|
وقفة ومراجعة...
الأمواج تضربها لكنها لا تغرق.
ربما كان علينا أن نكافح مع عناصر أخرى،
1 معابر اليوم في عامها الحادي عشر، وهي ما زالت مستمرة رغم كل العقبات والمصاعب التي واجهتها والتي كادت – ربما - أن تطيح بها، إنها مستمرة بفضل جهود من آمن برسالتها التثقيفية الإنسانية فدعمها بكل ما يستطيع من طاقة وإمكانية، مستمرة بفضل طاقمها الصغير الذي تجاوز عدده الاثنان[2] وبدأ يتكوَّن، وإن بصعوبة، على أرض الواقع. معابر اليوم في عامها الحادي عشر، وقد تجاوزت حلم من كان يفكر بها من أصدقاء كانوا في حينه طلاب مدارس، وكانوا يتفكرون بعقل وجمالية مجلة حائط؛ وتجاوزت حتى تصور من قاموا بتأسيسها على أرض الواقع فأصدروا إصدارها الأول في مطلع تشرين الأول من العام 2000. ولأنها عشر سنوات ونيف انقضت تجدنا، كما هي حالنا دائمًا، نواجه أنفسنا متعبين. ومع الشاعر والصديق أدونيس نتساءل مرة أخرى:
أترا(نا) مللـ(نا) يقينـ(ننا) في كلماتـ(تنا) لذلك، ومن خلال إيماني بمستقبل ما زال يدعونا إلى الاستمرار، أجدني أحاول مراجعة ما مضى بصدق وبعمق وموضوعية ومحبة، وتقويم واقع حالنا وآفاقه. 2 وتراني، كما هي الحال دائمًا حين أراجع مسيرة هذا المنبر الذي كان من أجمل ما ساهمت به في حياتي، أعود أولاً إلى افتتاحية إصداره الأول التي كتبها الصديق ديمتري أڤييرينوس بعنوان لماذا معابر؟[4] فأتساءل معه وإلى الآن: هل نحن، الذين أنشأنا هذا الموقع معًا وبقينا معًا على رأسه لسنين طويلة، أو نحن القائمين على رأسه الآن، ما زلنا أوفياء لما طرحناه في تلك الأيام وأصبح ملهمًا لعملنا؟ هل كنَّا صادقين فعلاً حين ادَّعينا، بدون أي تواضع زائفٍ وبكل ثقة، أننا أناس... ... يتفكَّرون، منطلقين في الرحلة الكبرى، رحلة استكشاف محتويات وعيهم وجذور ألمهم، مسترشدين بمكتشفات الآخرين حينًا، متجاهلينها أحيانًا، مناقشين المذاهب كلها، والمحرَّمات كلها، والمقدسات كلها، والأنبياء والمعلِّمين كلهم، ضاربين عرض الحائط بالوصفات الجاهزة جميعًا، السياسية منها، والفلسفية، والأخلاقية، والدينية، غير مكتفين بـ"الحقائق" الممضوغة والمستهلكة، رافضين كل سلطة - ماخلا سلطة الروح، معتذرين عن ممارسة أية سلطة - ماعدا سلطة الضمير الحيِّ. هذه الحفنة من "المساكين"، الموسومين غالبًا بالجنون، هي "ملح الأرض"، هي خميرة عالم جديد، عالم بلا حدود، بلا مصالح، بلا طبقات، بلا عنصريات، بلا قوميات، بلا مذاهب، بلا تحزُّبات، عالم خالٍ من العنف، تبلغ فيه الإنسانية سن رشدها... وأتفكَّر أن هذا كان ربما ما فهمناه واعتقدناه متناسين في ذلك الحين أننا بشر، وأننا نعمل، وسنبقى، بين البشر. وأتفكَّر أننا ربما كنَّا ساذجين في حينه حين صدَّقنا ما كتبنا. ولكننا لم نكن الوحيدين الذين صدقوا ما جاء في هذا الإعلان، وحاولوا، من منطلقه، تقديم أجمل ما لديهم. لم نكن الوحيدين الذين اعتقدوا، وما زالوا يؤمنون، بحقهم في الحريَّة الفكرية. لم نكن الوحيدين الذي حاولوا أن يبحثوا عن جذور ألمهم في أنفسهم ومن خلال الآخرين. لم نكن الوحيدين الذي حاولوا أن يضربوا عرض الحائط بجميع الوصفات الجاهزة، الذين رفضوا كل سلطة ما خلا سلطة الروح، واعتذروا عن ممارسة أية سلطة ما عدا سلطة الضمير. كلا، لم نكن الوحيدين الذي حاولوا، ولم يزالوا، أن يناقشوا المذاهب كلها، والمحرمات كلها، والمقدسات كلها، والأنبياء والمعلمين جميعهم... نعم لم نكن الوحيدين "السذج" الذين آمنوا بهذا الحلم، وحاولوا أن يطبِّقوه على أنفسهم ومن خلال هذا المنبر. فكانت تلك الصداقات التي تشكَّلت وترسَّخت فعلاً من خلاله. وكان أولئك القراء الذين تقاطروا نحوه بكل حماس ومن كل مكان وما زالوا إلى الآن، كلٌّ يقدم له أجمل ما عنده، وكلٌّ يحاول، من حيث هو، أن يفهم وأن يحلِّل وأن يعطي... والنتيجة كانت، بشكل عام، أننا نجحنا نسبيًا في إعطاء بعض الشيء الجديد. والبرهان على ذلك أننا ما زلنا مستمرين مع ذلك البعض القليل جدًا من طاقمنا الذي صدَّق تلك الرسالة وما زال متمسِّكًا بها... لذلك تراني، من هذا المنطلق، أعود لأتفكَّر مرةً أخرى بواقعنا، متجاوزًا ما هو سلبي فيه، متأملاً قول الشاعر[5]: إننا مجرَّد...
... حبَّات بذار لهذا تراني اليوم -رغم حدَّة طباعي- أحاول أن أكون إيجابيًا مع الجميع ومع كل شيء. ومن منطلق ما آمنت به دومًا، ويقول إن الكلمة الصادقة واجب كما هي مسؤولية، أتساءل... 3 لأننا واجهنا خلال مسيرتنا الكثير من التساؤلات وما زلنا نواجه. ولعل أول هذه التساؤلات ولن يكون آخرها هو: - إلى أي حدٍّ يتوجب علينا الالتزام بكلمتنا، مهما صغر الموضوع الذي تناولته؟ والجواب الذي توصلت إليه، بكل عمق وبساطة، هو: بشكل كامل. لأننا بذلك نعبِّر، أول ما نعبِّر، عن احترامنا لذاتنا وعن احترامنا للآخرين. وأيضًا... - من الأسئلة المهمة التي واجهتني خلال مسيرتي مع معابر، ولم تزل، هي: إلى أي حدٍّ يفترض أن نتمسَّك بذلك الآخر الذي هو نحن في نهاية المطاف؟ وكيف يجب أن ينعكس ذلك من خلال سلوكنا، ومن خلال كلمتنا؟ والجواب الذي ما زلت مقتنعًا به تمامًا هو: حتى النهاية! نعم حتى نهاية حياتنا الأرضية ههنا! لذلك ترانا نتمسَّك، خاصةً، بأصدقائنا وبمن نحب حتى وإن أبعدتهم ظروف الحياة؛ فنبقى دائمًا بالنسبة لهم ممدودي اليد منفتحين. خاصةً وأن هذه الصداقات، سواء من مفهومها الروحي و/أو حتى جانبها الحسِّي المباشر، هي من أجمل ما عشناه ونعيشه في حياتنا. - ومن الأسئلة المهمة التي واجهتني، وأعتقد أنها تواجه الكثيرين منَّا، هو موضوع من يعتبرون أنفسهم معلِّمين (أو من يعتبرهم البعض كذلك)، ومسؤولية هؤلاء تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، ومدى وحدود ما يجب الأخذ منهم و/أو التماهي معهم. والجواب الذي توصلت إليه هو ضرورة أن نحكِّم دائمًا، وبآن واحد، عقولنا وقلوبنا، فنقبل ما نقتنع به من هذا "المعلِّم" الذي لا يمكن أن يكون في النهاية إلا "صديقًا" إن وجد، ونرفض حتمًا ما لا نقتنع به. وهذا ينطبق على الجميع وعلى كل المواضيع. وتراني ههنا أتفكَّر بأحد أهم أساتذة هذا الزمان، أتفكَّر بجدّو كريشنامورتي الذي تبنَّته معابر بشكل عام (وأنا منها) ولم تزل. وأجدني ضمن هذا السياق أتفكَّر بقولين وموقفين له. الأول يقول: لا يجوز لك أبدًا أن تظل هنا أكثر مما ينبغي؛ كن من البعد بحيث لا يكون بمستطاعهم أن يجدوك، أن يمسكوا بك ليشكِّلوك، ليُقَوْلبوك. كن بعيدًا جدًّا، كالجبال، كالهواء غير الملوث؛ كن من البعد بحيث لا يكون لك أهل، ولا علاقات، ولا أسرة، ولا وطن؛ كن من البعد بحيث لا تعرف حتى أين أنت. إياك أن تدعهم يعثرون عليك؛ إياك أن تحتك بهم احتكاكًا ألصق مما ينبغي. ابْقَ بعيدًا جدًّا حيث حتى أنت لا تقدر أن تجد نفسك...[6] فأتحفظ، وبكل محبَّة، على هكذا ادعاء لأني أشعره متعاليًا أولاً، ومن منطلق أنه من الممكن أن يُساء فهمه، وحتى استعماله، من قبل البعض؛ فيضلِّلهم ويضلِّل آخرين من خلال ذلك ثانيًا. وأتأمل، في المقابل، قولاً آخرًا لنفس المفكر جاء فيه: إذا لم تكن في وصال مع أي شيء، فأنت إنسان ميت. عليك أن تكون في وصال مع النهر، مع العصافير، مع الأشجار، مع الضوء المسائي الخارق، مع ضوء الصباح على صفحة الماء؛ عليك أن تكون في وصال مع جارك، مع زوجتك، مع أولادك، مع زوجك. وأعني بالـوصال عدم تدخُّل الماضي، بحيث تنظر إلى كل شيء نظرة طازجة، جديدة، – وتلك هي الطريقة الوحيدة للوصال مع شيء ما، بحيث تموت عن كل شيء من الأمس...[7] فتراني أقبله بالكامل بكلِّ عقلي ومن كلِّ قلبي ومن دون أيِّ تحفظ. وأتفكَّر أن كريشنامورتي بشر مثلنا، وأنه يمكن أحيانًا أن يخطىء مثلنا. وأيضًا... لأنه، كما اعتقدت، وما زلت أعتقد، لا يوجد هناك "معلِّمين" بالمعنى السائد للكلمة، لأن مرشدنا الحقيقي، والوحيد من منظوري، هو بذرة الألوهة التي في قلوبنا والتي يجب علينا دائمًا السعي لتلمُّسها. لأننا جميعنا بشر وإن اختلفت مراتب وعينا. لأنه حتى الأنبياء بشر. ولأن كلَّ شيء قابل للنقاش. - نعم، كلُّ شيء قابل للنقاش، حتى كلام الأنبياء، ومن خلالهم ما يقال وينقل لنا على أنه كلام الآلهة. لذلك ترانا ما زلنا، رغم مخاوف البعض منَّا، و"حذرهم السياسي"، نسمح لأنفسنا بتجاوز بعض الخطوط الحمر، فنحاول أن نقرأ كل شيء، وأن نطَّلع على كل شيء، وأن نتفكر في كلِّ شيء. وحتى إن كنَّا، خوفًا من الجهالة وانعكاس أفعالها السلبية على صعيدنا الحياتي، حذرين، ما يدفعنا إلى التخفيف من اندفاعنا في الكثير من الأحيان، إلا أننا نبقى نحاول دائمًا أن نناقش، بكل عمق، عقائدنا وأدياننا الأرضية، فنتحفظ وننتقد قسوة شرائعها والفهم الخاطىء لهذه العقائد ولتلك الشرائع، ونتماهى، في المقابل، ومن دون أي تحفظ، مع عمقها الروحي والسرِّاني. وأيضًا... - لأننا بشر، ولأننا لا نعيش دائمًا في عالم الأرواح، ترانا نناقش أمورنا المادية وواقع حالنا، فنتفكر في واقعنا كموقع إلكتروني توسَّع وكبر حتى أصبح معروفًا، وأُنشأت دار نشر تابعة له. نتفكَّر في معابر التي باتت منذ العام 2007 تتلقى بعض الدعم[8] لبعض نشاطاتها[9] وإصداراتها. فنتفكَّر بإيجابيات وسلبيات واقع حالها الجديد. o وأول ما نتفكَّر به يقول إن ما اختارته معابر لنفسها من خط لاعنفي ومقاوم لم يكن خطأً البتة، رغم أن اللاعنف، مثله مثل أي مبدأ سامٍ، يمكن أن يتشوه فيتحول إلى مجرَّد دكَّان. وما أكثر الدكاكين في عالمنا وخاصةً في عالمنا العربي. ونتفكَّر أن ما زال علينا الكثير لنوضحه ونستقصيه في هذا المجال. o ونتفكَّر أن اعتمادنا على بعض الدعم المادي من أجل تطوير بعض نشاطاتنا يجب أن يبقى ملتزمًا حدَّه الأدنى، وبعيدًا كلَّ البعد عن أي منطق ربحي و/أو تجاري سائد، فتكون كتبنا في متناول الجميع، حتى في متناول من ليس بوسعهم دفع ثمنها، وذلك من خلال مكتبتنا الإلكترونية. لا بل أعتقد أنه يتوجب علينا أن نفكر في كيفية التخلي عن هذا الدعم المادي من الآخرين وبأسرع ما يمكن. وذلك لسبب بسيط يقول إنه ليس بوسعنا أن نتماهى مع شركاءنا مهما كانوا جيدين. حيث لهم أجندتهم ولنا أجندتنا. o ونتفكَّر في أن نطور موقعنا المتواضع قدر المستطاع، وأن نهتم أكثر بأصدقائنا بشكل مباشر ومن خلال منتدياتنا التي أهملناها لكثرة مشاغلنا. ونتفكَّر... ونفكَّر... 4 الآن، ونحن نستعرض بشكل إحصائي واقع حالنا، نرى أننا، وحتى نهاية العام المنصرم، قد نشرنا على الشبكة 2365 مقالة ومحاولة لما لا يقل عن ألف كاتب سوري وعربي وأجنبي، من بينها ما لا يقل نسبته عن 18 بالمئة مقالات مترجمة عن الفرنسية والإنكليزية والروسية، وذلك ضمن التوزيع التالي: إفتتاحيات 86، منقولات روحية 92، أسطورة 45، قيم خالدة 94، إبيستمولوجيا 70 يضاف إليها 65 تعريف فلسفي، إضاءات 194، طبابة بديلة 28، إيكولوجيا عميقة 44، علم نفس أعماق 63، لاعنف 159 يضاف إليها 110 تعريف في قاموس اللاعنف، فن 90، أدب 586، كتب وقراءات 430، مرصد 356، إصدارات خاصة 10 إصدارات تتضمن 71 مقالة. إضافة إلى مكتبة إلكترونية تتضمن حتى تاريخه ما لا يقل عن 320 كتاب. إن معابر، التي يتصفحها كل يوم بحدود الألف وخمسمئة قارئ، والتي، على الرغم من تواضع إمكاناتها، تُصنَّف من حيث المرتبة من ضمن النصف مليون الأول من أصل ما يزيد عن 72 مليون موقع موجود حاليًا على الشبكة، (معابر) ستنتهي حتمًا ذات يوم، ككل الأشياء في هذا العالم، ولكنها ستكون حتمًا قد تركت بعض الأثر الإيجابي على الصعيد الإنساني. *** *** *** [1] هي كلمات انتقاها الصديق ديمتري أڤييرينوس، ووضعت في مطلع افتتاحية معابر لشهر تشرين الأول 2008 حول نفس الموضوع بعنوان مستمرُّون. راجع الرابط: [2] في البداية كانا، عمليًا وفعلاً، اثنان هما كاتب هذا المقال وديمتري أڤييرينوس. ثم بدأ هذا الواقع يتغير ببطىء بدءًا من عام 2004. [3] أدونيس، الكتاب، الجزء الأول. [4] راجع الرابط: http://www.maaber.org/first_issue/editorial.htm [5] نجيب سرور. [6] كريشنامورتي، إبق بعيدًا، مقال، موقع سماوات. راجع الرابط: http://samawat.org/category/krishnamurti/ [7] كريشنامورتي، وصال، مقال، موقع سماوات. وأيضًا معابر. راجع الرابط على موقع معابر:http://www.maaber.org/issue_january10/perenial_ethics3.htm [8] حتى تاريخه من مؤسستي IKV Pax Christi الهولندية وNOVA الإسبانية مشكورتين. [9] حتى الآن ثلاث ورشات عمل.
|
|
|