|
كيف نشأ الشعر
إن من أصعب المهمات على الإطلاق تتبع ولادة الشعر وفطامه ونشأته، فعندما وصل إلينا هذا الفن كان مخلوقًا سويًا تجاوز مرحلة الطفولة، والشعر مثله مثل الفنون الأخرى نشأ بدافع من حاجة الإنسان إليها للتعبير عن مشاعره وأحاسيسه وهمومه، وهذه الحاجة إلى التعبير عن مكنونات الإنسان هي حاجة غريزية تخلق معه، وترتقي كلما ارتقى وارتقت حاجاته. فالإنسان الأول رسم مشاعره وأفكاره على العظام والحجارة وصخور البراري، وأرخى العنان لسجيته كي تطلق أصواتًا غنائية مبهمة هي أقرب إلى اللغة البدائية التي طورتها حاجته فيما بعد، واستمر الارتقاء عبر التاريخ حتى ارتقت الفنون إلى تلك الدرجة الحالية من الكمال بعد معاناة طويلة ومخاض عسير سخّر له الإنسان كل طاقاته. اختلفت الآراء في أيهما أسبق الشعر أم النثر، ويكاد الجميع يتفق على أن الشعر أسبق من النثر لأن النثر نوع من الأدب يحتاج إلى روية وتفكر ونظر لا تتوافر في أمة إلا بعد اجتياز مرحلة معينة من مراحل تطورها. أما الشعر فيرتبط مع الغناء برباط القربى لأن الإنسان أول ما غنى كان غناؤه صوتيًا ثم بدأ يضع الكلمات على شفتيه لتتناغم مع اللحن، وكانت ألفاظه غير منتظمة، ثم بدأ يضع جملاً وتراكيب ذات معنى ويلحنها وبدأت أولى أوزان الشعر تظهر، ولذلك كان الشعر أقرب إلى الشعور الفطري منه إلى الشعور العقلي على عكس النثر. والشعر العربي نشأ ملازمًا للغناء كما نشأ فن الشعر لدى باقي الأمم، ويروى أن هوميروس الشاعر العظيم كان يلحن شعره، ويغنيه، ويقال إن الأعشى أيضًا كان يتغنى بأشعاره، وسمي بصنّاجة العرب، ويقول حسان بن ثابت: تغن بالشعر إمّا كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار وعندما كانوا يقولون أنشد الشاعر قصيدة ربما كانوا يقصدون غنّاها لأن الإنشاد يعني لغويًا نوعًا من الغناء ومن هنا كلمة النشيد. ويقسم الشعر القديم - لو أردنا تصنيفه - وفق التفصيلة الكلاسيكية المعروفة إلى ثلاثة أقسام هي: 1 – الشعر القصصي: وهو نوع من الشعر يقوم مقام الرواية فيسرد القصص ووقائع الأبطال حاملاً عواطفهم وهمومهم وأفكارهم. وهو في الأصل يعتمد على قصة واقعية تتناقلها الألسنة فتتعرض للتحريف والزيادة والمبالغة، ويتصدى لها شاعر أو شعراء يخلدونها بقصيدة عصماء تدلي بدلوها أيضًا في تزيين الخوارق البطولية للحدث. وتدل الدراسات أن العرب لم يعرفوا الملاحم الشعرية كالإلياذة عند الإغريق أو الشاهنامة لدى الفرس بل ما عرفه العرب هي الأشعار التي تروي وقائع أيام العرب وتناقلتها الأخبار والمجالس من جيل إلى جيل. 2 - الشعر الغنائي: وهو شعر تغلب فيه، على الشاعر، عواطفه ومشاعره الذاتية فيتغنى بها. ولا ينشأ مثل هذا النوع من الشعر إلا بعد تكوّن الأمة وبعد شعور كل فرد فيها بكينونته الذاتية. وأول من أطلق تسمية الشعر الغنائي على هذا النوع هم الإغريق الذين صاحب شعرهم الغنائي عزفٌ على القيثارة، وتطورت التسمية ثم استخدمت للشعر الذي يعبر فيه الشاعر عن دخيلة نفسه وكأنه يغني عواطفه الخاصة، وأغلب الشعر العربي القديم من هذا النوع. 3 - الشعر التمثيلي: لم يعرف العرب شعرًا تمثيليًا حقيقيًا كالذي عرفه الإغريق القدماء، بل عرفوا شعرًا حواريًا يضع فيه الشاعر حوارًا بين شخصين أو أكثر بحيث تكون القصيدة قريبة من المشهد التمثيلي البسيط. ونجد كثيرًا من ذلك في أشعار امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة لكنها لاترقى أبدًا إلى مستوى وعمق الشعر التمثيلي اليوناني. ويبدو أن العرب القدماء، عندما بدأت لديهم حركة الترجمة، ترجموا الشعر التمثيلي اليوناني لكنهم لم يحبوه فلا نجد في آثارهم ما يدل على تأثرهم به إلا بعد عصر النهضة. إن ما وصلنا من الأدب اليوناني هو شعر الملاحم كالإلياذة والأوديسة لهوميروس، اللتين تتحدثان عن حرب طروادة (12 قرنًا قبل الميلاد) وعن مصائر أبطالها. وإذا كان ما وصلنا صحيحًا فهو يدل على أن الإغريق كانوا أكثر قدرة من العرب على حفظ التراث الشفوي المنقول لأنهم غنوا هذه الملاحم غناء وانتقلت الألحان الملحمية عبر الأجيال دون أن تنسى، واستخدمت في غنائها آلة شهيرة تسمى القيثارة (هي التي عزف عليها نيرون عندما حرق روما). وكان ينقل هذا التراث الشفوي العظيم شعراء غنائيون جوالون توارثوا الألحان من جيل إلى جيل، وبقاء شعر الملاحم إلى يومنا دليل على عناية الإغريق بالتدوين في مراحل مبكرة، وقد سبقوا العرب في ذلك. لم يحب العرب شعر الملاحم لأنه كان مرتبطًا بأساطير خرافية، وهو، في جزء منه، صراع الإنسان مع الآلهة. أما السبب الأهم في ذلك فهو أن الملاحم نشأت في بيئة مختلفة تمامًا عن البيئة العربية الصحراوية. تطور شعر الملاحم من قصائد طويلة جدًا إلى مقطَّعات يسهل غناؤها بدأت في مخاطبة العاطفة الإنسانية أكثر من ترويجها للمُثل والأفكار الفلسفية، وإن شعراء مثل سافو وبندار ظلوا في ذاكرة الزمن لأنهم أول من اخترع الكورال. وصل تطور الشعر الإغريقي إلى قمته في القرن الخامس قبل الميلاد، وصاحب هذا التطور تطور في الفنون الأخرى كالعمارة والنحت والرسم، وفي هذا الجو الحضاري ظهرت المسرحيات الشعرية التي أسس لها وأرسى دعائمها الإغريق، وظهرت فنون من المسرحيات الشعرية كالمأساة (التراجيديا) والملهاة (الكوميديا) ركزت على النقد الاجتماعي والسياسي حتى أن بعض ملوك الإغريق منع عرض المسرحيات التي كانت تنتقد نظام حكمه. يُعزى انتشار الشعر الإغريقي بهذا الشكل إلى فتوحات الإسكندر المقدوني، التي أسهمت في نقل مركز الثقافة من أثينا إلى الاسكندرية. ومع بدء الفتوحات الرومانية احتدّ التنافس بين الثقافتين الإغريقية والرومانية، وأخذت الثقافة الإغريقية بالتراجع ولو إلى حين. تبين هذه المقدمة التاريخية البسيطة أن العرب سلكوا مسلكًا مغايرًا في شعرهم، أو على الأقل في ذلك الشعر الذي خلق في رحم البادية التي لا يمكن أن ينشأ فيها شعر ملاحم. لكن لو عدنا إلى الوراء إلى نفس الفترة التي سادت فيها الحضارة الإغريقية، لوجدنا أنه كانت ثمة حضارات عظيمة على الساحل الشرقي للمتوسط لايمكن فصلها عن الحضارة العربية، وهي حضارات أبدعت إنتاجات شعرية لا تقل في قيمتها عن شعر الملاحم القديم مثل قصائد إبلا وملحمة جلجاميش وغيرها. لذلك لا يمكن لنا أن نقارن بين أدبين من بيئتين مختلفتين، ولكن يمكن أن نقارن هذا الشعور الداخلي، هذا الشعور المتنامي بالجمال عند الإنسان عامة وعند العرب خاصة، فاللغة التي خرجت من بين رمال الصحراء ووبر الإبل وأشجار التمر استطاع التطور - إسلاميًا أو غير إسلامي - ترويضها كي تختط لنفسها مسربًا ثقافيًا جديدًا كل الجدة، وأن تتحول إلى أداة إنتاج حضارية لا زالت مضيئة إلى الآن رغم تقادم عهدنا بها، ومن هذه الناحية فقط، يمكن القول إن شعر العرب لايقل عن شعر غيرهم. الشعر مثله مثل الفنون الأخرى حاجة إنسانية وجدانية لا يتميز بها شعب عن آخر، فجميع الشعوب ألحت عليها في مرحلة ما من تاريخها: حاجةُ استخدام الشعر كوسيلة راقية من وسائل التعبير. وبدأ الشعر يرتقي مع حاجاتها حتى وصل إلى مرتبته المتطورة التي نعرفها، ولا يتميز الشعب العربي عن الشعوب الأخرى من هذا المنظور. أما من جهة الشكل فلابد أن الشعر العربي يتميز عن غيره، وأضرب مثالاً على ذلك في النبات، فالنبت الذي ينمو في منطقة قد لا ينمو في منطقة أخرى، وأقصد من ذلك أن البيئة المحيطة والظروف الحياتية والتجربة الإنسانية لدى العرب هي غيرها لدى شعوب الأرض الأخرى، وهنا تكمن الخصوصية. فجميع تلك الظروف مجتمعة تضافرت وتواثقت واختلطت كي تقدم أنموذجًا خاصًا من الأدب والشعر يفهمه أصحاب هذه البيئة بالتحديد ويعبر عن قيمهم الجمالية ومفهومهم للجمال وطريقة الحياة لديهم، وحدث ذلك تمامًا لدى الشعوب الألمانية والفرنسية والإنكليزية. إن للشعر العربي خصائص تميزه عن غيره، لأن التجربة الإنسانية التي نشأ عنها هذا الشعر لها مميزات وخصائص تختلف عن التجربة الإنسانية التي نشأ عنها الشعر الإنكليزي مثلاً. فالعرب لم يفهموا على سبيل المثال شعر الملاحم عند ترجمتهم لكتاب فن الشعر لأرسطو والسبب في ذلك هو نشوء شعر الملاحم في بيئة حضارية مختلفة عن البيئة الحضارية العربية حتى لو كان هذا الشعر يعبر عن حاجة إنسانية. إن المزايا التي اكتسبها الشعر العربي لم تأت في يوم وليلة، فهي رحلة طويلة من المعاناة بدأت مع العربي الذي كان يحدو جَمَله مترنمًا في الصحراء، ولا زالت مستمرة إلى وقتنا هذا. الشعر، كتجربة إنسانية، تعبير عن الانفعالات والعواطف، وإن كل أمة من الأمم استطاعت أن تخترع لنفسها، عبر تاريخها الطويل وصراعها من أجل البقاء، لغة راقية للتعبير عن أفكارها بإيجاز وبلاغة وقوة يمكن أن تحرك لدى هذا الشعب أو تلك الأمة مكامن الإحساس بالجمال. وإنّ تذوق البلاغة الشعرية لدى أي شعب مرتبط بكون اللغة الشعرية مستقاة من تاريخه وتطوره وبيئته حتى ترتبط بعواطفه ووجدانه، ولا يمكن القول إن شعبًا يمتلك البلاغة أكثر من شعب آخر إذا قارنا الناتج الإنساني الصرف. أما الكتب السماوية فهي بلاغة إلهية فوق مستوى البشر، وإن كنت أعتقد أن الكتب السماوية غير القرآن (من توراة وإنجيل وزبور) نزلت في وقتها ببلاغة ما بعدها بلاغة أيضًا لأنها كلام الله عز وجل، ومن غير المعقول أن يكون كلام الله بليغًا في مكان وركيكًا في مكان آخر، ولكنها تعرضت للأسف للتزوير والتعديل والضياع، وبقي القرآن سليمًا من التحريف للأسباب التي نعرفها. إن الشعر لدى أية أمة يعتمد في تأثيره على مقدار ما يحمله من صور الجمال والإبداع لأنه قائم على الإيجاز والاختصار وإصابة المعنى في الوقت عينه، وهذا بالذات ما يميزه عن النثر، وهذا المفهوم عام موجود لدى جميع أمم الأرض، لكن خصوصية الشعر في كل أمة أو شعب هي في خصوصية الصور الجمالية والطرائق الإبداعية في هذه الأمة التي تميزها عن خصوصيات الأمم الأخرى، فجميع الشعوب - ولاشك - تقدر القيم النبيلة كالكرم والشجاعة والشهامة والإخلاص...الخ لكنها تعبر عنها بأسلوب مختلف وبصور مختلفة، وصحيح أيضًا أن الشعر "تعبير بكلمات قليلة عن مضمون كبير" لكن هذه الخاصية ليست ملكًا للعرب وحدهم، لأن الشعر الإنساني كله يتصف بهذه الصفة، وهو مرتبط بالغناء، لذلك احتاج إلى الاختصار والإيجاز. فالوزن والقافية هما من الظواهر الإيقاعية صيغ بهما الكلام المغنى وكان اللحن الموسيقي للأغنيات يحتاج إلى كلمات قصيرة خفيفة معبرة لا إلى نص طويل ثقيل. ولكن التمايز يبقى بين تجربة العرب وتجارب غيرهم، فالأوزان العربية والبحور من رجز ومتدارك ورمل ووافر وطويل مستقاة هي وأسماؤها من البيئة الصحراوية البدوية، أما عند الشعوب الأخرى فقد وجدت أوزان خاصة مختلفة عن الأوزان العربية تناسب بيئتهم وتلائم الفن والذوق الغنائي لديهم، وإن كون شكسبير هو أول من حرر الشعر الإنكليزي من أوزان القافية الشعرية الفخمة القديمة، و"والت ويتمان" هو الذي حرر الشعر الأمريكي من القافية القديمة، يدل على أن الشعر الإفرنجي كان له قافية ووزن، وهي ميزة يتميز بها أي شعر لارتباطه بالإيقاع والغناء. إن ما وصلنا من الشعر العربي الجاهلي وصل بصيغته المتطورة الراقية التي تشير إلى أنه قد اجتاز مراحل من النمو والارتقاء حتى وصل إلى مرتبته الجمالية المتقدمة في العصر الجاهلي، وهو ذات ما حصل للشعر لدى الأمم الأخرى فقد ظل يمر بمراحل وأطوار من الصقل والتهذيب والتطوير واستبعاد الشاذ وتنعيم الخشن وتحسين الردئ حتى بلغ تلك المرتبة الفنية الراقية. وهذه الأطوار هي أطوار زمنية تماشى فيه الغناء مع الكلام الموزون جنبًا إلى جنب إلى أن بلغ الشعر مرحلة معينة من التطور لم يعد يحتاج فيها كثيرًا إلى الغناء فبدأت مرحلة الانفصال الجزئي بين الغناء والشعر وبدأ كل منهما رحلته الإبداعية الخاصة. إن سبب اعجابنا كعرب ببلاغة أدبنا العربي أكثر من غيره هو استمتاعنا به لأنه وليد بيئتنا الخاصة بنا وحامل أعرافنا ومثلنا التي نطرب لها وحدنا، فلا يمكن أن نقسو على الألماني إذا لم يستمتع بمكامن الجمال في الأدب العربي بنفس الدرجة التي نستمتع بها نحن، ولا يمكن لنا أن نتذوق شكسبير العظيم وشعر غوته الرائع بنفس الدرجة التي يتذوقها أبناء جلدتهما. لابد أننا كعرب متحمسون لأدب العرب وشعرهم أكثر من تحمسنا لآداب الشعوب الأخرى، لأن الثقافة العربية هي مكون روحي من مكونات الشخصية العربية، رضعنا حليبها منذ الصغر وساهمت في تكوين هذا القالب الإحساسي الخاص لدينا، الذي يجعلنا نهتز ونطرب لذلك الجمال المرتبط بخصوصيات التاريخ والبيئة والأسطورة والدين والفلسفة والقومية. وإن تفاعل الثقافة العربية مع الثقافات الأخرى دون فقدان خصوصيتها أو أصالتها يجعلها رسالة ثقافية إلى الآخر لتعريفه بالأمة العربية وبأدبها العظيم وتراثها الرائع. وقديمًا رأى الجاحظ أن الأدب يأخذ ويمنح أي أنها عملية تبادلية. إن اطلاع العرب على تراث الشعوب الأخرى يثري التجربة العربية ويدفعها إلى التطوير والتحسين، ولابد أن الثقافة الغربية نفسها قد استقت بطريقة أو بأخرى من المنابع العربية كما من غيرها وتأثرت بها، حتى لو أنها لم تشأ ذلك ولم ترغب به، لأن أية حضارة مهما كان انعزالها لا تستطيع - حتى لو حاولت - وقف انتقال الخبرة الإنسانية للحضارات الأخرى التي سبقتها في الزمن والاستفادة منها والأمثلة كثيرة نعدد منها: رسالة الغفران سبقت زمنيًا ملهاة دانتي؟ وحادثة الإسراء والمعراج سبقتهما معًا. تأثر شعراء التروبادور في اسبانيا تأثرًا بيّنًا بالموشحات العربية. سيرة هرقل المعدلة في الأدب الغربي الحديث استفادت كثيرًا من الأقاصيص القديمة والسير العربية بما فيها بطولة الإمام علي. تأثر أوروبا قاطبة، بما فيها الفلسفة اليهودية المترجمة بدءًا من موسى بن ميمون، بابن رشد والفارابي وابن سينا والرازي. إن مقارنة الآداب العالمية وتفاعلها مع بعضها علم قائم بذاته تندرج طروحاته في باب "الأدب المقارن"، لكن الآداب الغربية، في جزء منها، وقعت تحت سيطرة السياسة والأيديولوجيا والتعصب الديني لفترة طويلة من الزمن لاتزال آثارها ظاهرة في أدبهم ونفسياتهم الفكرية إلى يومنا هذا، وتدفع كثيرًا منهم إلى إلقاء أحكام خاطئة ليس فقط عن العرب ولغتهم بل عن كثير من الشعوب الشرقية الأخرى، ولايمكن إزالة هذا الإلتباس - سواء أكان مقصودًا أم لا - إلا بالجدال الفكري، وبالحوار الثقافي المعمق وبشرح خصوصية الثقافة العربية بصورها المتنوعة لإزالة العَنَت الذي وقع عليها، وهذا يحتاج إلى خلق الأرضية المشتركة للحوار الحضاري، وهذه المشكلة لم تقع فيها حضارة بعينها بل ربما لم تنجُ حضارة واحدة في تاريخها من الأدلجة والتسييس والتعصب وربما الشوفينية. قال قدامة بن جعفر: "الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى"، ويدل هذا القول على أن قدامة ميز الشعر عن النثر بقافية ووزن، ولم يتعد هذا المفهوم. أما ابن خلدون فأعطى تعريفًا أشمل للشعر فقال: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف والمفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به"، وهو يضيف على ميزتي الوزن والقافية لدى قدامة ميزة أخرى هي اعتماد الشعر على الأسلوب واستقلالية كل بيت عن الآخر بالمعنى. وفي العصور المتقدمة حيث تراكمت الخبرات الإنسانية أمكن اعطاء تعريف أكثر شمولية للشعر هو: "الشعر بناء فني عموداه اللفظ والإيقاع، وهو معبر عن تجربة الإنسان في كل زمان ومكان". ولا يقصد بالتجربة الإنسانية إلا صراع الإنسان مع البيئة المحيطة وما يفرزه ذلك من مشاعر وعواطف وانفعالات. وبغض النظر عن هذه التعريفات المتفرقة فإن الشعر لدى كل شعوب الأرض هو نوع من الفنون التي تؤثر في العواطف والمشاعر لذلك هو شئ آخر غير النثر، والشعر بما له من موسيقا ووزن وتراصف كلمات وإيجاز أكثر بعدًا عن العقل وأكثر قربًا إلى العاطفة، وأقدر على إصابة المعنى بإيجاز العبارة. فالنثر مطيته الفكر لأنه أقدر على الاسترسال وأقدر على التحرر من أغلال الوزن والجرس، ورغم أن السجع بحد ذاته نوع من مقاربة النثر للشعر الموزون لكنه ليس شعرًا. فالشعر مطيته الخيال والإبداع والاختراع، وفي الوقت الذي يعبر فيه الشعر عن التجربة الإنسانية بإيجاز ساحر نجد النثر يعبر عن نفس التجربة بتحليلها تحليلاً عقليًا علميًا، ولو أن الشعر نهج هذا المنهج لاقترب من النظم الجاف الفج، فليس كل نظم شعرًا في حين إن كل شعر هو نظم. إذًا ما الذي يفرق الشعر عن النظم أو عن النثر؟ إنه، ولاشك، المبالغة الشعرية المفرطة أو الخيال الشعري الجامح أو الإبداع الصوري الفريد. وإبداع الشاعر هو اختراعه لحلة تعبيرية مزوقة يلبسها جسد المعنى الشارد، ولنضرب مثلاً قول المتنبي:
كأن الهـام في الهيجا عيون..... وقد طبعت
سيوفك من رقاد فانظر كيف تحدث عن تدحرج الرؤوس بيد سيف الدولة في المعركة، وعن دقة رميه، إذا رمى فالرؤوس كالعيون وسيوف سيف الدولة هي نومها، وأسنته صيغت من الهم فهي إذًا لا تستقر إلا في القلب لأن القلب هو مستوعب الهموم. ومثل هذا الوصف الخيالي الإبداعي جعل صورة المعركة حية رائعة متجددة، ولو أننا نزعنا عن الشعر ثوبه الخيالي أو مبالغته الشعرية لاقترب من النظم المترادف الذي لا نكهة له ولا رائحة. إن الشاعر المبدع هو الشاعر الذي سلم له الخيال قياده وأرخى له عنانه، وكلما ابتعد الشاعر عن الإبداع والخيال والصور المخترعة قلت جودة شعره حتى قيل قديمًا "أجمل الشعر أكذبه". وقال البحتري معارضًا إقحام الفكر والمنطق في دولة الشعر: كلفتمونا حدود منطقكم..... والشعر يغني عن صدقه كذبه ولا يقصد بالكذب هنا إلا تجميل الفكرة أو تحلية العاطفة بخيال الشاعر. إن عناصر الشعر: الوزن والقافية والموسيقا والخيال هي أدوات تعبيرية عن معان مستقاة من معاناة الإنسان وتجاربه وصراعه مع الوسط المحيط، وإن رحلة الشعر لدى كل شعوب الأرض هي رحلة هذا المزيج الفريد بين تلك الأدوات التعبيرية والمعنى الإنساني الكفاحي، وهي رحلة شاقة معقدة لم تولد كاملة بل بدأت بأبسط صورها وتقدمت مع تقدم الإنسان وتراكم تجربته الحياتية المنقولة عبر الأجيال. وإن رحلة الشعر الجاهلي، حتى وصل إلينا بالشكل الذي نعرفه، هي تجربة إنسانية نادرة لابد من التوقف عندها بقليل من التروي لأن ما لدينا من معلومات قليل جدًا، ولايمكن استنباط بعض ما في هذه الرحلة الصعبة من جمال وقيمة إلا بمعونة المناهج العلمية في التحليل والاستقراء والاستنتاج. لقد خلق الله الإنسان اجتماعيًا بطبعه، ومنذ تكون الجماعات البشرية وتجمعها في مناطق وأكوار سعت إلى إيجاد لغة تفاهم مبسطة فيما بينها، وبقيت هذه اللغات تنمو وترتقي إلى أن توصل الإنسان الاجتماعي إلى لغة تفاهم يستطيع أن يؤقلم بها حياته مع الجماعة التي يعيش وسطها لأنه يحتاج في كل وقت إلى التخاطب والتعامل مع أفراد الجماعة الأخرى، فلابد أن لغة التخاطب بين الأفراد في الجماعة أو لغة المحادثة فيما بينهم أقدم من الشعر أو النثر، وهذا منطقي لأن الإنسان قبل أن ينظم الشعر أو يقول النثر كان عليه أن ينشئ أولاً وسيلة للتفاهم، كانت لدى الإنسان القديم مجرد أصوات مبهمة لم تلبث أن تطورت مع الزمن نتيجة تطور العلاقات الاجتماعية نفسها إلى كلمات منسقة مرصوفة بدقة، وهنا بدأت تتشكل اللغة ويتشكل المخزون اللغوي وكنز الكلمات لدى الشعوب. واللغة هي مخزون الكلمات ذات الدلالات العاطفية والفكرية فهي تعبير وجداني عن الأحاسيس الداخلية ووسيلة للخطاب. نشأت اللغة لدى كل الشعوب والأعراق بطريقة مشابهة، وإن اختلاف اللغات لا يُعزى إلاّ إلى اختلاف البيئات والأمكنة وطبيعة صراع الإنسان مع البيئة، فالبيئة المحيطة هي أولاً وأخيرًا منبع اللغة ومصنعها. بعد تطور اللغة، الذي فرضته الحاجات الاجتماعية للبشر، نشأت حاجة إنسانية أخرى هي حاجة التعبير عن الأفكار بالصوت العالي والغناء وإعطاء هذا الصوت طبقات من العلو والانخفاض تتوافق مع غاية الخطاب. فكلام الغضب غير كلام الفرح، وغير كلام الحزن، وإن حاجة الإنسان إلى التعبير عن مشاعره الداخلية هي حاجة فطرية خلقت معه، وقد أطلق الإنسان القديم حنجرته بغناء بسيط وأخذت المعاني تخرج على أشكال من السجع المتناسق القريب إلى الغناء، ونشأ الشعر مسايرًا للغناء لأن الغناء بحد ذاته يتطلب كلامًا موزونًا مسجوعًا مختصرًا يتناسب واللحن، ثم بدأ يترسخ في الأذهان الفرق بين الكلام المغنى أو الموزون وبين الكلام المرسل بلا قافية ووزن. تطورت الكلمات المسجوعة لدى العرب الجاهليين فقصروا الممدود ومدوا المقصور وعُرفت لديهم الضرورات الشعرية وهي تطويع الكلمة بما يناسب الموسيقا من ترخيم وحذف وتسكين وتحريك.. الخ، فصارت اللغة التي يشعر بها القوم أو يتغنون بها موافقة للنغم واللحن وهذا أول ظهور للأوزان الشعرية. بعد أن قطع العرب مرحلة ما في استنباط الأوزان (سواء منها ما عرفناه لدى الخليل أم ما لم يصل إلينا منها) أخذت عنايتهم تحتفي بالمعنى الشعري وانقضت مراحل ومراحل حتى وصل الشعر إلى الدرجة من التطور التي نعرفها في الشعر الجاهلي. ويمكن - بلاشك - تلمّس تأثير أصوات الجِمال، والركوب على الخيل، ودق أوتاد المضارب، وصفير الرياح، وصوت ارتطام حليب الضرع بقعب اللبن على الأوزان الشعرية وبحور الشعر بل يمكن استنشاق رائحة الصحراء. إن من الصعوبة بمكان تتبع المراحل الأولى لنشأة الشعر الجاهلي، وأقدم ما وصلنا منه يعود إلى مئة وخمسين عامًا قبل الإسلام، ولا يمكننا الاطمئنان إلى النظريات التي افترضت أن السجع هو أصل الشعر الأول وجذره رغم أن كثيرًا من المستشرقين والباحثين يعتقد بها. صحيح أن السجع مرحلة متقدمة من مراحل التطور التي مر بها الشعر لكنه ليس أرومته، والشعر الجاهلي الذي وصل إلينا كان على درجة عالية من التطور حتى أن بعض الشعراء اعتبر أن السابقين قالوا كل شيء ولم يتركوا لهم إلا تكرار المعاني، فقد قال زهير: ما أرانا نقول إلا مُعـــارا أو مُعادًا من قولنا مكرورا وقال عنترة: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم وقال ذو القروح: عوجا على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن حذام أي أن أحدًا آخر هو ابن حذام سبق امرأ القيس إلى البكاء والوقوف على الأطلال. يمكن لنا أن نسلم بأن الرجز من أقدم البحور الشعرية لدى العرب لأنه ألصق بحياة البدوي اليومية، وتغنى به وهو يحدو إبله، ويسحب أشطانه من الآبار، وفي طوافه حول الكعبة. فمن المنطقي أن يكون الأمر قد بدأ مع البحور القصيرة لأن طبيعة الأشياء تفترض الانتقال من البسيط إلى المركب. ومن هنا نشأت التسميات المعروفة التي تدل على الإيجاز والاختصار، وأطلقت فيما بعد في علم العروض على تسميات البحور أو الأعاليل والضروب من قبيل: البحر الرجز، البحر القصير، البحر البسيط، الضرب المجزوء، الضرب المنهوك، الضرب المشطور. *** *** *** المراجع · فن الشعر، أرسطو طاليس، ترجمة د.عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، ط 1، 1973. · نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، مصر، ط 3، 1978. · المقدمة، ابن خلدون، دار الهلال، بدون تاريخ. · دواوين: حسان، امرئ القيس، الأعشى، عنترة، البحتري، المتنبي. · البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكاتب العربي، نسخة مصورة عن طبعة القاهرة القديمة 1948. · العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي، تحقيق بركات هبود، دار الأرقم، 2001. [1] دكتور مهندس يعمل مدرسًا في كلية الهندسة المدنية، جامعة تشرين، سوريا. مهتم بالدراسات الأدبية والفكرية والترجمة.
|
|
|