لا يوجد أديان للإنسان وإنما دين واحد٭

حوار مع فراس السواح

 

وجد في الأسطورة ضالَّته المعرفية، حيث أرشدتْه إلى إجابات واسعة على تساؤلات كثيرة نشأت في نفسه منذ الصغر. فكانت الأسطورةُ رفيقةَ دربه الأولى، كرَّس لها حياتَه، فباحت له بأسرارها العصيَّة أحيانًا على الإفهام.

لكنه على الرغم من صعوبة الموضوعات وحساسيتها أحيانًا، استطاع أن يملك قدرة عالية على جذب القارئ بأسلوبه العلمي الشائق، فتغدو أعقدُ الأفكار وأصعبها واضحةً ويسيرةً على الفهم والإدراك. فكما يقول: "لا توجد فكرة معقدة، وإنما هناك أسلوب معقد." لذلك فإن 50% من جهده الذهني ينصبُّ على الفكرة، بينما باقي المجهود ينصبُّ على أسلوب التوصيل إلى القارئ، في أبسط شكل ممكن وفي أوضح صيغة متاحة. وهو ما يتطلَّب منه كتابة المؤلَّف عدة مرات. لذلك لا عجب في أن يُعاد، مثلاً، طبعُ كتابه الأول والأشهَر مغامرة العقل الأولى 13 مرة. أضف إلى ذلك أن قراءة أيِّ كتاب لهذا المفكر السوري الفذ يحفز القارئ على البحث عن باقي أعماله...
فراس السواح المفكر السوري الذي ولد في مدينة حمص السورية عام 1941 متسائلاً حائرًا يبحث عن الحق والحقيقة – ومازال – دون أن يصل إليها.

س1: مقولة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله): من ليس له ماضي ليس له حاضر ومن ليس له حاضر ليس له مستقبل، كيف تقرؤونها؟

فراس السواح: لقد أراد المغفور له من هذه المقولة التأكيد على ضرورة فهم الذات من خلال تمثل تجارب الماضي وفهمها من أجل معرفة من نحن وإلى أين نسير، الأمر الذي يساعدنا على رسم دور محدد لنا في المسيرة الحضارية للبشرية وتصوُّر لنا مكانًا في مستقبلها. لقد كنا في الماضي منتجين للحضارة ولكننا اليوم مجرد مستهلكين لها نعيش على ما يقدمه لنا الآخرون من ثقافة ومن تكنولوجيا، فإذا لم تكن هذه المرحلة، التي نعيشها الآن، بمثابة فترة مؤقتة تؤهلنا للمشاركة في صناعة التاريخ فإننا أمة محكوم عليها بالهلاك.

س2: طفولة فراس سواح، كيف كانت؟

ف. س.: كنت طفلاً متسائلاً عن كل ما يحيط بي من ألغاز الوجود، وهذا التساؤل هو ميزة يشترك بها كل الأطفال، ولكن قسمًا من هؤلاء يقنع بما يقدمه له الكبار من أجوبة جاهزة تعلموها بدورهم من آبائهم ومن ثقافة مجتمعهم، وقسمًا آخر، وهم قلة، يبقون أمينين للسؤال ويجدون فيما يُقدَّم لهم من صيغ جاهزة موضوعًا لتساؤلات جديدة، وأنا من هذه القلة التي لم تقنع بالجاهز والموروث وراحت تبحث في داخل النفس وفي آفاق الثقافة العالمية بماضيها وحاضرها عن أجوبة على تلك التساؤلات الطفولية الأولى التي تؤلف في واقع الأمر المشكلات التي تصدت الفلسفة للتعامل معها.

س3: ولكن هدف السؤال هو الحصول على جواب، فهل حصلت على أجوبتك؟

ف. س.: يبدو أن متعة البحث عن الجواب هو غاية السؤال. تصور إنسانًا ميتًا فقد أرق الحيرة الجميل وما تبعثه هذه الحيرة من إحساس بالحرية وبحرارة الحياة. يقول معلمنا الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي: الهدى أن تهتدي إلى الحيرة، فتعلم أن الأمر حيرة، والحيرة حركة، والحركة حياة.

س4: فراس سواح باحث في الأسطورة، كيف بدأت هذه العلاقة؟

ف. س.: أنا باحث في تاريخ الدين ولست باحثًا في الأسطورة. الأسطورة هي إحدى المكونات الرئيسية للدين إلى جانب المعتقد والطقس. وقد كان الدين بمثابة الإطار الذي استوعب حكمة الإنسان منذ أن اتخذ شكله البشري الذي نحن عليه، فما من منظومة معرفية نشأت إلا داخل هذا الإطار. وهذا ما جذبني منذ البداية إلى دراسة أديان الإنسان. فأن تعرف الإنسان وتاريخه الفكري عليك بالاطلاع على أديانه، وبشكل خاص على أساطيره التي كان يرى من خلالها إلى العالم قبل نشوء الفكر الفلسفي المستقل عن الدين، وذلك في مرحلة متأخرة من تاريخ البشرية الطويل.

س5: تقول: كل الطرق تؤدي إلى الله سبحانه وتعالى، والفرقة الهالكة هي الفرقة التي تؤمن باحتكارها للطريق المؤدي إلى الله، ما معنى هذا الكلام؟

ف. س.: لقد علمتني دراسة تاريخ الدين حقيقة خافية على معظم الناس، وهي أن هذا التاريخ قد تميَّز بالتسامح بين الطوائف والأديان التي كانت تقبل بعضها بعضًا بشكل تلقائي. فقد كان لكل شعب آلهته التي يعبدها وأساطيره التي يؤمن بها مع الاعتراف بوجود آلهة للشعوب الأخرى، وغالبًا ما قام الفاتح المنتصر بالمطابقة بين آلهته وآلهة الشعوب المغلوبة معتبرًا أن الفرق بين هذه الآلهة ليس إلا فرقًا في الأسماء لا في الجوهر.

إن الدين هو ظاهرة ثقافية، وكل دين ينشأ في حاضنة ثقافية معينة تطبعه بطابعها. من هنا علينا أن نعترف بتنوع الأديان مثلما نعترف بتنوع الثقافات. وكما أننا نرفض اليوم سيادة ثقافة معينة على العالم، علينا أيضًا أن نرفض سيادة دين واحد. لا يوجد في رأيي أديان حقيقية وأخرى زائفة، فكلها طرق تؤدي إلى الله، وإشكال متنوعة تقود إلى معرفته.

إن ما نتعلمه من دراسة تاريخ الدين هو أن الأديان كلها تقول الشيء نفسه، ولكن كلٌ على طريقته، وأنه في واقع الحال لا يوجد أديان للإنسان وإنما دين واحد. ولذلك أطلقت على أحد مؤلفاتي عنوان دين الإنسان لا أديان الإنسان، وأوضحت في هذا الكتاب الوحدة الجوهرية التي تجمع الأديان في واحد، وتجمع البشر إلى خالقهم.

س6: لماذا تتهم إذًا بالعداء للدين؟

ف. س.: لأن أهل الحرف في المسيحية يتوقعون منك إذا تكلمت في المسيحية أن تلتزم ما تعلموه في مدارس اللاهوت وما يكررونه في عظاتهم من كلام محفوظ. وأهل الحرف في الإسلام يتوقعون منك أن تتكلم كشيخ أزهري. وأهل الحرف في اليهودية يتوقعون أن تتكلم مثل حاخامات التلمود. الجميع ينتظر منك أن تلغي عقلك وتتماثل مع الموروث الذي يعيد إنتاج نفسه، أو بالأحرى صورًا أكثر وأكثر رداءة عن نفسه، وأنا لا أدعو هنا إلى نسف الموروث وإنما إلى تجاوز مرحلة الجمود التي وصل إليها الفكر الديني، وإلى إعادة فهم النصوص المقدسة بما يتلاءم وروح العصر. أدعو إلى إبقاء باب الاجتهاد الذي أغلقه المتأخرون مفتوحًا، وكما اجتهد الأولون باستطاعتنا نحن أن نجتهد، بل وأفضل منهم أيضًا، لأننا صرنا متزودين بمعارف لم يكونوا يحلمون بها، ونحمل على أكتافنا تركة الحضارة الإنسانية برمتها، ولن نقبل بابن تيمية أو بابن القيم الجوزي أو بالقديس أوغسطين وصيًا على فكرنا.

س7: يقال أنك تتجنب الخوض في أي خلاف فكري مع أحد، بما في ذلك النقد الموجه لكتاباتك؟

ف. س.: أنا أؤمن بقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). على المفكر أن يعطي ما عنده، والحكم بعد ذلك للتاريخ وحده. هذا لا يعني أني لا أرحب بالنقد، بل على العكس فأنا أهدف إلى إثارة التفكير لدى القارئ ولا أزين له القناعة بما اكتب. وصدور النقد من هذه الجهة أو تلك يدل على أن هدفي قد تحقق. ولكني من جهة أخرى لا أؤمن بالمناظرة أو الجدل. هنالك دومًا من هو معك ومن هو ضدك، وهذا أمر طبيعي. أما إذا كان الكل معك فهذا من غير الطبيعي وعليك أن تبحث عن مكمن الخطأ.

س8: هل تشعر بأنك على حق في كل ما تكتب؟

ف. س.: أنا لست بداعية أو مبشر، ولا أروج لإيديولوجية ما لا يأتيها الباطل من أمام أو وراء، أنا لم أعرف بعد ما هو "الحق" حتى أشعر بأني على "حق" فيما اكتب. ورحم الله سقراط عندما تعجب من صدور الحكم عليه بالإعدام قائلاً: "لماذا؟ أنا لم أفعل شيئًا سوى طرح الأسئلة". فأن تطرح سؤالاً جيدًا خير ألف مرة من أن تعطي جوابًا تعتقده "الحق" وما دونه باطل. لا يمكن أن نحصر "الحق" في الخيار بين الأبيض والأسود. في "الحق" ألوان الطيف جميعها وما يمكن أن ينجم عن مزجها من تنويعات لونية لا حصر لها. وحده على "حق" من يبحث دومًا عن "الحق" دون أن يدعي الوصول إليه، لأنك عندما تصل إليه تتخلى عن طبيعتك البشرية الناقصة وتحقق مرتبة القداسة.

س9: هناك محوران تتركز حولهما كتاباتك، الأول هو المثيولوجيا وتاريخ الأديان، والثاني هو التاريخ. فأي الكفتين سترجح على الأخرى في كتاباتك القادمة؟

ف. س.: كتاباتي التاريخية تتركز حول تاريخ فلسطين القديم وما يدعى بشعب إسرائيل، وقد جاء اهتمامي هذا كناتج من نواتج دراستي لكتاب التوراة العبرانية في سياق بحثي العام في تاريخ الدين، وكناتج آخر من نواتج مشاركتي في حربين مع إسرائيل، الأولى عام 1967 والثانية عام 1973، وأنا مازلت حتى الآن أقود حربي الصغيرة الخاصة مع إسرائيل على الصعيد الفكري ولن أعقد معها السلام. وبدل المدفع المضاد للدروع الذي كنت أقصف به دباباتهم أستخدم الآن القلم في قصف مواقعهم الفكرية. ولسوء الحظ فإني وحيد في هذا الخندق، والصراع العربي مع إسرائيل يدار على الصعيد السياسي والعسكري دون إعطاء أهمية للمسألة التاريخية.

س10: لماذا لم تترجم بعضًا من مؤلفاتك إلى لغة أجنبية حتى الآن؟

ف. س.: لأن الجهات الغربية المهتمة بعقد التواصل الثقافي مع العالم العربي مهتمة بالأدب العربي الحديث أكثر من اهتمامها بالبحث الفكري. ولكني حققت للفكر العربي حضورًا متواضعًا على الساحة الدولية عندما ساهمت مع عدد من المؤرخين وعلماء الآثار الغربية بإصدار كتاب مشترك عن تاريخ أورشليم القدس طبع في بريطانيا عام 2003 تحت عنوان JERUSALEM IN HISTORY AND TRADITION. وقد دعاني محرر الكتاب الباحث المعروف توماس ل. تومبسون للمشاركة فيه بعد أن تعارفنا في المؤتمر الدولي لتاريخ أورشليم في العاصمة الأردنية عمان، والقينا محاضرتين في جلسة واحدة من جلسات المؤتمر. وقد دُعيت في هذا العام للمشاركة في كتاب آخر سيكون نتاج تعاون مشترك بين جامعة Plata la في الأرجنتين وجامعة St. Mary في بريطانيا. وستتركز أبحاث الكتاب حول موضوع علم الآثار التوراتي وبناء الدولة القومية في إسرائيل. ويشارك فيه مؤرخون وعلماء آثار من أمريكا وأوروبا وإسرائيل، وقد قمت بترجمة الكتاب الأول الصادر في بريطانيا عام 2003 إلى اللغة العربية وصدر عن مؤسسة دراسات الوحدة العربية تحت عنوان أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ.

وعلى صعيد دولي آخر فقد تعاونت مع صديقي الباحث الصيني الدكتور شوي تشينغ قوه، أستاذ اللغة العربية في جامعة بكين، على تأليف كتاب مشترك عن الحكيم الصيني لاو- تسو وكتابه المعروف بعنوان تاو- تي- تشينغ حيث عملنا معًا على صياغة عربية للنص، وتزويده بالتعليقات والشروح على المتن.

وقد صدر بالعربية هذا العام (2009) ضمن سلسلة منشورات باللغات الأجنبية تدعمها وزارة الثقافة الصينية.

س11: هل تؤمن بعلم الفلك وبتأثير حركة الكواكب على حياة الإنسان؟

ف. س.: إن الوجود كله عبارة عن رقصة كونية للطاقة، وما المادة إلا وهم تخلقه أمامنا حركة الطاقة. إن نظرية الأوتار الفائقة، وهي آخر ما توصلت إليه أبحاث الفيزياء الحديثة، تقول لنا إن أصغر المكونات المؤلفة للذرة المادية الواحدة ليست إلا أوتارًا طاقيَّة مهتزة لا أثر فيها للمادة. وهذا يعني أن الأجزاء لا وجود لها إلا في علائقها المتبادلة وعلائقها مع الكل. والإنسان ليس كينونة مستقلة وإنما نغمة في هذه السيمفونية الكونية تتبادل الأثر والتأثير مع بقية النغمات، من هنا يأتي إيماني بأثر مواقع النجوم على الإنسان.

س12: هل هنالك مشاريع مستقبلية لفراس سواح، وما هي؟

ف. س.: أنا لست ممن يكتبون في أوقات الفراغ، الكتابة بالنسبة لي هي نمط حياة، وحكمتي هي: " أنا أكتب، إذًا أنا موجود". وهذا يعني أن هنالك دومًا مشاريع في طور الإنجاز ومشاريع مستقبلية.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ مقابلة منشورة في مجلة أصداء فلكية الإماراتية بتاريخ 23 ديسمبر 2009.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود