|
رفض الفجور٭
1 تلك اللحظة في يوم من أيام كانون الأول. لحظة حاول عديدون إعادة إنتاجها هنا وهناك، في مصر أو الجزائر أو غيرها من البلدان، بدون أن يفلحوا، فاحترقت أجسادهم هباء. تلك اللحظة التي دامت رفَّة جفن، بين ردع شرطي والإتيان ببعض المحروقات ورشها وإشعال النار فيها، فيها جمال الفعل الأقصى بل إنها الجمال عينه. وهي الجمال، لأنها ما قبل السياسة وما فوقها. عجز الكلام عن التعبير عن الغضب المتراكم فجاء عود الثقاب يسعف اللسان الفاشل. هذا شاب قبل أن يعيش في مدينة من بر تونس، بينما تنعم مدن الشاطىء بعوائد السياحة وحلاوة السواح، وقبل أن يضع شهادته الجامعية في الدرج بعدما اكتشف أنها ليست المفتاح السحري الذي اعتقد وهو يراجع دروسه على ضوء قنديل خافت للفوز بفرصة عمل لائقة، وهو ارتضى الاكتفاء ببيع الخضراوات على عربة بعد أن تلاشت آماله الأخرى جميعًا. لكن تنازلاته، وهو بها أعلم، بقيت له، بل وجاء شرطي يجادله حتى في ممارسة ما يعتبره نوعًا من الذل المعيشي الذي ارتضاه بعدما تلاشت الأحلام الأخرى. فيا للشعور بالظلم المطلق، بالظلم العاري: أنا أقبل بقليل القليل كي اعتاش ولكني، حتى من القليل القليل أُحرم. يعجز اللسان ويشتعل عود الكبريت. 2 علَّمنا محمد البوعزيزي الكثير، ومنه أن السياسة التي نتعاطى ليست كل شيء، لا الأفكار ولا الأيديولوجيات، ولا الصراعات على السلطة، ولا مشاريع التحرير والتحرر. ذكَّرنا، وجسده شعلة نار، أننا قبل كل هذا، وفوق كل هذا، نعيش في عصر الفجور، ونصمت عنه متحججين باهتمامنا البائس بالسياسة، أو بولعنا الخائب بالأفكار الكبيرة. الفجور. نعم الفجور. منذ نحو عقود ثلاثة تهاوت كلُّ الحدود أمام الإثراء الفاحش والإنفاق التظاهري وعبادة المال، سيما إن كان حرامًا. لن يبرىء أحد الجيل السابق من رجال الشأن العام من حب الفلوس ومن دفع الرُّشى ولا من قبضها. ولكن فورة النفط بعد 1972، وتكدُّس المليارات، ونهم الاقتناء الدائم والإنفاق غير المحدود، والغرام غير المسبوق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة، وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية، أدخل في المجتمعات العربية مستويات غير معهودة من الفجور يتندَّر بها على حسابنا العالم بأسره. وتساوت النظم المعدمة بالدول النفطية في ممارسة هذا الفجور، وجوهره هوَّة سحيقة تزداد عمقًا كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام، ومن يبقى معدمًا وهامشيًا. دعك يا صاحبي من التمييزات الخائبة بين دول النفط ودول القحط، أو بين الملكيات والجمهوريات، أو بين دول الاعتدال ودول الممانعة، فكلُّها اعتبارات في الحقيقة شكلية. دعك من ذلك، وانظر يا صاحبي الى تلك الآلاف المعدودة (إن لم تكن المئات) من الأفراد التي استولت في كل بلد عربي أعرفه على 20 أو 30 أو 40 بالمئة من كامل الثروة المحلية. انظر إلى دول المشرق، انظر إلى مصر والسودان، ودول الخليج ودول المغرب. في كل بلد مجموعة ملتصقة بالسلطة السياسية، تشكل نواتها أو تدور في فلكها أو تشكل امتدادًا لها، قد استولت على سبل الإثراء السريع، وما أكثرها، يوم فتح الحاكم أمامها المجال كي تشاركه بالمغانم أو أن تحققها وتعود إليه بعد ذلك لتقتسمها معه. كل منا يعرف ذلك، وبعض من التقيهم قد تخصص فعلاً في متابعة الصفقات المشبوهة والرُّشى الهائلة والإثراء الفاحش. بل إني تعرفت على كثيرين يكادون لا يتحدثون إلا عن هذا. ولكن اهتمامهم بدا لي دومًا ملتبسًا، مشوبًا بالكثير من الحسد. فهم يتحدثون عن إثراء الآخرين لأنهم في الأساس قد حُرموا من فرص الإثراء ذاتها، لا لأنهم ينتقدون مبدأ مدِّ اليد للمال العام، ونهم تكديس الأموال؛ إنهم مصابون بالنهم عينه، لكنهم عاجزون عن ممارسته، أو عن مزاولته بالنسبة نفسها من المداخيل. 3 البوعزيزي لم يكن يعرف على الأرجح أرقام ثروة هذا أو ذاك من أقرباء رئيسه ومن أفراد حاشيته. ربما لو أدرك حجم ثروة بعضهم ما كان تمكَّن من تخيُّل الرقم، وما كان قد صدَّق ما يقال له. وتونس بالمناسبة لا تحتمل أرقامًا من الثروة الفردية والعائلية، بهول الأرقام التي يتم تداولها في دول عربية أخرى. إني لمدرك أن الأيديولوجيا النيوليبرالية قد عمَّقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف أنحاء العالم، في الولايات المتحدة، في الصين أو في الهند، في روسيا. مشاهد مرعبة عن الفجور نفسه: قصور وشقراوات في الأحضان وحياة عاطلة شبه دائمة في الكاريبي وسردينيا ومراكش، بينما رجالك يزيدون من ثروتك وأنت تتمتع بالحياة المرفهة. 7 ملايين بشري من أصل 7 مليارات يملكون اليوم أكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمُّق يزداد حدَّة في كل بلدان العالم، سوى استثناءات معدودة. لكن فجورنا أبشع لأن اثرياءنا أقل إنتاجًا من زملائهم في العالم، وأكثر اعتمادًا على الريع، وأكثر التصاقًا بالسلطات السياسية بل إنهم أحيانًا عماد تلك السلطات. ومن بعض ما علَّمنا البوعزيزي في لحظة عابرة من الزمن، أن هذا الفجور لا يواجه إلا بالعودة إلى الأخلاقيات البسيطة. هذا الفجور لا يواجه لا بالسفسطائيات الماركسية، ولا بالتعويذات الدينية، إنما فقط بالرجوع إلى الغضب العاري والعفوي، بالعودة إلى الرفض البسيط للظلم بدون أي محاولة لتوصيفه أو تفسيره. مجرَّد الرفض بإشعال عود كبريت، وإذا بالخوف الذي في باطنك يتحول فجأة إلى هلع عند خصمك الحاكم المستبد المثري. 4 ما إن فرَّ زين العابدين من قصره المتطاول على شاطىء قرطاج حتى اشتعل السؤال المضني: من ذا الحاكم الذي يليه على دروب التقاعد المبكر؟ أهذا الرئيس أو ذاك الملك أو ذلك الأمير؟ شعرت عند أبناء جلدتي بعطش مستجدٍّ لمشهد الرؤوس المتدحرجة، أو على الأقل لمشهد المداخلات البائسة أمام الكاميرا وصاحب العمر الطويل يستجدي مواطنيه أن يتحملوه لسنوات ثلاث إضافية فقط لأنه والله! والله! لم يفكر يومًا برئاسة مدى الحياة. كثيرون اعتقدوا أن الحكام الآخرين أصابهم الهلع من عدوى الفيروس التونسي سيما وأن أقربهم لتونس انبرى يدافع عن جاره المخلوع. ورأينا شعراء البلاط هنا وهنالك يردون بالحجة البائسة نفسها: الخصوصية التونسية مرض محدد لا أثر له خارج حدود تلك الجمهورية الهانئة البسيطة، ولا خطر بالتالي من أي عدوى. فالعرب، على عكس أوروبا الشرقية منذ نحو عقدين، لا يمارسون لعبة الشطرنج، وهم بالتالي عصيون عن أن يصبحوا ضحايا موجة من الانتفاضات. يا لبؤس المنظرين الذين كتبوا المجلدات عن وحدة المجتمع العربي، وعن التواصل والتشابه والتفاعل بين البنى المجتمعية العربية والذين راحوا الآن يحدثوننا ببلاغة فصيحة عن خصوصية تونس، وعن عدم فاعلية نموذجها، وانعدام عدواها كنوع من اللقاح ضد تلك العدوى التي يعرفون في أعماقهم أنها ممكنة. لكن شتان بين الشوق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، والوجوه الرئاسية الهلعة وبين تكرار التجربة التونسية هنا أو هناك. أعترف أني من الذين سيهنأون بانقطاع الرئاسات التي لا تنتهي، وأني لم أقبل يومًا بالتحايل العربي العام على مبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة. لكن مشهد الرئاسات المنقطعة على حين غرة له شروط ومواصفات. 5 فما هو مغزى الحالة التونسية خارج تونس؟ الحق يقال إن من أرقى ما في الحدث التونسي هو بالذات تونسية الحدث، بمعنى الدور الهامشي (وربما المنعدم تمامًا) للقوى الخارجية في صناعة الحدث مهما جدت قناة "الجزيرة" في البحث عن تلك القوى، وأيضًا بمعنى أن صانعي الحدث من المنتفضين التوانسة لم يتنطحوا للعب دور يتجاوز حدود بلادهم، ولم ينظروا إلى أنفسهم بوصفهم قادة الثورة الفرنسية أو بلاشفة القرن الحادي والعشرين. الحدث التونسي في جوهره انتفاضة محلية في نوعية المحفزات وهوية الأطراف وآفاق التحرك الجماعي. وهذه الطبيعة المحلية ضمانة حقيقية لأبناء الانتفاضة إن عرفوا الحفاظ عليها. لكن نجاح التوانسة (أم عدمه) في ترجمة انتفاضة جوهرها أخلاقي، وذات طابع محلي، وبدون قيادة وطنية مؤطرة إلى مشروع حكم بديل للحكم المخلوع مسألة تتجاوز تونس، شاء التوانسة أم أبوا. بمعنى أن تونس قد دخلت الامتحان الذي فرض تباعًا على غير بقعة عربية: هل إن سقوط النظام يعني بالضرورة حالة طويلة من انعدام الاستقرار بل والفوضى أم أنه بالإمكان تصور سيناريو انتقالي شبه سلبي بعد فرار المستبد الفارض للأمن بالقوة؟ إن كان الجواب التونسي إيجابيًا تصبح العدوى أكثر احتمالاً. أما إن عجز التوانسة عن إنتاج نظام بديل في فترة معقولة من الزمن، أو إن سمحوا للخارج أن يتدخل في شؤونهم و ذهبوا إلى حد توسُّل التدخل الخارجي المستمر (كما لم يخجل اللبنانيون يومًا عن القيام بذلك)، فقد يتحول حدثهم الجميل إلى فزاعة يهدد بها زملاء بن علي من المستبدين العرب شعوبهم: تحملوني كما أنا وإلا فالفوضى ستضربكم. وإن كان من المبكر الجزم بمآل الحدث التونسي فالحق يقال إن بعض عناصره، غداة فرار بن علي، تبعث على القلق عليه. كمثل المطالبة باقصاء مطلق لمنتسبي حزب الحاكم المخلوع، أو الحنين إلى بورقيبية تجاوزها الزمن، على الرغم من محاسنها، أو محاولة إسقاط تيار ديني على حدث لم يلعب فيه ذلك التيار دورًا يذكر في الوقت الذي سيحاول كثيرون في محيط تونس المغاربي أو الأوروبي التدخل في شؤونها لدفع أدواتهم المحلية إلى الصدارة. لذا فالسؤال الأول هو في مناعة الحدث التونسي أمام دعوات التطرف والراديكالية في الداخل (وهي برأيي طفولية أو مشبوهة) وأمام محاولات التدخل من الخارج. جوهر المسألة يتعلق بطبيعة السلطة العربية الراهنة وباحتمالات تطورها. المسألة ليست كما يردد عديدون، في ظواهر التوريث وما شابه. المسألة في العمق هي في نظرة الحاكم إلى السلطة، بوصفها ملكًا له، وإلى الدولة بوصفها متاعًا يحق له التصرف به للإثراء الذاتي أو للتوريث لمن يشاء أو للبيع والشراء والمقايضة. هذه ثقافة سياسية غالبة قد فرضت على مختلف الأنظمة العربية. مهما كان شكلها الدستوري المعلن، تحديدًا لعلاقة الحاكم بالدولة بوصفها علاقة تملُّك مطلق، كمثل تملُّك فلان لأرض زراعية وتملُّك آخر لمصنع. ومن فضائل تملُّك دولة بدلاً من أرض أو مصنع، هو أن الدولة تعطيك في الآن معًا عوائد عديدة متكاملة: السلطة على الآخرين، الثروة بوصفها عنصرًا مرافقًا للسلطة، والجاه الذي يسعد قلب زوجتك وأقربائك. هذه عوائد مادية ورمزية في الآن معًا لا يتيحها تملُّك أيَّة وسيلة إنتاج أخرى. من هنا إلحاح من في الحكم على البقاء فيه، ومن هنا أيضًا اعتباره أن من حقه التصرف به كمثل توريثه لأحد أولاده. فاشراك العائلة الراهن في فوائد الحكم وعائداته، كما توريث الحكم اللاحق لأحد الأولاد كلاهما صورة عن الأساس، وهو أن الحكم عبارة عن تملُّك بالمعنى الحرفي للكلمة. 6 ما العمل والحال كذلك؟ الحدث التونسي ضرب تلك المعادلة في الأساس إذ إن احتراق جسد في بلدة بعيدة فجَّر ما في القلوب من عواطف ضامرة ضد تحديد تملُّكي للسلطة من قبل من لا يستحق، في وطن لا يتحمل هذا النزوع، حتى قال أحدهم لي بالهاتف: لو طلَّق بن علي زوجته في الوقت المناسب لربما نجا بنفسه، ومعناها أن التحول إلى ممارسة التملُّك الأسري للدول في جوهره مرفوض. هذا هو العنصر الذي إن تم إيضاحه في تونس وغيرها من البلدان من شأنه أن يجعل من ذلك البلد المغربي مختبرًا مفيدًا لإعادة النظر في طبيعة السلطات القائمة، وبالتالي في إرغام الحكام على الخروج من مواقعهم أو على الأقل على الخروج من مفهوم تملُّك الدولة من خلال الحكم غير المرتبط بزمن أو من خلال توزيع الثروة على السلالة الافتراضية أو من خلال محاولة فرض التوريث. وإن لم نفلح في بلورة هذا الانحراف المفهومي السائد في مفهوم الحكم فلن نفلح في فرض العودة لتحديد سليم له. ثم يأتيك طبعًا دور المجتمع الأهلي من خلال أحداث كتلك التي تمرُّ بتونس. هناك مجتمع أهلي في تونس، كما في غيرها ودوره أساسي، خنوعه كنز للسلطة القائمة، وتحرُّكه سبب هلعها الأول. لكن الأساسي هو في مدى استجابته للتضحية، وفي مدى نبذه للظلم. أنا لا أشك في وجود مخزون شعبي حقيقي معادٍ للظلم والفجور. ولكن هذا المخزون بحاجة إلى عود ثقاب فعال كي لا يقدم على هبَّات شعبية عقيمة. لكن أفضل أنواع المجتمع الأهلي هو ذلك الذي لم يصب بانقسامات عمودية مديدة، طائفية ومذهبية وجهوية أو لغوية. من حسن حظ تونس ذلك الضعف في الولاءات المحلية، كما انعدام الاختلافات العرقية والمذهبية، بحيث عندما يحصل حراك اجتماعي ما يصعب إطلاق صفة فئوية عليه، ويمكن لصداه أن يطال عموم المجتمع. لكن هذه الشروط غير متوافرة في الأردن أو في اليمن أو في العراق، لذلك فالحراك الاجتماعي موسوم فيها بالفئوية منذ انطلاقته. هنا يتميز النموذج التونسي، لا بمحليته فقط، وإنما أيضًا بانعدام فئويته التي على المجتمعات العربية الأخرى أن تتمكن من تجاوزها أو من معالجتها قبل أن تتحدى السلطات القائمة. من هنا أهمية الكف عن التغني الطوباوي بعظمة المجتمعات الأهلية، وفتح الأذهان على تنوعها واختلافها من مكان إلى آخر، قبل الجزم بتحولها إلى شارع، تلك العبارة البذيئة بحق الناس التي ما زال المتفوهون التلفزيونيون يلجأون إليها عن غباء أو عن تكبُّر. 7 ومن الشروط الجديرة بالبحث أيضًا مسلك المؤسسات القائمة عند قيام الانتفاضة. من الواضح أن الجيش التونسي لم يهب هبَّة رجل واحد للدفاع عن بن علي (القادم أساسًا من الأمن)، بل ربما أنه لعب دورًا أكبر في دفعه نحو المنفى. هذا أمر في غاية الأهمية، خصوصًا إذا سانده دور فعال للإدارات المدنية، بمعنى أن يستمر القيِّمون عليها بخدمة المواطنين في شتى المجالات من تعليم وصحة وطرق وما شابه، لكي لا يزيدوا من قلقهم، ولكي يثبتوا لهم استقلال أجهزة الدول عن الحاكم المستبد، وبالتالي إمكانية استمرارها حتى حين تبدأ الكرسي الرئاسية بالاهتزاز. إن من أهم شروط نجاح المجتمع الأهلي هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الأولى ومقارعة الثاني. ومن أهم شروط الاستبداد، على العكس، هو تمكُّن الحاكم من المزج بين النظام والدولة بحيث تتعطل الثانية إن مُسَّ الأول بأذى. هنا أيضًا تبدو تونس محظوظة بارتفاع مستوى الشعور بالمواطنة بين أهلها، وبالتالي بقدر عالٍ من الوضوح في التفريق بين النظام والدولة مما جعل مسلك الجيش ومسلك الإدارات المدنية إيجابيًا، بمعنى أنه كان في الحد الأدنى محايدًا، وفي حدِّه الأقصى متفهمًا الانتفاضة، داعمًا لها. قد لا يكون الفصل مطلقًا في تونس، ولكنه أفضل من حاله في غير بلد عربي. ويقيني أن نجاح انتفاضة أخرى مرتبط بمدى الفصل المسبق في أذهان الضباط والموظفين وعموم الناس بين الدول والنظام، مما لم نجد له صدى يذكر في العراق غداة سقوط النظام هناك سنة 2003، حيث استولى قادة الميليشيات على منازل رجال النظام السابق، بينما نهب الناس ممتلكات الدولة نفسها، وكأنهم يجهلون أنهم أصحاب تلك الممتلكات الحقيقيون. أما الفصل المهم الآخر فهو بين أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، أو على الأقل أرباب العمل. إن التصاقًا بالحكم يؤمن إجمالاً مزايا غير مستحقة لأرباب العمل الذين يعلمون كيف يُكافأ على تساهله مع مصالحهم وأطماعهم. هكذا تتكون النواة المثلثة الأضلاع (سلطة/ ثروة/ جاه) من حاكم يريد حصة له ولأقربائه من أرباح المنتفعين من نظامه إلى سعي مشترك نحو الجاه لدى أصحاب السلطة وأصحاب الثروة وقد تقاربا إلى حد الاندماج الفعلي في عدد من الأحيان. لذا فالمرض الذي يصيب السياسة العربية له جذور عميقة في طبيعة الاقتصاد الريعي، كما في مدى التصاق أصحاب المشاريع بأصحاب القرار السياسي. ومن أسباب ضعف المجتمع الأهلي خلوه إجمالاً من أرباب العمل الذين كثيرًا ما يفضلون الالتصاق بالحاكم، ودفع الجزية الضرورية له للإبقاء على الصلة به، عوض التأطر في بنى نقابية ومهنية تدافع عن استقلال المجال الإنتاجي، عن المجال الأمني والسياسي. لذا كانت الرهانات على الطبقات الوسطى ضعيفة خلال العقود الماضية، بالذات لأن تلك الطبقات الجديدة والهشة في الكثير من مفاصلها، فضلت وصفة استتباع السلطات لها على الدفاع المهني عن مصالحها الذاتية. وكان على علماء الاجتماع العرب المزيد من الاهتمام بأثرياء السلطان، ورجال أعمال الدولة المحظوظين، بدل الاهتمام بشعراء البلاط ذوي الصوت العالي والقليل الأثر. 8 إنما نكتب والحدث التونسي مفتوح على أكثر من سيناريو، والأمل بأحداث شبيهة، إن لم تكن مماثلة، في غير بلد عربي لم يخبُ بعد. ونكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع بينما الغضب العاري، الأخلاقي في جوهره، يتجاوز السياسة والاقتصاد والاجتماع إلى نوع من تلقائية رفض الفجور. والفجور سمة الحكم الأولى في هذه الأيام العربية التي استفحلت طولاً. ورفض الفجور هو شرط انتقال الخوف من ضفة الناس إلى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلة الأمل. ٭ افتتاحية العدد الجديد (شباط) من مجلة "المستقبل العربي" الشهرية. نشرته تحت عنوان: عن تونس. ٭٭ أستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون، ووزير ثقافة لبناني سابق.
|
|
|