارك عصر التنوير. وقد خاطر روسو بنفسه إذ تجرأ على الرد عليه وعلى تكفيره له. ولكن ما همّ؟ روسو كان ملاحقًا من كل الجهات عندئذ وكانت كتبه تحرق في باريس وجنيف وبيرن وامستردام وبرلين دفعة واحدة! أنا الغريق فما خوفي من البلل؟ من هنا عظمة روسو. ولكن بعد ذلك بربع قرن فقط اندلعت الثورة الفرنسية وانتقمت لجان جاك روسو خير انتقام. ولاحقت مطران باريس وجماعة الأصوليين في كل مكان حتى اختفوا عن الأنظار. تلك كانت ثورة حقيقية لها معنى! ثورة تدفع إلى الإمام، ولا ترجع بك إلى الخلف! الفقه القديم يقضي على التاريخية ويشل التطور لكن هناك ما هو أخطر من ذلك: فالفقه القديم بسبب خلع المشروعية الإلهية من قبل الفقهاء أصبح معصومًا لا يتغير ولا يتبدل مهما تغيرت الظروف والأحوال. وهذا ما شلَّ العرب والمسلمين عمومًا عن التقدم والتطور. إنه يلجمهم في كلِّ مرة يحاولون النهوض أو التقدم إلى الإمام. إنه يعيدهم إلى الوراء صاغرين. وذلك على عكس القانون الوضعي الذي يساير تقدم المجتمع ويتغير في اللحظة المناسبة لكي يسمح بتطوره. هذا التجميد للقانون الإسلامي كانت له نتائج كارثية. يقول طرابيشي: ولكن ما ربحه الوجود العربي الإسلامي على صعيد الاستمرارية التاريخية - رغم الفاصل الطويل الذي مثلته الخلافة العثمانية - خسره على صعيد الانقطاعية الحضارية. فلئن يكن التشريع الإسلامي، الذي عزا نفسه من خلال السنة المنسوبة إلى النبي مصدرًا إلهيًا قد صان ذلك الوجود وحفظه، فإنه بالمقابل قد شله عن التطور بقدر ما جمده في وضعية ثابتة ومكررة لنفسها وعابرة لشروط الزمان والمكان. ص 106 ثم يردف قائلاً: فتشريع كهذا ما كان له إلا أن يكون حاكمًا على التاريخ بدلاً من أن يكون - كما في مثال التشريع الوضعي - محكومًا به. والخروج من حكم التاريخ هو بمثابة خروج من التاريخ نفسه. وربما تكون تلك هي كبرى مفارقات إسلام التاريخ: فنسبته نفسه، على منوال إسلام الرسالة، إلى مصدر الهي قد قضى عليه أن يكون إسلامًا لاتاريخيًا. وهذه اللاتاريخية كانت ولا تزال هي النسغ المغذي للممانعة العربية، على صعيد العقليات والبنى الاجتماعية على الأقل، لآمر الحداثة. ص 107 كيف يمكن أن نعلق على كلام طرابيشي هذا؟ لا ريب في أن كلامه صحيح. ولكن عدم تركيزه بشكل كاف على التفريق بين العصور الوسطى والعصور الحديثة قد يوهم بالوقوع في خطيئة المغالطة التاريخية وهو لا يقع فيها أصلاً. فما يأخذه على التراث كان شيئًا إجباريًا بل وطبيعيًا بالنسبة لعقلية العصور الوسطى. وما كان للأمور أن تسير في تلك العصور إلا على هذا النحو الذي وصفه بدقة. وبالتالي فلا ينبغي أن نلوم تلك العصور أو أهلها على شيء يتجاوز سقفهم أو سقفها. فالتشريع الوضعي المنفصل عن السماء الإلهية كان أمرًا مستحيلاً آنذاك. كان يدخل في دائرة اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه إذا ما استخدمنا مصطلحات محمد أركون أو ميشيل فوكو أو الابيستمولوجيا المعاصرة بشكل عام. وبالتالي فلا يمكن أن نلوم أناس تلك العصور الغابرة على عدم تبني القانون الوضعي ذي الأصل البشري القابل للتعديل والتحسين والتطوير. ولكن الشيء الذي لم يعد مقبولاً ولا مفهومًا هو أن تستمر هذه العقلية التبجيلية في العصور الحديثة وأن تهيمن على فكر المسلمين حتى هذه اللحظة. هذا هو الشيء الذي يبرر الاستنكار وليس حصول ذلك في العصور الخوالي. لا يمكن أن نلوم المسلمين السابقين لأنهم فعلوا ذلك: أي قدسوا تاريخهم وأسطروه. فهذا ما فعلته كل الشعوب والأديان من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. ومعلوم أن فلاسفة عصر التنوير أمضوا جل عمرهم في نزع التقديس والأسطرة عن التراث المسيحي. ولاقوا في سبيل ذلك صعوبات ومقاومات وتكفيرات لا حصر لها. بل وعرضوا أنفسهم للخطر الأعظم أكثر من مرة. ولكن يمكن أن نلوم المسلمين المعاصرين على استمراريتهم على نفس نهج أسلافهم: أي عدم فعل أي شيء لتحرير تراثهم من أغلال الماضي وتحرير أنفسهم بالتالي من رواسبه وعراقيله وانغلاقاته المزمنة. هنا يتخذ كلام طرابيشي كل دلالاته ومعناه. أضيف إلى ذلك أن إسلام الرسالة هو أيضًا تاريخي مثل إسلام التاريخ. فأرخنة القرآن الكريم سوف تحصل يومًا ما بل وقد ابتدأت تحصل منذ الآن على الأقل في اللغات الأجنبية الاستشراقية كالألمانية والانكليزية والفرنسية. انظر أرخنة القرآن من نولدكه وحتى جاكلين شابي. ولكن يبقى منهج طرابيشي صحيحًا ومضيئًا إذ يحاول التفريق بين الإسلام القرآني وإسلام الفقهاء الذي تلاه. فهناك فرق حتى في الصياغات اللغوية: فأسلوب القرآن غير أسلوب الفقهاء والمحدثين. هل سيتحكم النص القديم بالواقع أو بالحياة إلى أبد الآبدين؟! أنتقل الآن مع المؤلف إلى مسألة أخرى. في فصل بعنوان: مالك بن أنس: هامش من الحرية، يحاول طرابيشي توضيح العلاقة بين النص المقدس والواقع. وهي علاقة رهيبة لا تزال تتحكم بالعقل العربي حتى هذه اللحظة. بل وتشكِّل وسواسًا للمؤمنين التقليديين وكابحًا للتقدم والتحرر من قيود العصور الوسطى اللاهوتية وفتاواها الإكراهية التكفيرية. يقول المؤلف موضحًا الإشكالية: من الممكن تعريف العقل النصي، وهو العقل المميز لجميع الحضارات المتمركزة دائريًا على نفسها نظير الحضارة العربية الإسلامية، بأنه العقل الذي يقدم تعقل النصوص على تعقل الواقع، أو يرهن الثاني بالأول. ولكن حتى مثل هذا التعريف ينطوي على تدرجات تتراوح بين عقل اندفاعي ينطلق من النص إلى الوقائع ليكاثر من تأويلاته ويغنيها ويطورها، وعقل نكوصي يرتد من الوقائع إلى النص فيفقرها ويعدم فروقها ويلاشي تلاوينها، ويفقر، بالضربة نفسها، النص وقابليته للتعدد التأويلي ومطواعيته للتكيف مع شروط الزمان والمكان تبعًا للقاعدة الفقهية الشهيرة: تتبدل الأحكام بتبدل الأحوال. ثم يضيف: النص بحكم مصدره الإلهي، أو المقدس في الأحوال جميعًا، لا يمكن أن ينطق إلا بحقيقة واحدة هي الحقيقة بألف ولام التعريف (أي الحقيقة المطلقة). ص 111-112 كيف نفهم هذا الكلام؟ كل من تناقش مع أحد الإخوة الأصوليين حتى المعتدلين منهم يسمع منهم في إحدى اللحظات عندما يحتدم النقاش هذه العبارة: يا أخي حيث يوجد نص لا أستطيع أن أفعل شيئًا! بمعنى أني مضطر لإلغاء عقلي أمام النص. مثلاً عندما يقول النص: ولا تشربوا الخمرة، فإن ذلك يعني السمع والطاعة وعدم شرب قطرة خمر حتى نهاية الأزمان وإلا فإنك تخرج عن أمة الإسلام. هذا الخوف من النص، هذا الرعب أمام النص، أكاد أقول هذا الانبطاح أمام النص، يميز كل العقليات الأصولية الحرفية ليس فقط في الإسلام وإنما أيضا في المسيحية واليهودية الأرثوذكسية. لاحظ شلل اليهود يوم السبت وعدم القيام بأي حركة حتى ولو أدى ذلك إلى كارثة في البيت! لاحظ ملاحقة اليهود السلفيين للمرأة خصوصًا في إسرائيل حاليًا. فهم يعتبرونها فاجرة وفاسقة إذا ما لبست القصير مثلاً تمامًا كما نفعل نحن. هذه العبودية للنص لا يمكن أن يتحرر منها المؤمن الليبرالي أو العلماني إلا عن طريق التفريق بين جوهر النص وحرفيته. أما الأصولي المتشدد فيظل مرتبطًا بحرفية النص. فتحريم الخمرة مثلاً يمكن تأويله على أساس أن الإكثار منها يؤدي إلى السكر، فالعربدة، فالعبث بحقوق الآخرين والتعدي عليهم،... إلخ. أما شرب القليل منها فمفيد للصحة بحسب رأي الأطباء ولا يؤدي إلى أي تجاوز للحدود أو تكسير للصحون أو اعتداء على الآخرين. وبالتالي فلماذا تحريم القليل بحجة أن الكثير ضار؟ لماذا تحريمه إذا كان مفيدًا للجسم ومنشطًا للروح؟ وهل ينبغي أن نبقى سجناء المعنى الحرفي للنص إلى أبد الآبدين؟ لكن ينبغي أن نذهب إلى أبعد من ذلك. ينبغي أن نتجرأ على أرخنة النص المقدس نفسه: أي ينبغي أن نربطه بظروفه وحيثياته الزمكانية (القرن السابع الميلادي. شبه الجزيرة العربية). هذه الأرخنة التحريرية حصلت في المسيحية واليهودية ولكنها لم تحصل حتى الآن في الإسلام. من هنا الحيرة الرهيبة والمعضلة الكبرى التي يعيشها عالمنا الإسلامي اليوم. الإمام الشافعي يرفع السنة إلى مرتبة القرآن هنا "يمسك طرابيشي نص الإمام الشافعي بتلابيبه إذا جاز التعبير" مسكة حقيقية. وويل لمن يقع في يد جورج طرابيشي! فهو قارئ ماهر وفيلولوجي حقيقي لا يخفى عليه شيء! إنه لا يقل خطورة عن المؤرخين الفيلوجيين الألمان. كيف حصل ذلك؟ ينبغي أن نقرأ الصفحات من 178 وما تلاها لكي نفهم الجواب. فالشافعي وجد أنه لا يمكن رفع السنة، أي الحديث النبوي، إلى مرتبة القرآن إلا إذا استطاع المطابقة بين كلمة الحكمة الواردة كمرادف للوحي في القرآن وكلمة السنة. ولكي يتوصل إلى هدفه فإنه يقوم بقراءة انتقائية تحيزية للآيات التي ترد فيها كلمة حكمة. كيف؟ يقول طرابيشي بأن كلمة حكمة واردة في إحدى وثلاثين آية من آيات القرآن. ولكن الإمام الشافعي لا يركز إلا على سبع منها مهملاً الآيات الأربع والعشرين الأخرى تمامًا. فهل تم ذلك بمحض الصدفة يا ترى؟ هل نسيها؟ ألم يرها؟ أبدًا لا. عندما نطلع على الآيات كلها نلاحظ أن الجواب هو بالنفي. فالآيات التي يذكرها ويركز عليها تذكر الحكمة كمرادف للوحي القرآني أو الإسلامي فقط. أما الآيات التي يهملها فتذكر كلمة الحكمة كمرادف للوحي اليهودي أو المسيحي أيضًا وليس فقط القرآني! والواقع أن القرآن يذكرها كمرادف لكل أنواع الوحي التوحيدي سواء أكان يهوديًا أم مسيحيًا أم إسلاميًا. قال الشافعي: "فرض الله على الناس إتباع وحيه وسنة رسوله، فقال في كتابه: ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم. (البقرة، 129). وقال جل ثناؤه: كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. (البقرة، 151). أما الآيات التي أهملها الإمام الكبير في رسالته الشهيرة فتقول ما يلي: "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" (آل عمران، 48)، أي يعلم عيسى بن مريم. "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين" (الجاثية، 16)... إلخ. نستنتج من ذلك أن الحكمة مرتبطة بكل النبوات وليس فقط بنبوة النبي الأكرم. ولكن الإمام الشافعي لم يذكر الآيات الأخرى التي تقول بأن الحكمة أعطيت أيضًا للشعوب غير الإسلامية وذلك قبل ظهور الإسلام. لماذا؟ لأن ذلك يتيح له أن يطابق بين مفهوم الحكمة ومفهوم السنة، وانطلاقًا من ذلك يتوصل إلى هدفه النهائي والأخير: أي رفع السنة إلى مرتبة الوحي القرآني من حيث العصمة والقداسة. إنها حيلة ذكية أو تخريجة ماهرة فعلاً. إذن كان الإمام الشافعي أول من رفع السنة (أي الحديث النبوي أساسًا) إلى مرتبة القرآن في الإسلام. وهذه حقيقة يعترف بها كبار الباحثين المختصين بالدراسات الإسلامية. ولكن هذه هي أول مرة أجد فيها باحثًا يكشف بدقة عن خفايا عملية الرفع هذه وكيف تمت. وهذا شيء يذكر لطرابيشي ويبرهن على أنه قارئ بارع لكتب التراث القديم. أتذكر أن أستاذنا أركون كان دائمًا يفرق بين الخطاب النبوي، أي القرآن، وبين كل الخطابات التي جاءت بعده بما فيها الحديث النبوي وكلام كبار الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين... إلخ. كان يقول ما معناه: الخطاب القرآني هو خطاب نبوي مثل الإنجيل والتوراة: أي خطاب مجازي عالي المستوى. وبالتالي فهو مفتوح على مطلق الله وتعددية المعنى. من هنا عظمة القرآن وبقاؤه الخالد. أتذكر أني كنت سائرًا في إحدى المرات في شارع محمد الخامس بالقنيطرة. وفجأة لمحت أمام عيني لافتة كبيرة تتصدر الشارع مكتوبًا عليها بالحرف العريض هذه الآية: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون". فجمدت في أرضي للحظات لكي أتذوق بلاغة الآية وعظمتها قبل أن أواصل مسيرتي. كنت قد قرأت هذه الآية في صغري مئات المرات ولكن قراءة تلاوة عبادية، أما الآن فإني أقرؤها قراءة فكرية وميتافيزيقية وجمالية بكل ما للكلمة من معنى. ليس غريبًا إذن أن يكون الفقهاء القدامى قد تحدثوا عن إعجاز القرآن. فهو فعلاً معجزة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. عندما تصيب المسلم مصيبة يكفيه أن يتذكر إحدى الآيات ويتلوها لكي يزول عنه الهم والغم. ولكن الفقهاء الذين جاؤوا فيما بعد كالإمام الشافعي وسواه حصروا الخطاب القرآني في معنى واحد وجمدوه وأفقروه ودفعوه في اتجاه التعصب للطائفة الوليدة: أي للطائفة الإسلامية. ومعلوم أنها كانت في طريق التشكل والانبثاق آنذاك من خلال المواجهة الصراعية مع الطائفتين الأخريين الموجودتين في بلاد الفتوحات بكثرة وبخاصة الطائفة المسيحية التي كانت تسيطر على معظم البلدان آنذاك من سوريا وفلسطين إلى مصر إلى العراق... لهذا السبب بالذات أخفى الشافعي، وهنا يكمن اكتشاف طرابيشي المدهش، كل الآيات التي تذكر الحكمة كمرادف للوحي اليهودي والمسيحي ولم يستبق إلا الآيات السبع التي تذكرها كمرادف للوحي القرآني فقط. هنا نلمس لمس اليد مدى انفتاح القرآن على الآخرين ومدى انكماش الفقهاء ورغبتهم في نبذ كل من ليس مسلمًا. وبالتالي فهم الذين أسسوا الانغلاق اللاهوتي الطائفي في تاريخنا وليس القرآن الكريم الذي يحتوي على آيات مدهشة في انفتاحها على بقية الأديان والقبائل والشعوب. اللاهوت القديم والانسداد التاريخي لهذا السبب يرى بعض المؤرخين أن موقف التعصب ضد الأديان الأخرى هو من بلورة الفقهاء بالدرجة الأولى لا من بلورة القرآن الكريم. فبالإضافة إلى بعض آيات التشدد هناك آيات التسامح العديدة جدًا في كتاب الله. ولكن المشكلة هي أن الفقهاء منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم يتصرفون وكأن آيات التسامح غير موجودة في القرآن! لا تعجبهم إلا الآيات العنيفة الحادة اللهجة ضد أتباع الأديان الأخرى. ابن حزم كان يعتقد بأن آية السيف وحدها نسخت نحوًا من تسعين آية كما يقول طرابيشي ص 385 في هامش طويل. أكتب هذه الكلمات بعد أن وقع بصري على مقالة لصبري حسنين من القاهرة في جريدة إيلاف الإلكترونية (يوم السبت 24.12.2011). وهي مقالة شديدة الدلالة والمعنى. يقول فيها الكاتب: وصف داعية سلفي مصري الأقباط واليهود بأنهم كفار. وقال ياسر برهامي زعيم السلفيين بالإسكندرية في مؤتمر انتخابي بمحافظة الدقهلية أن اليهود والنصارى كفار بحكم القرآن مشيرًا إلى أن لهم حقوقًا أقرَّها الله. وأضاف برهامي موازين الأمر لا بد أن تكون على ميزان الشريعة، ولن أتحمل القول بغير الشريعة، وعندما يسألوني عن اليهود والنصارى، ويطلبون مني أن أغير قولي من أجل السياسة، أرفض وأقول إن النصارى واليهود كفار، ولن أقول إنهم مؤمنين، كلام ربنا حأغيره؟! كيف نقرأ هذا الكلام؟ إنه شديد الدلالة والمغزى. إنه يعبر عن أكبر انسداد تاريخي في تاريخنا. وعلى صخرة هذا الانسداد تتكسر كل محاولات المفكرين لفتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود منذ أكثر من ألف عام. انه انسداد لاهوتي بالدرجة الأولى قبل أن يكون انسدادًا سياسيًا أو اجتماعيًا. وينبغي أن نقر للشيخ السلفي بفضيلة الصراحة والوضوح على الرغم من اختلافنا الجذري معه. فعندما فاوضوه لتعديل كلامه بغية التكتيك السياسي رفض قائلاً هذه العبارة المرعبة: كلام ربنا حأغيره؟! هنا يكمن الانسداد التاريخي أو اللاهوتي بالضبط. هنا تكمن أزمة الوعي الإسلامي المعاصر في الصميم. ما معنى الأزمة المستعصية؟ ما معنى الأزمة المدمرة التي لا منفذ فيها ولا مخرج ولا خلاص؟ إنها الأزمة التي تجعلك تقف بين موقفين متضادين فتشعر وكأنك محصور بين فكي كماشة. فالشيخ الجليل إذا ما استجاب لطلبهم وقال بأن اليهود والنصارى ليسوا كفارًا يكون قد أرضى قيادة الحزب السلفي ووفر عليها عناء الانتقادات الداخلية والخارجية التي تضعف مواقف السلفيين سلطويًا وسياسيًا. وإذا ما رفض ذلك يكون قد أرضى نفسه وربه وظل مخلصًا للقناعات الراسخة التي تربى عليها. ضع نفسك مكانه ولو للحظة واحدة. إنه موضع صعب لا يكاد يحتمل. ذلك أن التأويل السلفي للدين الإسلامي يكفر ليس فقط اليهود والنصارى وإنما أيضا الطوائف الشيعية برمتها. والسلفي لا يستطيع أن يخرج على هذه القناعات إلا إذا خان نفسه وضميره. هل تريدون أن يقتل نفسه؟ على هذا المستوى من العمق ينبغي أن نموضع أزمة الوعي الإسلامي المعاصر. وهي نفس الأزمة التي عاشها الوعي المسيحي في المنعطف الفاصل بين القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي كان بول هازار قد شخَّصها مطولاً في كتابه الشهير: أزمة الوعي الأوروبي.
الانقلاب المتوكلي والانتصار السلفي الحنبلي التكفيري الدائم أتابع هنا مع طرابيشي على نفس الخط لفهم سبب انتصار الخط السلفي في الإسلام على الخط المعتزلي هذا ناهيك عن الخط الفلسفي. فإذا كان المعتزلة هم عقلانيو الإسلام بحسب التسمية الفرنسية فإن الفلاسفة هم الأكثر عقلانية في الإسلام. لقد تقدموا على المعتزلة خطوة إضافية في اتجاه العقلنة بقدر ما يسمح به سقف القرون الوسطى بالطبع. أقول ذلك رغم أني سمعت أركون مرة يقول بأنَّ الفارابي مشى في العقلانية إلى تخومها القصوى. ولكن هل ينبغي أن نعتبره عقلانيًا محضًا كفلاسفة التنوير الأوروبي مثلاً؟ كسبينوزا أو فولتير أو ديدرو أو كانط؟ ألا يعني ذلك السقوط في المغالطة التاريخية: أي إسقاط عقلية العصور الحديثة على عقلية العصور القديمة؟ يخيل إلي أن أركون كان مترددًا في ذلك. فهو ليس كالجابري الذي يخلع على ابن حزم كل صفات العقلانية النقدية! انظر الفصل الذي خصصه له طرابيشي في الكتاب. إنه ممتع ومضيء. أيَا يكن من أمر فالمسألة ليست هنا الآن. السؤال المطروح هو التالي: كيف انتصر أهل الحديث والنقل على أهل الرأي والعقل؟ كيف أسسوا الأرثوذكسية الدينية: أي العقيدة "القويمة المستقيمة" رافضين كل اختلاف معتبرين إياه بدعة أو عقيدة بدعوية شيطانية؟ هذه مسألة شديدة الأهمية لأن آثارها لا تزال سائدة حتى اليوم. يقول طرابيشي بالحرف الواحد موضحًا هذه النقطة: من هنا نستطيع أن نتكلم على رُهاب الاختلاف لدى ابن قتيبة وسائر أصحاب الحديث الذين تسموا على سبيل المرادفة باسم: أهل السنة والجماعة. ص 393 معلوم أن أهل السنة والجماعة بسبب من انتصارهم السياسي ودعم خلفاء بني العباس لهم بشكل كامل بدءًا من المتوكل استطاعوا أن يحتكروا مفهوم الإسلام الصحيح، أي الأرثوذكسية، لأنفسهم رامين في مهاوي الزندقة والضلال كل الفرق الإسلامية الأخرى من معتزلة وشيعة وفلاسفة... إلخ. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن الشيعة أنفسهم شكلوا أيضًا أرثوذكسية عقائدية بعد انتصارهم السياسي أو حتى وهم في المعارضة عندما دعوا أنفسهم باسم: أهل العصمة والعدالة. وأما المعتزلة فقد انقرضوا من شدة الاضطهاد ولم تقم لهم قائمة بعد أن أباح الخليفة القادر دمهم في نص شهير. وطرابيشي على حق عندما يقول بأن القادر أكمل، فيما وراء الفاصل البويهي (العقلاني المستنير)، عمل المتوكل. ص 493. وكذلك الأمر بالنسبة للفلاسفة فقد اختفوا من الساحة بعد العصر الذهبي على أثر تكفير الغزالي وكل الفقهاء الكبار الذين تلوه لهم. وهكذا خلت الساحة لكلا الأرثوذكسيتين السنية والشيعية. وهذا هو الوضع الذي ورثناه نحن عن عصور الانحطاط وهزيمة العقل. ونحن الآن أمام هذا الإرث الثقيل الضاغط لا نعرف كيف نتصرف ولا كيف نعيد الأمور إلى نصابها. أقصد بذلك يستحيل علينا أن نفرض مفهوم التعددية العقائدية والدينية في المجتمع العربي ضمن هذه الظروف. وبالطبع فإن مفهوم الحرية الدينية أو حرية الضمير والمعتقد مرفوضة رفضًا باتًا في كل المجتمعات الإسلامية سنية كانت أم شيعية. ذلك أنه لا يمكن أن يوجد إلا دين واحد صحيح أو حتى مذهب واحد صحيح وكل الأديان والمذاهب الأخرى في النار بحسب منظور الأرثوذكسية الدينية أو المذهبية. وهذا الاعتقاد الراسخ يؤدي مباشرة إلى الذبح والقتل على الهوية. يحق لي أن أذبحك لأنك كافر، زنديق، مرتد، إلخ. ماذا نستخلص من هذا الموقف؟ نستخلص أن لكل ذلك جذورًا عميقة جدًا في تاريخنا ولهذا السبب فإن موقف التقليديين راسخ لا يستطيع أحد مقاومته أو تفكيكه في المدى المنظور. ولهذا السبب يستطيع الشيخ السلفي المعاصر أن يصول ويجول وكأنه بابا الإسلام، أو يمتلك الحقيقة المطلقة للإسلام. يستطيع أن يكفر من يشاء ويبرئ من يشاء. وسوف يظل الأمر كذلك ما دام التراث الإسلامي لم يتعرض للنقد التاريخي الصارم كما حصل للتراث المسيحي في أوروبا بدءًا من لحظة سبينوزا. ميزة كتاب طرابيشي هي أنه يمارس هذا النقد التاريخي بكل مرونة وجرأة عندما يحفر على الأساسات العقائدية للتراث ويخرجها إلى دائرة الضوء. يقول موضحًا هذه الجذور العميقة: ولكن بما أن الصناعة الحديثية كانت تنكر أصلها البشري، وتنسب نتاجها، ابتداء من انقلاب الشافعي الابستمولوجي، إلى أصل الهي لا يتميز وحيه عن وحي القرآن إلا بكونه غير متلوّ، فقد كان لا مناص من أن تنفي عن ذلك النتاج كل شبهة اختلاف أو تناقض، وإلا حام الشك حول مصدره الإلهي. ص 413 ثم يواصل طرابيشي كلامه في الصفحة التالية قائلاً: ويبدو أن معتزلة القرن الثالث الذين كانوا قرآنيين بالأحرى، قد أدركوا نقطة الضعف هذه عند خصومهم أصحاب الحديث وأرادوا، من خلال التركيز على ما في رواياتهم الحديثية من التناقض، إثبات مصدرها البشري... صحيح أن المعتزلة لم ينتقلوا من الإضمار إلى التصريح، لكن موقفهم الاحترازي هذا يمكن أن يفهم على ضوء قوة الشارع التي باتت لأهل الحديث ابتداء من الانقلاب المتوكلي، ولا سيما أن المعتزلة كانوا - وبقوا حتى انقراضهم – أهل نخبة. كلام رائع. وأكاد أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! ماذا يحصل الآن تحت أعيننا؟ من يكتسح الانتخابات من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وما بينهما؟ أليس أهل الحديث والنقل من الإخوان والسلفيين؟ من يسيطر على ساحة "الفتاوى الإلهية" والفضائيات؟ أليس رجال الدين الذين تحولوا إلى نجوم تلفزيونية أين منهم عباقرة المسرح والنجوم السينمائية! منذ ألف سنة والشارع لهم يصولون فيه ويجولون. لا يزال الحشوية وأهل الحديث منتصرين منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. أما أحفاد المعتزلة والفلاسفة من ليبراليين وحداثيين وعقلانيين فلا تأثير يذكر لهم على العامة، أي على الجماهير بلغتنا المعاصرة. إنهم يظلون نخبويين كالفلاسفة والمعتزلة سابقًا. وبالتالي أسلافنا مهزومون ونحن مهزومون أيضًا! فهل سنظل مهزومين إلى أبد الدهر؟ لا أعتقد. ولكن القصة طويلة. على أي حال هنا يكمن أحد أسباب الانسداد العربي والتخلف العربي عن الأمم الأخرى. انظر مكانة رجال الدين على التلفزيون الفرنسي أو الألماني أو السويسري أو بقية الدول المتطورة؟ إنهم مختفون عن الأنظار تقريبًا. ليس لهم وجود إلا يوم الأحد. وحتى عندئذ تجد الفلاسفة والمؤرخين يتحدثون عن المسيحية بكل حرية. وليسوا مضطرين لتكرار نفس الكلام المجتر منذ مئات السنين. هذا في حين أن وجودهم طاغ عندنا. نادرًا أن تفتح قناة تلفزيونية إلا وترى شيخًا جليلاً بلحية ضخمة، مخيفة، وهو يتحدث عن كل شيء ويفتي في كل شيء وكأنه يعرف كل شيء. وهذا أكبر دليل على مدى التخلف العربي. بدلاً من أن ترى فلاسفة أو علماء نفس واجتماع وانتربولوجيا كفراس السواح مثلاً يتحدثون عن الدين لا ترى إلا المشائخ التقليديين وأحيانًا المشعوذين والدجالين. ألا يستحق الإسلام وهو من أكبر أديان البشرية شيئًا آخر؟ أين هم عقلانيو الإسلام ومفكروه الكبار؟ أين هو العصر الذهبي؟ أين هو عصر النهضة؟
انهيار العقل في تاريخنا ثم ينتقل جورج طرابيشي بعدئذ إلى تحليل دقيق لكيفية انهيار التيار العقلاني المستنير في تاريخنا وصعود التيار السلفي الذي لا يزال مسيطرًا وطاغيًا حتى هذه اللحظة. يقول: فاستتباع السلطة الدينية للسلطة السياسية في عهد المأمون والمعتصم والواثق أطلق شرارة إصلاح ديني قاده المعتزلة الذين قالوا بوجوب توافق العقل والنقل واستبعاد كل ما يتعارض من النص مع العقل، وفي أدنى الأحوال، إعادة تأويله. أما تسليم سلطة الدين لأهل الحديث في ظل الانقلاب المتوكلي فقد وأد تلك المحاولة الإصلاحية وقطع الطريق أمام كل احتمال لتجددها، ولا سيما منذ أن استأنف الخليفة القادر بالله - بعد الفاصل البويهي – المشروع التسنيني الذي دشنه المتوكل. ذلك أن السلطة الدينية عند أنصار السنة، الذين هم أهل الحديث، هي – كما سنرى في مثال أحمد بن حنبل - سلطة نقلية خالصة. سلطة "سنية" بتعبير أدق، وبالتالي سلفية متشددة لا ترى في الجديد - أي جديد – إلا بدعة، ولا تعترف بأي استقلالية ذاتية للعقل، وتجعله في تبعية مطلقة للنقل، ولا تسمح بأن يسرح - هذا إذا سمحت - إلا بقدر ما يسرِّحه النقل،على حد تعبير الشاطبي. ص 493 مقطع هام جدًا ليس فقط لفهم الماضي وإنما لفهم ما يحصل حاليًا. وأعتقد أنه ليس بحاجة إلى شرح. فهزيمة العقل في الإسلام عمرها ألف سنة على الأقل. وحتى هذه اللحظة لا تزال هذه الهزيمة قائمة أو سارية المفعول إلى درجة أنه لم يعد أحد يصدق أن المعتزلة قد وجدوا يومًا ما، أو إن مقولة خلق القرآن كانت سائدة يومًا ما، أو إن الفلاسفة قد صالوا وجالوا يومًا ما. في اختصار لم يعد أحد يصدق بأن العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية قد أشع على العالم يومًا ما. كل شيء يحصل كما لو أن الانتصار السلفي الحنبلي شكل نهاية التاريخ في الإسلام. لقد ختم بالشمع الأحمر على الحضارة العربية الإسلامية وجمدها إلى الأبد. لكن مخاطر الانقلاب المتوكلي على المأمون والمعتزلة والعصر الذهبي لا تتوقف عند هذا الحد. وإنما تتجاوزه إلى تأسيس التعصب الطائفي كعقيدة راسخة، رسمية وشعبية. يقول طرابيشي بالحرف الواحد: ولم يكتف المتوكل برد الاعتبار إلى أصحاب الحديث واسترضائهم والإغداق عليهم، بمن فيهم ابن حنبل نفسه، بل سعى أيضًا إلى تعزيز موقعه عند العامة بإجراءات شديدة في حق أهل الذمة أقدم عليها في سنة 235 هجرية. من هذه الإجراءات إجبار المسيحيين على لباس يختلف عن لباس المسلمين من أجل تحقيرهم، وكذلك هدم الكنائس أو البيع المستحدثة، وكذلك رسم شياطين من خشب مسمورة على أبواب دورهم،... إلخ. عندما نقرأ هذا الكلام نتذكر ما يحصل في مصر حاليًا من هدم للكنائس واعتداء على الأقباط. وبالتالي فالمسألة قديمة ولها تاريخ طويل عريض. ثم يردف المؤلف في الصفحة التالية قائلاً: ولم تكن هذه هي الهدية الوحيدة التي قدمها المتوكل لأهل الحديث. فثمة هدية ثانية - لم يتوقف عندها مؤلف المحنة - تمثلت بالقرار الذي اتخذه المتوكل بهدم قبر الحسين، حفيد الرسول، وتسويته بالأرض. ص 490. ثم يواصل طرابيشي تحليله العميق قائلاً: إن الانقلاب المتوكلي الذي تجلبب ببعدين طائفي وطوائفي، من خلال معاداة الشيعة من داخل الإسلام والنصارى من خارجه، قد أرسى جذورًا سوسيولوجية - فضلاً عن الأيديولوجية – غير قابلة للاجتثاث ولا للتجاوز لصيرورة التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. ص 491 كتعليق على كلام طرابيشي أكاد أقول: ليته فعل ذلك فقط! فالواقع أنه لم يؤدِّ إلى التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث فحسب وإنما أسس جذور الطائفية والمذهبية في تاريخنا. وهي جذور مشرشة في الأعماق والأقاصي ويستحيل اقتلاعها في المدى المنظور. فتطاول الزمن ومرور القرون خلعا عليها مشروعية تاريخية لا تناقش. كيف يمكن أن تناقش شيئًا مكرسًا في العقلية الجماعية منذ ألف سنة أو أكثر؟ هذا بالإضافة إلى فتاوى الفقهاء التي كفرت كما قلنا المعتزلة والفلاسفة وجميع المذاهب الإسلامية الأخرى. لهذا السبب لا يستطيع أحد الآن مواجهة المشكلة الطائفية والمذهبية التي تنخر في جسد المشرق العربي وتهدده بأفدح الأخطار. على هذا النحو يكون جورج طرابيشي قد وضع المشكلة الطائفية ضمن منظور "المدة الطويلة للتاريخ" كما يقول المؤرخ الفرنسي الشهير فيرنان بروديل في مصطلحه الهام. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتشخيص المشكلة العويصة بشكل صحيح وأركيولوجي عميق تمهيدًا لحلها يومًا ما. ينبغي أن يطلع القارئ أيضًا على الفصل الذي بعنوان: ابن حنبل إمام السنة. فالواقع أن المذهب الحنبلي هو أساس كل الانغلاقات التراثية والسلفية المعاصرة. بعدئذ نصل مع المؤلف في هذا الكتاب القيم إلى الخلاصة النهائية التي تتخذ العنوان التالي: من انتصار الأيديولوجيا الحديثية إلى هزيمة العقل. فهنا في ختام الكتاب يشخص طرابيشي المرض العضال الذي أصاب الحضارة العربية الإسلامية وجمدها لقرون عشر وجعل الآخرين يتفوقون عليها. يقول طرابيشي بالحرف الواحد: لقد نصَّب أهل الحديث أنفسهم الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الإسلام الهالكة كلها في النار. وقد استمر هذا الميز ساري المفعول ابتداء من القرن الخامس ووصولاً إلى العصر الحديث. ص 619 لا أستطيع أن أتوسع أكثر من ذلك في عرض هذا الكتاب الضخم الذي يستعرض تاريخ التراث من أوله إلى آخره والذي يمكن أن يقرأ وكأنه رواية ممتعة متسلسلة الفصول. إنه بمثابة ملحمة للتراث الإسلامي على مر العصور. *** *** *** الأوان، الثلاثاء 24 كانون الثاني (يناير) 2012 |
|
|