|
في
البدء كان التَّسليم بالاختلاف والرأي
الآخر عند
الحديث عن مفهوم "التعددية"، مجردةً من
لواحقها، من تعددية سياسية أو مذهبية أو
ثقافية، تقفز إلى سطح المفهوم مفاهيم أخرى
ملازمة لِلَفظ "التعددية"، من قبيل "التنوع"
و"الاختلاف"، وهي مفردات تحمل معاني
مشابهة لمفهوم التعددية في مظاهر الحياة
الدنيا كلِّها. ولذلك فإن الحديث عن
الاختلاف والتنوع يقترب كثيرًا من الحديث عن
التعددية، إن لم تكن هذه المفردات هي بعينها
مفهوم التعددية أو من مشتقاتها أو
مترادفاتها. فـ"النوع"، كما يقول
الحنفي (ت. 1205 هـ): كل
ضرب من الشيء وكل صنف من كلِّ شيء، كالثياب
والثمار وغير ذلك؛ حتى الكلأ، قاله الليث [بن
سعد بن عبد الرحمن، 94-175 هـ]، وفي بعض النسخ،
حتى الكلام [...].
وتنوَّع الشيء صار أنواعًا.[1] أما
"العدد" فهو: الكمية
المتألِّفة من الوحدات، فيختص بالمتعدد في
ذاته. وعلى هذا، فالواحد ليس بعدد لأنه غير
متعدد؛ إذ التعدد الكثرة. وقال النحاة:
الواحد من العدد لأنه الأصل المبني منه،
ويبعد أن يكون أصل الشيء ليس منه ولأنه له
كمية في نفسه. فإذا قيل: "كم عندك؟" صحَّ
أن يقال في الجواب: "واحد"، كما يقال
ثلاثة وغيرها.[2] نلاحظ
من خلال التعريفين أنه يصح أن يقال لمجموعة
معينة إنها "متعددة" أو "متنوعة".
فالتنوع يرادف التعدد، وكلاهما يرادف
الاختلاف، من حيث إن الاختلاف يقتضي التعدد
في الشيء أو الفكرة، لكون الاختلاف ضد
الاتفاق. فإذا اتفق الشيء مع الشيء في
الخصوصيات كلِّها، لا يقال حينئذٍ إنهما
متعددان أو متنوعان (فإضافة التفاح الأحمر
إلى التفاح الأحمر لا يصيِّر التفاحَ
متعددًا ومتنوعًا)؛ فالإضافة لم تغيِّر من
الأمر شيئًا. يقول الحنفي: واختلف
ضد اتفق – ومنه الحديث: "سووا صفوفكم ولا
تختلفوا فتختلف قلوبكم"؛ أي إذا تقدَّم
بعضهم على بعض في الصفوف تأثرتْ قلوبُهم
ونشأ بينهم اختلاف في الألفة والمودة. وقيل:
أراد بها تحويلها إلى الإدبار؛ وقيل: تغيُّر
صورتها إلى صورة أخرى. والاسم منه الخلفة.[3] أو
كما يقول البستاني (1819-1883): الاختلاف
ضد الاتفاق؛ وقال بعضهم: الاختلاف يُستعمَل
في قول بُنِيَ على دليل، والخلاف في ما لا
دليل عليه.[4] نلاحظ
في هذه المصطلحات، إذن، وقوع الترادف في
ألفاظها والاتفاق في مرادها. على أن علماء
اللغة يستخدمون مفردة "الترادف" في
الكلمات من باب التجاوز؛ وإلا فإن لكلِّ
كلمة معناها الخاص بها، وإن تشابهتْ مع
رديفتها. فعلى سبيل المثال، فإن للأسد
الكثير من المترادفات، لكن لكلِّ كلمة معنى
خاصًّا بهذا الحيوان ينطلق من وضعيته
وحالاته المختلفة عندما يكون غَضِبًا أو
مَرِحًا أو جائعًا أو شبعًا. فـ"عباس"
من مترادفات كلمة أسد، لكنها تُطلَقُ عليه
عندما يكون غضبانًا؛ وتُطلَق عليه كلمة "سَبُع"
عندما يكون في حالة افتراس لغنيمته[5]. هذا
المعنى يقرِّبنا من مفاهيم "التعددية"
و"التنوع" و"الاختلاف" و"الشاكلة"
التي وردت في قوله تعالى: "قل كل يعمل على
شاكلته" (الإسراء 84). من هنا فإن بعضهم ذهب
إلى أن التعددية، في جوهرها، هي التسليم
بالاختلاف: التسليم
به واقعًا لا يسع عاقلاً إنكارُه، والتسليم
به حقًّا للمختلفين لا يملك أحدٌ أو سلطةٌ
حرمانه منه. وهي توصف بالموضوع الذي يكون
الاختلاف حوله، أو الذي ينحصر في نطاقه،
فتكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية
أو لغوية أو غير ذلك.[6] والمعنى
نفسه ذهب إليه الباحثُ الإسلامي السعودي
الميلاد في البحث عن جوهر التعددية التي أكد
فيها أنها: إقرار
بالحرية والاختلاف والتعايش السلمي في إطار
الحرية والاختلاف والتنوع من غير ضرر ولا
ضرار.[7] على
أن التعددية، كما تقول د. البزري: هي
واحدة من المفردات السياسية–الاجتماعية
الحداثية بامتياز، تصف حالةً من الحالات
الفضلى التي تحلم الديموقراطية ببلوغها.
والتعددية حديثة أيضًا، بمعنى أنها مصدر
للاختلاف، بكافة أوجهه.[8] بالطبع
فإن البزري – وهي تتحدث عن التعددية
السياسية والحزبية التي وجدتْ لها تطبيقاتٍ
حديثةً في بعض البلدان العربية والإسلامية،
قال فيها بعضهم إنها مستوحاة من الثقافة
الغربية – إنما تتحدث عن الاختلاف في جانبه
الإيجابي الذي تقتضيه النفسيات والأمزجة
والبرامج الحزبية لكلِّ تيار أو مدرسة حزبية.
وإلا فإن الاختلاف الذي فيه تشرذُم المجتمع
والأمة مرفوض، عقلاً وشرعًا وعرفًا. فليس من
الاختلاف والتنوع المقبول أن يسير كل إنسان
في اتجاه مخالف للآخر سعيًا لإلغائه أو محوه
من الطريق. نعم، قد تصدر عن المرء تصرفاتٌ
وأقوالٌ توحي بأنها عملية ضدية في مقابل
الغير أو الآخر؛ ولكن إذا بقيت الأمورُ في
حدود الخلاف المقبول، فإن العملية برمتها
تتناغم مع الاختلاف المحمود المفضي إلى
التكامل والتطور. فالاختلاف والمخالفة،
كما يقول د. العلواني: أن
ينهج كل شخص طريقًا مغايرًا للآخر في حاله أو
قوله. والخلاف أعم من الضد، لأن كلَّ ضدين
مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين. ولما كان
الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى
التنازع، استُعير ذلك للمنازعة والمجادلة.
قال تعالى: "فاختلف الأحزاب من بينهم" (مريم
37)؛ "ولا يزالون مختلفين" (هود 118)؛
"إنكم لفي قول مختلف" (الذاريات 8)؛
"إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما
كانوا فيه يختلفون" (يونس 93). وعلى هذا،
يمكن القول بأن الخلاف والاختلاف يُراد به
مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة
أو الهيئة أو الموقف.[9] وحتى
لا نقع في الخلط المعرفي بين مشترك مفاهيم
"الاختلاف" و"الخلاف" و"التعدد"
و"التنوع" وبين مفهوم "علم الخلاف"
المتداوَل لدى أصحاب الفقه والأصول على وجه
التحديد، فإن: ما
يُعرَف لدى أهل الاختصاص بـ"علم الخلاف"
فهو علم يمكِّن من حفظ الأشياء التي
استنبطها إمامٌ من الأئمة وهدم ما خالفها،
دون الاستناد إلى دليل مخصوص؛ إذ لو استند
إلى الدليل واستدلَّ به لأصبح مجتهدًا
وأصوليًّا. والمفروض في الخلافي ألا يكون
باحثًا عن أحوال أدلَّة الفقه، بل حسبه أن
يكون متمسكًا بقول إمامه لوجود مقتضيات
الحكم – إجمالاً – عند إمامه، كما يظن هو؛
وهذا يكفي عنده لإثبات الحكم. كما يكون قولُ
إمامه حجةً لديه لنفي الحكم المخالف لما
توصَّل إليه إمامُه كذلك.[10] وبتعبير
آخر، هو: علم
يُقتدَر به على حفظ الأحكام الفرعية
المختلَف فيها بين الأئمة أو هدمها بتقرير
الحجج الشرعية وقوادح الأدلة. والخلافي إما
مجيب يحفظ وضعًا شرعيًّا أو سائل يهدم ذلك.[11] وحقيقة
الأمر أن "التعددية"، كما يصفها الكاتب
والمحقق المصري د. محمد عمارة، هي عبارة عن: تنوُّع
مؤسَّس على تميُّز وخصوصية. ولذلك، فهي لا
يمكن أن توجد وتتأتى – بل ولا حتى تُتصوَّر
– إلا في مقابلة – وبالمقارنة – مع الوحدة
والجامع. ولذلك لا يمكن إطلاقُها على
التشرذم والقطيعة التي لا جامع لآحادها، ولا
على التمزق الذي انعدمت العلاقةُ بين وحداته؛
وأيضًا لا يمكن إطلاق التعددية على الواحدية
التي لا أجزاء لها، أو المقهورة أجزاؤها على
التخلِّي عن المميزات والخصوصيات، على
الأقل عندما يكون الحكمُ على عالم الفعل، لا
على عالم الإمكان والقوة. فأفراد العائلة:
تعدد في إطار العائلة؛ وفي مقابلتها الذكر
والأنثى: تعدد في إطار وحدة النفس الإنسانية؛
والشعوب والقبائل: تعدد في جنس الإنسان. فمن
دون الوحدة الجامعة، لا يُتصوَّر تنوعٌ
وخصوصية، ومن ثم تعددية – والعكس صحيح.[12] وهذا
الفهم قائم على واقع وتجربة نعيشها يوميًّا
ونعايشها: فالوحدة الجامعة مركَّبة من وحدات
صغيرة؛ ولكلِّ وحدة خصوصيتُها. فالوحدة مطمح،
لكنها لا تلغي الخصوصية. ويقترب الباحث
السوري د. عضيمة من هذا المعنى الذي أشار
إليه عمارة، ولكنه يصوغ فهمَه للتعددية
والاختلاف بصورة أخرى؛ فهو يؤكد أن ما جاء في
تعريف د. عمارة للتعددية من أنها: [...]
"تنوُّع مؤسَّس على تميُّز وخصوصية" هو
عينه الذي أقوله، وإن أردت له أن يأتي بصيغة
أخرى. فأنا أقول إنها: اختلاف في الاجتهاد،
واجتهاد في الاختلاف.[13] أعتقد
أن هذا الفهم للتعددية الذي يقول به عضيمة
جدير بالاهتمام: فالاجتهاد لا شك أنه يفضي –
شئنا أم أبينا – إلى اختلاف في الفهم
الخارجي للموضوع، ولكنه لا ينبغي أن يكون
مدعاةً للتفرق. والاجتهاد، من جانب آخر، هو
مدعاة لسدِّ الفجوات في مناطق الاختلاف،
لأنه كلما اجتهد المرءُ في مسألة ما، أمكنه
نيل الصواب من خلال تسليط الأضواء على
المسألة ومعاينة مواطن الخلل والاختلاف غير
المرغوب فيه. ومما
لا يختلف عليه اثنان أن "التعددية"، في
مفهومها العام، تقتضي تقبُّل رأي الغير،
مهما كانت الثقة في الذات. ويستشهد الأستاذ
الجامعي المصري د. عثمان بمقولة اشتهرت عن
الإمام الشافعي محمد بن إدريس (767-820) مُفادها:
"رأيُنا صواب محتمل الخطأ، ورأيُ غيرنا
خطأ محتمل الصواب"، ليؤكد أن: هذه
التعددية تتقبل الرأي الآخر كحقيقة، بحكم
الطبيعة الإنسانية والأحكام الشرعية، وتحمي
حقَّه في عرض حجَّته، كما تمارس حقَّها في
الاعتراض عليه.[14] فالتعددية
إذن تعني، فيما تعني، الاعترافَ بوجود آخرين
وأحزاب أخرى واحترام حقوق الجميع والتعاون
مع الجميع في سبيل تقدم الجميع[15].
ومن المسلَّم به أن الإسلام لا يريد التفرق
أو التحزب (المذموم)، وإنما يحث على التنافس
نحو الخير: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"
(المطففين 26). وأما مسألة الأخوَّة التي
طبَّقها الإسلام في عهد الرسول محمد (ص) (عام
الفيل – 11 هـ) مرتين للتكاتف ضمن مجتمع متعدد
الاتجاهات وطبقي (كالمهاجرين والأنصار من
جهة، والغني والفقير من جهة، والرفيع
والوضيع من جهة، والأبيض والأسود والعربي
والعجمي، إلخ)، فيدل على أن كلَّ ما من شأنه
التفرق والتحزب مذموم مرفوض. فلا بدَّ من أن
لا تؤدي نتائج التكتلات إلى التفرقة والصراع،
ولكن اختلافهم في فهم واقع الحياة وأسلوب
التطبيق، وحتى مسألة فهم النصوص التي لم
يَنْهَ الرسول (ص) عنها في حياته عندما
اختلفوا في الأمر الذي أوصاهم به في خصوص
صلاة سفرهم إلى بني قريظة، فهذا مما يحبذه
الإسلام لأن فيه سعادتهم. ومن هنا جاء بعض
التفسيرات لقوله (ص): "اختلاف أمتي رحمة."[16] فالخلاف
إنما هو للوصول إلى الأفضل، وليس للخلاف ولا
للتفرقة والضعف: "وأطيعوا الله ورسوله ولا
تَنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن
الله مع الصابرين" (الأنفال 46)؛ "واعتصموا
بحبل الله جميعًا ولا تَفرقوا" (آل عمران
103)، حتى لا يكون المجتمع شيعًا تستضعف
الطائفةُ الطائفةَ الأخرى[17].
فطاعة المسلم لرسوله أو إمامه أو قائده أو
مسؤوله ليست مدعاةً لأن يلغي أو يجمِّد عقله
في التفكير والاجتهاد فيما لا نص فيه.
فالقائد الناجح هو الذي يضم تحت جناحيه
أناسًا يفكرون معه، لا أن يكون تفكير القائد
بديلاً عن تفكيرهم، فيكونون حينئذ عبئًا
كبيرًا عليه. فإذا كانت بطانة القائد بطانةً
تفكِّر وتعقل، وإن اختلفت في الفهم، فإن
النجاح سيكون من نصيب الناس الذين يقعون تحت
حكم قائد تختلف بطانتُه من أجل إصابة كبد
الحقيقة وبلوغ الصواب. ***
*** *** الرأي
الآخر للدراسات، لندن [1]
محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي
الحنفي، تاج العروس من جواهر القاموس (بيروت،
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع)، ج 5: ص
533. [2]
المصدر السابق، ص 416. [3]
المصدر السابق، ص 103. [4]
بطرس البستاني، محيط المحيط (بيروت،
مكتبة لبنان، 1977)، ص 350. [5]
للمزيد في باب "الترادف"، راجع: السيد
محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول،
الحلقة 1 و2 (بيروت، دار التعارف للمطبوعات،
1989)، ص 397 وما بعدها. [6]
محمد سليم العوا، "التعددية السياسية من
منظور إسلامي"، مجلة منبر الحوار (بيروت،
دار الكوثر، السنة 6، العدد 20، 1991)، ص 129. [7]
زكي الميلاد، "التعددية الحزبية في
الفكر الإسلامي: التأصيل، الأنماط، التحول"،
مجلة الكلمة (بيروت، منتدى الكلمة
للدراسات والأبحاث، السنة 1، العدد 2، 1994)، ص
25. [8]
دلال البزري، "مداخلات وتعقيبات"،
نشرة إسلام 21 (لندن، المنبر الدولي
للحوار الإسلامي، العدد 24، 2000)، ص 14. [9]
طه جابر فياض العلواني، أدب الاختلاف في
الإسلام (قطر، رئاسة المحاكم الشرعية
والشؤون الدينية، طب 2: 1406 هـ)، ص 23. [10]
المصدر السابق، ص 24. [11]
السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة
للفقه المقارن (بيروت، دار الأندلس
للطباعة والنشر والتوزيع)، ص 13. [12]
محمد عمارة، "التعددية: الرؤية
الإسلامية والتحديات الغربية"، فصلية
الجامعة الإسلامية (لندن، الجامعة
العالمية للعلوم الإسلامية، السنة 1، العدد
2، 1994)، ص 67-68. [13]
صالح عضيمة، "التعددية بين الرؤية
والواقع: نقد وتصويب"، فصلية الجامعة
الإسلامية (لندن، الجامعة العالمية
للعلوم الإسلامية، السنة 2، العدد 7، 1995)، ص
272. [14]
محمد فتحي عثمان، من مقدمة لكتاب الشيخ حسن
الصفار التعددية والحرية في الإسلام (بيروت،
دار المنهل، طب 2: 1996)، ص 31. [15]
انظر: السيد محمد الشيرازي، حياتنا قبل
نصف قرن (بيروت، مركز الرسول الأعظم (ص)
للتحقيق والنشر، طب 1: 1998)، ص 143. [16]
عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي، أنوار
التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي)،
بتحقيق عبد القادر عرفات العشا حسونة (بيروت،
دار الفكر، 1996)، ج 2: ص 76. [17]
انظر: د. نسيم الرضوي، "تصورات أولية في
مشروعية الأحزاب في الإسلام"، مجلة الرأي
الآخر (لندن، مركز التثقيف الإسلامي،
السنة 4، العدد 47، 2000)، ص17.
|
|
|