|
||||||||||||||||||
| |||||||||||||||||||
|
عـصـفـور
I ظلت تحتفظ ببعض حاجاته: حذاء جلدي أسود، جلباب بني صوفي، صحن حسائه... وسادته وعلبة السجائر التي أتلفت رئتيه. لم تسأم من تحاملها على الزمن واعتبار زوجها الشاب مسلوبًا من الحياة. كانت كالقطة المفزوعة متربصة على الدوام ضدَّ المجهول، وكانت عضلات وجهها المتقلصة غاضبة على حياتها التي انقلبت فجأة وأرغمتها على اقتحام بيوت غنية من أجل العمل. كان حديثها يقتات من الذكريات فقط، لذلك اعتاد طفلها الوحيد حركات وسكنات الأب، وكم مرة ذكرها بما كان يقول، وكم مرة طلب المغفرة لخطاياه التي علم أسرارها رغم أنه لا يتذكر الجنازة ولا ملامح وجهه. II في السابعة من عمره. لم يسأل كثيرًا كالأطفال، وارتبط وجوده بعلاقة مبهمة بين الانضباط ورغباته الطفولية وبين الخوف من الأم التي لم تدعه ينفلت من رقابتها حيث حركت كل سلطتها كي يتحدد كما تريد ويتأهب لغدر الأيام. وكان السوط ينوب عنها إذا ما عجزت عن تحفيزه بالكلام، أو اشتكى منه "لمعلم". لم يعرف طريق المدرسة ووضَّح غير ما مرة لنشطاء الحملات التعليمية، باتزان مقنع، أنه يملك الاختيار بين الحرف حسب الوسائط والدخل، وليس في استطاعته أن يحمل والدته ما لا تطيق، هي التي تنتظر دراهمه كل أسبوع. III في العاشرة من عمره. احتواه حلم غريب، وهو يسمع همسات ثرثارة عن الذين رحلوا وما يملكه العائدون المزهوون. أعرض عما تبقى من طفولته وقرر بعزم الكبار أن يرحل. رتب أموره في غفلة من والدته. باع الجلباب البني الصوفي والحذاء الأسود. لم يهد والدته أجرته ولم يفكر في جواب لأنها لن تراه. كان يشعر أنها فكرة مجنونة تستحق عقابها لكنها هي التي علمته التحايل على الحياة والقفز على فرصها. لم يقلق كثيرًا ولم يصطحبه أحد إلى الميناء. لم يفرح لرؤية البحر كما يفعل الأطفال. اقترب من سفينة ضخمة بدأت تفك حبالها من أرض الميناء. أخذ قلبه يخفق بشدة. انطوى على نفسه ليبدو أقصر من قامته. راوغ جسمه النحيل طاقم السفينة... ورحل.
|
|
|
|
