|
تأمّل كريشنامورتي:
عن دار معابر للنشر في دمشق - المؤسسة حديثًا - وفي أولى منشوراتها، صدرمؤخرًا كتاب التأمل - جدُّو كريشنا مورتي[1] بترجمة وتقديم الباحث في اللاعنف الأستاذ ديميتري أڤييرينوس. تركز الدار، بدايةً، على تقديم نموذج مختلف وبخاصة ما يعزز وينشر فكر اللاعنف كسلوك حضاري رفيع وكطريقة تخلص المجتمعات والأفراد معًا من كوابيس الصراعات العقيمة. تعد «معابر» من أهم المواقع الالكترونية الثقافية - مع تحولها جزئيًا وبتأن ملحوظ إلى دار للنشر - إضافة إلى مواقع مثل «جهة الشعر» و«الأوان» - رابطة العقلانيين العرب - و«كيكا» و«إيلاف» وغيرها قليل. يمكنك قراءة ملفات كاملة عن التصوف واللاعنف وعلم نفس الأعماق إضافة إلى الترجمات في أكثر من حقل أدبي وفني والدراسات ومتابعات الكتب.
ولد جدّو كريشنا مورتي Jiddu Krishnamurti في قرية صغيرة بجنوب الهند. تبنته السيدة آني بيزانت رئيسة الجمعية الثيوصوفية التي احتفت به في شبابه بوصفه مسيحيًا جديدًا. في العام 1929 تخلى كريشنامورتي عن الدور الذي انيط به، وجاب العالم طوال 65 سنة متكلمًا في أوروبا والهند واستراليا والأميركيتين حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة. الكتاب المترجم، في 118 صفحة من القطع المتوسط، هو عبارة عن مختارات من كتب المؤلف منها : مفكرة كريشنا مورتي، بدايات التعلم، يقظة الفتنة، فيما يتعدى العنف، أنت العالم، طيران النسر، المسألة المستحيلة، وأحاديث مع طلاب أميركيين، وقد نشرت الأخيرة للمرة الأولى بالعربية في عدد خاص بكريشنا مورتي أعدته «معابر» الالكترونية. لا يمكننا اعتبار كريشنا مورتي فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي والرائج للكلمة، لكنه يحمل في كلامه وآرائه العمق والفطنة والحكمة التي هي مدار كل فلسفة. ثمة نوع من تصوف خاص، من معرفة بالنفس والتاريخ، بالتربية والأديان، لكن دائمًا ثمة هذا التوق الهائل لتجاوز كل ما يحد قدرات الإنسان الفكرية دينية كانت أو تاريخية أو قومية أو فكرية. يسعى كريشنا مورتي إلى ولادة براءة كونية في نفس كل إنسان. براءة هي مزيج من الحب والبحث، الهدوء والصرامة، الخوف مما يعيق تحرر الفرد من سطوة المجتمع والإيمان بمجتمع لا يسخف عقول أبنائه، ولا يتسلط على تكوين الفرد وتربيته. إن كريشنامورتي يبلغ بفكره من السكينة أقصاها ومن الوجد نفاذًا ماضيًا. إن التعمق في دراسة تعاليم كريشنا مورتي ليكشف عن آفاق جديدة توطد دعائم فكر حر، نقي، متجدد، يتخطى الحدود والمقولات التي تفرضها غالبية المناهج والفلسفات والمذاهب التي لا تتسبب في الأعم الأغلب، إلا في التجزئة والصراع والفوضى - الأمر الذي يمنح هذا الفكر أفقًا عالميًا شاملاً بالغ الأهمية وخاصة في عصرنا. يرى كريشنا مورتي أن على الإنسان أن يتحرر من الكلمة ومن الصورة؛ بكونهما فكرًا يهيمن على ماض يظل يجبر الفرد على الخضوع لتحجر الكلمة وألفة الصورة. يطالبنا كريشنا بالحذر في استعمال الكلمات، والحذر في التعامل اليومي. ثمة ما يتشابه بين كريشنامورتي وتعاليم الهند القديمة في بحثها عن المطلق أو الأسمى. لكن في الآن فإنه يلتقي مع الطاوية والبوذية في تساميهما وتجذرهما العميق في الزهد والنقاء. كريشنامورتي، من جهة أخرى، يلتقي مع شخصية فريدة مثل الفيلسوف برغسون في حرصه على اليقظة المستنيرة، الانتباه الكبير وتركيزه على قوة الحدس، وفي إصرار برغسون على ماهو خلاق وفي تنديده بكل ما هو آلي غير تلقائي. لا يمكننا تخصيص فكر وآراء كريشنا مورتي أو تصنيفها في حقول معرفية نهائية. إنه من الانفتاح والشساعة اللذين يحيلانه ضبابيًا أحيانًا وغير ممسوك. وهذا ربما لأنه يخاطب العالم بأسره، لأنه، على الرغم من أصوله الهندية، ما انفك يشدّد على أنه، نفسيًا، لا ينتمي إلى أية قومية ولا إلى أية ثقافة بعينها. نقرأ على الغلاف الأخير من الكتاب: حقل التجربة الإنسانية غير محدود، وفي وسع الوعي الإنساني أن يتسامى إلى ما لا نهاية، أو بالأصح، أن يحقق جوهره المطلق وينعتق من القيود التي تكبله كلها. إن إمكان تحقيق خبرة الانعتاق هذه كامن في كل إنسان؛ لكن موهبة تحقيقها الكامل وإيصالها إلى الآخرين معطاة لقلة مباركة من بني البشر. وقد كان كريشنا مورتي من أصحاب هذه الموهبة في أجلى معانيها، فاستطاع بسبره العميق لطبيعة الإشراطات التي تحول دون الإنسان وتحقيق تجربة الانعتاق، أن يكشف لنا، في عمق الكائن البشري، عن ينبوع من المحبة والفطنة والإبداع لا ينضب. وتعتبر تعاليمه اليوم واحة حقيقة وسط صحراء المادية المتفاقمة، من جهة، والمثالية العاجزة عن تحقيق ذاتها من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلها تستحق بحق ، تبوأ منزلة رفيعة في التراث الروحي والفلسفي للإنسانية قاطبة. *** *** *** عن المستقبل [1] التأمل، جدُّو كريشنا مورتي، ترجمة وتقديم ديمتري أڤييرينوس، معابر للنشر، دمشق، 2008.
|
|
|