|
المواطنية في مجتمع متعدد
بين المواطنية والطائفية: إن معالجة مفهوم المواطنية في مجتمع طائفي تُعد من أعقد الأمور، لاسيما في الدول التي تشهد تنوعًا عرقيًّا ودينيًّا ومذهبيًّا كلبنان والعراق...، فالتصوّر السائد عن الطائفية فيها يُعد مكمن الفساد، لأنه يُكرس مفهوم أن الطائفية داخل الدولة هي انعكاس للطائفية داخل المجتمع، وعلى الأفراد القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، الأمر الذي أدَّى، مع مرور الوقت، إلى شرعنة قيام الدولة الطائفية نفسها بوصفها حتميّة اجتماعية أو تعبيرًا عن خصوصية محلّية لا يمكن التجاوز عنها من دون ارتكاب مخاطر السير في اتجاه اقتسام غير عادل للسلطة والثروة المرتبطة بها. هذه المعطيات أفرزت حكومات تخلَّت عن مسؤولياتها في بناء دولة حديثة حقيقية قوامها مفهوم الحق والقانون، وأصبح دورها محصورًا في تقاسم السلطة بين نخب الطوائف وأرباب الكراسي والعشائر القائمة، كما أدّى إلى رفع الممارسات الطائفية عن طاولة النقد، وأصبحت "الطائفية" ذلك "اللاهوت المحرم" الذي ينبغي ألا نقترب منه. هذا التصور وَحَّد تمامًا بين منطق عمل الدولة ومنطق عمل المجتمع الأهلي، ملغيًا بذلك أي إمكانية لبناء دولة سياسية ديموقراطية. لذلك يجد المحلل نفسه أمام إشكالية معقدة ومركبة ومتشعبة في آن، فمعالجة موضوع المواطنية يرتبط، قبل كل شيء، بمسألة الهوية عند الكائن الانساني نفسه والخلفية الثقافية والحضارية، كما يرتبط بالديمقراطية والحريات من جهة أخرى. وكثيرًا ما يدور التساؤل حول التناقض بين ثقافة المواطنية ووجود طوائف ومذاهب. في واقع الأمر لا يوجد أي تناقض بين المواطنية والطوائف شرط توسيع المجال العام والقضايا المشتركة وتوحيد الهمّ والأهداف الوطنية وتحييد الخصوصيات وعدم تسليط الضوء السلبي على الاختلافات الثقافية، لأن تعدد الثقافات يثري التجربة الإنسانية، فالمواطنية طرح يحتوي الطوائف والتيارات الفكرية جميعها ويتجاوزها في آن من خلال توسيع مجال المشترك العام بين ابناء الوطن الواحد. لذلك فإن عملية تكوين المواطنية الحقيقية، في مجتمع متعدد، تبدأ من إيجاد صيغة ثقافية وتربوية قائمة على أسس فلسفية إنسانية تؤدي إلى صهر الطوائف في بوتقة الوطن الواحد دون تلغي دور الأديان في حياة الأفراد، أو أن تمس بالحريات الفردية للأشخاص. فالطائفية السياسية ليست مجرد شعور عدائي لأفراد من طائفة نحو طائفة أخرى، بل هي أيضًا استراتيجية موازية تستخدمها بعض فئات النخبة السياسية في التنافس على السلطة، أو سياسة منهجية تتبعها سلطة معينة في سبيل تأمين قاعدة اجتماعية شعبية أو إثنية أو مذهبية تعزز مواقعها الاستراتيجية، وهو ما تعمد إليه "الأحزاب الطائفية المؤدلجة في لبنان" لتكريس الطائفية كحتمية اجتماعية وتاريخية لا ترد. ويزعم "ملوك الطوائف" اليوم أنهم يريديون تطبيق اتفاق الطائف، بالرغم من أن اتفاق الطائف ليس "مقدسًّا"، وبالرغم من أنه كرّس التمثيل الطائفي في الفئات الأولى. فاتفاق الطائف يطالب بـ"إلغاء الطائفية" وفق صيغة نُقلت إلى الدستور اللبناني بعد تعديله بناءً على مضمون وثيقة الوفاق الوطني، وذلك عبر المادة 95 من الدستور التي ورد فيها: إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقًا لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء الفئة الأولى من الموظفين وما يعادل الفئة الأولى، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأ الاختصاص والكفاءة. وفي المادّة نفسها ورد أيضًا: على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. هذه الهيئة لم تشكَّل حتّى الآن، وهذه النصوص لم توضع موضع التطبيق بعد أكثر من سبعة عشر عامًا على إعلان اتفاق الطائف. وفي هذا مخالفة للدستور مع العلم أنه كان من الواجب تشكيلها منذ أوائل التسعينيات، وكان بالامكان تجاوز الحالة الطائفية واعتبار هذه الهيئة مرجعية ومنبرًا للحوار المنتظم في كل شأن وطني، وتسخير السياسات التربوية والانمائية لها. الديموقراطية والمواطنية الحرة في ظل المتغيرات العصرية: ساهمت القفزة النوعيّة، في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصال السريع، في زعزعة ممالك الأنظمة الشمولية التوتاليتارية المنتشرة في العالم، لاسيما العربي منه، وفتحت الآفاق أمام الشعوب للاطلاع على المعلومات كافّة، بما فيها السياسية بطبيعة الحال، فلم تعد الأنظمة الرسمية هي مصدر المعلومات الوحيد، بل على العكس فإن وكالات الأنباء الرسمية في هذه الأنظمة لم تعد تلقى أي متابعة شعبية على الاطلاق. من ناحية ثانية فإن الطفرات الاقتصادية العالمية الأخيرة جعلت من المتعذر على السلطة المركزية أن تبقى المخطط الوحيد للرعية ما لم يشارك هؤلاء أو لم يشعروا بأنهم معنيون بخطط التنمية، وهو ما يُعرف بقوة التمكين Empowerment أو Capacitation؛ إذن فالمتغيرات العصرية تفرض اليوم على الدول خيار الديموقراطية المبنية على مواطنية حرّة. إضافة إلى أمر غاية في الأهمية، وربما يعد قضية محورية في الموضوع، وهو أن المواطنية هي جهاز مناعة الدول بالدرجة الأولى والطائفية السياسية هي الفيروس المدمر لها. فعندما يكون الولاء السياسي لرعايا دولة ما للطائفة على حساب الوطن فإن التدخلات الأجنبية في السياسة الخارجية ستأخذ مداها الدراماتيكي، وستؤدي إلى انفراط عقد الدولة نفسها التي تتحول إلى ممالك هشة تتلاعب بها القوى الاقليمية وتتحول إلى ساحة لتصارع النفوذ الدولي على ساحتها. مكونات المواطنية وعوائقها في المجتمع الطائفي: أركان المواطنية ومكوناتها: يمكن أن نستخلص العلاقات المكونة للمواطنية ونحصرها بنقاط أهمها: 1. العلاقة المكانية: المرتبطة بالأبعاد الجغرافية والتاريخية للوطن. 2. العلاقة الإنسانية المجتمعية: المتعلقة بالأفراد الذين يعيشون في هذه البقعة الجغرافية. 3. العلاقة بالسلطة: التي ترعى الشؤون العامة في هذا المكان ومع هؤلاء الرعايا الذين ينتمون ويعيشون فيه. وبالرغم من أهمية العلاقات تلك إلا أن المكون الأساسي للمواطنية يبقى مكونًّا فكريًّا قبل كل شيء، يرتكز في الخلفية الذهنية المنغرزة في اللاوعي المجتمعي. ولعل أهم أركان المواطنية تتحدد بالتالي: 1. المواطن هو مصدر السلطة وهو الذي يمنحها الشرعية لذلك فهي مرتبطة بالديموقراطية الفعلية قبل كل شيء. 2. المواطن هو المستند الشرعي للحكومة والقوانين التي تصدر عنها. 3. يتمتع جميع المواطنين بنفس الحقوق كما يتساوون تمامًا بالواجبات، دون تمييز سواء كان تمييز عشائري أم طبقي أم مذهبي أم ديني، وذلك وفق المعايير التي حددها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ووفق معايير المواثيق الدولية. أمام العناصر والمعطيات الآنفة الذكر نجد أن هناك خللاً فادحًا وفاضحًا في بنية الأنظمة القائمة، فالمواطن الحالي "غير تامّ" سواء على المستوى النظري أو في مجال التطبيق والممارسة العملية والعلاقات. فالسلطة في مجتمعاتنا الطائفية العنصرية منبع قيم سلبي، والمواطن حاليًّا لا مكان له في السلطة التشريعية على الاطلاق، لأن هذا الأمر موكل لأفراد يعملون على تملق الزعيم ووضع القوانين التي تلاءمه وتشرع وجوده وتمنحه الاستمرارية. فالدساتير والقوانين مفصّلة على مقاس "المسؤول". لذلك فإن الاصلاحات الدستورية ووضع قانون انتخابات عادل يؤدي إلى ديموقراطية حقيقية تضمن التنوع الثقافي وأطياف الشعب كافة تعد من أولى الأولويات. أما على صعيد العلاقة الحالية بين المواطن والسلطة فهي علاقة مأزومة تاريخيًا، ومفهوم المعارضة مرتبط في الأذهان بالطامعين، وهو مفهوم خاطئ. علمًا أن المعارضة في الدول العصرية لا علاقة لها بالطمع على السلطة، فالمعارضة في الدول الحديثة هي جزء من مكونات المنظومة الديموقراطية والعمل المؤسساتي الذي يضمن الحق القانوني للمواطن بالمسائلة والمحاسبة على المشاريع التي تتبناها الحكومة، ومعالجة قضايا الرشوة والهدر والفساد... فالمعارضة لا تعني الطمع بالسلطة لأن مفهوم الدولة مرتبط بالتداول أصلاً ولا وجود لسلطة أبدية. بعض الإجراءات العملية بناء الثقة وعدم التخوين بين أفراد الشعب الواحد: هذا يتطلب، قبل كل شيء، بناء ذاكرة جماعية وطنية تنبذ العنف والعنصرية وتحذر من مخاطر الانقسام، وفوائد التضامن، والتحذير من خطورة تكرار التجارب العبثية والحروب الأهلية بحيث يتولد عند الأجيال "توبة" تجاه الصراعات الدموية، من خلال ترسيخ المبادئ العامة للحريّات وحقوق الإنسان وحمايتها، وأن يضمن ذلك الدستور كما أقرته المواثيق الدولية وشرعة الأمم المتحدة، وأن يُصاحب كل ذلك توسيع الأمل وترسيخ ايمان عميق بضرورة التغيير والاصلاح والقدرة والإرادة الكامنة بأن الوضع ليس ميؤسًا منه. ويساهم في ذلك إعادة قراءة جادة للسياق التاريخي الحضاري للمجتمع والوطن من خلال امتداداته الثقافية، ومن منطلقات إنسانية تدافع عن الإنسان وحقوقه وحريته. ويُعد لبنان مثالاً رائعًا وغنيًّا لتاريخ الحريات. ثقافة المواطنية والديموقراطية[2]: إن الديمقرطية السليمة هي أكثر من أبنية ومؤسسات، إنها تعتمد بالدرجة الأولى على الخلفية الفكرية والثقافية المبنية على تطوير ثقافة ديمقراطية ومواطنية. وفي هذا السياق فإن الثقافة المقصودة، بالمعنى العام، ليست مجموع الآداب والموسيقى والفن ...الخ، وإن كانت هي أمور تعد من الثقافة، بل تعني كافة التركيبات الثقافية والمرتكزات المؤسسة للسلوك والتصرف والممارسات والأعراف التي تتبلور من خلالها قدرة الأفراد الناس على أخذ قراراتهم وحكم أنفسهم بأنفسهم وتحمل تبعات ذلك. فالثقافة، بهذا المعنى، تعني الوعي المجتمعي والخلفية الذهنية والفكرية المحركة للسلوك عند الأفراد والمجتمعات. لذلك نجد أن الأنظمة، التي تكرس سياسة العقل الواحد، إنما تشجع الثقافة القائمة على الإذعان والخنوع والطاعة العمياء لما يسمى بـ"الزعيم" أو "ولي الأمر" ...الخ، وذلك بهدف تنشئة أفراد تسهل قيادتهم ويكونوا طيعين، فنجد أن القمع مرتكز أساسي في التربية والقيم داخل تلك المجتمعات، مستخدمين لأجل تكريسه كل المفاهيم المؤدلجة بما فيها النصوص اللاهوتية. فالأطفال يتربون على القمع بحجة التأديب، والمرأة تُقمع بحجة الدين وطاعة ولي الأمر، والرجل يُقمع من قبل مسؤوليه وهكذا في سلسلة لامتناهية من تكريس ثقافة العصا وإن كانت هذه العصا معنوية. وعلى نقيض ذلك فإن ثقافة المواطنية في مجتمع ديمقراطي تشكل بالفعل النشاطات التي تنمي عملية صنع القرار عند الأفراد من جهة وتحترم خياراتهم من جهة أخرى. فالمواطنون في مجتمع حر يعملون لتحقيق أهدافهم ويمارسون حقوقهم ويتحملون مسؤولية حياتهم وخياراتهم، إنهم يقررون بأنفسهم من ينتخبون في صناديق الاقتراع، وهم يعون أبعاد البرامج التي يطرحها المرشح الذي ينتخبونه، ومن ثم فهم يحاسبوه على ما أنجز من التزامات تجاه من منحوه أصواتهم. لذلك فإن الديموقراطية والمواطنية متلازمتان بشكل مباشر مع قانون محاسبة المسؤول على كافَّة الصُعد، وهما متلازمتان مع مبدأ تكافؤ الفرص، لذلك فإنهما تتلازمان مع تمثيل شعبي حقيقيّ، وما تنتجه الانتخابات الحالية هو نظام شبه أوتوقراطيّ، تكون قرارات السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية فيه رهن باتفاق أصحاب المحادل الانتخابية. فالمواطنية هي من صميم الإرادة الحرة والحرية الفردية، وهي بشكلها البراغماتي اتقان مهارة صنع القرار؛ وهو أمر تربوي ثقافي يبدأ منذ الصغر في المناخات البيتية والمدرسية ويمتد إلى سائر مؤسسات المجتمع التي تعتبر أن الاختلاف حق مشروع للكائن، وأن خيارات إنسان بحق نفسه ليست خيارات ملزمة بحق الآخرين، وفي هذه المجتمعات يكون "الدين" مجرد علاقة روحية حميمية بين الإنسان وربه لا يتدخل فيها أحد، ومن حق كل كائن أن يعبر- أو لا يُعبر - عنها على طريقته وبالشكل الذي يختاره ويريحه، ويصبح دور المرجعيات الدينية دور تنويري يحترم الاختلاف ويعزز الحريات الدينية في أجواء تسود فيها الديموقراطية الروحية أو حريّة الروح كما أحب أن اسميها. الديمقراطية والعملية التربوية: إن العملية التربوية عنصر حيوي لأي مجتمع، خصوصًا المجتمع الديمقراطي، ذلك أن هدف التربية في نظام الديموقراطي الحر هو إيجاد مواطنين مستقلين يتميزون بنزعة المساءلة والتحليل في نظرتهم للأمور، ويتحلون بفهم عميق لمبادئ وممارسات الديمقراطية، وذلك بخلاف الأنظمة التي تسعى إلى تمجيد قائد تذعن له الأفراد في كل الاوقات. إذن فالعملية التربوية من الأهمية بمكان، إن لم تكن المحور الأساس التي من خلاله تتم ترجمة فلسفة المواطنية إلى مناهج تعليمية تنمي مهارات التحليل النقدي وتساهم في ارساء الممارسات الديموقراطية، وفي صهر أبناء الوطن الواحد. فالمؤسسة المدرسية هي التي تجعل أنواع المعرفة وطبيعة القيم والمبادئ التي يتوقع أن يحملها الناشئ قابلة للترجمة والتحقيق على أرض الواقع، وذلك وفق اعتماد مناهج تربوية وطنية تراعي كافة الشروط المتعلقة بمستويات نمو الناشئة وطبيعة الحياة المدرسية والوسائل التعليمية المتاحة وغير ذلك. فالعلاقات التربوية القائمة يجب أن تبنى على الحرية وتلقائية مرسّخة بالحوار الهادف الحر والمسؤول، وإعمال العقل والفكر فيما يتعلمه التلاميذ ضمانًا لتحقيق الوئام وتبادل التقدير داخل المجتمع الصغير، لأن ذلك من شأنه أن يعزز في نفوس التلاميذ الإيمان بحق الاختلاف والتنوع، كما يرسخ مبادئ الحوار وجدواه وقيمة التواصل الحضاري مع الآخر، ويساهم في التبادل المعرفي المجرد من كل تعصب وأنانية أو انغلاق أو ادعاء مبرم بامتلاك الحقيقة. فالتربية على المواطنة تبدأ من هذه النقطة، وتتأسس عليها. لا يمكن للعلاقات التربوية المدرسية التلقينية المنغلقة على نفسها، واللامبالاة بالآخر وبحقوقه وثقافته، أن تدّعي القدرة على التنشئة الحضارية والسياسية التي نسعى إليها. إن إثارة الأمل والطموح لدى التلاميذ، المواطنين الصغار، يؤثر في تعزيز صورة الذات الوطنية لديهم، كما يؤثر في مستوى طموحاتهم المستقبلية، وذلك من خلال تنشئة تعتمد بث روح المسؤولية، وإحاطة الفرد بالمثل العليا والنماذج الوطنية المشرفة. كما أن تعزيز الاحترام لاختيارات التلاميذ وأذواقهم، وقبول الاختلافات، يساهم في خلق أجواء التسامح في فصولنا الدراسية، فالتربية على التسامح لا تعني قبول أن يكون الفرد مختلف بل أن يقبل تفرد غيره واختلاف الآخرين معه، بحيث يكون منفتحًا عليهم ومدافعًا عن حقهم في الاختلاف. محاربة التعصب: التعصب هو ترجمة لاتجاه شعوري نفسي جامد تصاحبه مواقف انفعالية. ويتبلور التعصب من خلال اطلاق الأحكام المسبقة على الآخرين، والادعاء المبرم بامتلاك الحقائق المطلقة. والتعصب نقيض الديمقراطية وآفة المواطنية لأنه شعور مرَضي يفتك بالمجتمع ويدمر فيه روابط الألفة والمحبة والتعايش. فالوضع السياسي والثقافي، القائم حاليًّا، يساهم في اشاعة مناخات نفسية مشحونة بالبغضاء تجاه "عدو" أو أعداء قد يكونوا حقيقين أو مُتخيلين، وترويج أحكام مسبقة ضد أشخاص أو أفكار دون أن تقوم تلك الأحكام على حجة معقولة أو سند منطقي مقبول. وكثيرًا ما يتعلم الأطفال التعصب من ذويهم والمجتمع المحيط فيهم، فالفضائيات تنقل خطابات الساسة المتشنجة. وحين لا نبدي احترامًا للأفراد ولاختيارات الآخرين ينتقل هذا الأمر إلى الأطفال فيشوّه براءتهم. ترسيخ فلسفة الصفح والتسامح[3] إن الصفح ليس فكرة طوباوية بقدر ما هو قوة روحية كامنة في شيفرة تراكم سيرورة الروح الإنسانية في رحلة حياتها، ويكمن دور الكائن الانساني في تحويل تلك القوة، الكامنة فيه أصلاً، من وجود كامن إلى وجود بالفعل، وترجمة قدرات الروح الصفحية والتسامحية إلى سلوك ظاهر يتجلى من خلال انفتاح حتى على من يُصنف أنه "عدّو"، وليس مصادفة أن تصل الثقافات العالمية الكبرى في مجرى تطورها إلى الانفتاح الداخلي والخارجي، لأنها تدرك بفعل منطق التطور الروحي ضرورة تجاوز الحدود التي تفرضها نفسية الغريزة، أو ما كانت بعض الفلسفات القديمة تطلق عليه اسم القوة الغضبية. إن هذه الحالة لا تبلغها إلا الحضارات المزدهرة دون شك، لأنها تكون قد ارتقت في ذروة إدراكها الروحي حيث يصبح الصفح جزء من حقيقة منظومة تكامل الانسان. بطبيعة الحال لا يمكن الارتقاء إلى هذا المستوى من التسامح بين ليلة وضحاها ما لم يتم تعزيز ذلك بالتربية ومؤسسات المجتمع المدني كافّة. وترسيخ هذه الفلسفة يكون عبر تقوية النزعة الروحية لحقيقة تساوي الكائنات أمام المكون وأمام الكون، وذلك عبر ترسيخ الآداب الرفيعة والفنون الراقية، ولا يمكن أن نغفل دور الفن والتمثيل والمسرح ... الخ في تعزيز ثقافة التسامح والرقي بالكائن من طور الغريزة والأنانية والجشع إلى مصاف الإبداع الروحي والعطاء الوجداني. الأسس الثقافية والفكرية لبناء المواطنية في مجتمع متعدد: - بناء الهوية الوطنية: فالمواطنية هي في الواقع سؤال الهوية، والهوية هي في الحقيقية سؤال الثقافة والحضارة. لذلك لابد من الارتكاز على فلسفة إنسانية وجودية منفتحة قوامها المحبة والسلام والعدل والانفتاح وقبول التنوع واحترام الآخر، وعندها يكون الدين هو مجرد علاقة خاصة بين الإنسان وربه، أما علاقة المواطن بأخيه فيحددها الانتماء الوطني. - الانفتاح والتسامح هما الخصائص الأساسية للموقف الوطني الجامع، وذلك يُبنى من خلال حريّة الفكر[4]، ويشتمل على الاعتراف بحق الآخر في تبني أفكار وحقائق قد تكون مخالفة لحقائقنا وأفكارنا. فالرؤية الوطنية للطوائف هي رؤية متسامحة بحيث إنها تتخطى مجال الخلافات، وتجعلها تتحاور وتتصالح، ليس فيما بين المذاهب والأديان وحسب بل حتى مع سائر التيارات العلمانية والفكرية. - ترتكز ثقافة المواطنية على مرتكز أساسي مفاده أنه لا يوجد فضاء ثقافي منزه يمكن من خلاله إطلاق الحكم على الآخرين ولا يجوز الحكم على ثقافة ما أو فئة ما، لذلك فإن ثقافة المواطنية تقف موقف منفتح إزاء الأديان جميعها وتحترمها. - إن الأخلاق التي تؤسس لمواطنية حقة هي التي تستنكر كل موقف رافض للحوار وللمناقشة، سواء أكان رفض الحوار ذو منشأ سياسي أم حزبي أم عقائدي أم فلسفي. فالحياة المشتركة تُبنى عن طريق توسيع القضايا المشتركة العامة، والفهم المشترك المبني على الاحترام المطلق لكافة التنوعات الاثنية والدينية للجماعات والافراد والتي تجمع فيما بينها الحياة المشتركة على الأرض الواحدة نفسها. - المواطنية محورها الإنسان لذلك فهي تقتضي صياغة سياسة اقتصادية تكون في خدمة الكائن الإنساني لا العكس، فالاقتصاد ينبغي أن يكون لحماية البشر من خلال تبني فلسفة اقتصادية تحترم الفرد ومتطلبات الشعب. - المواطنية الحقة تقتضي الاعتراف بحق المواطن في اختيار دينه أو تغييره[5] ومن واجب الدولة تأمين نظام مدني للمعاملات لأولئك الذين لا يرغبون باللجوء إلى المرجعيات الطائفية في معاملاتهم الخاصة. - إن فلسفة المواطنية تفترض ذهنية منفتحة بعيدة عن التصورات النمطية والأحكام المسبقة عبر اعتماد رؤية ترتكز على نسبية الموضوعية والحقائق، فلا يوجد شيئ مطلق من شأنه أن يستبعد الآخر ويقصيه. - فلسفة المواطنية تقوم على الاعتراف بوجود مستويات متعددة للحقائق وأبعاد متعددة للقيم وللواقع أيضًا، وأن كل مستوى قد تحكمه أشكال متنوعة من المنطق[6]، وبناء عليه كل محاولة لاختزال الواقع إلى مستوى واحد ومصادرة الحقائق ببعد واحد من شأنها أن تقوض مفهوم المواطنية نفسه. - كل محاولة لاختزال المواطن الإنسان بدينه أو انتمائه أو مذهبه، وتحويله إلى مجرد رقم انتخابي طائفي، وإلى تقليصه في بنى شكلانية، أيًا كانت، تتناقض مع مفهوم المواطنية. الطروحات العملية للأسس النظرية: - بناء الوسائل العمليّة لدعم المشاعر الوطنية المشتركة بين جميع الطوائف والأعراق والمذاهب والتيارات والأحزاب، تكون بمثابة الحصن الثقافي الحامي لمبدأ المواطنية، ووعاء قابل لاستيعاب التبعات القانونية والسياسية للمواطنة. - دعم التنوع الثقافي وحرية الرأي والتعبير، فالوحدة الوطنية تكون بدعم التعددية[7] بوصفها إثراءًا للتجربة الانسانية. - هذا الأمر يحتاج لآليات تترجم عمليًا من خلال إعداد قادة ونخب فكرية ومراكز بحوث ودراسات تساعد في ارساء المفهوم الكوني المنفتح للإنسان. - دعم الخطاب الإعلامي المنفتح، وتشجيع الكتّاب والمفكرين والأدباء الذين يتبنون أفكار تساهم في إرساء فلسفة التسامح والانفتاح. - إنشاء مراكز ثقافية وطنية تهتم بالأطفال والشباب، وبناء مكتبات عامة تعنى بالمواطنة، وتنظيم ندوات وفعاليات تعزز الانتماء الوطني. - المساهمة في توجيه طلاب الدراسات العليا لاختيار أبحاث علمية ودراسات ميدانية تعزز الانتماء الوطني، وتساهم في تقديم أفكار مبتكرة وآليات لتعزيز مبادئ الديموقراطية والحرية ونبذ العنف. - محاولة تحييد وعزل الخطابات الانعزالية التي من شأنها تكريس العنصرية والطائفية والدعوات المغرضة التي تقضي على وحدة النسيج الوطني وترفض قبول الآخر، وذلك من خلال تهميشها إعلاميًا ومحاولة محاصرتها وتسليط الضوء على أضرارها. - إعداد خطة تربوية لتنقية الكتب الدراسية من كل ما من شأنه إثارة النزعات الطائفية والمذهبية، دون أن ذلك يمس بحرية التعليم أو يحط من شأن طائفة معينة ويطعن في معتقداتها، مع ضرورة تسليط الضوء على تاريخ الليبراليات والحريات والديموقراطية في محاولة لبناء تربية مستدامة قوامها المشاركة العامة والتعاون وبناء الوطن. - التنسيق مع المراجع الدينية والطائفية كافة لبناء خطاب وطني خال من شحنات التحريض والكراهية ضد الآخر، واستبعاد كل ما يدعو فيه إلى التعصب، وضرورة إحداث تجديد في مستوى الخطاب الديني[8]، وليس المقصود هنا الخطاب المعلن في المنابر والكنائس وحسب بل الخطاب المؤسِّس للممارسات الدينية. فتجديد الخطاب الديني يعني إعادة قراءة النصوص اللاهوتية المؤسسة للأفعال وتقديم رؤية منفتحة تتلاءم مع العصر الراهن. - جعل مادة حقوق الإنسان، في الكليات الدينية المسيحية والإسلامية والحوزات العلمية، مادة إلزامية، وتوضيح العلاقة بين مبادئ حقوق الإنسان والعقائد الدينية. - استغلال المناسبات الوطنية العامة والأعياد لتعزيز الوحدة الوطنية: مثل عيد الاستقلال وعيد العلم وعيد الجيش...الخ كما يمكن استحداث مناسبات لها علاقة بالبيئة والأخوة والوحدة والمحبة. - دعم جمعيات المجتمع المدني التي هدفها التنوير، وتوفير الفرصة في الإعلام للمتنورين ودعاة التنوير والانفتاح. في الختام نود الإشارة إلى أن كل الطروحات المذكورة هي طروحات انتقالية بهدف الوصول إلى مرتكزات دولة علمانية كاملة قوامها الديموقراطية وحرية الكائن الإنساني واحترام حرمته وحقوقه بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. *** *** *** [1] كاتبة لبنانية. بريد الكتروني: Marwa_kreidieh@yahoo.fr. موقع الكتروني: http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com
[2]
كثر الكلام مؤخرًا عن الديموقراطية
التوافقية، وقد اُستهلك المصطلح في لبنان بين السياسيين، وانحرف عن مفهومه
العلمي الأصلي. وقد جاءت نظرية التوافقية بعد التجارب وليس قبلها، واكتسبت
هذه النظرية شكلها الملموس على يد مفكرين سياسيين بارزين منهم آرنت
ليبهارت، وغيرهارد لمبروخ وغيرهم.
تتميز الديموقراطية التوافقية عند ارنت ليبهارت بأربعة عناصر أساسية
هي: 1- حكومة ائتلاف أو تحالف واسعة تشمل حزب الغالبية وسواه 2- مبدأ
التمثيل النسبي في الوزارة، في الإدارة، والمؤسسات، والانتخابات أساسًا 3-
حق الفيتو المتبادل للأكثريات والأقليات لمنع احتكار القرار 4- الإدارة
الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة. [3] لمزيد من التوضيح والشواهد العملية، يرجى العودة إلى مقالة الكاتبة حول: فلسفة التسامح والفكر الكوني، 2007. على الرابط التالي: http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/?post=462357
[4] الأمر يتطلب التحليل من خلال محورين اثنين: الأول هو توجيه حريّة الفكر، لا تقييدها، إلى الإبداع والخلق، وذلك بما يخدم مبدأ المؤالفة وشرط المشاركة في بناء المدينة العقلية لا هادمًا فيها؛ والمحور الثاني يتمثل في وضع أسس مشروع حياة بصرف النظر عن المداخل النظرية. يمكن لهذين الأمرين أن يضعا حدًّا لأشكال التوتر المحتدمة بين حقوق الانسان المواطن، وبين حرية الفكر في المملكة العقلية وعالم المثل. والمقصود هو أن حقوق الإنسان ينبغي ألا تتعارض، بحال من الأحوال، مع حرية الفكر حين يمارسها إنسان آخر بحيث تترتب عنها مضار معنوية أو مادية لكائن انساني مغاير. لمزيد من التفصيل راجع مقالة الكاتبة بعنوان حرية الفكر بين المؤالفة والمخالفة، على الرابط: http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/?post=425038 [5] قد يكون هذا الطرح سابقًا لأوانه الآن، لأن الوعي اللاهوتي غير متبلور حاليًّا عند معظم الشعوب العربية، وفكرة حرية الأفراد في اعتناق أي دين أو عدم اعتناق أي دين تُعد مرفوضة تمامًا، لاسيما في المجتمعات الشرقية! أما فيما يتعلق بإنشاء محاكم للأحوال الشخصية فهي ضرورة في لبنان لمن لا دين لهم أو لمن لا يرغبون في العودة إلى مرجع ديني في حال الزواج المختلط، فهو مرفوض اجتماعيًّا أيضًا. فالغالبية من المسلمين اليوم لم يتقبلوا وجود مأذونة شرعية أو قاضية فكيف لهم أن يتقبلوا وجود محاكم مدنية إلى جانب الشرعية؟ [6] هذا موضوع فلسفي طُرح في السنوات الأخيرة عن طريق عديدين منهم بسراب نيكولسكو، وهو مقترب علمي يحاول فهم العلاقات المنطقية من خلال مستويات متعددة الواقع، طارحًا طرق تفكير مختلفة. [7] لشرح مفهوم التعددية، يرجى العودة إلى مقالة الكاتبة بعنوان التعددية الثقافية بين مستويات الواقع والوحدة الوجودية، على الرابط التالي: http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/?post=130428 [8] وهو أمر ترفضه حاليًّا المرجعيات الدينية على اعتبار أن هناك مسلمات لا تخضع للتجديد ولا للاجتهاد. على سبيل المثال من يغيير دينه يُعد مرتدًا عند المسلمين، ومن يتزوج بعقد مدني يُعد زانيًا ... وهكذا. كل تلك الإشكالات تحتاج إلى علماء قادرين على مواجهة التحديات وتحمل مسؤولياتهم والتفكير في اللامفكر فيه.
|
|
|