|
عاطفة الموتى
لم نفكر إذا كانت للموتى عاطفة ما. إننا نحسبهم ظلالاً مردومة صامتة. إن إحساسنا بهم لا يتعدى إطارَ تعاطفٍ ساهٍ، انفعالاً عابرًا تجاه ذكرى عابرة. لا شك أنه أمر يثير الفزع لدى الكثيرين، فالموت إحساس قاتم بمصيبة إنسانية مستمرة. لكن الموت لمّا يتحول من طاقة إخافة وكتم سلبية إلى قدرة احتواء كافية وقادرة على تجاوز الجمود غير المرغوب إلى آفاق سكينة حية، خالقة بدل الخضوع إلى سلطة الخوف الآلي المتحكم إحساسًا حقيقيًا وفاعلاً بالأمان والتواصل. ألا يمكننا تأمل عاطفة الموتى في منحى آخر بدل الإحساس بهم كما لو كانوا مقيمين كأشباح في لوحة رمادية باردة ومهملة؟ * * * لكننا نتساءل في الآن نفسه: ماذا إذا كانت الحياة نفسها محبطة مخيفة وباردة كالقتل؟! إذا كان الأمر كذلك، ألا تكون الحياة - بالخوف منها أساسًا - تثير فينا ما تثيره الموتى الذين لا نفكر بعناء تذكرهم من حين لآخر. إن إحساسنا بالمرض من الحياة يحول الحياة نفسها إلى مرض، وما مرض الحياة سوى موتها. إن رغبتنا بالتركيز على الموت كفعالية قصوى ومدمرة لا تتعلق بالموت نفسه بقدر ما تحاول أن تذكرنا بحياة يومية مقلقة ومتسرعة لدرجة السخف الذي معه يغدو الأحياء في مقام الموتى بسواء. إننا مدعوون، أكثر من أي وقت مضى، إلى التمسك بحقنا في حياة حرة وآمنة قدر تمسك الموتى بعاطفة حياة لم تعد لهم لكنها ليست سوى محل رغبتهم الدائمة والملحة، ليست سوى فرصتهم الوحيدة للعودة والنظر في عيوننا نحن الأحياء بدلاً عنهم وعنا مثل صباح تحت يد (شمس مهيمنة). إنها عاطفتهم التي تتحول بيسر داخلي إلى ضوء صامت ورجاء رقيق. * * * ليس الخيال فقط يحتاج إلى ابتكار، بل الحياة، الحياة التي في أرق وأرقى معانيها خيال فعلي مستمر ودائم التطلب والطموح. وفي انتظار أن نغدو رفاتًا ورفاقًا أبديين - ما لم نستبق رفقة الأبدية بضغينةٍ تمزّقُنا إلى أشلاء - ينبغي تذكُّر الموتى ومحاورتهم كما لو كانوا أحياء بيننا. ينبغي النظر في هذه الأشلاء الكونية الممزقة لأنها أيضًا فرصتنا نحن في النظر إلى أنفسنا قبل تحول عواطفنا ذاتها إلى مجرد ذكريات عابرة لأناس لا نعرف عنهم شيئًا سوى أنهم موتى حقيقيون وليس لهم من رغبة وعاطفة سوى ما كانت لنا من رغبة وعاطفة. إننا خلال التفكير ومراقبة عاطفة الموتى قادرون بطريقة ما الحكم علينا بإنصاف بعد أن تنفد من البشر طاقة الخبل المعدية وقوة الخراب القاحلة. * * * إن أرواح الأحياء قطعةٌ من أرواح الموتى، وحينما تلمعُ هذه القطعةُ الفريدةُ في حضورها الأعمق عبر عاطفة تذكرها لموتاها فإنما تحمل عن الحياة عبئها الميت، وهو أكثر الأعباء صفاءً وأبلغها مشقةً وأولاها جدارةً. إن القيمة الوحيدة التي ينبغي إجلالها في هذه الحياة القاسية والمبهجة في آن - عدا الصداقة والموسيقى - هي عاطفة الموتى التي لولاها ما كان يمكن لأحلامنا أن تجد طريقها في ظلام كل يوم. (الموتُ هو الميت. كلُّ من أحبُّ هو كلّ من أحببتُ.)، حسب الفكرة السامية والفذة واليائسة لدى الشاعر (جولان حاجي) في ديوانه الأخير ثمة من يراك وحشًا الصادر عن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العام 2008. الميت وحده لا يمكن أن يحب. أتراني أحور عبارة يوحنا: (من لا يحبّ بقيَ في الموت)!؟ *** *** ***
|
|
|