الانبهار بما يسمى مواد الوجود الرتيبة

رلى راشد

 

يعتبر الكاتب الإنكليزي جوليان بارنز أن أحد أهم القرارات التي ينبغي للكاتب التمسُّك بها عند شروعه في نص، يتصل بالعلاقة التي تجمعه بالقارئ. يروقه أن يحتفظ بالقارئ في أقرب مكان متوافر. يتلذَّذ في أن يتصوَّر الكاتب والقارئ متكئين إلى المائدة عينها، ليس وجهًا لوجه وإنما جنبًا إلى جنب، يتطلعان صوب نقطة الوصول عينها. في ذاك السيناريو الذي يتخيَّله بارنز بحذافيره، يسأل الكاتب القارئ "ماذا تظنُّها تحبّ؟" في الحديث عن تلك الشخصية، ويستوضحه في شأن أخرى: "تتراءى لي غريبة بعض الشيء، أليس كذلك؟". ها هنا محاذاة بين رؤية القارئ والكاتب، بل وتوازن بينهما. وإن تقدَّمت نظرة مبتكر الحكايات قليلاً، فذلك لأنه القادر على معاينة التفاصيل بإيقاع لا يحترفه سواه.

منذ انصراف بارنز إلى الرواية في 1980، أُطلق عليه لقب "حرباء الآداب البريطانية"، لأنه التأم كاتبًا يشبه الواعين ساعة يستسلمون للأحلام، في حين تلقَّف إيماءات المرح ليجتاز إستعاريًا الثقافتين الشعبية والنخبوية. اتضح افتتانه بفلوبير من طريق أسلوب الكتابة عنه في روايته الرابعة ببغاء فلوبير خصوصًا، حيث ألقى على الكاتب الفرنسي المديح لعبقريته التي مكنته من عدم اقتراف كتابة عمل واحد مرتين. والحال أن بارنز لا يهتم جدًا بفكرة انجاز روايات بالمعنى الحرفي، تلك التي تسوِّق لها مدارس النقد في انكلترا على وجه محدَّد. يشعر بالقرابة مع مفهوم أوروبي أكثر سخاء في تقبُّل التنويعات، لأنه يرى الرواية شكلاً فسيحًا يعبُّ من تصورات عدة ويغطي تشعُّبات لا تنحصر في تصنيف. أما النتيجة ففوز بارنز في رحاب نصوصه بوسام الشمولية الأعظم، عوضًا من الاستثناء الأعظم. في مجموعة الروائيين الشباب الذين بزغ نجمهم في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم، لاح جوليان بارنز الأكثر أناقة والأكثر تمكُّنًا من الأدوات الأدبية والأكثر إبهامًا أيضًا.

يعي بارنز أهمية الهيكلة في النص، بقدر وعيه دور القماشة اللغوية. والحال أنه يشذِّب هذين المحورين في مجموعته القصصية الأحدث، نبض، حيث يمارس الحديث عن تخوم فكرة محدَّدة عوضًا من الاكتفاء في الحديث عنها مباشرة. يمكن الإعلان أن تلك المجموعة القصصية ارتجال انكليزي لهذا التمرين، فيما تحضر النزوة الذاتية على غير عادة. تظهر المجموعة المتوازنة إلى أقصى حدٍّ، كرفيق لتأمل عميق في الموت كان تدرَّب عليه بارنز في ليس ثمة ما يخيف الذي سبق صدوره في 2008 رحيل زوجته بات كافانا بثمانية شهور فحسب. المجموعة الجديدة كالعناوين التي سبقتها منذ 1978، مهداة "إلى بات" ومشغولة بالوحدة ونقيضها، أي الحب. إنها المجموعة المترقَّبة بشغف والمسكونة إيقاعًا بصخب التيارات العاتية، وتيارات الجسد والعلاقات الجنسية والمرض والموت والمحادثات، فيما يتعلَّق كل شخص بنبض يحرِّكه النجاح والفقد ناهيك بالبدايات والنهايات.

تبدأ القصص بالمألوف لتبلغ الخارج عليه. تنطلق في مزارع الكرمة في إيطاليا وتصل إلى الشرفة المطلة على البحر الإنكليزي شتاءً. نحن في حضرة قصص مضغوطة ومتندِّمة ومتهكِّمة على نحو شبه يائس يغامر صانعوها المتخيلون في أن تلتهمهم ابتكاراتهم. ليس هناك حاجة إلى التذكير بأن الموت تبدَّى مصدر هجس أدبي دائم لدى بارنز. لطالما جعله الهلع من الرحيل، يضطرب. كان يستيقظ ليلاً ليرقب قبضته تضرب وسادته على نحو غير واعٍ، فيما يصرخ كلا. لم يُخفه الخرف أو ألم الموت كما السواد الأعظم من الناس، وإنما احتمال الاندثار، وتلك مسألة تجعله يحسُّ بانعدام التوازن.

في نبض يتمسَّك الكاتب بمنطق الكفِّ عن الوجود، تدعمه عناصر المواد الخام. ترتكز القصص الأربع عشرة على الانبهار بما يمكن أن يسمَّى مواد الوجود الرتيبة، روتين اليوميات والاهتمامات التي تلصق الشخوص بحيواتها ويسعها أحيانًا أن تحدَّ نطاق مناورتها إلى حدٍّ بعيد.

تفضح المجموعة آلية عمل بارنز التي لا تتمهل عند تحديد. اثنان من عناوينه، ببغاء فلوبير وقصة العالم في عشرة فصول ونصف فصل، جاءاه بأنماط غير عادية، بتهجين ناجح تمامًا، ذلك أنهما اعتمدا التخييل في جزء منهما، والبحث في الجزء الآخر. أما في آرثر وجورج فنعثر على إعادة تركيب قضية غريبة وإخفاق قضائي، بحثٍّ من مناخ نسجه آرثر كونان دويل، ليتجاسر بارنز في نبض على الإتيان بأربع قصص تعدُّ قصصًا بالكاد. صيغت تلك الحكايات بأسلوب الحوار في حين يصعب التعرُّف إلى أطرافه، ذلك أنها أشبه بتقارير عن محادثات تجري حول طاولات العشاء. ينتمي الذين يتقاسمون الكلام، وهم في منتصف العمر، إلى الفئة المدينية عينها. يدرك الجميع الرأي المناسب الرائج، في حين يعبِّرون عن الحنان إلى نشاطات صارت تعدُّ غير صائبة، من مثل التدخين، بينما تعتريهم الشكوك فيما يخصُّ الاهتمامات المواكبة للعصر، من قبيل الإحترار المناخي. يتذمرون بواقعية صرف، ويتحايل أحدهم على الآخر أو يحاول تسجيل نقاط في مرماه. تتبع الأحاديث هيكلة رفيعة وإن تبدَّت مشوَّشة ظاهريًا، كنا لنصدِّق تاليًا لو قيل لنا إن جوليان بارنز ترك ماكينة تسجيل على طاولات المآدب.

يتقسَّم نبض جزءين. يشكِّل الحب نواة القصص التسع الأولى في الأصل حتى لتتبدَّى كأنها تتناول الانسلاخ في المحصلة. أما القصص الخمس التي تكوِّن الجزء الثاني فتنشغل بالحواس حيث يمثِّل اللمس والرؤية والشمُّ والذوق والإصغاء جلَّ ما نملكه للتقرُّب من شخص آخر. يعاينها على سبيل المثال في قصة تواطؤ، من طريق تربوية على حدة. اعتادت والدة الطفل الراوي أن تداوي الحازوقة التي عاناها بنمط غير مألوف. بحثت عن مفتاح الباحة الخارجية وعندما وجدته أبعدت ياقة قميص ابنها عن عنقه لتجعل المعدن البارد يتسلَّل إلى قعر ظهره. آنذاك ظنَّ الفتى ذاك العلاج أسلوبًا دارجًا استخدمه الأطباء والأمَّهات على السواء، ليستفهم لاحقًا في سن متقدمة عن قدرته الشفائية العبثية. سأل هل جاء العلاج بنتيجة لأنه حرف انتباهه عن الحازوقة أو لأنه انطوى على تفسير عيادي، ليصل به الأمر إلى التمهُّل عند قدرة إحدى الحواس على التأثير في حاسة أخرى.

عند نقطة التئام شطرَي مجموعة القصص، تطفو قصة غياب مؤثرة بعنوان خطوط الزواج، حيث رجل ترمَّل للتو يعود إلى جزيرة مال في اسكتلندا التي استبقت بعض أكثر ذكرياته سعادةً، رفقة زوجته بين التنزه وتأمل الطيور. يستخدم الرواي من دون انتباه على نحو حدسي "حقائبنا" بصيغة الجمع وما يتفرَّع عنها، غير أنه لا يلبث، على ما يكتب بارنز، أن يقول: "يدرك أنه ينبغي له أن يبدأ باستخدام الصيغة المفردة عوضًا منها". أما في القسط الثاني من المجموعة فيقدم بارنز نبرات مختلفة تنطلق مع سرد حكاية رسام بورتريه أصم أبكم، يحاول أن يتواصل فحسب، ناهيك بحكاية انجذاب فتَّاك صوب البطل الإيطالي القومي جوزيبي غاريبالدي وقصته الزوجية بعنوان كاركاسون، حيث نقع على مزيج من التخييل والتكهُّن والتأمل على نسق ببغاء فلوبير. يتجسَّس "بطل العالمين" غاريبالدي، بفضل انتصارات بعثاته العسكرية في أميركا اللاتينية وأوروبا، على زوجته الخائنة عبر جهاز تلسكوب ثبِّت على سطح مركب إحدى السفن، فيطلب من رجال طاقمه أن يتم إلقاء المرساة. كاركاسون قصة قصيرة أو توشك أن تكون كذلك، لأن بارنز يكتفي بإمرار وقائع باعثة للاهتمام حصل عليها من هنا وهناك، يستخدمها ليجمع نقطتين في خطِّ حياة جوَّالة. تأتي الحكاية في أقل من أربعمئة كلمة، فرصةً يقنصها بارنز ليتحدَّث عن "قانون يهزمه المحامون في المحصلة".

يخطف بارنز قصة ريح شرقية إلى بلدة ساحلية شرق انكلترا، ليكتب عن فيرنون الوافد إلى البلدة قبل شهور في إطار خطته لترك حال اليأس تأخذ مجراها في مكان حيث "سماء مضجرة" و"بحر يفتقر إلى الحياة". يصف بارنز الجغرافيا المتكافلة مع زائرها: "كان ذاك الشاطئ الشرقي. في خواتم الشهور يحصل المرء على قليل من الطقس السيئ وعلى كثير من اللاطقس. لاءمه الأمر تمامًا، انتقل للإقامة في هذا المكان لكي تخلو حياته من أي طقس". ليس ثمة شيء بين المكان وجبال الأورال من حيث تعصف الريح التي تلامس وكيل العقارات الوحيد والمطلق الذي لا يلبث أن يرتبط بعلاقة جنسية مع نادلة تتحدر من أوروبا الشرقية يلتقيها في أحد المطاعم باسم "أفضل سمك مفلطح"!. يعدُّ فيرنون النساء أجزاء جسدية مقطَّعة: "وجه عريض، شعر مستعجل وجسد مكتنز"، ومغامرته الجسدية الوجيزة تختتم تحت نير التفاصيل. يكتب بارنز: "ترفض الإجابة عن أي سؤال وعندما يحقق في المسألة أكثر، تختفي". لطالما أجاد بارنز التقرُّب من العلاقات، ليوفِّق في جمع الناس الذين يبحثون عن الاتحاد، فيما يفشل أحدهم في الإجمال في فهم الآخر. يقشطون أول طبقة من المعوقات ليجدوا أخرى فأخرى. تتكرر تلك الثيمة في ممارسة الحب مع جون ابدايك. تذوب وجهة نظر بارنز التهكمية والذكورية الحائرة في قالب كاريكاتوري، ليقدِّم كاتبتين في منتصف العمر، متضامنتين مبدئيًا، في حين تضمر كل واحدة شتى المشاعر السلبية إزاء الأخرى. تلك الرصاصة الأخيرة في ذخيرة بارنز الوصفية الحنونة للقمع البورجوازي.

أما قصة نبض التي تمنح هويتها للمجموعة، فهي الأفضل بلا منازع. الراوي طفل وحيد لثنائي سعيد، يدوِّن بارنز اختلاجاته بلسانه:

أظن الأمور تختلف حين تضمُّ العائلة الصغيرة طفلاً واحدًا بسبب انتفاء وجود فريقين متخاصمين، ليس هناك فريق للأطفال قبالة فريق الراشدين. هناك الثلاثة فحسب، وفي حين حظيت بغنج أكثر من سواي على الأرجح، تعلَّمت كذلك وفي سن مبكرة أن أعيش في وسط عالم البالغين، لأنها اللعبة الوحيدة المتوافرة. ربما أخطأت في هذا الصدد. في وسعي أن أتخيَّل جواب جانيس في حال طرحتم عليها أي سؤال يتعلَّق باكتمال نموِّي.

جانيس زوجته، لكن والدته تأتي في المقام الأول. تحتفظ قصة نبض بركن على حدة بين قريناتها، ذلك أنها تخرِّب الأسلوب الامتثالي في تقديم الصراع بين الكنَّة ووالدة الزوج. والحال أن هذا الخرق في الأعراف مقنع إلى حدٍّ بعيد، يوائم حرفة بارنز التحليلية الدقيقة فيجعل القارئ يشكك في صوابية فهمه لمقاربة الراوي، وإن تبدَّت منطقية. ذلك أن الأمور تتبدَّل عندما يغامر أحدهم في رؤية وجه العملة المستتر. يتضح أن مواقف جانيس فظيعة وأنها سيدة صعبة المراس، غير أنه لا يسعنا الجزم أنها مخطئة.

نشرت أربع قصص من مجموعة نبض في مجلة "نيويوركر" قبل جمعها في كتاب. والحال أن جميع الحكايات تملك الدقة والعناية التي أوصلت مجلة التخييل الأميركية الذائعة الصيت إلى المرتبة التي نعرفها. إذا كانت لبارنز فضيلة تستحق الذكر في قصصه المخطوفة إلى نبرة متفهِّمة، ففي اقترافها رفعًا مستحبًا للعلاقة الدرامية بين الجسد والذهن.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود