عيد ميلاد ليلى

 

زياد جيوسي

فوضى، عدسة زياد جيوسي

اختلف فيلم عيد ميلاد ليلى عن باقي الأفلام الفلسطينية؛ لأنَّه فيلم روائيٌّ وليس فيلمًا وثائقيًّا، وتصويره كان في الأرض المحتلَّة وفي مدينة رام الله وتوأمها البيرة بشكل كامل، وكانت كافَّة الأدوار لممثِّلين فلسطينيين، وإنَّ تأخَّر العرض في فلسطين لأسباب عدَّة أهمها: جولة الفيلم الخارجية في المهرجانات السينمائية من جانب، والحرب المدمِّرة على غزة من جانب آخر- مما عطَّل الكثير من الفعاليات الفنية والثقافية في أرجاء فلسطين في ظلِّ شلاَّل الدَّم النازف.

الفيلم تناول الحياة الفلسطينية في ظلِّ الاحتلال وفي ظلِّ الفوضى الداخلية عبر استخدام شخصيَّة "أبو ليلى"، وهو قاضٍ سابق كان يعمل خارج الوطن، وعاد ليعمل في وزارة العدل في مجال تخصُّصه، ولم يصدر قرار تعيينه رغم حصوله على قرار من الشهيد ياسر عرفات الرئيس الفلسطيني الأول، في إشارة واضحة إلى أنَّ القرار من الرئيس الشهيد كان في أواخر فترته، ففي تلك الفترة كانت الكثير من قراراته لا تنفَّذ من المسؤولين في ظلِّ حصار "أبو عمار" على يد الاحتلال الإسرائيليِّ، هذا الحصار لم يتوقَّف حتى استشهاد الرئيس بالسمِّ حسبما تشير المؤشِّرات، وفي ظلِّ عدم تمكُّن المواطنين من مقابلة الرئيس بسبب الحصار الاحتلالي وإبداء التذمر أو الشكوى، فإنَّ أبواب "أبو عمار" كانت مفتوحة، مما ترك المجال واسعًا للكثير من المسؤولين كيْ لا ينفِّذوا القرارات الرئاسية تحت بند أو آخر.

وكيْ يتمكَّن "أبو ليلى" من تأمين لقمة العيش لزوجته وابنته ليلى، يضطرُّ إلى العمل كسائق سيارة أجرة، تعود ملكيَّتها إلى شقيق زوجته. وكونه رجل قانون نجده حريصًا على تطبيق القانون في مهنته الإجبارية في ظلِّ تردِّي وضعه المالي، فهو يلتزم بالقوانين التي أهملها معظم الناس، مثل: عدم السماح بالتدخين في السيارة، وإصراره على ربط حزام الأمان، والسير بسرعة قانونية، وإعطاء الأولوية للغير. وتروي حكاية الفيلم بتكثيف كبير يومًا من حياة "أبو ليلى" وهو يوم عيد ميلاد ليلى، وتنبِّهه زوجته أن يعود باكرًا كيْ يحتفلوا به.

ليلى طفلة في السابعة من العمر، وترتدي لباس المدرسة الأخضر مع الأبيض بخطوط طولية، دلالة رمزية على أنها طالبة في مدرسة حكومية، وليست من طالبات المدارس الخاصة باهظة التكاليف، والتي لها أزياؤها الخاصة ولا يتمكَّن المواطن العاديُّ من تسجيل أبنائه وبناته فيها. ومن هنا نلمس استخدام المخرج رشيد مشهراوي للرمز في فيلمه هذا بشكل مكثَّف وفي خدمة الهدف من الفيلم. وكلُّ رمز منها يحمل دلالة معيَّنة، فمن ملابس الطفلة المدرسية إلى الرجل المسنِّ الذي يركب معه ليوصله، فيعتذر له أبو ليلى لأنه لن يوصله كل المشوار لأنه مرتبط بالذهاب إلى وزارة العدل، يستغرب المسنُّ وجود وزارة عدل، فهو لا يرى أنَّ هناك عدلاً في المجتمع، فيقول: العدالة فقط في السماء. وحين يدخل أبو ليلى وزارة العدل للمراجعة بشأن موضوعه، يجد مديرًا عامًّا جديدًا يعمل على تغيير أثاث مكتبه بالكامل، رغم أنَّ المدير السابق بدَّل الأثاث منذ فترة قريبة، بينما لا يتمُّ تعيين أبو ليلى قاضيًا تحت بند عدم توفُّر الاعتمادات المالية! في الوقت الذي نجد اعتمادات مالية تصرف على الأثاث والسفريات والسيارات بدون حساب.

وفي مشهد آخَر، نجد المخرج يشير إلى انحراف الجيل الجديد من الأطفال من خلال الطفل الغارق في ألعاب المعارك على الحاسوب، دون اهتمام بمصدر رزقه وهو متجر والده الذي تركه له حتى يعود من صلاته، إضافة إلى الإشارة إلى رفض المواطن الالتزام بالقانون الذي لا يعتبره موجودًا من خلال رفض ربط حزام الأمان في السيارة. ويواصل المخرج استخدام الرمزيَّة في المشاهد لتعرية الواقع المعاش، فقضية أبو ليلى خلال تسليمه للشرطة - كمواطن صالح - جهاز خلوي لأحد الركاب، يواجه بتعقيدات وتعطيل مصالح في جهاز الشرطة. وفي صورة كاريكاتورية أخرى، نرى رجل الشرطة الذي يقود الدراجة الناريَّة مستخدمًا بوق الشرطة الخاص لمطاردة سيارة أبو ليلى، وكأنه مرتكب لمخالفة كبيرة، لنجده يقترح عليه شراء السيارة ليعمل عليها بعد الدوام.

لجأ المخرج إلى تكثيف أحداث الوطن ومعاناته في مدينة واحدة مثَّلت الوطن بمساحته الكبيرة، اختزلت الزمان والمكان في يوم واحد ومدينة واحدة ومواطن واحد هو الشاهد على الحدث. فأشار إلى حالة الفلتان الأمنيِّ من خلال الشخص ذي الملابس المدنية ولكنه يجول الشارع بسلاحه، ممارسات الاحتلال البشعة من خلال عملية الاغتيالات بالطائرات للمناضلين، الفقر في صفوف المواطن مما أدى إلى تسرُّب الأطفال لبيعوا على الإشارات الضوئيَّة بشكل تسوُّل مبطَّن، استخدام السلاح في الأعراس والمناسبات - حيث فقد السلاح دوره المقاوم وتحوَّل إلى بهرجة وزينة واحتفالات، تحوَّل المواطن إلى متسوِّل يصطفُّ بالطوابير للحصول على مساعدات فصائلية، معاناة المواطن من انقطاع الكهرباء ليشتري الشموع، انتظار تشكيل حكومة وحدة وطنية بدون مراهنة على نتائج تحقُّق هذا الحلم.

في الوقت الذي لجأ فيه المخرج إلى تكثيف الحدث ورمزيته، لم يفته أن يمنح بعض المشاهد طابع الطرافة والمرح الذي يحمل في طيَّاته فكرة موجهة. فهناك السيارة الصغيرة ذات الباب الواحد قد تحوَّلت إلى سيارة أجرة وهذا مخالف للقانون، وأبو ليلى حين تركب معه امرأة وتطلب أن يوصلها إلى المقبرة ثمَّ المشفى، يقول لها: العادة المواطن يذهب للمشفى أولاً ومنه إلى المقبرة!! فهل أراد المخرج الإشارة إلى الوضع الصحي المتردي في الوطن، أم أراد الإشارة إلى أنَّ القهر الذي يعاني منه المواطن يودي به إلى قصر العمر والموت؟ وفي مشهد آخر وعلى إثر قصف الطائرة لسيارة المناضل، نجد عربة يجرُّها حمار انقلبت وتعلَّق الحمار في الهواء؛ فهل قصد المخرج أن يشير إلى أنَّ الحمير أصبحت ترفض ممارسات الاحتلال، فكيف بالبشر؟

في المشهد قبل الأخير نرى أبو ليلى يصاب بحالة عصبيَّة وهستيرية بسبب المعاناة وما يراه من أحداث، فيستولي على مذياع سيارة شرطة ويبدأ بالصراخ رافضًا سلبيات المواطن ورافضًا ممارسات الاحتلال، حتى يأتي سائق السيارة ويأخذ منه المذياع وهو يخشى تحمُّل مسؤولية تصرُّف أبو ليلى؛ فهل أراد المخرج الإشارة من خلال هذا المشهد إلى أنَّ مقاومة الاحتلال والإخلال بالنظام والفلتان الأمني وانعدام العدالة هو دور الحكومة مباشرة وليس مسؤولية أيَّة جهة أخرى؟ وهل خوف العسكري سائق السيارة من تحمُّل مسؤولية ما قام به أبو ليلى هو إشارة إلى خوف الحكومة من تحمُّل المسؤولية أمام العدو والدول المانحة والقوى الفصائلية المتناحرة؟

هي تساؤلات كثيرة يثيرها الفيلم ومشاهده، ومع هذا لم تكن النهاية مفتوحة على التشاؤم وفقدان الأمل بالمستقبل، فأبو ليلى يقرِّر رفض الكثير من المسائل والعقبات ويصرُّ على العودة إلى بيته للاحتفال بعيد ميلاد ابنته ليلى؛ الطفلة التي تمثِّل الفرح والحلم الآتي. وكأنَّ المخرج أراد أن يشير لنا بأنَّ المستقبل ليس بما هو موجود بمقدار ما هو في القادم من جيل جديد، سيجلب الفرح ويحقِّق الحلم إن أحسن توجيهه بالشكل الصحيح، فيأتي جيل منتمٍ للوطن غير متسول وغير منحرف، يرفض الواقع المر ويعمل على تغييره.

الفيلم روائيٌّ وليس وثائقيًّا، وهذا يعفيه من الكثير من الملاحظات التي كان يمكن أن تسجَّل لو كان الفيلم وثائقيًّا. لكن بالتأكيد ورغم الجهد الكبير المبذول في الفيلم، إلا أنه لا بدَّ من الإشارة إلى الفارق بين أداء الممثل القدير محمد البكري الذي مثَّل دور أبو ليلى وبين الأداء الضعيف لغالبية الممثلين، وبالتأكيد هذا ناتج عن حجم التجربة. فالعديد من الممثلين ليسوا من إطار العمل التمثيلي سواء في السينما أو حتى المسرح. وفي الوقت نفسه أعتقد بأنَّه لولا تكثيف كمِّ المشاهد الكبير في وقت جدّ محصور هو مدة الفيلم، لكان إبداع وعطاء الفنان محمد البكري أقوى بكثير وأكثر عطاءً، لذا لو تمَّ تقليل المشاهد لأسهم ذلك في إعطاء الفكرة قوة أكبر وللمثلين عطاء أجمل، ولو أنَّ المخرج قلَّل من المشاهد التي أخذت طابع التضخيم الكاريكاتوري للمشاهد، لكان أكثر واقعية بحيث تتناسب مع طبيعة الفيلم كفيلم روائيٍّ، وإن افتقد الفيلم الحبكة الروائية وتصاعد الحدث ليخدم عقدة روائية. فالفيلم اعتمد على مشاهد مكثَّفة حصرها في الزمان والمكان، وهذه الهنات التي شوهدت في مشاهد الفيلم، أضعفت من قوته كفيلم روائيٍّ وإن لم تفقده الرسالة والهدف.

رام الله 25-4-2009

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود