|
الشَّـيخ والمُريـد
المشايخ يدمِّرون المريدين، والمريدون يدمِّرون المشايخ.
عَـدَّ بعضُ الناس تصريحَ كريشنامورتي هذا من قبيل المزاح، بينما حارَ بعضُهم الآخر في تفسير معناه. إذ إن ثمة، بحسب المأثور عن أغلب الطرق الروحية النقلية، رباطًا وثيقًا بين المرشد الروحي الحق، الكائن الذي يستطيع أن يوقد شرارة الطاقة الروحية في سواه، وبين تلميذه – "أوثق من الرباط بين الأب المحب والابن البار"، كما يقال؛ وهذه العلاقة تُمتَحَنُ إبان سنوات طويلة يراقب الشيخ[1] إبانها مريدَه، فإذا وجدَه مستحِقًّا، شَمَلَه بعنايته واختصَّه بعلاقة داخلية أوثق. ماذا عسانا نستخلص من المعطيات النقلية السابقة، وقد بتنا في الآونة الأخيرة نشهد في عالمنا العربي، على غرار ما يحدث في الغرب، تسربًا سريعًا للعديد من الحركات "الروحانية"، تتراوح بين النِّحَل و"الزندقات" الأشد تعصبًا وانغلاقًا وبين التجمعات ذات المظهر الجِدي نسبيًّا، يتمحور بنيانُها التنظيمي برمَّته على شخصية المؤسِّس أو الممثل عنه أو خليفته، وتَعِدُ أتباعَها بالصحة الدائمة، بالتتلمذ على "المعلمين الحكماء"، بالنعيم المقيم، أو بـ"الوعي الصافي"، إلى آخر ما هنالك من مزاعم[2]. من الجلِّي أن هذه الظاهرة مرتبطة بحالة الشواش المستشرية في العالم اليوم: فالمؤسَّسات الدينية النقلية traditional لم يعد في وسعها أن تجيب عن الأسئلة التي تراود أذهان غالبية أبناء هذا الجيل وتتصادى مع قلقهم الوجودي، والقيمُ الأخلاقية يُضرَب بها عرض الحائط، والمصلحة والاستغلال والعدوانية تعيث فسادًا في كلِّ مكان، ناهيكم عن الخوف وعن تفاقُم الحاجة المَرَضية إلى الأمان. إذا أخلصنا الفحص عن ضمائرنا، لا بدَّ لنا من الاعتراف بأن الحاجة إلى الأمان هذه هي التي تحثنا على البحث عن شيخ. لا شيء في عالمنا المعاصر، على ما يبدو، ينجو من "قانون العرض والطلب"؛ وهذه الحركات، هذه الجمعيات، هذه الجماعات المتكاثرة، المتحلِّق كلٌّ منها حول زعيم يرسم حوله رأسه هالةً من القداسة والسمو، إنْ هي إلا الاستجابة لهذه الحاجة، هي العرض المقابل لذاك الطلب؛ وهي بهذه المثابة لا تزيد عن كونها، في أغلب الأحيان، واجهاتٍ أنيقةً مغريةً لـ"دكاكين روحية" لا يعلم إلا الله ما يستتر وراءها! فمَن لا يستشعر في نفسه القدرة على مواجهة المشكلات العديدة، المادية والنفسية، التي تنهال عليه من كلِّ صوب يتشوق إلى العثور على مَن يذلِّل له مصاعبه، يأخذ بيده، ويقرر عنه الوجهة التي يجب أن تتخذها حياتُه. إن أسلوب عيشنا برمَّته دائرٌ في فلك البحث عن الأمان هذا: الأمان المادي الذي نحسب أننا نستطيع شراءه بالمال؛ الأمان العاطفي الذي نظن أننا نستطيع إيجاده في التعلق – بالأم، بالعشيق، بالزوج، بالطفل، بالصديق، إلخ؛ والأمان "الروحي" الذي نتوهم أن بمقدور المعلِّم الروحي أن يمنحنا إياه. ولكن مثلما أن الأمان المادي الذي يوفِّره المالُ هو محض سراب، ومثلما أن أمان التعلق العاطفي هو الآخر محض وهم، كذلك فإن فكرتنا عن "الأمان الروحي" الذي يمنحه "الشيخ" المزعوم هي سراب السراب ووهم الوهم! لماذا نطلب الشيخ إذن؟ نطلبه لأن معاناتنا من التشوش، في أحسن الأحوال، تزين لنا أن في وسع كائن نعتبره "عارفًا بالله"، "مستنيرًا"، متحررًا من الشواش، أن يساعدنا على أن نرى رؤيةً أوضح. غير أن أغلب الناس يهرعون إلى المشايخ المزعومين لأنهم يطلبون شيئًا ما: دعمًا، عزاءً، بركاتٍ، تحررًا من ضغوط المعيشة، من مشكلات عالم الأعمال، أو من الأرزاء والبلايا الناجمة عن صحة غير مستقرة. ويتوهم هؤلاء الأتباع أنهم إذا ما سدَّدوا الرسوم المالية المترتبة عليهم، إذا ما أعجبوا الشيخ وقدموا له فروض الطاعة، فهذا حسبهم لكي يتقدموا روحيًّا! إن في "عبودية" الأتباع مفسدةً للمعلِّمين لأنهم يوهمونهم بأنهم متفوقون وقادرون؛ ولأن المعلِّمين، في المقابل، يستغلون أتباعهم بمكافأتهم "روحيًّا"، فيما هم يقبلون منهم هدايا مادية عينية: ساعات ذهبية، سيارات فاخرة، منازل باذخة، طائرات خاصة، إلى ما هنالك من وسائل الرفاهية الشخصية[3]. أما الشيخ الحقيقي فهو لا يكترث لشيء من ذلك. فهو يحيا في عالم مختلف، ليس فيه لهذه الترضيات المادية أو النفسية من وزن أو قيمة. المشايخ الحقيقيون يقولون: "اتركوا عالمكم وتعالوا إلى عالمنا." و"عالمهم" هذا ليس مختلفًا جغرافيًّا عن عالمنا؛ إذ ليس المريد طالب المعرفة مضطرًّا للذهاب إلى جبال الهماليا أو التيبت للعثور على مرشد روحي[4]. إن عالم وعيهم هو المختلف لأنه عالم التحرر التام من أهواء النفس وشهواتها، عالم قوامه الوحدة والطهارة، الحكمة والمحبة؛ إنهم يطلبون من مريدهم أن يدخل عالمًا مجردًا من الطموح والطمع والحسد والقسوة وسائر النزاعات التي تمرمر الحياة البشرية. * * *
إيَّاكم والأنبياء الكذابين، فإنهم يأتونكم في لباس النعاج، وهم في باطنهم ذئاب
خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم.
الشيخ الحقيقي لن يُذلَّك أبدًا، ولن يغرِّبك عن نفسك. سوف يعيدك دومًا إلى كمالك
الأصلي ويشجعك على التنقيب في الداخل. [...] أما الشيخ الذي ينصِّب نفسه شيخًا فهو
مهتم بنفسه أكثر منه بمريديه.
مـاذا يحدث عمليًّا في بحثنا عن الشيخ؟ نتصرف، بكلِّ أسف، محكومين برصيدنا كاملاً من القيود الذهنية والإشراطات النفسية والندوب العاطفية، فنتخيل الشيخ و"نختاره" سلفًا بحسب هذه القيود وتينك الإشراطات والندوب، بحسب شواشنا ورغبتنا في الأمان، وليس بمقتضى الصفات الحقيقية للشخص الذي نَكِلُ أمرَنا إليه. فنحن، في غالبيتنا العظمى، عاجزون عن تمييز ما إذا كان الشيخ الفلاني المزعوم كائنًا "متحققًا"، متحررًا فعلاً من أوهام الشخصية الزائلة وسلطانها القاهر، أو لم يكن كذلك. لذا فإن الكثير من الطلاب يقعون في الفخاخ التي ينصبها لهم دجالون محترفون، أشد اهتمامًا بنفوذهم وبنجاحهم الشخصي منهم بصحة أتباعهم وبخلاص هؤلاء من قيودهم وإشراطاتهم. فلا غرو، والحال هذه، أن تنتهي العلاقة مع "المعلِّم" غالبًا إلى خيبة وانكسار قلب لا يُجبَر. كل شيخ حق فهو لا يخشى أن يمتحنه مريدوه، لا بل يطلب منهم ذلك[5]. ولدى امتحان الشيخ، لا بدَّ للطالب من أن يتذكر أن المظاهر قد تكون خداعة وأن "ليس كل ما يبرق ذهبًا": فكثيرًا ما تبيَّن أن أشد المعلِّمين صدقًا وإيمانًا برسالتهم في الظاهر هم أشدهم خطرًا على تلاميذهم لأنهم أكثرهم أخذًا لأنفسهم على محمل الجد، وبالتالي، أكثرهم توهُّمًا[6]. غير أن ثمة علاماتٍ تحذيريةً لا مناص للطالب الفطن والمخلص من أن يلتقطها، بما يسمح له بإعمال ملَكة التمييز لديه قبل أن يفوت الأوانُ ويقع الضرر[7]. أما إذا لم يكن التقاط تلك العلامات بهذه السهولة عليه، فقد تفيد الإشاراتُ التالية دليلاً مساعدًا على لزوم جانب الحذر: - تجنَّبْ شيخًا يدَّعي أن "استنارته" هي "الـ"استنارة: فالحقيقة ليست حكرًا على أحد. - تجنَّبْ شيخًا يطالبك بقبول آرائه من غير نقد أو استيضاح أو بطاعته طاعةً عمياء، أو يُخضِعك لامتحانات "ولاء" قد تتطلب منك أن تنتهك قواعد مسلكك الأخلاقي. - حذارِ من شيخ يعزِّز اتكالَ مريديه عليه – كأنْ يختلق مناخًا لا بدَّ فيه من الحصول على إذْن منه لاتخاذ القرارات الشخصية الهامة، أو يُشجَّع فيه الأتباعُ على التخلِّي عن أعمالهم أو علاقاتهم، إلى ما هنالك[8]؛ فالشيخ الحق لا يقيِّد تلاميذه بشخصه، بل يحرِّرهم منه. - الاستنارة الروحية تسبغ على الإنسان المستنير "جاذبية" قاهرة، ما في ذلك ريب، ناهيك عن "الكرامات" التي قد يتحلَّى بها؛ لكن إياك والمشايخ الذين يشجعون قصدًا عبادة الشخصية (شخصيتهم حصرًا!). - حذارِ من أيِّ شكل من أشكال الاستغلال، التي أشيَعُها الاستغلال المادي والجنسي (مع أن هناك أشكالاً من الاستغلال أحذق وأبشع): قد نضرب كشحًا عن المعلِّمين الذين يقبلون عطايا تلاميذهم، لكن فرض "أتاوات روحية" على التلاميذ أو "إغواء" بعض التلميذات (بواسطة التلاعب بمشاعرهم غالبًا) لا يجوز غض النظر عنه ولا بأيِّ شكل من الأشكال! - لا تولِ ثقتك شيخًا لا يتعظ بما يعظ، متذرعًا بمقولة "صوفية" من نوع: "حسناتُ الأبرار سيئاتُ المقرَّبين"! - لا تثقْ في شيخ يبالغ في أخذ نفسه على محمل الجد أو يفتقر إلى روح المرح. غالبًا ما يتولَّى الأتباع، بالنيابة عن شيخهم، تشكيل جمعيات أو تنظيمات كثيرًا ما تنبت حول شخصه كما تنبت الفطور! ومع أنه لا يصح الحكمُ مطلقًا على شيخ من خلال سلوك مريديه وحسب، فإن في مراقبة تأثير علاقة هؤلاء بشيخهم على هذا السلوك والتدقيق في الثقافة السارية في الطريقة فائدةً جمة. حذارِ هنا من الأمور التالية: - النخبوية الروحية: كأنْ تدَّعي الجماعةُ أن طريقتها هي "الـ"طريقة، أو أن فلسفتها الخاصة تمثل الحقيقة المطلقة، أو أن "تبشر" الآخرين بها تبشيرًا مبالَغًا فيه حتى الهوس. - استنكار الطرق الروحية أو المدارس الدينية الأخرى أو الطعن في شيوخ آخرين. - جو السرية والتكتم: كإمساك المعلومات عن المريدين وحَصْرها ضمن نطاق حلقة باطنية ضيقة من "المختارين"، أو تحريم النقاش في مسائل معينة والترويج لمناخ لا يجوز فيه إبداءُ الشكوك ويثبَّط فيه التفكيرُ الحر. - التخويف: ولاسيما تهديد أفراد الجماعة ممَّن لا يسيرون على "الصراط المستقيم" (افهم: لا يطيعون شيخهم طاعة عمياء!) أو الذين غادروها بالويل والثبور. - تكريس بنيان هرمي توزَّع فيه المراتبُ جزافًا على "المستحقين" من المريدين. * * *
كونوا لأنفسكم مصباحًا.
لا ريب في أن ثمة، في يوم الناس هذا، – وربما أقرب إلينا مما نتصور، – مشايخ جديرين بهذا اللقب. لكننا حتى إذا دخلنا في تَماسٍ معهم، كيف سنفهمهم؟ أغلب الظن أننا سنفعل ذلك بحسب قيودنا وإشراطاتنا الذهنية: أي أن أقوالهم ونصائحهم ووصاياهم، إذ نمرِّرها من خلال "مصفاة" شواشنا الداخلي، لن تصلنا إلا مختزَلة، بل ومشوَّهة. فماذا سيكون نفعُها لنا حينذاك؟! إن غالبية الحالمين بلقاء شيخ حقيقي، في وضعنا الحالي المزري، ليسوا مستعدين بعدُ ليكونوا "مريدين حقيقيين" – حتى إنه يقال إن المرء يحصل على الشيخ الذي يستحقه! وإذا كانت فكرتنا عمَّن يمكن أن يكونه الشيخُ الحقيقي بهذا الغلط فذلك لأننا نتصور ما يجب أن يكونه المريد تصورًا مغلوطًا هو الآخر. من هنا فإن رياضة النفس على "المريدية" الصحيحة قد تكون خيارًا أصوب، وأوفر حكمةً، من الضرب في الأرض بحثًا عن شيخ. حتى يتسنَّى لنا أن نفهم طبيعة العلاقة بين الشيخ والمريد فهمًا أفضل، فلنعدْ إلى عدد من المفاهيم الأساسية لتعاليم الحكمة القديمة. الـ"موناد" Monad ("الإنسان الحق" بالمصطلح الثيوصوفي)، بصفتها شعاعًا فائضًا عن الإله، تنطوي بالقوة على الصفات والطاقات الإلهية كافة. وهذه "البذرة الإلهية" تمر بأشواط متوالية من التفتح، أي تنتقل من حال الكمون إلى حال التجلِّي، عِبْرَ سيرورة طويلة تُسمَّى بالتطور الروحي. إن الحياة الإلهية المستودَعة في قلب هذه الموناد هي التي تستحث سيرورة هذا التفتح من الداخل؛ وهي سيرورة حتمية، لكن تحققها يتفاوت من امرئ إلى آخر من حيث السرعة. ففي الطبيعة، نلحظ أن نموَّ شجرة بعينها، على سبيل المثال، يتيسر أو يتعسر تبعًا للشروط الجوية؛ لكن ليس الماء ولا الشمس ولا التربة هي التي تصنع الشجرة، بل قوة الحياة الكامنة في البذرة، ذلك الدفع الباطن الخارق وانبساط مخطَّط موضوع سلفًا، بحيث يجوز لنا القول بأن الشجرة برمَّتها موجودة بالإمكان في البذرة، بخصائصها المعينة وفرادتها. الموناد هي بذرة الإنسان الكامل، والتطور الروحي هو تفتح هذه "البذرة" عن مكنوناتها، أي نموها الطبيعي. المحرك الحقيقي لهذا التطور الروحي هو الحضور الإلهي في الإنسان، ممثلاً بشعاع الموناد؛ وهذا الحضور هو الشيخ الحقيقي، الشيخ الداخلي، الذي يدفع بنا إلى بسط صيرورتنا الطبيعية والذي يقودنا بما لا رادَّ له، حتى عن غير وعي منَّا. فإذا شرعنا في فهم هذه السيرورة، سوف نكف عن البحث خارج أنفسنا فقط وسيتسنَّى للإرشاد الداخلي أن يفعل فعلَه على نحو أيسر وأسرع. الاسترشاد بالشيخ الداخلي لا يستبعد قطعًا إمكانية حضور الشيخ الخارجي الفرد الحي. لكن هذا ليس إلا الصورة الظاهرة التي يتخذها الشيخ الداخلي لمساعدة المريد مساعدةً بعينها لدى بلوغه شوطًا معينًا من أشواط بحثه الروحي. والشيخ الحق، الذي ليس إلا التعبير المتحقق للحياة الإلهية، ليس مختلفًا عن الإله ولا منفصلاً عنه في مريديه: الشيخ الخارجي والشيخ الداخلي هما واحد، كما أن الإله والذات الروحية واحد[9]. ودور الشيخ الحي ليس غير دلالة المسترشدين به على الشيخ الداخلي. فالشيخ الحقيقي لا "يتشيخ" على أحد، بل إن مريديه هم الذين يعدُّونه شيخًا؛ ودوره يتلخص في تنوير المريد حول ماهية العمل الروحي على النفس. كثيرًا ما نتوهم أن في مكنة الكائن المستنير أن يجترح المعجزات وأن يحوِّلنا بمحض قدراته الروحية. لا شيء من ذلك! نحن الذين اختلقنا الشواش الذي نتخبط فيه؛ وعلينا نحن، بالتالي، أن نبدِّد هذا الشواش. يمكن لسوانا أن يدلنا على الطريق؛ لكنه، مهما فعل، لا يستطيع أن يقطع الطريق بالنيابة عنَّا! يمكن لسوانا أن يحضنا على العمل، لكن بذل الجهود منوط بنا – وبنا وحدنا[10]. في وسع سوانا أن يعيننا على رؤية أنفسنا كما نحن، على وعي الأقنعة التي نتبرقع بها؛ لكن ما من أحد سوانا يستطيع أن ينزعها عن وجوهنا. الشيخ الحقيقي لا يأتي بشيء من الخارج، بل على العكس، يساعد المريد على رؤية ما يجب أن يتجرد منه، ما يحجب طبيعته الحق عن بصيرته؛ إنه يحضه على قلع الأعشاب الضارة، على إزاحة ركام معلوماته التي لا تنفع ولا تجدي، على التجرد من أفكاره المغلوطة وتصوراته المسبقة، على تبديد أوهامه عن نفسه وغيرها من العناصر الشخصية التي تحجب طبيعته الإلهية وتحُول بينها وبين التفتح الطبيعي والانعكاس في الشخصية. في اختصار، الشيخ الحقيقي لا "يمنح" الاستنارة، بل يكشف للمريد أن النور كامن أصلاً فيه. نهر الحياة بأسره يجري في اتجاه واحد – الاتجاه الذي سمَّاه كريشنامورتي بـ"يقظة الفطنة". والتطور الروحي ما هو إلا تهذيب البنيتين الجسمانية والنفسانية بما يكفل للملَكات العقلية الرفيعة أن تتفتح عن الفطنة الأسمى. والشيخ، إذ يعي هذه الغاية ملء وعيه، لا يستغبي وعي مريده بالسيطرة عليه أو بفرض طاعة عمياء؛ إنه يرشد المريد، لكنه يتوقع منه أن يتصرف بحسب ما يراه صوابًا، أن يكون مسئولاً عن أفعاله، مستخلِصًا العِبَرَ من أخطائه إذا لزم الأمر[11]. بذا تنمو فطنةُ المريد وتنضج ملَكةُ التمييز لديه، فيكف عن التواكُل. ومَن يفهمون طبيعة التقدم الروحي يتبعون هذا الغرار: يناقشون، يومئون إلى الأشياء، لكنهم لا يأمرون أحدًا بما ينبغي أن يفعل أو لا ينبغي. العلاقة بين الشيخ والمريد، إذن، مختلفة كلَّ الاختلاف عما نجنح إلى تخيُّله في أبعد شطحات مخيلتنا. إنها أبعد ما تكون عن الراحة والأمان: إذ إن سيرورة التجرد أو نضو الثياب أكثر إيلامًا بما لا يقاس من سيرورة لبس ثياب سميكة من المعلومات والمعارف والصفات والميزات الجديدة، حتى المكتسَب منها بشق النفس. إن جهد "المراكمة" باعث على الرضا الشخصي، إذ هو يمنح الشخصية إحساسًا زائفًا بالأمان؛ أما التجرد فهو التخلِّي، التدريجي أو المفاجئ، عن كلِّ ما نتوهم فيه الأمان. فالشيخ يكشف للمريد بطلان، عدم جدوى، وهم تلك التراكمات كافة، مادية كانت أم عاطفية، فكرية أم روحية كاذبة. ولأن الشيخ شديد الشفافية، فهو يصير للمريد كمرآة تعكس الألاعيب التي تبتكرها "الأنا" ego درءًا عن نفسها، فيشخِّصها ويعمل على تفكيكها واحدة واحدة – وهذا الأمر لا يطيقه إلا الأشداء من المريدين. من هنا فإن التماس شيخ حقيقي لا يمكن له أن يتم ما لم يكن المريد مستعدًّا لتحمُّل ما سمَّاه كريشنامورتي في أحد لقاءاته الشخصية "عملية جراحية من دون بنج". * * *
اسألوا تُعطَوا، أُطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتَحْ لكم. [...] ادخلوا من الباب الضيق.
فإن البابَ رحبٌ والطريق المؤدي إلى الهلاك واسع، والذين يسلكونه كثيرون. ما أضيق
الباب وأحرج الطريق المؤدي إلى الحياة، والذين يهتدون إليه قليلون.
لقد قال المعلِّم الناصري: "اقرعوا يُفتَحْ لكم." غير أن "الباب" المقصود هنا لا يفضي إلى المزيد من الرضا عن النفس، وليس ثمة في الطرف الآخر منه أية غنيمة، أي منصب، أية "مكانة روحية"، وما إلى ذلك. والدخول من هذا "الباب الضيق" لا يعفينا من مصاعب الحياة وضغوطها، لأننا نحن الذين أوجدنا هذه المصاعب وحرَّضنا تلك الضغوط، كما سبق وأشرنا، ونحن الذين نولِّد القوى التي توجِد الشروط التي نستصعبها. فمَن هو "قارع الباب" إذن؟ وما هي صفاته؟ "قرعُ الباب" ليس بالأمر الميسور لأنه يتطلب نذرًا للنفس لا هوادة فيه ولا مهادنة. إننا، في الغالب الأعم، لا نولي إلا القليل من الانتباه لنصيحة المعلِّم الناصري: ما من أحد يستطيع أن يعمل لسيِّدَين، لأنه إما أن يبغض أحدَهما ويحبَّ الآخر، وإما أن يلزم أحدَهما ويزدري الآخر. لا تستطيعون أن تعملوا لله وللمال. (إنجيل لوقا 6: 24) في عبارة أخرى، لا نقدر أن نتعلق بالدنيويات ونرجو، في الوقت نفسه، دخول عالم المشايخ أو التنقل بين عالمهم وعالمنا. "قرعُ الباب" يعني التعطش إلى التعلم، الشغف بمعرفة النفس، التحرق إلى الحكمة. لا بدَّ للمريد من أن يكون قد تفكَّر طويلاً في علَّة الألم في الوجود، في السبب الذي يُعجِزُ البشرَ عن بلوغ الطمأنينة، وفي مسائل أخرى عميقة؛ وبعد أن يتفكر في مثل هذه المسائل، أن يكون قد فهم، إلى حدٍّ ما على الأقل، ما هي القيم الحقيقية وما هي القيم الزائفة. فحتى نتمرس في "فن الحياة"، يجب على صفات جوهرية معينة، عادة ما تُعزى إلى الفنون، أن تغدو جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية: الجمال، التناغم، حس التناسب والإيقاع، إلى ما هنالك. بذا ليس الشيخ المرشد هو مَن يفتح الباب! ما من شيخ حق يُستطاع خداعُه أو إغراؤه بفتح السبيل إلى بُعدٍ روحيٍّ مُرتَقٍ؛ فهذا متعذر إذا لم يلبِّ المريدُ الشروط. الباب يُفتَحُ للمريد بمقتضى أعماله، بحُكم نواياه ومبلغ صدق مشاعره حيال الخلائق الحية على هذه الأرض كافة؛ فهذه الأعمال والمشاعر والنوايا تطلق طاقاتٍ من شأنها أن توجِد شروطًا ميسِّرة أو معسِّرة. فالكون محكوم بقوانين سرمدية، على العكس من القوانين الوضعية، لا يمكن لمُخالِفها أن ينجو من العواقب. هناك قوانين يعرفها العلماء وقوانين غيرها لا يعرفون عنها إلا القليل، لكن المشايخ الحكماء يحيطون بها علمًا؛ وهذه القوانين هي في الأساس من التجلِّي الكوني ومن تكوين العالم. يقال لنا إنه لو قُيِّض لشروط الكون أن تتغير، وإنْ بمقدار طفيف، لانعدمَ رأسًا! هنالك توازن كامل يعمل وفقًا لقوانين الكون. وكما أن الأشياء خاضعة لهذه القوانين الكونية، ليس لدى الطالب الروحي من إمكانية أخرى غير العمل بنفسه على إيجاد شروط ميسِّرة؛ وما من أحد غيره يستطيع ذلك عنه. كيف يتحصل الشيخُ على المعرفة؟ إنه لا يتحصل عليها بحُكم ما يسمَّى "المصادفة" أو "الحظ"، لأن هذين لا مكان لهما في كون محكوم بقوانين سرمدية. الشيخ هو الثمرة الطبيعية النادرة للتطور الكوني على مرتبة عالمنا الأرضي. لقد نذر نفسه أعمارًا كثيرة مديدة لسبر طبيعة الحياة والغاية منها. من هنا فإن تنمية روح البحث والتقصِّي لدى المريد – وليس المحاكاة والتكرار – من الأهمية بمكان. فالشيخ، وقد روَّض نفسه طويلاً على العمل الشاق الدءوب، يتمكن من الرؤية والشعور والحياة من منبع الحقائق الكلِّية كافة: وعيه واحد مع الحياة قاطبة؛ وبذا فهو يعرف الأشياء في جوهرها، ولا حاجة له إلى بذل أيِّ جهد للتمييز بين الحقيقة والوهم. وبالتالي، فإن المرشد الحق لا يشجع مريديه أبدًا على اتِّباع أهوائهم ورغباتهم الدنيوية ولا يعدهم بأية مكافآت. لن نملَّ أبدًا من تكرار أن الشيخ الحق لا يفرض إرادته على أحد. خلافًا للمعلِّمين الكذبة، يقول المشايخ الحقيقيون: "لبِّ الشروط!"[12] قد يبدو هؤلاء المرشدون للوهلة الأولى صارمين، بل قساة على مريديهم، لكنهم هم المحسنون الحقيقيون. أما المعلِّمون الذين يقولون: "افعلْ ما يحلو لك، وسأمنحك بركتي لقاء إخلاصك لي"، فهم يخدعون أتباعهم ويضلِّلونهم. فلنستمع إلى قول أحد المشايخ: كُنْ طاهرًا وذا عزيمة على درب الاستقامة (كما هو مبيَّن في قواعدنا). كن صادقًا ونزيهًا؛ انْسَ نفسَك حتى تتذكر خيرَ الآخرين جميعًا. مَن يتَّبع نصائح كهذه مخلصًا يلفت نظرَ الشيخ الحق إليه. يقال إن الشيخ المتحقق، حين يحدق في عالمنا، يراه مظلمًا وكئيبًا؛ ولكن من هنا وهناك ينبعث نورٌ من وعي الأطهار الزاهدين، الذين ينسون مصالحهم الشخصية في سبيل خير الآخرين. ولقد أشار المشايخ في مناسبات عدة إلى أن من شأن هذه القرابة الداخلية وحدها أن تُدني التواق منهم. فلنقرأ هذه العبارات لدامودَر: ما من گورو سيأتي إليك يومًا. المقلِّدون، لن تعدم أن تجد منهم كثيرين؛ أما المعلِّم الحقيقي، فينبغي أن ندنو منه ونشقَّ لنفسنا ممرًّا إليه. فإذا صمَّمنا على ذلك، مسلَّحين بقوة إرادتنا التي لا تنثني ولا تلين، بشجاعتنا التي لا تُقهَر، وبطهارتنا الأخلاقية، وانكببنا على العمل في الاتجاه الصحيح [...]، لا بدَّ لنا من أن نشقَّ لنفسنا سبيلاً إلى الگورو الذي لا يقدر عند ذاك أن يرفض اتخاذنا تلامذة. * * *
الرغبات والأهواء، إذا جاز القول، سلاسل – سلاسل مغناطيسية حقيقية – تُخضِعُ الذهنَ
لهذه الشهوات وهذه الملذات الجسدية الأرضية. ومَن يود أن يسمو على مايا
[الوهم] التي تسود على هذا العالم يجب أن ينهض للأمر بكسر هذه السلاسل الصلبة التي
تستبقيه أسيرَ هذا العالم الزائل. وحينما تنكسر هذه السلاسل سوف تنقشع الغيمةُ
تدريجيًّا من أمام بصيرتك وسوف ينجلي بصرُك لإدراك الحقيقة.
كـيف يبدأ المرءُ برياضة نفسه على "المريدية"؟ الرغبة والوهم والغضب هي النبتات السامة الثلاث القاتلة التي ينبغي استئصالُ شأفتها من طبيعته الدنيا. لقد نصح أحد المشايخ الكبار: حذارِ من ذهن قليل الإحسان، لأنه سينقض على دربك كالذئب الجائع ويفترس خيرة صفات طبيعتك. فلا نحاولنَّ أن نكتشف عيوب الآخرين أو نكنَّ مشاعر طالحة "حتى لعدوٍّ أو لامرئ يسيء إليـ[ـنا]". ولا نحكمنَّ على الآخرين كذلك: فمقاييس العالم الروحي مختلفة عن المقاييس السائدة في عالم العوام من البشر. الروحاني ينظر إلى جميع الكائنات نظرة عطف وتفهُّم، نظرةً بصيرة تحيط بماضيهم وحاضرهم وإمكانات مستقبلهم. إنه قلَّما يلتفت إلى الشخصية الظاهرة – بحسناتها ومثالبها – بل تسبر نظرتُه الأعماق، من غير إدانة. ثمة أمرٌ آخر هام جدًّا لا بدَّ للمريد من استيعابه: كل ما يتلقاه من تعليم أو نصح أو معرفة يجب أن يعتبره "وديعة" عنده يستعملها لخير إخوانه البشر وسائر الخلائق الحية. علينا أن نعطي بمقدار ما أخذنا وكما أخذنا – مجانًا؛ فلا يجوز لنا أن ننتظر الاستنارة التامة حتى نشارك الآخرين حصادنا، بل علينا أن نقتسم وإياهم كلَّ ما لدينا – الآن. فبما أن كلَّ معرفة مقدَّرة للعالم أجمع، لا مكان على الدرب الروحي للأنانية والغرور. والقرابة الروحية مع مرشد حقيقي لا يفضِّل أحدًا على أحد، بوصفه تجسيدًا حيًّا للمحبة المطلقة، تقتضي المريد طالب الحقيقة إعمالَ شيء من هذه الروح من أجل الحقيقة نفسها، لا لأن مصدرها "معلِّمي"، لا للترويج لفكر المعلِّم. فكما قال أحد المشايخ الكبار: "تعلَّمْ أن تُخلِصَ للفكرة نفسها، لا للعبد الفقير." الهدف الأوحد الذي يجدر بالمريد أن يجاهد في سبيله هو الارتقاء بشروط الإنسانية المتألمة بتبليغه الحقيقة بمقدار ما يفهمها. حياة المريد يجب أن تتجمل بمناقبية رفيعة حتى تكون "فوزًا يوميًّا على الأنا". فالأنانية، التي تتخذ صورة الرغبة وتعبِّر عن نفسها بالغضب والتي هي العقبة الكأداء في سبيل فهم الحقيقة، يجب اجتثاثها من جذورها: ذلكم هو "الجهاد الأكبر" – مجاهدة النفس – الذي حضَّ نبي الإسلام نفسَه وصحابتَه على النهوض له. * * *
حين نتخطَّى التفريد إذ ذاك نكون شخصياتٍ حقيقية. الأنا كانت عونًا؛ الأنا هي
العقبة.
لـكنَّنـا يجب ألا ننسى أن "البذرة الإلهية" لا بدَّ أن تنتش على الرغم (أو بالأحرى، بفضل) من درع الأنا الشخصية. فالأنا أشبه ما تكون بقشرة البيضة: لا فائدة تُرجى من كسر القشرة قبل أن يبلغ الفرخُ مرحلةً معينةً من النمو. الأمر أشبه باليسروع المتشرنق والفراشة: لا بدَّ لليسروع من أن يموت حتى تولد الفراشة؛ لكننا إذا سحقنا الشرنقة لن نحصل إلا على جثة يسروع، وليس على فراشة! يصح ما سبق على تطور الإنسان الروحي: إن بناء شخصية متماسكة، متوازنة ومتكاملة[13]، شوط لا مندوحة لنا من قطعه، شأنه شأن حياكة الشرنقة سواء بسواء. لكنْ يحين أوانٌ لا بدَّ فيه من كسر الأنا، كالقشرة التي لم تعد غير ذات فائدة وحسب، بل غدت معرقِلة، لأن "البذرة الإلهية" أصبحت مستعدةً للتفتح التام عن الممكنات الكامنة فيها. وعندئذٍ يشتد الضغطُ من الداخل أكثر فأكثر، بما من شأنه أن يحرض لقاءً مع شيخ قدير إذا لم يتمكن الباحثُ من كسر "قشرته" بمفرده. في هذه اللحظة بالذات – وفي هذه اللحظة وحدها – قد يكون الشيخ الحي ضروريًّا. فكما أنه لا حاجة إلى الجرَّاح لفقء دمَّل أو خرَّاج إذا لم يكن الاحتقان كافيًا، كذلك لا حاجة إلى الشيخ الفردي إذا لم يغدُ إلحاحُ الضغط الداخلي عارمًا لا يطاق. لكنْ قبلئذٍ لا يُترَك المرءُ وحده أبدًا. فالإله فيه – شيخُه الداخلي – لا يني يزوِّده بالتوجيهات والفرص لتحقيق هذا النضج. ذلك "إرشاد" غالبًا ما لا نعترف به بوصفه كذلك لأنه لا يظهر لنا على الصورة التي ننتظرها، في الوقت والمكان اللذين نتوقعهما. أما في واقع الحال، فإن الشيخ الداخلي هو الذي يستعمل، وربما يحرِّض المواقفَ المثلى التي ننخرط فيها كي يُسمِعَنا "من الخارج" ما لسنا بعدُ قادرين على سماعه قادمًا من أعماق سريرتنا. هذا هو المقصود بالقول إن "الحياة هي أكبر المعلِّمين". لكننا يجب ألا نضفي على هذه العبارة مجرد معنى أن هناك ما نتعلَّمه من كلِّ موقف نمر به في مسار حياتنا؛ يجب ألا نكتفي باعتبار ظروف حياتنا فرصًا لاكتساب المزيد من المعارف والمعلومات أو لمكابدة اختبارات نفسانية معينة. فالحياة كمعلِّمة هي أكثر من هذا بما لا يقاس: إنها التعبير عن الإرشاد الشخصي من شيخنا الداخلي. ليست العِبْرة فحسب في استخلاص الدروس من "المصادفات"، – وهو على كلِّ حال طريقة أكثر إيجابية وفاعلية من الاستجابة للأحداث استجابةً سلبيةً منفعلة، – بل في فهم أن ما يحدث لنا مُراد، مخطَّط له مسبقًا، محرَّض من الداخل من شيخنا الداخلي، ويمثل، بالتالي، ما نحتاج إليه حصرًا في لحظة بعينها[14]. بناءً عليه، يجب علينا أن نعتبر أن الرفاق الذين نصادفهم في حياتنا منخرطون في هذا "الإرشاد" ومستعمَلون، من حيث لا يدرون أحيانًا، لمساعدتنا على التطور، حتى حين يبدو لنا أنهم يضايقوننا! الإرشاد الخارجي (أو بالأحرى ما يبدو لنا "خارجيًّا") لا غنى له مادام المرءُ متماهيًا identified مع شخصيته؛ وحينذاك لا يكون الشيخ الفرد ضروريًّا دومًا، بل هذا الإرشاد – ونحن لا نعدمه أبدًا: فقد يقيَّض لنا أن نلتقي على مسارنا بأناس أقدم منَّا عهدًا بالدرب الروحي، في وسعهم أن يلهمونا وأن نتعلم منهم الكثير، أن يقُونا بعض مزالق الدرب وعثراته أو أن يعيدونا إليه إذا ما حُدْنا عنه، وحتى أن يعينونا على استيعاب بعض الخبرات النفسية والروحية الطارئة[15]. حين نبدأ في إدراك هذا الأمر وفهمه حقَّ الفهم، يمكن لتلك الثقة التي تستبعد أيَّ مفهوم للمصادفة، أيَّ إحساس بالظلم أو سوء الطالع، بالحسد أو الغيرة، أن تولد فينا. فنحن حيث يجب أن نكون، وبيئتنا هي الميدان الروحي الذي يريده لنا الشيخ، وظروف حياتنا هي الامتحانات التي يُخضِعنا لها كي يساعدنا على استيعاء "لعبة" الشخصية، على تفكيك ألاعيب الأنا – حتى يحين أوانُ الاستعداد لكسر القشرة. إذا لم نكن نعرف كيف نسلِّم أمرنا لمواقف الحياة ونستجيب لها الاستجابة الصحيحة، فمن المستبعَد أن نكون قادرين على تسليم أمرنا لشيخ فرد. إننا، إذ نعمل على تنمية اللاَّتعلق وملَكة التمييز الروحي، ندنو من الشيخ أكثر بكثير مما لو كنَّا نجوب المسكونة بحثًا عنه. هذا العمل التمهيدي هو العمل على معرفة النفس التي ليست "معرفة الأنا"، بل معرفة مختلف الآليات الداخلية الملازمة للطبيعة البشرية التي هي عينها فينا أجمعين. "معرفة الأنا" تزيد من وهم الانفصال، من الإحساس باختلافنا عن الآخرين، وليس من شأنها إلا تعزيز درع الأنيَّة المنفصلة؛ أما معرفة النفس فهي، عمقيًّا، اكتشاف أن سيرورات الفكر، الانفعال، الخوف، الحاجة إلى الأمان، إلخ، هي هي في البشر جميعًا. المداومة على مراقبة الأنا يمكن لها أن تتحول إلى سلوك "عصابي"، من شأنه أن يزيد من تمركُز الأنا ومن تصلُّب قوقعتها؛ بينما معرفة النفس، الناتجة عن انتباه يقظ ورصد داخلي دائم، هي التخلِّي التدريجي عن الأهمية المعطاة للأنا – وإذ ذاك فإن القوقعة تبدأ في التشقق من تلقاء نفسها. لا حاجة لنا من الآن إلى استقصاء مفصَّل للشروط التي سيتم من خلالها الانفتاحُ الكامل. حسبنا الآن أن نقوم على أكمل وجه ممكن بالعمل التمهيدي بزيادة حساسيتنا الداخلية للتعرف إلى "لمسة" الشيخ في ظروف حياتنا كافة، بما هو التسليم الحقيقي الذي يشير إليه المشايخُ الكبارُ جميعًا بوصفه الوسيلة الأنجع والأسرع للتطور الروحي. نترك كلمة الختام للسيدة بلاڤاتسكي – نص "الدرجات الذهبية" الذي كتبتْه في العام 1890: دونك الحقيقة أمامك: حياة طاهرة، فكر منفتح، قلب نقي، عقل متشوِّق، بصيرة روحية غير محجوبة، سلوك أخوي نحو الرفيق التلميذ، استعداد لإسداء النصح والإرشاد وتلقِّيهما، شعور مخلص بالواجب نحو المعلِّم، طاعة راغبة لفروض الحقيقة متى وضعنا ثقتنا في ذلك المعلِّم وآمنَّا أن الحقيقة في حوزته؛ احتمال شجاع للجور الذي يُنزَل بنا، جهر جسور بالمبادئ، استبسال في الدفاع عمَّن يُعتدى عليهم من غير حق، ووضع نصب العين دومًا مثال التقدم والكمال الإنسانيين الذي يصفه العلمُ السرَّاني [گُبتى–ڤِدْيا] – تلكم هي الدرجات الذهبية التي يجب على المتعلِّم أن يرقاها حتى هيكل الحكمة الإلهية. *** *** *** [1] كنا نفضل هنا اعتماد مصطلح گورو guru السنسكريتي الذي يعني "كاشح العتمة" على كلمة "معلِّم" الدارجة، لكننا في النهاية آثرنا عليهما مصطلح "شيخ" (جمعه "مشايخ") الذي استللناه من التصوف الإسلامي (ويقابله لقبُ geron اليوناني أو starets الروسي الذي يفيد المدلول نفسه في التصوف المسيحي الشرقي)، نظرًا لشيوعه ولإشارته إلى نموذج "الشيخ الحكيم" البدئي archetype، بحسب علم النفس التحليلي. فالمعلِّم قد يختص بأيِّ مجال كان – بالموسيقى أو الإلكترونيات، بالرياضة أو تاريخ الأديان؛ أما الشيخ الحقيقي، فهو فليس معلمًا لمواضيع "دنيوية" – على أهميته وأهميتها – بل هو إنسان عالي الكفاءة، ناضج الخبرة، ليس في الفنون أو المهن العادية، في الفلسفة أو سائر العلوم، بل في فن الحياة وعلومها. وهذان المجالان – مجال الفن ومجال العلم – وثيقا الارتباط على الصعيد الروحي، لأن المريد التواق لا "تنكشح العتمة" من أمام بصيرته، فيقدر على معرفة أسرار الحياة وروائعها، إلا حين يتقن "فن الحياة"، كما سيتبين. [2] أسماء هذه الحركات شتى وعناوينها أخاذة: فمن "مؤسسة الشرق الأوسط للذكاء الخلاق"، إلى "الإيزوتيريك"، إلى الـScientology، إلى "طريق الغبطة"، إلى "بيت النور"... فلنحلم! [3] نضرب مثالاً على هذا السلوك المعلِّم الهندي المشهور أوشو (1931-1990)، المعروف سابقًا بلقب بهگڤن شري راجنيش – وإن كنَّا لا نقصد هنا النيل من عظمة الرجل أو الانتقاص من الطاقة الروحية التي كانت تتسرب من خلال شخصه إلى تلامذته؛ ناهيكم أن كتاباته الذكية كانت، ومازالت، مصدر إلهام لطلاب كثيرين. [4] كما فعل، على حدِّ زعمه، السيد "ج.ب.م."، مؤسِّس "جمعية أصدقاء المعرفة البيضاء"، حيث التقى بـ"المعلمين الحكماء"! [5] عُرِفَ عن الحكيم الهندي راماكرشنا (1833-1886) أنه كان يلح على مريديه أن يمتحنوا صدقه وإخلاصه، حتى بعد أن يقبلوه شيخًا. فمن الأوهام الشائعة بين أتباع بعض المعلِّمين أن سلوك المعلِّم لا يخضع لمعايير السلوك البشرية السوية. غير أن الإنسان يبقى بشرًا، وإن استنار، إنسانًا صاحب شخصية غير معصومة، بملذوذاتها ومكروهاتها، بأخطائها وزلاتها – لا يُستثنى من ذلك إلا "الشيخ المتحقق" الكامل (sadguru في المأثور الهندي)، المكلَّف رسالةً إلهية. من هنا ضرورة التمييز بين الاستنارة "الطارئة" (وهي خبرة إنسانية شائعة نسبيًّا) وبين التحقق الكامل أو الانعتاق التام من الشرط البشري (نرجو أن يتاح لنا التوسعُ في هذه المسألة في مناسبة أخرى). [6] في المقابل، قد يخفق المعلِّمون الذين يسلكون سلوكًا تقليديًّا متعارفًا عليه، ويتساوق تعليمُهم مع المرجعيات الدينية النقلية، في إيقاد الشعلة الروحية في نفوس تلاميذهم. أما معلِّمو "الحكمة المجنونة" (والمعلم القفقاسي گ.إ. گورجييف، شأنه شأن معلِّمي الزِنْ، مثال ساطع على هؤلاء)، الذين لا يأبهون للأعراف والتقاليد أو لرأي عوام الناس فيهم والذين كثيرًا ما يبدو أسلوب تعليمهم لاعقلانيًّا وغير متوقَّع، فقد ينجحون من حيث يخفق "العقلاء"، فيقذفون تلاميذهم في حالات وعي عليا باعتمادهم "تكتيك الصدمة"، حيث لا يقوم أسلوبُهم على تسطير نهج روحي أو أسلوب حياة جاهزَين، بل على تحطيم محدودية الفكر الخطابي واختراق حجاب وهم "الأنيَّة" المنفصلة رأسًا. [7] يقول الصوفي القشيري في رسالته الشهيرة: "ولا ينبغي للمريد أن يعتقد العصمةَ في المشايخ، بل الواجب عليه أن يَذَرَهم وأحوالَهم، فيُحسِنَ الظنَّ بهم، ويراعي مع الله تعالى حدَّه فيما يتوجَّه إليه من الأمر والعلم، مما يكفي التفرقة بين ما هو محمود وما هو معلول." [8] نتذكر، في هذا الصدد، ما أخبرنا إياه أحدُ معارفنا من أتباع طريقة "آنندا مارگا" الهندية – وكان يشكو أن زوجته لا تتفهم ممارسته لليوگا! – من أن "مرشده" في الطريقة قال له إنه "محظوظ" لأن علاقته بزوجته سيئة، لأنها لو كانت طيبة لأقصتْه عن غايته الروحية! [9] يقول الحكيم الهندي رامانا مهارشي (1879-1950): "الگورو هو الذات... ذات حينٍ إبان حياته يمسي أحدُهم غير راضٍ بها؛ وإذ لا يكتفي بما لديه، يسعى إلى إشباع رغباته عبر الصلاة إلى الله، إلخ. يتطهَّر ذهنُه تدريجيًّا حتى يتشوق إلى معرفة الله، طلبًا لـنعمته أكثر منه لإشباع رغباته الدنيوية. إذ ذاك، تبدأ نعمةُ الله بالتجلِّي: يتخذ الله صورةَ گورو ويظهر للمريد، يعلِّمه الحقيقة، لا بل ويطهِّر ذهنَه بالتلازُم مع ذلك. بذا فإن ذهن المريد يكتسب قوةً ويتمكن عندئذٍ من التوجُّه نحو الباطن. وبالتأمل يتطهَّر أكثر ويبقى ساكنًا لا تعكِّر صفوَه أدنى مويجة. وهذا المدى الهادئ هو الذات. الگورو "خارجي" و"داخلي" في آنٍ معًا: من "الخارج" يعطي دفعًا للذهن كي يتوجه نحو الباطن؛ ومن "الداخل" يسحب الذهنَ نحو الذات ويعين على تهدئة الذهن." [10] كتب أحد المشايخ الكبار: "المريدون، انطلاقًا من فكرة مغلوطة عن منهاجنا، كثيرًا ما يجثمون منتظرين الأوامر، مضيِّعين على أنفسهم وقتًا ثمينًا كان بمستطاعهم استثمارُه في الجهد الشخصي." [11] يقول شري أوروبندو (1872-1950) في كتيِّبه لمحات وخواطر: "ساعِد البشر، لكنْ لا تحرمْهم طاقتَهم. أرشدْهم وعلِّمْهم، لكن احرصْ على سلامة مبادرتهم وأصالتهم. ضُمَّ الآخرين إليك، لكن أعطِهم لقاء ذلك ملء ألوهية طبيعتهم. مَن يقدر على ذلك هو المرشد والگورو." [12] للوقوف على بعض شروط "المريدية"، نحيل القارئ (مع شيء من التحفظ) إلى الرسالة القشيرية في علم التصوف، باب "الوصية للمريدين"؛ كما نحيله، إذا كان ملمًّا بالإنكليزية، إلى رسالة أجاب بها المريدُ دامودَر ك. مڤالنكَر أحدَ الطلاب ممَّن استعلموه عن هذه الشروط (المقتطفات الواردة في النص مستقاة من هذه الرسالة): Damodar and the Pioneers of the Theosophical Movement, compiled by Sven Eek, Adyar, TPH, 1965, pp. 303-306. [13] يشدد أستاذنا ندره اليازجي على ضرورة توازُن الشخصية وتكامُلها قبل الشروع في أيِّ عمل على النفس. [14] من هنا قول الصوفية إن المريد "مراد" قبل أن يصير "مريدًا". يقول الكلاباذي في كتاب التعرف: "المريد مراد في الحقيقة، والمراد مريد، لأن المريد لله تعالى لا يريد إلا بإرادة من الله عزَّ وجلَّ تقدَّمتْ له." [15] مثلما أن العازف الواعد يتعلم في الغالب على عدة مدرسين قبل أن يحضر دروس المايسترو!
|
|
|