أربع قصص قصيرة

 

عبد الغني عبده

 

الساعة

(1)

عندما صدرت الأوامر للجيش المصري بالانسحاب خلال العدوان الثلاثي عام 1956م، بدأ التحرك مع عدد من أفراد كتيبة المشاة التي كانت متمركزة في غزة. تفرقوا في مجموعات صغيره قوامها اثنين أو ثلاثة أفراد على الأكثر.

نهاراتٍ طويلة – رغم شتاء نوفمبر – يسيرون على أقدامهم، وليالٍ أكل صقيعها عمر واحدٍ من ثلاثتهم. ودفعت المتاهة في صحراء سيناء ثانيهم إلى الاستسلام للعدو بعد أسبوعين من هيامه وحيدًا لم يعد لديه حتى البول الذي تجرعه بعد أن أفرغه أكثر من مرة في فردة حذائه. في السَحَرِ كان يضع "الظلطة" تلو الأخرى في فمه ماصًا ما علق بها من ندى.

فجأة ظهر له كالسَّرَاب يَجُرُ خلفه بعيرًا. لَوَّحَ له فاقترب. طلب منه جرعة ماء ووصفًا للطريق الموصل إلى القنطرة شرق. ساومه على سلاحه. فَضَّلَ أن يتنازل عن الساعة "الجوفيال" السويسرية التي كانت تزين معصمه بمينتها البيضاء و"الأوستيك" الحريري الأسود وقلبها الفضي.

إحدى عشرة سنة مرت قبل أن يلتقيا ضمن قافلة اعتادت أن تتكسب من استخدام الإبل في نقل محصول الذرة من الحقول إلى المخازن؛ أتى صاحب البعير إلى القرية حيث كان الجندي، بعد أن أنهى خدمته العسكرية، قد استأنف عمله في الفلاحة.

"من أي بطون سيناء يا أخا العرب؟" وجَّه سؤاله لصاحب البعير الذي لم تفارق صورته مخيلته. رد: "وما أدراك بسيناء وبطونها؟!". سؤال بسؤال!!. "حسنًا؛ تلك قصة طويلة أحكيها لك على مائدة الغذاء؛ تفضل". عندما انتهيا من شرب الشاي، مدَّ صاحب البعير معصمه وفك (أستيك) الساعة "الجوفيال" وناوله إياها خجلاً. للتأكد فتح الغطاء الخلفي ليجد اسمه منقوشًا عليه من الداخل "عبده عبد الغني أبو علي"!!

(2)

في سبعينات القرن العشرين عرفت القرية الساعات الرقمية. ساعات بلاستيكية سوداء رخيصة الثمن، ليست في فخامة ولا جمال الساعات القديمة ذات العقارب، ولكنها تعمل بكفاءة. لم يعد الجمال التقليدي مهمًا في هذا "التوقيت".

كانت شغوفة بتنظيم جدول مذاكرتها اليومية بالدقيقة. منظمة إلى أبعد ما يكون النظام. حتى فترات الأكل والراحة واللعب لها دقائقها. ينقصها فقط ساعة يد تكون في متناول مصروفها التي تحرص على ادخاره. دست في يد أخيها – طالب تجارة بنها – خمسة جنيهات قائلة: "اشتر لي ساعة رقمية. أعرف جيدًا أن ثمنها لا يتجاوز ثلاثة جنيهات؛ أخبرتني زميلتي. حلال عليك الباقي".

تنتظر كل ليلة عودته بالساعة. تتوق أن تضع خطتها، التي سهرت على جدولتها وتلوينها بألوان الطيف، موضع التنفيذ. يتعمد التأخر، ولا يحاسبه أحد، لأنه أنفق على نزواته الجنيهات الخمسة التي كانت قادرة على تسهيل الكثير من الموبقات.

عندما استطاع، بعد إلحاحها اليومي وتدخل الأم ومضي ثلاثة أشهر، أن يدبر ثمن الساعة رفضت أن تأخذها. "لا حاجة لي اليوم إليها. ولا في أي يوم قادم" قالت، مطالبة إياه بجنيهاتها الخمسة. من يومها لم تضع ساعة حول معصمها وينتابها شعور أنها لو فعلت لأصبحت سجينة الزمن. مرددة، مع رفضها الدائم للساعات كهدايا: "لو لبستها سأصير منقوصة الحرية"!!

(3)

أينما يَمَّمْتُ اصطدمتْ عيناي بواحدة على الأقل. على شاشة الكمبيوتر، التي أغرس فيها رأسي ثماني ساعات على الأقل بحكم "أكل العيش" يوميًا، ثلاثة: واحدة تنزل أوتوماتيكيًا مع نظام التشغيل، والثانية تنزيل مع بعض البرامج المنتشرة على سطح المكتب، والثالثة على المواقع الإلكترونية الأثيرة لدي. وعلى شاشة تليفوني المحمول واحدة. وواحدة على شاشة أغلب قنوات الدش التي لا أنفك أتنقل بينها باقي ساعات النهار والليل. ناهيك عن تلك التي في معصمي والأخرى المدمجة في سلسلة المفاتيح، فضلاً عن المعلقات على حوائط الصالة وغرفة النوم والمطبخ، وفي الميادين العامة وواجهات كثير من البنايات، وفي "طابلونات" السيارات ومعاصم الرجال والسيدات.

رغم هذا الحضور الطاغي للساعات بأنواعها، معوقات كثيرة تحول دون التزامي بـ: الاستيقاظ المبكر، ومواعيد العمل، وما أضربه من وعود للمقابلات الرسمية والشخصية!!.

وبصرف النظر عن تقديم بعضها أو تأخير أخريات أو حتى تعطلها، لنفاذ الطاقة من البطاريات المغروسة في أحشائها، لم يتعطل، ولا للحظة واحدة، موت أمي وأبي، ولا قدوم العام الجديد، ولا وقوع حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية، ولا أمجاد شعب أراد الحياة في تونس الخضراء!!.

الرياض، 24 يناير 2011

* * *

انعطاف

أوقف سيارته "اللاند كروزر" على يميني وسلَّم. كان يفصلني عن مقر عملي بضع خطوات في هذا الشارع الجانبي – الذي أغراني بالسير في وسطه –، ثم تقاطع رباعي لشارع جانبي آخر.

رددت التحية. سألني مستغربًا – حيث لم يعتد الناس على السير في هذا البلد –: "إلى أين أنت ذاهب؟!". أشرت إلى المبني الحكومي الكبير رخامي الطلاء. قال: "أوصلك؟". شكرته مشيرًا إلى أنني قد وصلت، ومردفًا: "أنني أحب المشي على كل حال".

مدَّ لي يده اليمنى – وهو ما زال خلف مقود السيارة – ليناولني مسبحةً قائلاً: "هذه خير معين على المشي". رفعت – بدوري – يدي اليمنى [اليد باليد] مارًا بالإبهام على سلاميات أصابعي قائلاً: "هذه تغنيني".

ارتسمت على شفتيه ابتسامة رائقة وترجل بجانبي حتى وصلتُ إلى بوابة الوزارة. منعه الحراس من مصاحبتي للداخل، ولم أتدخل. عندما وصلت إلى سلم المبنى بعد اجتيازي للحديقة التفت فإذا هو شاخص إليَّ بجانب السور.

من يومها لم أمارس رياضتي المحببة، ولم تتحرك "اللاند كروزر" من مكانها!!

الرياض، 29 ديسمبر 2010

* * *

الحرباء

عندما بلغ سلطان الخامسة عشرة من عمره أدرك انتماءته الطبقية، بحكم رواج الأفكار اليسارية (إبان ستينات وحتى منتصف سبعينات القرن العشرين)، وانخرط – منسجمًا مع انتماءاته ومستفيدًا من نظام التكافل الداخلي للأعضاء – في صفوف حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، (مع تأسيسه بعودة الحياة الحزبية في مصر عام 1976م)، وكان يهتف بالروح لزعيمه التاريخي "خالد محيي الدين".

لخوفها عليه من جهة – نظرًا لتضييق النظام السياسي على اليساريين إلى درجة مطاردهم وسجنهم عقب أحداث 17 و18 يناير 1977م –، واستثمارًا لما استطاعت أن تدخره من أموال معدودات جمعتها من بيع حزم الفجل والجرير، وهو أقصى ما كانت تستطيع عمله بعد أن طلقها زوجها وترك البلدة بما فيها دون أن يخلف أية مورد لكسب العيش؛ وَسَّطَتْ أُمَهُ والدي لدى مَنْ سَفَّرَهُ إلى إحدى دول النفط الخليجية إثر حصوله على شهادة دبلوم التجارة وشهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية – كونه وحيدها على أربع بنات. اكتفى الرجل بتعهد شفهي منها – بضمانة الوسيط – أن يتم سداد بقية المبلغ اللازم للسفر من اقتسام أول خمسة رواتب يحصل عليها سلطان من وظيفته الجديدة.

في منتصف تسعينات القرن العشرين كنت قد حصلت على شهادتي الجامعية منذ خمس سنوات ولم أوفق في الحصول على فرصة عمل، وعندما أرسلني والدي، الذي أقعده المرض بعد تسريحه من عمله لاعتراضه على بيع شركة الكباسات والمراجل التي كان يرأس مجلس إدارتها، لأطلب من سلطان تدبير فرصة عمل لي. وجدته يتباهى لمستمعيه بعلاقاته الواسعة برجال السلطة، ليس في مصر فقط بل في بلاد النفط أيضًا حيث زوَّج أخواته الأربعة فصار له مع السلطة هناك نسبًا وصهرًا. ومدركًا لانتماءاته الطبقية الجديدة، تحدَّث – منسجمًا معها، ومستفيدًا من فرص الربح التي تنتظره من المشاريع التي ينوي شراءها استثمارًا لملايينه غير المعدودة – عن عزمه العودة نهائيًا لبلاده بعد أن تغيرت الأحوال وتحرر الاقتصاد وبدأ بيع القطاع العام وو. وعندما بدأت الحديث، بما تعلمته في الجامعة، عن الآثار السلبية لهذه الأوضاع الجديدة على الفقراء وعلى بطالة الشباب؛ التي لم تعد، من حينها، مؤقتة ولا موسمية؛ بل هيكلية؛ رد: "هذا هو كلام الشيوعيين الذي سوف يعرقل مسيرة تقدمنا دائمًا". واستطرد راسمًا ابتسامة استهزاء على وجهه: "لقد رسبت في الاختبار يا "رفيق". لا يمكن أن أجد لك فرصة عمل لا عندي ولا عند أحد أصدقائي وأنت على هذه الحالة المستعصية من الحقد الطبقي".

الرياض، 27 ديسمبر 2010

* * *

الصندوق الوردي

منذ أن أطفأ ظمأه – أو ربما جوعه – بما في هذا الإناء، تكشفت له الحقائق، وتجسدت له المعاني وظهرت الأفكار مادية كأنها صناديق ثقيلةً على كاهله. وكلما فكر في إنسان وجده ملاصقًا له لا يفارقه. متجسدًا. حاضرًا لا يغيب. كلما استحضر انطباعه عن صديق أو رئيس عمل أو إمرأة، أحاطت به انطباعاته شاغلة حيزًا لا يفرغ من حوله.

منذ ذلك الحين وهو يقف في الميدان الكبير في حالةٍ من الذهول والتوهان. الابتسامة البلهاء الماكرة أحيانًا، والصافية حينًا، إلى حد القهقهة. تعبيرات يظن المارة أنها إمارات جنون، فيتحاشون الاحتكاك به. بينما يرى ابتعادهم عنه منطقيًا، لأن اقتربهم لا يعني – لديه – سوى اصطدمهم بهذه "الكتلة" من الأفكار والانطباعات والاستحضارات البشرية المتجسدة المحيطة به.

أما ما كان يدفعه للاندهاش والابتسام، وربما البكاء المعجون في القهقهة، فهو ما يراه من اصطدام صناديق المارة وحشودهم. إنه لا يرى أفكاره وانطباعاته هو فقط متجسدة، بل يرى أفكار الناس أيضًا وانطباعاتهم محتشدة سائرة معهم لا تفارقهم.

وكلما رأى المارة، مثقلة أعناقهم بصناديق أفكارهم، مصاحبين لانطباعاتهم، مصطحبين لكل من يشغلون تفكيرهم، يصاب بالذهول؛ إذ كيف يتحركون وسط كل هذا الزحام الخانق؟؟!! ألا يستشعرون الاحتكاك الرهيب الذي يُحْدِثُونَهُ بين صناديقهم؛ حتى أنه يراها تتحطم جراء الاصطدام؟!!

يذهله أنهم لا يأبهون لهذه الجلبة. ويضحكه أن يكتشف ما في هذه الصناديق من أفكار ومشاغل وانطباعات وخيالات وتطلعات وما يصطحبونه معهم من رفقاء ورفيقات يعربدون في خرابات عقولهم المظلمة.

وتنشق شفتاه عن ابتسامته الصافية عندما تمر صبية بضفيرتين تحمل صندوقًا وردي اللون مِلْؤُهُ بالوناتٍ وعرائسَ وأحلامٍ وأراجيحَ، وحشدها عصافير تغرد وأزاهير تتفتح وملائكة تنشد أغنية الحياة.

يقف، منذ أن تناول ما في الإناء، متجمدًا في مكانه يخشى على صناديق أفكاره وانطباعاته وصحبه الذين استدعاهم خياله. يشفق عليهم من الاصطدام بالمارة والتحطم على أرض الميدان الذي لا يكاد يفرغ إلا في ساعات السحر، حيث يكون غاطًا في نوم عميق لا يفيق منه إلا على أصوات الحشود المتضاربة والصناديق المتكسرة والأفكار المتصادمة!!

الرياض، 22 ديسمبر 2010

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود