هل البوذية ديانة أم طريقة للحياة؟

 

حربي محسن عبدالله

 

يقول البوذا: "لا أعرف شيئًا عن أسرار الرب، لكني أعرف أشياء عن بؤس البشر". بهذه الكلمات يلخّص البوذا غايته، ويذهب مباشرة إلى الهدف من البوذية. فبمعرفة الكثير عن البؤس الذي يعيشه البشر، والطريق الحافل بالآلام والمرارة الذي يسلكونه، وبفيض التوق إلى الإشباع الذي يَسمُ النفس البشرية، أعني التوق إلى إشباع الغرائز والاستمتاع باللذات التي لا تنتهي والتي ينطبق عليها ما تقوله الحكمة المتوارثة "إنما مثل الدنيا كالماء المالح كلما شربت منه ازددت عطشًا"، ثم الوصول الحتمي إلى المعاناة التي تسببها حالة عدم الإشباع والظمأ الدائم بالإضافة إلى آلام العجز والخوف والمرض وخشية الموت وكل أسباب الشعور بالتيه والفقدان والاغتراب.

كل ذلك دعا البوذا إلى التأمل من أجل الوصول إلى الخلاص، وتجاوز كل العقبات التي تعترض الطريق إلى السعادة والكمال للوصول إلى ما تسميه البوذية التنوير أو النيرفانا.

يقدّم البوذا أعظم ما تؤمن به البوذية قائلاً: "إن القداسة والكمال من الصفات التي يمكن اكتسابها". وبهذه الكلمات يحطّم البوذا كل الهالات المقدسة التي تحيط بالفكر الديني الذي سبقه، ومنزلاً إياه من البرج العاجي الذي يناطح السماء إلى الأرض التي تضجّ بالأسئلة ومناهج البحث عن الحلول. في كتاب The Triple Gem: An Introduction to Buddhism أي الجوهرة الثلاثية - مقدمة في البوذية، وهو أحد ثلاثة كتب عن البوذية للكاتب الأميركي جيرالد روسكو، الذي عاش في تايلند لردح من الزمن مؤمنًا ومتأثرًا بنمط بوذية تايلند؛ نرى مدى اختلاف بوذية تايلند عن أنماط البوذية الأخرى المنتشرة في الهند وجنوب شرق آسيا والصين وغيرها. إذ أن هناك تفسيرات متعددة في البلدان المختلفة. لقد درس جيرالد روسكو البوذية باعتبارها طريقة للحياة لا تشترط أي تنازل عن أي ايمان سابق أو عقيدة أو دين يؤمن به المرء، بل تؤكد على احترام كل الأديان. يقول البوذا: "لا تزدري دينًا لا تؤمن به". تكتفي البوذية باستعداد المرء للالتزام بقواعد معينة لها علاقة بالتأمل والنظرة المحبة للحياة باعتبارها قيمة مقدسة، وممارسة الرياضة الروحية التي تهدف إلى التركيز العقلي وتنمية الملكات التي ترقى بالإنسان فكريًا وروحيًا، وتدعو للتعامل المتسامح بين البشر والكائنات الأخرى والحفاظ على الحياة بكل أنماطها. إنها دعوة إلى الحياة وسط هذا العنف المنتشر كالنار في الهشيم في زوايا العالم الأربع، وهي دعوة إلى العودة إلى الذات وإعادة تربيتها لما يجلب لها السعادة والرضى وسط القلق وأمراض العصر المستشرية بشكل يدعو حقيقة إلى إعادة النظر بأسلوب الحياة العصري الذي يجلب مع تطوره العظيم وإيجابياته، التي لايمكن لعاقل أن يتنكر لها، سلبيات كبرى.

كما يؤكد البوذا على أن الطريق إلى الكمال يمر عبر التربية والتجربة الشخصية وليس هناك من مستحيل أمام الإنسان. كما تؤكد البوذية على مجموعة من الأمور التي تأخذ طابع التعهد الشخصي، يفرضه المرء على نفسه ويلتزم به قائلاً:

-       سأسلك بنفسي، وبجميع أعمالي وأفكاري، طريق الاستقامة والأخلاق.

-       سأتعامل مع جميع الناس، ومع جميع الكائنات ذوات الإحساس، بالتفاهم والتعاطف والرحمة والمحبة.

-       سأمتنع عن الغضب. سأكف عن البخل. سأربي وأرعى الهدوء الفكري.

-       سأتأمل. وسأكون مدركًا وواعيًا لجميع أفعالي وأفكاري، وسأنبذ الغرور. سأقاوم جميع نزعات النفس.

-       لن أكون آسفًا على الماض أو قلقًا من المستقبل.

-       سأطور سماحة الخلق والحلم، ولن أسمح لنفسي بالابتهاج والتهليل بالحظ الطيب، أو اليأس والتشاؤم من الحظ السيء.

-       سوف أناضل وأسعى من أجل تحسين مهارتي ومقدرتي لكي أتبع الطريق إلى التنوير.

هذا الكتاب، كما يقول مؤلفه، ما هو بالضبط إلا مقدمة، وهو موجّه، في المقام الأول، إلى القارئ الباحث عن دليل سهل وموجز عن الطريقة البوذية للحياة. يذكر جيرالد روسكو في مقدمته لكتاب الجوهرة الثلاثية توضيحًا يشرح فيه ماذا تعني هذه الجواهر فيقول:

إن أول تلك الجواهر هي البوذا: منشئ البوذية، والثانية هي الداما: أي التعاليم البوذية، والأخيرة هي السانغا: أي الأخوية الرهبانية.

أما الصيغة البوذية التي نوقشت في هذا الكتاب فهي طريقة "ذيرافادا" بشكل خاص كتجربة في تايلاند، حيث أن البوذية هي دين الدولة الرسمي إلى جانب أقلية مسلمة وأخرى أصغر مسيحية - حوالي خمسة وستون مليون تايلنديًا تقريبًا (في 1995).

بوذيو "ذيرافادا" يعتبرونها بمثابة سبيل الأقدمين الذي يعني لهم الكثير، لكونها مستخلصة مباشرة من تعاليم بوذا المدوّنة في النصوص الأصلية المكتوبة بلغة بالي أو ما يسمى "شريعة بالي".

يدعو البعض بوذية ذيرافادا بـ(مدارس الحكمة القديمة)، فـ (هنيانا) أو المركبة الصغرى هي بوذية آسيا الجنوبية، تايلاند، بورما، كمبوديا، سيريلانكا. في حين أن (ماهايانا) أو المركبة العظمى، هي صيغة متأخرة عن البوذية في شمال آسيا والتيبت واليابان ومنغوليا وكوريا. كما أن البعض من سكان تايلاند يمارسون بوذية (ماهايانا) كذلك بعض الرهبان الصينيين وأتباعهم وبعض الفيتناميين. والآن هناك أكثر من نصف مليون بوذي في أمريكا الشمالية (1992). وسواءً مورست بوذية "ذيرافادا" في أي من تشكيلاتها المتنوعة: المركبة الصغرى، المركبة العظمى، المركبة الماسية، وكذلك في أنواع مختلفة من التّاوية، فإن كل هذه التشكيلات والتنويعات تظل أقل أهمية من الملجأ الذي يجده البوذيون في الجوهرة الثلاثية. ذاك أن لغة بالي، وهي لغة قديمة لبوذية ذيرافادا، تبقى، إلى اليوم، لغة كهنوتية -وكذلك السنسكريتية والتي هي لغة بوذية ماهايانا. هناك الكثير من كلمات لغة بالي لا يمكن ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية كما يجب، برغم أن هناك الكثير من الروايات أو "خطابات البوذا" التي تمت ترجمتها على نحو رائع وجميل، وهناك أيضًا ما تُرجم بلغة متكلفة وبشكل غير مفهوم أو يفتقد إلى البراعة. لحسن الحظ إن المعنى الذي يريده البوذا يمكن أن يتحقق وإن لم يكن بالكلمات نفسها، وهو المعنى الذي وصلت إليه عند الاستشهاد بأحاديث البوذا أو خطاباته، أي ما يسمى بـ"السوتا".

يضيف المؤلف في مقدمته قائلاً:

كما إني استخدمت علم المصطلحات الفنية للغة "بالي" بالإضافة إلى البعض من المصطلحات من اللغة السنسكريتية المشهورة والمعروفة لدى القاريء مثل (نيرفانا أو كارما) وهي مألوفة أكثر من مصطلحات (نيبانا وكاما) في لغة بالي.

لا زال جيرالد روسكو يعيش في تايلاند موطن البوذية منذ سنوات من أجل دراسة البوذية ومتابعة السير في طريقها ويقول:

لقد تعلمت أن البوذية ليست جازمة ولا طقوسية ولا تميل إلى التأمل الميتافيزيقي. كما أنها ليست ردة نحو النبؤة والخرافة وأقوال العرّافين، بل هي ديمقراطية بلا تحيّز أو تعصب أعمى، إنها العلاج لما نعاني من آلام، إنها طريقة للحياة تعلّمت منها أيضًا، إنها ديانة عجيبة لا تؤمن بصلاة إلى إله وتتجاهل السؤال القائل: هل هناك إله؟ كما أنها لا تميل إلى الطقوس الاحتفالية، لكنها بدلاً من ذلك تدعو المرء لأن يعتمد على نفسه ويجد الحقيقة داخلها.

"انظر داخل نفسك" هذا ما قاله البوذا.

ختامًا نذكر بعضًا من الآيات التي وردت في فصل يحمل عنوان تأمل الموت:

الليالي والأيام تستمر بالانزلاق
كما الحياة تستمر بالتضاؤل
حتى يمتد الموتى كبرك المياه
وفي الجداول الضحلة يُستنفذ الجميع.

***

قطرة الندى على ورق الحشائش
تغيب عندما تشرق الشمس
مثل الإنسان على امتداد الحياة.

***

كما أن الجبال الضخمة كونت من الصخر
وكادت أن تصل السماء
وكانت تتقدم من كل جانب
لتطحن كل الحياة التي في الأسفل؛
كذلك الحياة والموت يدوران على الجميع
محاربين ورهبان
تجارًا وحرفيين
منبوذين وكناسين
تحطم كل الكائنات ولا توفر أحدًا
وليس هناك خيرات ولا ثروات
يتم توزيعها ليفوزوا بها.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود