|
مع تسـعة ذئـاب في سـريـر واحـد!
حوار مع قاسـم حـداد
"هل تعرفين أحدًا يرغب في النوم مع تسعة ذئاب في سرير واحد؟" بهذا السؤال الإنكاري ختم الشاعرُ البحريني قاسم حداد حواري معه. كان يجب أن أجيبه: "نعم، ذئب عاشر!" ما أجملك أيها الذئب: جائع وتتعفف عن الجثث عنوان كتاب حداد الأخير – ذريعة لا نحتاجها، ربما، للقاء مؤسِّس جهة الشعر الذي يُعتبَر من أبرز المواقع الثقافية العربية على الإنترنت[1].
عشر سنين – أو ربما عشرة ذئاب بلغة الشاعر! – مرَّت على انطلاقة هذا الموقع، وأكثر من عشرين كتابًا على انطلاقة شاعرنا: بين البشارة (1970) وورشة الأمل (2004)، تمتد تجربةٌ غنيةٌ لشاعر قرَّر "وضع الشعر في مكانه"، حين أنشأ في العام 1996 الموقع "كنموذج يقدِّم الشعر العربي الحديث، بترجماته المختلفة، بالإضافة إلى اهتمامه بالشعر العالمي في أكثر من خمس لغات، والشعر المترجم إلى العربية". وعلى الرغم من أن مادة عالم الإنترنت الافتراضي معطى علمي خالص، إلا أن حداد رأى فيها "ضربًا من الشعر، بوصفها تتصل بمستقبل لا يمكن تفاديه، وخصوصًا إذا جاز لنا الحلمُ بأن الشعر هو الذهاب إلى المستقبل أكثر منه مراوحة في الواقع أو مجرد نوستالجيا عقيمة". في تلك المسافة الغامضة، التي يتقاطع فيها النص والضوء والصوت والصورة ولانهائية المخيلة، وضع قاسم حداد الشعر، راصدًا تحولاتِه، مستخلصًا مقترحاتٍ تأسيسيةً تصلح لبلورة تجربة الشعر العربي مع الإنترنت، أبرزها: - أهمية الصدور عن الأفق الكوني منذ اللحظة الأولى، وتجاوُز أوهام المحلِّية والإقليمية وقيودهما؛ - الحاجة إلى تطوير مفهوم التعددية اللغوية في الشبكة: من فكرة النصِّ العربي المترجم إلى لغات أخرى في اتجاه حضور النصِّ الشعري العالمي، بلغاته وترجماته المختلفة؛ - أهمية التجاور الحميم بين شعراء من مختلف الأجيال لحظة النشر على الشبكة؛ - الإدراك النقدي بأن حضور الشعر في الشبكة لا يجوز أن يقتصر على مراكمة النصوص الشعرية فحسب؛ و - العناية بالأجيال الجديدة من الشعراء والثقة في مواهبهم. حول ذلك، ربما أكثر، وربما أقل، "استجوبتُ" الشاعر. ضاق ذرعًا بأسئلتي حينًا، وصبر عليَّ أحيانًا كثيرة. المهم: ربحتُ حوارًا! زينب عسـاف * * *
زينب عساف: إذا كان لنا الابتداءُ من العنوان الجميل، اللافت، لكتابك الجديد – ما أجملك أيها الذئب: جائع وتتعفف عن الجثث[2] – هل لي أن أطرح السؤال الآتي: ألا تعتبر أن جمع مقالات في كتاب مجازفة؟
قاسم حداد: مجازفة... وها أنا في الهزيع الرابع من هذه المجازفة: نقد الأمل[3]، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر[4]، له حصة في الولع[5] – كل كتاب كان مغامرة: أن يذهب الشاعر إلى القارئ بالجناح الآخر من التجربة، لكي يتيقن من جدارته بأن يحلِّق بالأجنحة كلِّها، بالكتابة قاطبة، بما لا تخوم له بين النثر والشعر، بكلِّ ما يتاح للشخص من تجلِّيات النص في الكتابة. لِمَ لا؟ لن تحلو لي تجربةٌ إن لم تكن على قدر من هذه المجازفات!
لكن دعينا نتأكد دائمًا: هل كانت هذه الكتب "مقالات"؟ وبأيِّ معنى؟ أهي مقالات، من فعل الـ"قول" الأدبي والـ"قول" الفني، أم مقالات بالمعنى "الصحافي" للكلمة؟ بالنسبة إلي، منذ الباكر في هذه المغامرة، لم أكن أتوقف عند حدود الوصف المستقر لمعنى "المقالة". فعندما ذهبت إلى الكتابة الأسبوعية في الصحافة لم أذهب خضوعًا لشرط الصحافة، لكنِّي ذهبت بشرط الشعر، حتى أصبحت الصحيفةُ تقبلني بهذا الشرط خصوصًا، فأكتب ما أحب بالشكل الذي أحب. وهذا شرط في شخص الشاعر آنَ للصحيفة أن تتفهَّمه وتستدعيه، ويطيب لها ذلك أيضًا. وبناءً عليه، فإني أقترح دائمًا أن نسأل الكتاب عن مضمونه (و"مقالاته") قبل أن نفترض مسبقًا كونه ضربًا من مجرد إعادة نشر مقالات. ودائمًا سيكون في المغامرة "جزء من النجاة"، بحسب مولانا النفَّري! ز.ع.: لاحظتُ كثرة الإهداءات في هذا الكتاب، كما في أعمالك كلِّها. ما الذي يريده شاعرٌ أو كاتبٌ من خلال تلك الإهداءات الكثيرة؟ ق.ح.: الكتاب الأخير، خصوصًا، جعلتُه كتابًا لأصدقاء على التعيين. الكتاب عندي هو جامع محبة وعواطف، عرس يلذ لي أن لا أبتكره وحدي. ثمة وحشة في الكتاب حين يكون مغلقًا على صاحبه. الأصدقاء هم أرواح شريدة تقدِّر الكتابة على جعلها قرائن الروح المستوحشة. كلَّما شاركني صديقٌ في نصٍّ أو كتاب أو قصيدة، شعرت بأن ثمة ما يسعف روحي ويمنح كتابتي فسحة نوعية من الجنَّة. وكلما اتصلت الإهداءات بالشخصي في الصداقة، صارت لها نكهة تقصِّر عنها المجاملات وتضاهي الولع. لديَّ أصدقاء كثيرون أحب فعلاً أن أهديهم حصة من كتابتي اعترافًا بجمالهم في روحي – وهم يستحقون ذلك فعلاً. من المؤكد أني سأفعل هذا دائمًا. ز.ع.: أشعر أن في أعمالك ما يشبه "الخصخصة" بين الشعر والنثر، بين العام والشخصي – بمعنى أن الشعر هو ميدان ذاتك، بينما النثر حصة الآخرين: ورشة الأمل[6]، على سبيل المثال، الذي رويتَ فيه سيرة مدينة "المحرَّق"، محاذرًا الدخول في حميمياتك؟
ق.ح.: أنتِ تَصدرين من افتراض مسبَّق يفوِّت عليكِ فرصةَ التأمل الأعمق في نصوص الكتاب الأخير والكتب السابقة. قلتُ قبل قليل إنِّي لم أذهب إلى الكتابة بمثل هذه "الخصخصة" التي تشيرين إليها. ثم إن هذا الوصف يربكني فعلاً. المهم أن قراءةً أخرى لكتاب ورشة الأمل كفيلةٌ كشفَ القدر العميق والواضح من التداخل والمزج التعبيري في لغة الكتاب، حيث الشعر يخترقه ويتجلَّى في تصعيد تعبيري. وأذكر أن أحد أجمل فصول هذا الكتاب قد نُشِرَ في جريدة النهار قبل صدوره. على ذلك كلِّه، لا أفهم معنى أن يكون الشعر هو للذاتي والنثر هو للعام والآخرين. الآن، وبعد كلِّ هذين العمر والتجربة، لم يعد مثل هذا الفصل موضوعًا قابلاً. ز.ع.: تقول ما معناه إن الحكمة في ما يفعله الشاعر إنما تكمن في عدم الوثوق بأيِّ شيء. هل حكمة الشعر هي الذعر حقًّا؟! ما الذي نقوله، تاليًا، في فكرة الشاعر الرائي، أي ذاك الذي وقَّع ما يشبه "العقد" بينه وبين المستقبل؟ ق.ح.: حديثًا كتبتُ هذا النص: "لا تثقْ/ واسألِ الشكَّ/ وامشِ على شوكِه". وقبل ذلك بسنوات، قلت فعلاً إنِّي أكتب لأني مذعور. ترى ماذا يعني بالضبط تعبير "الشاعر الرائي"؟ ليس كل شاعر هو رامبو، مثلاً. كما أن رؤى كلِّ تجربة في كلِّ شاعر لا بدَّ أنها تقترح روحًا خاصًّا في التفاصيل – التفاصيل التي هي الشيطان شخصيًّا! ففي خضمِّ العدد الكبير من التجارب والأصوات الشعرية المتهمة بالتشابه والتناسخ، علينا، في عمق التأمل النقدي البارع، أن نبحث عن تفاصيل الروح الشخصي في تجربة كلِّ شاعر. أما العقد "الفاوستي"، إذا صحَّ التشبيه، بين الشاعر والمستقبل، فهو أحد أجمل الأوهام التي نستخدمها كذرائع من أجل تأجيل فضيحة المستقبل الذي ندَّعي ذهابنا إليه. ليس ثمة مستقبل على وجه التعيين يمكن لنا الزعم به أمام الآخرين. لا، لسنا محكومين بمستقبل ما!
شخصيًّا، قلت منذ سنوات طويلة إني أشعر بالارتباك كلَّما سمعت كلمة "مستقبل" لفرط غموض هذه الكلمة. ففي سياقنا الحضاري العربي (في القرون الثلاثة الأخيرة)، ليس ثمة ما يتصل بالثقة في ما يسمِّيه غيرُنا "مستقبلاً". نحن هنا لسنا فقط ممنوعين من الذهاب إلى المستقبل، لكننا، خصوصًا، محرومون من الحلم به! حتى الشعر والفن مصابان بقدر مذهل من الإعاقة عندما يتعلق الحلمُ بالمستقبل. أية حكمة تسعفنا للثقة – مجرد الثقة – بشيء لا يغدر بنا؟! ز.ع.: الپورتريه الذي رسمتَه لنفسك في نص "قاسم حداد... تقريبًا"، بدأتَه بالوقوف أمام المرآة قبل أن تستعين بالعديد من المرايا. ألا يمكن لنا أن نسألك – استطرادًا – عن مسألة العمر، عن علاقتك مع جسد جاوز عتبة الخمسين، وخصوصًا أنك استتبعتَ النصَّ بآخر، هو رسالة كتبتَها للشاب قاسم حداد؟ ق.ح.: "جسدٌ يهوي/ فتنهره الروح" – هذا ما كتبتُه منذ أكثر من عشر سنين. وكتبت أيضًا: "جسدي جحيمي". ثمة ما يضعني في مهبِّ الحرج دائمًا عندما يتصل الأمر بالجسد والعمر الافتراضي له. مشكلتي أنِّي كنت طوال الوقت لا أشعر بالزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الخلايا. وهذا ناتج من كوني لم أحسن التصرف بوصفي أبًا لأبناء يكبرون أمامي؛ ثم بعد ذلك لم أفهم كيف يمكن لي قبولُ فكرة كوني جدًّا، مأخوذًا بحفيدة مدهشة تكبر كلَّ يوم في رعايتي. هذا كله يحدث كما لو أنه يحدث لشخص آخر أرقبه بقدر قليل من الاكتراث. ورغم تصاريف الظروف التي مررتُ بها وانسحاق جسدي تحت وطأتها، فإن ذلك أيضًا لم يدفعني للاعتراف بالسنوات التي تقارب الستين بعد نصوص قليلة. ترى، كيف يتسنَّى لي أن أفهم سؤالكِ على الوجه المناسب؟ ثم، بعد ذلك، كيف أستطيع أن أجد له جوابًا ماكرًا يتجاوز الفيزياء والشعر والتفاصيل؟! ز.ع.: علاقتك بالإنترنت لا تختلف في قربها و"حميميتها" عن علاقتك بالمحرَّق. اليوم، وبعد مرور أكثر من عشر سنين على إنشاء موقعك البارز، جهة الشعر، ما طموحات هذا الموقع؟ – وخصوصًا أننا نشهد انطلاقةً جديدةً له. ق.ح.: أن أجد أصدقاء يتولَّعون معي بهذا الموقع، ويساعدونني مبكرًا، ويستعدون مبكرًا لمواصلة العناية بالموقع وتحمل مسؤوليته وبلورة تجربته بما يتناسب مع مستقبلهم. فقد تعبت، تعبت فعلاً... وأصبح قلقي يتضاعف على مصير الموقع عندما أستأذنه للذهاب. جهة الشعر في حاجة حقيقية لِمَن يواصل العمل على استمراره... وأرجو ألا يكون هذا طموحًا مبالَغًا فيه. هل تعرفين أحدًا يرغب في النوم مع تسعة ذئاب في سرير واحد؟! *** *** ***
التقت به:
زينب عسـاف [2] قاسم حداد، ما أجملك أيها الذئب (جائع وتتعفف عن الجثث)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006. [3] قاسم حداد، نقد الأمل: مكابدات الشخص بعد ذلك، دار الكنوز الأدبية، 1998. [4] قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، دار قرطاس، 1997. [5] قاسم حداد، له حصة في الولع: نثر ماثل، شعر وشيك، مؤسسة الانتشار العربي، 2000. [6] قاسم حداد، ورشة الأمل: سيرة شخصية لمدينة المحرق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004.
|
|
|