ضـريحـان

 

فـادي آحـو

 

كانت الأرضُ تحت قدميه صلبةً مشققة. لا يعرف متى ناداه الصمتُ ومتى بدأ المسير. الأفق يبتعد، والمسافات بلا نهاية، لكنه لم يتوقف عن اللهاث بعد. خلف نداء الصمت والزمن، يبحث عن كتاب التاريخ المفقود، عن الشفق الذي ضاع في عينيه. يبحث عنه ولا يراه، كأنما ابتلعه الغسق. يفكر: "مَن التهم عينيَّ؟!"

لا يعرف إنْ كان الوقت عصرًا أو ضحًى عندما بدأ يمشي، ولا يعرف لماذا ترك قطيع الغزلان التي كان يعدو معها، ولا لماذا غادر كهفه الذي استغرق صنعُه عدة سنوات من عمره، ولا يتذكر أعوام سكناه هناك، مع أنه يذكر السبب.

يفكر الآن وهو يحملق في كلِّ اتجاه، وقدماه جامدتان على الأرض الصلبة. لا يتحرك. يتلفت ويفكر: "أعتقد أني أضعت الطريق... لقد انحرفت في اتجاه آخر، في لحظة ما، حين أعماني الخوف وهدَّني التعب." جالسًا تحيط به أشباحُ الليل، يضم رأسه بيديه. لقد ابتعد النداء. "لن أتحرك حتى تناديني السكينةُ مرة أخرى."

يصحو فجأة. يرى السماء بلا نجوم. ثم يبصر شجرة بعيدة فوق تلة. هل كانت هناك قبل أن ينام؟ لعل الليل كان يحجبها، أو ربما فاته أن ينظر في ذاك الاتجاه. ربما رآها وحسبها شيئًا آخر. كانت عيناه متعبتين والظلمة حالكة، فحسبها عمودًا من حجر!

يسمع قلبُه نداء الصمت. إنها تقترب... أجل، إنها قريبة... لم تعد بعيدة... سيصعد التلة.

يصعد، والشجرة تقترب. تظهر فجأة أمام جذع الشجرة، ترتدي ثوبًا حريريًّا أبيض. يهبط نورُ الشمس سريعًا، وهي ساكنة عميقًا تحت الظل وعيناها باسمتان:

-       ناثان[*]... هل عدتَ، يا ناثان؟

-       أجل، يا حبيبتي، هذا أنا!

-       اجلس، يا ناثان.

يجلسان سوية، يفترشان الأرض تحت الظل.

-       تأخرتَ كثيرًا!

-       ضعتُ في الغابة وصدَّتْني العاصفة...

-       العاصفة؟ أنا أيضًا منعتْني، ولكن...

-       ماذا؟...

-       فتحت عينيَّ قبل الفجر، وسألتُ عنكَ. قالوا: "رحل عند منتصف الليل." ثم عاد النوم واحتواني.

-       كنتُ في المعبد جاثيًا عند قدمَي عشتار، أصلي، أبكي، وأرجوها كي...

كانت تصغي وعيناها مغمضتان. وعندما توقف صوتُه، تباعدت أجفانُها وعيناها معلقتان بالأفق، تحلقان بعيدًا وكأنهما تهربان من عينيه الطافحتين بالدموع.

-       تأخرتَ هناك... لماذا لم تعد فجرًا؟!

صوته ضعيف، يزحف من حنجرة مختنقة مثلما يزحف الجندي المحتضر إلى خندقه:

-       لم أعد أذكر... لا أدري... سمعت همسًا مريعًا، وشوشاتٍ مرعبة... وسقطت على وجهي، لا أحس ولا أسمع.

-       أنا أيضًا كنت في غيبوبة...

-       ماذا؟! لكن ذاك الصوت الهامس نطق بشيء آخر!

-       ماذا قال؟!

-       قال الصوت... أخبرني أنكِ... أنكِ رحلتِ!

-       قالوا عنكَ الشيء ذاته...

-       بماذا أخبروكِ؟!

-       بأنكَ رحلتَ بعيدًا تعدو مع الغزلان!

-       كنتُ رجلاً آخر، شبحًا أو ظلاً... لقد حطَّمني ذاك الخبر!

تنظر إليه. عيناها دامعتان، ووجهها أبيض كالقمر.

-       كنتَ معي، رغمًا عن المسافة والاحتضار...

-       وكنتِ بجواري، رغمًا عن الموت...

-       لماذا افترقنا؟!

-       لا أعرف... لعلَّه سر كبير – واقتحام الأسرار ميدان حرب شرسة!

-       ألعلَّنا ولدنا قبل الأوان؟!

-       لا أدري.

-       أو ربما كان المكان...

-       لا أعرف... لا أعرف...

يرفع رأسه. يراقبها بنظرة تأملية طفولية. عيناها باسمتان آسرتان. وجهها مشرق مضيء يبدِّد الظلال، مثل زهرة برية في أرض عذراء. يهيم حولها شعاع الشمس، ويمر النسيم من أمامها ويبتعد خائفًا، لا يجرؤ على مسِّها. قديسة هبطت من السماء!

-       ناثان!

-       سيدتي!

-       ما سر الغمام في عينيك؟ ولماذا ترتعش؟

-       رأيت تنينًا يسد عليَّ الطريق ويجلد بسياط عينيه عينيَّ... كان غريبًا، وكنت أرتعد خوفًا... حسبته جائعًا فأشفقت عليه.

- سألتهمُ عينيك!
- إنْ كنتَ جائعًا، سيدي، التهمْ جسمي.
- سألتهمُ دماغك!
- دماغي جافة، وفمي هزيل ولم يبقَ منه إلا القليل.
- أريد ذاك القليل المتبقي!

ثم صرخ:

- اغربْ عن وجهي، أيها الجاحد!

وأخلى الطريق واختفى.

-       وهل نجوت؟!

-       لا أعرف... كان صوته غبار الريح، وعيونه مزروعة على امتداد الأفق!

-       هل تخشى الموت، يا ناثان؟

-       أخشى افتقادكِ!

-       هلمَّ معي نغادر هذا المكان.

-       خذيني حيثما شئت... أكون فقط حيثما تكونين...

مالت الشمس وانحدرت. ابتعدت نجمتان مسافرتان في سماء جميلة، وتألقت الشجرةُ حُبلى بالثمر، متوهجةً تحت القمر. وكان هناك ضريحان: واحد قريب، وآخر بعيد خلف الأفق.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] هو ناثان ابن الملك حيرام، ملك صور. كانت خطيبته تحتضر، فذهب إلى معبد عشتار يصلي لأجلها، ثم جاءه الخبر بأنها فارقت الحياة. شوهد بعد ذلك يعدو مع الغزلان!

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود