|
بين الكـون والكـائن
قام فكرُ مارتن هيدغِّر على نقد الفلسفة الغربية منذ نشأتها الإغريقية، حيث رأى أنها أخطأت موضوعها. ذلك أنَّها، بدلاً من التفكُّر في "الكون" Sein, être, esse, einai في حدِّ ذاته، أي في الكينونة أو الوجود المحض، انصرف اهتمامُها إلى "الكائن" das Seiende, lʼétant، أو مجموع الكائنات التي يتجلَّى فيها الكون. وقد صوَّرها هيدغِّر بـ"المربع" das Geviert, le quadripartite، وهو مجموع السماء والأرض والإلهيِّين والفانين. فكان، إلى خطأ التخلِّي عن الكون للاهتمام بالكائن، خطأ السهو عن هذا الخطأ بالذات، فالسهو عن الكون وعن الفرق الأونطولوجي بين الكون والكائن. ثم أخذ على هذه الفلسفة أنها صارت "ماورائيَّات"، بمعنى أنَّها جعلت الكائناتِ على درجتين أو في عالمين: عالم المحسوس (عالم الطبيعة phusis)، فكانت "فيزيقا"، وعالم ما بعد أو ما فوق المحسوس (عالم ما بعد أو ما فوق الطبيعة metaphusis)، فكانت "ميتافيزيقا". وكان من المحتَّم إذَّاك أن تكون الميتافيزيقا أونطوثيولوجيا Ontotheologie، أي علم الكائن والإله في آنٍ معًا، وذلك لأنَّ التركيز على الكائن أدَّى إلى القول بـ"كائن أسمى" هو مصدر الكائنات أو بـ"واجب الوجود" الذي هو مصدر الموجودات المُحدَثة.
مارتن هيدغِّر (1889-1976) ثمَّ رصد هيدغِّر مراحل تطور الفكر الفلسفي الغربي، فوجد أنه سائر حتمًا نحو العدمية، وذلك لأن الفكر الغربي قرَّر أن لا شيء "فوق" الطبيعة أو "بعدها". فالكائن الأسمى نفسه ليس إلاَّ أحد الكائنات، وإن كان أولَّها أو مصدرها؛ فوقع بالتالي تحت إدراك العقل – وإن لا شيء بعد العقل أو فوقه. وقد قرَّر كذلك أن العقل لا يقر بوجود ما كان يسمَّى بـ"عالم المعقولات" في مقابل "عالم المحسوسات"؛ بل إن العقل مرتبط ارتباطًا عضويًّا بالمحسوس التجريبي، وإن مهمَّته تتمثل في الوقوف على قوانين الظاهرات الطبيعية بهدف التحكم التقني بهذه الظاهرات. وفي نظر هيدغِّر، كان لا بدَّ من أن يكون قَدَر الفلسفة الغربية السير الحثيث نحو العدمية، لمجرَّد أنَّها بدأت بالخلط بين الكون والكائن، فتحوَّلت من كونها، في صورتها الأوَّلية، تنظيرًا ماورائيًّا لاهوتيًّا، إلى كونها، في صورتها الحديثة، تقنية مسيطرة على الإنسان. فما كان من هيدغِّر إلاَّ أن حاول العودة بالفلسفة إلى موضوعها الأصيل: الكون، فكانت فلسفتُه – وهو يرفض أن يُعزى إلى فكره هذا التعبير: "التفكُّر في الكون". لكن الكون لا يُدرَك إلاَّ بما هو كون الكائنات؛ وهذا يعني أنَّه يجب على المتفكِّر في الكون أن يحاول إدراكه في أحد الكائنات التي يتجلَّى فيها الكون، وذلك لأنَّ الكائن إنَّما هو ما له الكون، فكان الكون كون الكائن الظاهر. وأقرب الكائنات إلى إدراك ما يمكن إدراكه من الكون إنَّما هو الإنسان، بما هو "حضور الكون" Dasein. ويحاول هيدغِّر تقريب معنى هذه المفردة باقتراحه لها ترجمة فرنسية، وإن خالفت قواعد اللسان الفرنسي، بقوله إنَّ هذا الـDa-sein قد يفيد lʼêtre-là، ويوضح أنَّ هذه الصيغة تفيد المعنى عينه الذي تفيده المفردةُ اليونانية "أليثيا" alêtheia، بمعنى الانكشاف أو "كشف المحجوب". إذَّاك أخذ هيدغِّر بتحليل الـDasein تحليلاً أطلق عليه تسمية "الأونطولوجيا الأساسية"، مترقبًا أن يقوده هذا التحليل إلى إدراك الكون بذاته. إلاَّ أنَّه، بعد أن وضع كتابه الفذ الكون والزمان Sein und Zeit، عدل عن سلوك هذا الطريق علمًا منه أنَّه لا يؤدِّي إلى المطلوب؛ والدليل على ذلك أنَّه أكمل كتابة ما بدأ به. ويشهد هنري كوربان Henry Corbin، مترجم هيدغِّر إلى الفرنسية، أن هذا الأخير، في أحد لقاءاته به، دفع إليه بالكتاب وجعله يمسكه بيده ويحس بثقله، إلاَّ أنه ارتأى أن يحاول طريقًا آخر. فكانت محاولات إدراك الكون بذاته، فأسماه Ereignis ("امتلاك الذات") وLichtung ("إضاءة"، أو "فسحة نور") وes gibt ("ثمَّة" – والصيغة الألمانية تفيد حرفيًّا "هو يُعطي"، حيث الضمير "هو" لا ينوب عن مذكَّر ولا عن مؤنَّث)، فكان الكون هو المعطي والعطاء والمعطى. في سياق هذا الفكر، أين يمكن أن تقع فكرةُ الله؟ يصرِّح هيدغِّر بأن الله، وبالتالي فكرة الله، لا يمكن ذكره في فلسفة تحدَّدت بكونها تفكُّرًا في الكون. ويقول هيدغِّر أيضًا إنَّه طلب إلى بعض أصدقائه من اليسوعيين (وقد يكون هذا اليسوعي هو اللاهوتي كارل راهنر Karl Rahner) أن يدلَّه على موضع قول بعض اللاهوتيين في العصر الوسيط إن "الله هو الكون" Deus est esse وإنَّه لم يتلقَّ بعدُ من جواب! قد يصح هذا التنافي بين الكون الهيدغِّري وإله اللاهوتيين: إذ كان إله الوحي والإيمان متعاليًا عن الكائنات، بوصفه خالقها وبارئها ومبدعها ومُحدِثها، وبالتالي بوصفه مصدر الكون وينبوع الكون. وقد نقرأ لكثير من المتكلِّمين في اللاهوت، من مثل يوحنا الدمشقي، أن "الله هو وجود الموجودات ونطق الناطقين وحياة الأحياء"، بمعنى أنَّه هو الذي يجود بالوجود والنطق والحياة. أمَّا الكون الهيدغِّري، فهو، وإنْ كان يتجلَّى في الكائنات، إلاَّ أنَّه يتناهى بفعل ارتباطه بالزمان، حيث يجوز القول إنَّ الكون والزمان مترادفان. هذا وإنَّ الله إلهان: إله الفلاسفة وإله إبراهيم وإسحق ويعقوب، أي إله العقل وإله التنزيل والإيمان، كما وصفهما پاسكال Pascal وكثيرون من بعده. فإله الفلاسفة، وإن تحدَّد بوصفه "الكائن الأسمى" أو "واجب الوجود"، ليس هو سوى أحد الكائنات، وإن كان أوَّلها؛ فهو لا يتعالى عن عالم الكائنات. أما إله التنزيل، فهو، في نظر المؤمنين به، "ليس كمثله شيء"، أي أنه يتعالى عن عالم المخلوقات ويقيم في عالمه الخاص، عالم الخالق المبدع. إذًا، في حين أنَّ إله الفلاسفة هو من عالم سائر الكائنات الفانية، فإن إله التنزيل من عالم يتعالى عن مخلوقاته. إذَّاك كانت فكرة هذا الإله، في نظر فلسفي، أساس الماورائيَّات؛ وصحَّ قول هيدغِّر إنَّ الماورائيَّات هي في جوهرها أونطوثيولوجيا. فإذا نُقِضَتِ الماورائيَّات فلسفيًّا على أنَّها توهمٌ نُقِضَ الله بالتالي، ونُقِضَت فكرةُ الله فلسفيًّا على أنَّها أساس الماورائيَّات. وعليه، كان الخيار بين الكون والله، حيث جعل هيدغِّر كلاًّ منهما في قمة جبل منفصل عمَّا سواه بوادٍ سحيق. إلاَّ أنَّ هيدغِّر، مثَله في ذلك كمثَل كلِّ مَن قال بشيئين منفصلين، ساورتْه فكرةُ التقريب بينهما بابتداع وسيط أو وسائط، فقال إنَّه لو شاء أن يقوم بتنظير لاهوتيٍّ – وهو يرى نفسه ميَّالاً إلى ذلك – لكانت مسيرته على نحو ما وصفها حيث قال: لا يمكن فهم ماهية المقدَّس إلاَّ انطلاقًا من حقيقة الكون. ولا تُفهَم ماهيةُ الألوهة إلاَّ انطلاقًا من ماهية المقدَّس. ولا يمكن فهم ما قد تعنيه مفردةُ الله والتعبير عمَّا قد تعني إلاَّ في ضوء ماهية الألوهة. لكنَّ هذا "الله" الذي قد يفهمه ويُعبِّر عنه لن يكون إله التنزيل والإيمان، لكون هذا الإله لا يُدرَك في ذاته ولا يمكن التعبير عمَّا هو في ذاته، بل لا يمكن نسبة الوجود إليه، كما حاول معظم المتكلِّمين في اللاهوت: إذ بدؤوا بالبرهان على وجوده قبل أن يحاولوا قول ما ليس هو وما قد يليق به من الأسماء ومن صفات الذات وصفات الأفعال؛ فهم في ذلك أساؤوا أيَّما إساءة إلى الله بحجَّة الدفاع عنه: فقد جعلوه مثيلاً للإنسان anthropomorphismus، وجعلوا أنفسهم بمنزلة الحَكَم العارف بما يليق بالله وبما لا يليق به، مثبتين له وجودًا على شاكلة الوجود البشريِّ والطبيعيِّ الذي خبروه. هذا وكان أوَّل أوائلهم أنَّ الله "ليس كمثله شيء": أي أنَّ وجوده ليس كالوجود الذي يعرفه الناس، وأنَّ صفاته ليست كالصفات التي يعرفها الناس. وربَّما كان ما قصده هيدغِّر هو الكلام على الله على غرار الكلام عند الإغريق القدامى على الإلهيِّ theion، علمًا أنَّ هذا "الإلهي" قد يكون صفة من صفات بعض البشريين أو بُعدًا من أبعاد كيانهم. يبقى أنَّ موقف هيدغِّر من الله، إله التنزيل والإيمان، هو مبدئيًّا ونظريًّا غير موقفه من الكون. وعلى الرغم من الفارق بين الكون وبين الله، فما يمكن لنا ملاحظته هو أنَّ موقف هيدغِّر من الكون كثير الشبه بموقف المؤمن من إله التنزيل والإيمان: فكما أنَّ المؤمن ينتظر في خشوع تجلِّي الله المتعالي، كذلك يبدو هيدغِّر وكأنَّه ينتظر تجلِّي الكون في الكائنات على مرِّ الزمان؛ وكما أنَّ المؤمن لا يعرف الله إلاَّ من خلال أفعاله وتجلِّياته، كذلك المفكِّر هيدغِّر لا يعرف الكون إلاَّ من خلال تجلِّياته في الكائنات، وخصوصًا في الكائن الإنساني: "راعي الكون" (مقالة في المذهب الإنساني). أخلص من هذه الملاحظة إلى أنَّ الناس يدفعهم شرطُهم البشري وظروفُ حياتهم اليومية إلى الاعتقاد بشيء تكون له صفةُ الإطلاق واللاتناهي وسائر الصفات المخالِفة لما هم عليه من الكيان المتناهي والنسبي: فمنهم مَن يطمئن إلى إلهٍ خَلَقَ الكائنات، ولا يزال يدبِّرهم ويسوسهم؛ ومنهم مَن يطمئن إلى قيم مثالية، من مثل العدل والسلام والحقيقة وغيرها؛ ومنهم مَن يطمئن إلى رفضه الطمأنينة وإلى تفعيل ما يسمونه بالعقل أو العقلانية أو المعقولية، أو بالفكر والتفكر، وما شاكل. إذَّاك ما الفرق بين أن نقول بوجود عالم ماورائيٍّ وأن نقول بعدم وجود هذا العالم، حين يقصد القولان الأمرَ نفسه؟ وما الفرق بين أن نقول بالكون أو أن نقول بالله، حيث الوظيفة الواحدة والمنتظَر من الاثنين واحد؟ فالإنسان، على كلِّ حال، لا يمكن له أن يتجاوز، عيشًا وفكرًا، ذاتَه وعالمَه الإنساني، بل لا يمكن له أن يتجاوز، كلامًا حتى، ذاتَه وعالمَه الإنساني. بيروت، 2006 *** *** ***
|
|
|