|
المـلاك السـاقط
في أغلب ساحات مدن العالم الكبرى وأماكنها العامة، تنتصب النصبُ والتماثيلُ التذكاريةُ ممجِّدةً الشخصياتِ التاريخيةَ أو الفاعلةَ في الحياة من المشاهير. تفخر هذه المدنُ بأعلامها، تمجِّدهم وتكرِّمهم، ويتبارى الفنانون في عمل النصب في مختلف المواضيع. لكن العاصمة الإسبانية التي تعج، كشقيقاتها الأوروبيات، بآلاف النصب تفاخر غيرها بأنها تحتضن تمثالاً فريدًا من نوعه، قد لا يُدهش مظهرُه والاسمُ الذي يُطلَق عليه الناظرَ إليه نظرةً عابرة، إلا أنه تمثال رائع الجمال من الناحية الفنية. فالناظر إليه عن كثب ومعرفة يكتشف أنه نصب تذكاري يمثل الشيطان، – إبليس Lucifer نفسه، رأس الشياطين وأول الخارجين من نعيم الجنة مطرودًا، ملعونًا إلى يوم الدين، – وليس قديسًا أو ملاكًا! فلقد قرَّر الفنان ريكاردو بِلڤِر (1845-1924) – وهو نحات إسباني درس الفن في "أكاديمية سان فرناندو الملكية" وتابع تحصيله في روما – أن يخرق المألوف والتقاليد. فبعد أن أُعجِبَ أشد الإعجاب بقصيدة الفردوس المفقود الملحمية للشاعر الإنكليزي جون مِلتون (1608-1674) التي يصف فيها طرد الشيطان من السماء لعصيانه إرادة الله بسبب كبريائه، عكف على نحت تمثال يصور هذا السقوط المفاجئ والمؤثر، حتى انتهى منه سنة 1877.
لم يصور بِلڤِر شخصية إبليس مخلوقًا وحشيًّا ذا قرنين وذنَب، كما تصوِّره الرسومُ التقليديةُ للشيطان، ولا قبيحًا مخيفًا، كما تروي الحكاياتُ الشعبية، بل تصوَّر رئيس الشياطين، وقت طرده من السماء وسقوطه، ملاكًا جميلاً بجناحين، تلتف على ساقيه وتقيِّد ساعدَه الأيمن أفاعٍ، يجلس على جذع شجرة مقطوع، ويرفع يده اليسرى فوق حاجبيه ناظرًا إلى الأفق البعيد نظرةَ تأمل صارخة، كمن أدرك الأبعاد الكونية لمعصيته، وأسماه "الملاك الساقط" El Ángel Caído.
ما إن رأى سكان مدريد هذا التمثال حتى صدمتْهم فكرةُ نصب تمثال للشيطان في مدينتهم – وإسبانيا بلد كاثوليكي! إلا أن الحكومة الإسبانية آنذاك تجاهلت "الرأي العام" وموَّلت المشروع، وحاز التمثال على جائزتين للتقدير الفني، إحداهما الجائزة الأولى في "معرض الفنون الجميلة الوطني" في مدريد سنة 1878، والأخرى في "المعرض العالمي" في باريس في السنة نفسها، حيث عُرِضت خصيصًا نسخةٌ برونزيةٌ منه. بذا انتصر الفن على التقاليد وقتذاك. وقد قرر متحف الپرادو الشهير منح التمثال البرونزي المميَّز لبلدية مدريد، التي قامت بنقله سنة 1885 إلى متنزَّه ريتيرو، وهو أهم الحدائق المشهورة في مدريد التي يرتادها ملايين الزوار كلَّ عام. وقليلون بين هؤلاء مَن ترتسم على وجوههم أماراتُ الاستياء أمام هذا التمثال. تقول الكاتبة ماريا إيزابيل كيا في كتابها غرائب مدريد ونوادرها: ينبغي لمدريد أن تفخر بأنها المدينة الوحيدة في العالم التي خصَّصتْ نصبًا تذكاريًّا لإبليس نفسه! *** *** ***
[*] كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.
|
|
|