خورخي لويس بورخيس
سيرة حياة وسيرة كتابة

 

دونالد هيز[1]

 

يذكر خورخي لويس بورخيس أنه نشر كتابه الأول Fervor de Buenos Aires أو حمى بيونس ايرس في بداية عام 1923 بعد عودته من أوروبا بعامين مع أسرته. وطبع الكتاب في خمسة أيام لاضطرار الأسرة إلى العودة إلى أوروبا بسرعة من أجل أن يستشير أبوه طبيب العيون في جنيف. وقد أخرج الكتاب بروح صبيانية فلم يراجَع ولم يكن به فهرس محتويات ولا أرقام للصفحات. وأعدت أخته نورا بورخيس كليشيه خشبيًا كغلاف. وطبع من الكتاب 300 نسخة. ولم يفكر بورخيس قط في إرسال نسخ إلى بائعي الكتب أو النقاد لمراجعتها. ويروي بورخيس وسيلته الغريبة في توزيعه بأنه قد لاحظ عددًا كبيرًا من الناس يرتاد مجلة NOSTROS، وهي إحدى المجلات الأدبية الرزينة في ذلك الوقت، وكانوا يتركون معاطفهم معلقة في غرفة الملابس، فأحضر بورخيس مئة وخمسين نسخة من كتابه وطلب من أحد أصدقائه من محرري المجلة أن يدس في جيوب المعاطف. وقام صديقه بالمهمة على خير وجه. وعندما عاد بورخيس بعد غياب وجد أن "قاطني هذه المعاطف" على حد قوله قرأوا قصائده، وحتى بعضهم كتب عنه، وفي الحقيقة حاز بورخيس بعض الشهرة كشاعر من نشر هذا الكتاب.

ويقول بورخيس عن كتابه الأول إنه كان أساسًا رومانتيكيًا رغم أنه كتب بأسلوب موجز واحتشد بالاستعارات الموجزة. وكان يتغنى فيه بأوقات الغروب والأماكن الخلوية، وجازف بالخوض في ميتافيزيقيا بيركلي وتاريخ الأسرة، وسجل قصص الحب الأولى في حياته، كما قلد شعراء القرن السابع عشر الاسبان. غير أن بورخيس يقول إنه عندما يلتفت إليه الآن يعتقد أنه لم يخرج عنه مطلقًا ويشعر بأن كل كتاباته التالية لم تكن إلا تطويرًا للتيمات التي عالجها في هذا الكتاب وبأنه ظل طوال حياته يعيد كتابة هذا الكتاب الوحيد.

حركة التطرف الأدبية

ورغم أن بورخيس معروف بين مؤرخي الأدب على أنه أبو حركة التطرف الأدبية في الأرجنتين Ultraismo التي ينظر دارسو آداب اللغة الاسبانية للشاعر النيكاراغوي روبين داريو Dario على أنه أول روادها. إلا أن بورخيس يتنصل من هذه الحركة، ويحكي لقاءه الأول بروادها في إشبيلية seville في شتاء 1919 - 1920 حيث نشر أولى قصائده بين السخرية والاستهزاء:

في إشبيلية التقيت صدفة بمجموعة أدبية تكونت حول مجلة غراسيا. وأعضاء هذه المجموعة، الذين كانوا يسمون أنفسهم بالمتطرفين، شرعوا في تجديد الأدب، وهو فرع من الفنون لا يعرفون عنه شيئًا على الإطلاق. قال لي أحدهم ذات مرة إن كل قراءاته كانت في الإنجيل وسرفانتس وداريو وكتابين اثنين لرافائيل كاسينوس اسينس. وقد أربك ذهني الأرجنتيني أن أعلم أنهم لا يعرفون الفرنسية وليس لديهم أدنى فكرة عن أن ثمة شيئًا في الوجود اسمه الأدب الانكليزي. وقدمت إلى أحد الوجهاء المحليين، وهو معروف على نطاق واسع بلقب "المفكر الإنساني"، ولم أستغرق كثيرًا من الوقت لكي اكتشف أن معرفته باللغة اللاتينية أقل كثيرًا من معرفتي بها. أما فيما يتعلق بمجلة غراسيا نفسها فإن الجزء الأكبر من شعر محررها ديل فاندوفيلار كان يكتبه له واحد أو آخر من مساعديه. وأذكر أن أحدهم قال لي ذات يوم: أنا مشغول جدًا، إن إسحاق يكتب قصيدة.

ويعترف بورخيس بأنه عاد من أوروبا حاملاً راية التطرف، ولكن عندما قلب الأمور على وجوهها مع زملائه الشعراء، من أمثال إدواردو غونزاليس لانوزا ونورا لانج وفرانسيسكو بينير وروبيرتو اروتيلي، وصلوا إلى نتيجة مؤداها أن التطرف الاسباني كان مثقلاً على طريقة المستقبلية بالحداثة والأدوات

إذ لم تثرنا قطاعات السكة الحديدية أو المحركات الدافعة أو الطائرات أو المراوح الكهربائية. وبينما كنا ما زلنا متمسكين في بياناتنا بأولوية الاستعارة والتخلص من التحولات والنعوت الزخرفية، فإن ما كنا نريد أن نكتبه كان شعرًا أساسيًا، قصائدًا تتجاوز هنا والآن، خالية من اللون المحلي والظروف المعاصرة.

ويشير بورخيس إلى أن أفضل رد على سؤال عما إن كان متطرفًا، هو رد صديقه ومترجمه إلى الفرنسية نستور ايبارا الذي قال:

إن بورخيس يتخلى عن كونه شاعرًا متطرفًا مع أول قصيدة يكتبها.

ويقول بورخيس:

لا يسعني إلا أن أشعر بالندم على مغالاتي التطرفية، فبعدما يقرب من نصف قرن أجد أنني ما زلت أحاول أن أنسى هذه الفترة الخرقاء من حياتي.

ولد بورخيس في 24 آب 1899 في بيونس آيرس لأسرة من الطبقة الوسطى تتحدر من أصول اسبانية وإنكليزية وأرجنتينية، وتنتمي إلى شخصيات بارزة أسهمت بقدر وافر في الكفاح من أجل الاستقلال والوحدة القومية التي شغلت الأرجنتين للجزء الأكبر من القرن الماضي. وقد أتاحت له ظروف نشأته الاطلاع على العديد من الثقافات في كثير من بلاد أوروبا، فجدته لأبيه فاني هسلام كانت انكليزية من عائلة تنتنمي إلى نورثمباريا في شمال انكلترا وكانت اللغة الانكليزية تستخدم كثيرًا في الأسرة، ثم درس الفرنسية في سويسرا، أما الإيطالية والألمانية فقد تعلمهما بنفسه، ولم يذهب بورخيس إلى المدرسة إلا في التاسعة من عمره حيث عهد بتعليمه إلى مربية انكليزية. أما أبوه فكان محاميًا ومدرسًا لعلم النفس وقد كتب كثيرًا من الأعمال التي مزقها، كما ترجم عمر الخيام عن ترجمة فيتزجرالد الانكليزية، وكذلك نشر بعض الأشعار إلا أن إصابته بالعمى جعلته ينصرف عن الكتابة، ويقول بورخيس عن ذلك:

عندما أصيب بالعمى أصبح من المفهوم ضمنًا أن أكمل المسيرة الأدبية التي عاقت الظروف أبي عن إتمامها... كان من المتوقع أن أصبح كاتبًا.

وسافرت أسرته إلى سويسرا عام 1914، واضطرت للبقاء في جنيف بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى حيث تلقى تعليمه الثانوي في إحدى مدارس جنيف، ثم سافر إلى اسبانيا في عام 1919 حيث التقى بالمتطرفين الاسبان ونشر عدة قصائد متأثرًا بهم، ثم عاد إلى الأرجنتين عام 1921، وهناك أصبح منظرًا لحركة التطرف الاسبانية، وأسس مجلة PROA التي كانت منبرًا للحركة مع بعض الكتاب والشعراء، ولكنها لم تلبث أن توقفت لسفره المفاجئ لأوروبا ولكنه أعاد إصدارها مرة أخرى بعد عودته من أوروبا في عام 1924.

وقد بدأ بورخيس حياته كاتبًا قصصيًا بمجموعة تاريخ عالمي للخزي Historia universal de la infamia، وهي مجموعة اسكتشات قصصية عن سير أفراد حقيقيين حرفها بما يتماشى مع نزواته ونشرها كأعمدة في إحدى الصحف عامي 1933 و1934، كان فيها قصة قصيرة واحدة هي الرجل في زاوية الشارع. ويقول بورخيس في تعليقه على إحدى طبعات هذه المجموعة:

إنها ألعاب غير مسؤولة لشاب خجول لم يجرؤ على كتابة قصص، ولذا راح يسلي نفسه بتزييف وتشويه - دون أي مبرر جمالي- حكايات الآخرين.

أما قصته التالية مدخل إلى المعتصم، التي نشرها في 1935، فتتخذ صور مراجعة نقدية لكتاب غير حقيقي نشر في بومباي بالهند منذ ثلاث سنوات. وقد استعار فيها بورخيس الكثير من كيبلنغ والمتصوف الفارسي فريد الدين العطار وزودها بالهوامش حتى إن القرّاء أخذوها بظاهر معناها، بل إن أحد أصدقائه في لندن طلب منه نسخة من الكتاب. ولم ينشرها بورخيس كقصة إلا في مجموعته الأولى حديقة الممرات المتشعبة Eljardin de senderos que se bi - furcan عام 1941.

التحول لكتابة القصص

لعبت الصدفة دورًا كبيرًا في اتجاه بورخيس إلى كتابة القصص التي ترتكز عليها شهرته الآن. ففي عام 1938، وهو نفس العام الذي مات فيه أبوه، تعرض بورخيس لحادث خطر، فقد كان يجري صاعدًا درجًا عندما اصطدم رأسه بلوح زجاجي. وبرغم الاسعافات الأولية أصبح الجرح سامًا، ولمدة أسبوع عانى بورخيس ويلات الحمى، ثم فقد القدرة على الكلام، وأجريت له جراحة عاجلة وظل طوال شهر يتأرجح بين الموت والحياة. عندما بدأ يتماثل للشفاء أخذت تساوره هواجس عن سلامة قواه الفكرية، وراح يتساءل في قلق عما إذا كان سيستطيع الكتابة مرة أخرى، وخطر له أنه لو حاول أن يكتب مقالة نقدية وأخفق فسيكون قد انتهى من الناحية الفكرية، ولكن إذا جرب شيئًا لم يفعله من قبل وأخفق فلن يكون ذلك بشعًا جدًا كما أنه سيهيئه لمواجهة الاكتشاف النهائي. ولأنه ككاتب قصصي لم يكن له أي وزن وبالتالي ليس ثمة ما يخسره فقد قرر أن يكتب قصة قصيرة وكانت بيير مينار، مؤلف دون كيشوت، التي كانت مثل سابقتها مدخل إلى المعتصم، تقع في منتصف المسافة بين المقالة والحكاية الحقيقية. وحفزه هذا الإنجاز ليمضي إلى القصة التالية تولن، اكبار، أوربيس ترتيس Toln, uqbar, Orbis Tertius، عن اكتشاف عالم جديد يحل محل عالمنا. ومنذ ذلك الحين تحول بورخيس عن الشعر إلى الألعاب الأدبية بالزمن والمصير واللانهاية وطبيعة الواقع. والحقيقة أنه كرجل يعرف عدة لغات، وقضى الجزء الأكبر من أعوامه الأربعين كقارئ انتقائي، كان مهيأً لها، فحياته كما يقول كانت مكرسة للقراءة أكثر من تكريسها للحياة. وفي السنوات العشر التالية أو نحوها أخرج ثلاث مجموعات من القصص القصيرة (الأوليان منها تشكلان مجموعة واحدة تحت عنوان Ficciones) والألف Aleph، وهما أكبر عملين قصصيين لبورخيس. وهذه القصص البوليسية البارعة والنظرية الرمزية الشعرية المطبقة على الشعر وتحتشد بالاشارات للأعمال الأدبية والفكرية الغربية والعربية، تفتقر إلى أي وعي اجتماعي أو مضمون أخلاقي، كما أنها غير عاطفية وغير معاصرة ولا ترفع راية معينة، ولا تلح في تأكيد فكرة بعينها، بل تكتفي بالتلميح من بعيد إلى كل شيء ولكنها لا تذكر شيئًا. وتحتشد القصص بشخصيات لا وجوه لها تقريبًا، وهي ليست في أغلبها شخصيات حقيقية بل إنها نماذج مصغرة تسبح في عالم فكري بحت. وهذه الشخصيات لا تثير تعاطف القارئ معها أو تسمح له بالاقتراب منها إذ تتصرف دائمًا كما لو كانت مخلوقات أسطورية تتحرك في كون فطري. وشخصيات بورخيس تحيا في جهل بالقوانين السرية أو الإرادة السرية التي توجه مصائرها كما أن أفعالها في النهاية ليست ملكًا لها. ويحيط بورخيس شخصياته بمقولات الفلاسفة الميتافيزيقيين الذين يجعلون كل شيء منطقيًا، كما يروي سلوكهم في لغة غامضة على نحو حاذق.

أدب الاستنزاف

يرى النقاد أن بورخيس، ربما باستثناء مجموعة تقرير الدكتور برودي، التي نشرها عام 1970، ينتمي لما يسمى بأدب الاستنزاف Exhaustion Literature Of الذي يطبع كتابات بورخيس وجون بارث والكثير من أعمال نابكوف. وكان الكاتب الاميركي جون بارث، وهو أحد كبار المتحمسين لبورخيس، أول من حاول أن يقدم توصيفًا لهذا الأدب في مقالة تحمل نفس الاسم في مجلة اتلانتك في آب/ أغسطس 1967. وكتاب أدب الاستنزاف ينطلقون من منظور أن من المستحيل بالنسبة للكاتب أن يكتب أعمالاً أدبية أصيلة. وبمعنى آخر فإن الكتاب يستخدمون فكرة أن الأدب قد استنزف واستهلك كموضوع لأعمال أدبية. وبالتالي فإن كلمة استنزاف لها معنيان في مقالة بارث: أولاً: أن الأدب على وجه التقريب قد استنزف،

ثانيًا: أنه بالنظر إلى الوضع الحالي للأدب، على الكتاب أن يخترعوا ويستنفدوا كل الاحتمالات وبهذه الطريقة يخلقون مدى غير محدود للأدب. ويمكنهم أن يحققوا الغرض الأخير بالكتابة عن حالة الأدب الحالية المستنزفة وبهذا يجعلون من افتراضهم الأصلي مفارقة. ويرى جورج ستينر، في كتابه الصمت واللغة، أن مشكلة الفنانين الحاليين، خاصة كتاب الرواية منهم، تعد "متجذرة في الظروف التاريخية، في مرحلة متأخرة من الحضارة اللغوية والشكلية تبدو فيها الإنجازات المعبرة في الماضي وكأنها تثقل بطريقة استنزافية على إمكانيات الحاضر، الذي تبدو فيه الكلمة والجنس الأدبي في حال من الفساد". إن ثقل أدب الماضي وفرضية أن الأدب الأصيل لا يمكن كتابته تصبح هي أساس أدب الاستنزاف. وأدب الاستنزاف لا يركز على المشاكل الاجتماعية بل على المشاكل الأدبية حتى وإن كانت بعض أفكاره وأساليبه لها أسباب اجتماعية. ويهاجم هؤلاء الكتاب الواقعية الأدبية، ويجادلون بأن الأدب يجب أن يكتب أساسًا عن الأدب وليس عن واقعية الحياة اليومية. وكتابة الأدب عن الأدب باللجوء إلى صياغة عمل أدبي من عمل آخر تعد واضحة للغاية في أكثر أعمال بورخيس، فبير مينار يحاول إعادة كتابة دون كيشوت مرة أخرى. كذلك في قصة النهاية، المأخوذة من ملحمة رعاة البقر في براري الأرجنتين التي كتبها خوسيه أيرناندز Hernandez، يعيد بورخيس تغيير مصير شخصيتين من هذه الملحمة. ويرى جون ابدايك updike أن قصة الانتظار ربما تكون تعليقًا على قصة همنغواي القتلة، وقصة المعجزة السرية قد تكون ترجيعًا لقصة امبروز بييرس حادث على جسر اويل غريك. وتتكرر نفس المواضيع في قصة تيمة الخائن والبطل والألف Aleph. وجدير بالذكر أن قصة الألف كتبها بورخيس انتقامًا لعدم حصوله على جائزة الأدب القومية عام 1942 عن مجموعته الأولى. وفي بحث ابن رشد يستقصي الكاتب معاناة ابن رشد في ترجمة كلمتي المأساة والملهاة، اللتين تصادفانه في كتاب فن الشعر لأرسطو. وفي مكتبة بابل وهي مكتبة البلدية التي عمل فيها الكاتب عدة سنوات، ابتداءً من عام 1937، تتكون المكتبة/ العالم من عدد غير محدود من القاعات المسدسة الزوايا ثم تتدرج من الجدران إلى الرفوف إلى الكتب إلى السطور في نظام عددي صارم.

بورخيس في ميزان النقد

والحقيقة أن بورخيس قد اختلف النقاد والكتاب بشأنه كثيرًا، وقد ظل لفترة طويلة يلقى اهتمامًا كبيرًا في الخارج، خاصة في أميركا الشمالية وفرنسا، أكثر بكثير مما يلقاه في بلاده وفي العالم المتحدث باللغة الاسبانية. والحقيقة أنه تعرض لكثير من الهجوم من مواطنيه الذين ينظرون إلى وجوب اتخاذ الكتاب لمواقف محددة في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشؤون العامة. وأسهمت الكثير من الكتابات عنه، إلى حد كبير، في خلق صورة له ككاتب بلا وطن، كاتب غريب على آداب بلاده وواقعها. وتميل وجهة النظر هذه، التي سلط عليها الضوء الناقد الأرجنتيني خورخي ابيلاردو راموس في عام 1954، إلى اعتبار أن أي كاتب لا يسهم في خلق أدب قومي يعد، بمعنى ما، عميلاً للقوى الأجنبية، ويصف بورخيس بأنه "عاش كل حياته مديرًا ظهره لأمته"، ثم يضيف بتهكم "إن المسألة ليست انكار وطنية بورخيس ولكن الحقيقة إنه مواطن بريطاني وفرنسي وألماني"، بل إن التاريخ الأرجنتيني لا يبدو في أعمال بورخيس إلا كخلفية لتاريخ الأسرة، وتكشف الكثير من أعماله القصصية والشعرية عن وعيه الدائم والحاد بأنه ينحدر من نسل أناس كانت لهم مكانتم في التاريخ أثناء استعمار أميركا الجنوبية وثوراتها وحروبها الأهلية.

وإذا كان هذا النقد ينطلق من مواضيع اجتماعية بحتة فإن كاميليو خوسيه ثيلا لا شك ينطلق من معطيات جمالية عندما يقول عنه:

إن خورخي لويس بورخيس يعد شبحًا، فهو الخدعة الكبرى في الأدب الإرجنتيني. في بعض الأوقات قد تجد شابة ساذجة قصصه مقبولة، ولكن خوخي لويس بورخيس نتاج هجيني بلا أي فائدة كبرى.

كذلك كتب مواطنه ارنستو ساباتو sabato، عند ظهور مجموعته القصصية الثانية Ficciones، مراجعة نقدية لاذعة على صفحات مجلة SUR أصبحت مقولاتها منذ ذلك الوقت من كلاسيكيات المواقف المناهضة لبورخيس. وينتقد ساباتو استخدام بورخيس الصريح للمصادر الأدبية في أعماله القصصية ويصفها بأنها حفريات، ثم يشير إلى ميل بورخيس إلى إعادة تقليب العدد المحدود من الأفكار، ويتساءل إذا كان بورخيس سيظل محكومًا عليه من الآن فصاعدًا بانتحال أعماله. كذلك يثيره افتقار بورخيس إلى الجدية، ويشير إلى نقطتين تعدان حقيقتين في هذا الصدد وهما أن أعمال بورخيس الفانتازية ليس بها ذلك الطابع الكابوسي الذي يميز أعمال كافكا، ثانيًا أن اهتمامه بالأمور الدينية ليس أكثر من لعبة إنسان غير مؤمن. وهو رأي ردده نقاد آخرون مركزين على عنصر الهروب في الكثير من أعماله، في الوقت الذي يرى النقاد، الذين يميلون إليه، أن عنصر الفانتازيا في أعماله ينبع من رغبته في التسامي على انعدام الجدوى والبشاعة التي تسود العالم؛ غير أن الجميع يتفقون، على الأقل، على أن ثمة علاقة بين مشاكل العالم الحديث وقصص بورخيس المغرقة في الخيال، فالفترة التي كتب فيها أفضل أعماله القصصية (1954-1939) تتطابق مع أكثر الفترات التي مرت بالعالم والأرجنتين تعاسة مثل الحرب العالمية الثانية وتولي الدكتاتورية العسكرية الحكم في الأرجنتين وحكم بيرون.

ومصادر بورخيس في الكتابة لا تحصى كما أنها غير معهودة، فقد قرأ كل شيء، خاصة الأشياء التي لم يعد أحد يقرأها. كذلك قرأ عن اليونانيين الاسكندريين وفلاسفة العصور الوسطى والفلسفة الإسلامية وألف ليلة وليلة، وإن لم تكن قراءاته في هذه الموضوعات على سبيل التبحر وسعة الاطلاع، ولكنه فقط يكتفي منها بومضات من الضوء والأفكار، كذلك قرأ ستيفنسون وكلينغ وبو وكونراد وتشسترتون. ويقول بورخيس إنه لم يقرأ في حياته كلها سوى بضع روايات، وفي أغلب الحالات لم يدفعه إلى اكمال قراءاتها حتى صفحتها الأخيرة سوى شعوره بالواجب.

الانتشار

على المستوى الدولي كان الفرنسيون هم أول من قام "بتدويل" بورخيس، إذ كانوا أول من أخرج ترجمات في حجم الكتب لأعماله ومن دار نشر غاليمار الشهيرة، رغم أن التقييم الحقيقي لأعماله قد بدأ في أميركا في نهاية الأربعينيات، على الأقل في الدوائر الأكاديمية. وظهرت الترجمة الايطالية لكتابه Aleph عام 1954، وفي نفس العام نشر العديد من قصصه باللغة الألمانية. وفي غضون 1957 كان عدد أكبر من أفضل قصصه ومقالاته متاحة للقارئ الفرنسي. وقد رسخ مركزه الدولي بمنحه جائزة الناشرين الدوليين Fomentor مناصفة مع صامويل بيكيت في باريس عام 1961. وبورخيس نفسه يقول إنه حتى ظهوره في اللغة الفرنسية لم يكن معروفا جيدًا في الخارج فحسب بل في الأرجنتين أيضًا. وفي أميركا أسهمت مقالة الكاتب الأميركي جون ابدايك updike عنه، على صفحات مجلة نيويوركر في تشرين الأول/ اكتوبر 1965، في فهم القارئ الأميركي له. ويرى ابدايك أن اختراعات بورخيس في الحكي تنبع من احساس واضح بأزمة فنية إذ "يبدو أنه الرجل الذي لا مستقبل للأدب بالنسبة له".

بورخيس والسياسة

ورغم أن بورخيس لم يكن شخصًا سياسيًا بطبعه، فقد كانت له مواقفه الواضحة من الديكتاتورية. ففي أوائل عام 1964، وقبل انتخاب بيرون بفترة وجيزة، شارك في التوقيع على التماس ينتقد الحكم العسكري الذي كان في السلطة آنذاك، ونتيجة لذلك أعفاه بيرون بمجرد توليه الحكم من منصبه في مكتبة البلدية وعينه "مفتشًا للدواجن لشؤون الأسواق والمعارض"، ولكن بورخيس رفض الإهانة، كما قبل، بعد فترة وفي أوج حكم بيرون عام 1950، رئاسة اتحاد الكتاب الأرجنتيني الذي كان مناهضًا للحكم مما أدى إلى إغلاقه. ويقول بورخيس عن تلك الفترة إن أمه، التي كانت في السبعين من عمرها، ظلت فترة رهن الاعتقال المنزلي، أما هو فكان يتعقبه مخبر سري، كما دخلت أخته وأحد أبنائها السجن لمدة شهر. وبمجرد انتهاء حكم بيرون، في أيلول/ سبتمبر 1955، عين بورخيس مديرًا للمكتبة القومية كما اختير أستاذًا للأدب الانكليزي والأميركي بجامعة بيونس ايرس.

كان بورخيس دائمًا يؤكد أنه يفكر في نفسه على أنه قارئ أولاً وشاعر ثانيًا ثم كاتب نثر ثالثًا، ولكن شعره لم يحظ بالاهتمام الذي حظيت به قصصه أو حتى مقالاته، بل ربما يأتي ترتيبه الأخير بين إبداعه. وكما أسلفنا بدأ بورخيس حياته الأدبية شاعرًا، ونشر ديوانه الأول عام 1923، كما نشر بعده عدة دواوين؛ ولكن من الملحوظ أن إنتاجه من الشعر قد قل إبان انشغاله بكتابة القصص والمقالات. فمثلاً بين عامي 1929 و1943 لم يكتب بورخيس إلا خمس قصائد إلا أنه استدار للشعر مرة أخرى مع ازدياد ضعف نظره واقترابه من العمى في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. غير أن شعر بورخيس لا يعد متميزًا ولا يجعل له مكانة كبيرة بين شعراء اللغة الاسبانية كروبين داريو ولوركا وبابلو نيرودا وأكتافيو باث. ولكن إسهامه في مطلع شبابه في حركة التطرف الأرجنتينية يعد ذا أهمية خاصة في تاريخ الأدب الاسباني.

في الواقع يمثل بورخيس أشياء مختلفة بالنسبة للقراء المختلفين ولكنه يعد حالة فريدة، فهو كاتب قضى نصف القرن الأول من حياته في بيئة فكرية وأدبية قدر لها أن تحتل مرتبة ثانوية بالنسبة للتيارات الرئيسية السائدة في الأدب الغربي، ولكنه قضى بقية حياته عضوًا في مجموعة قليلة من نجوم الأدب الذين يحظون بالاحترام على المستوى العالمي. لقد خلق بورخيس أدبًا غريبًا نجح في جذب اهتمام باريس ونيويورك.

وبالنسبة للقارئ الفرنسي أو الأميركي فإن بورخيس لم يبدأ الكتابة إلا في أواخر الأربعينيات أو الخمسينيات، وبالتالي فهو يعد جزءًا من موجة أدبية جديدة يشاركه فيها رجال من أمثال نابكوف وبيكيت وروب غرييه وجون بارث. ولكن إذا طبقت معايير كمية بحتة على بورخيس فإنه لم يكتب أعمالاً كبرى. أما ما جذب الاهتمام الكبير إليه، خاصة بين الأجانب، فهو قصصه التي لا يمكن تصنيفها، وهي قصص ذات بناء محكم يرتكز الكثير منها على أفكار فلسفية وتشبه من بعض وجوهها القصة القصيرة التقليدية ومن أوجه أخرى المقالة. ويتمثل نتاج بورخيس الأدبي الرئيسي في بضعة مجلدات من هذه القصص مع عدة مجموعات من المقالات والقصائد. إضافة إلى ذلك فقد كتب عددًا كبيرًا من القطع الثانوية ومراجعات لكتب ومقالات صغيرة ومقدمات لنصوص أدبية.

عاش بورخيس حياة هادئة متجنبًا الأضواء وحريصًا على عزلته، وغالبًا ما كان يحبط محاولات الكتاب الذين التقوا به في التطرق إلى حياته الخاصة فيحول دفة الحديث بلباقة إلى الأمور الأدبية. ومرات عديدة أثناء حياته كان بورخيس على وشك الزواج، وفي إحدى المرات على الأقل وفي أواخر 1964 أشيع أنه قد تزوج بالفعل. إلا أن بورخيس، الذي طالما كرر أنه لا جديد تحت الشمس، لم يتزوج إلا في عام 1967 وهو في الثامنة والستين من عمره. وقضى بورخيس بقية حياته في بيونس ايرس ما عدا جولاته في أوروبا وأميركا حتى وافته المنية في عام 1986.

ترجمة: نزار عوني

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  أكاديمي وروائي وناقد أميركي، أشهر رواياته أطفال الجلاد. له دراسات نقدية حول أدب أميركا اللاتينية. عمل مدرسًا في جامعة البحرين وزائرًا في عدد من الجامعات العربية.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود