الغريزة والأخلاق

 

پيوتر ي. غالپيرين[1]

 

الحيوانات ليست مسئولةً عن سلوكها

في الآلية المركزية للسلوك الغريزي تشارك دائمًا ثلاثُ حلقات:

1.     الحاجة العضوية؛

2.     السلوك النوعي specific تجاه الأغراض (مصادر التنبيه)؛ و

3.     الجزء الفعال (المنفِّذ) من السلوك، أي الفعل الحركي العضوي، الداخلي والنفسي.

إن دور هذه المكونات وقيمتها في توصيف السلوك الغريزي مختلفان إلى أبعد الحدود. فالحاجة العضوية تُعتبَر المنبع الأول والأساسي لنشاط الحيوان، لكنها ليست هي التي تضفي على السلوك صفتَه الغريزية النوعية، حيث إن الحاجة إلى الغذاء وتحريض الحصول عليه لدى الإنسان وكثير من الحيوانات متشابهان جدًّا على العموم؛ لكن السلوك الغذائي للحيوانات والإنسان مختلفان إلى حدٍّ بعيد: هو لدى الحيوانات كافة سلوك غريزي، لكنه ليس غريزيًّا عند الإنسان.

الجزء الفعال من السلوك قد يكون فطريًّا، وقد يكون مكتسبًا، وقد يكون فطريًّا في جانب منه ومكتسبًا في جانب آخر (وخصوصًا إنْ ظهرت الغريزة لدى الحيوان في سنِّ البلوغ). وقد تكون الغريزة نمطية stereotypical ونوعية و«عمياء» (بحسب ظروف الفعل)، أو يتم ابتداعُها تبعًا لهذه الظروف، بل قد تبدو أحيانًا «حلاً ذكيًّا للمسائل» حتى. لكنْ دائمًا، وبغضِّ النظر عن هذه الفوارق في سلوك الحيوانات، يبقى أثرٌ غير مرئي للغرائزية: هو تعيُّن التصرف المحتم مسبقًا، من خلال الوراثة، تجاه أغراض معينة. وهذا الأثر يفرُض توافُق تلك الظروف – وفقط تلك الظروف – ليُملى على الحيوان تأثيرُ التصرف النوعي والمنبِّه المُلزِم في صيغةٍ آمرة، أو في عبارة أخرى، ليُملى عليه اتخاذُ مسلك محدد تجاه غرض محدد من الوسط الخارجي. وهذا، تحديدًا، ما يضفي على سلوك الحيوان صفةً غريزيةً نوعية، أي:

1.     التبعية المباشرة لقوى الطبيعة: إثارة التحريض من الوسط الخارجي؛ و

2.     التعيُّن المباشر والطبيعي تجاه تأثيراتها الحيوية.

إن تأثير قوى الطبيعة هذا يحكم على الحيوان – كما يمكن أن يُقال – بنهج سلوك محدد؛ والحيوان عاجز عن نهج سلوك مغاير، كعجزه عن أن يكون كائنًا مختلفًا عمَّا هو عليه. أما فيما يخص العلاقة مع الغرض – حامل المنبِّه المُلزِم – فيبدو السلوك الغريزي إجباريًّا، وتقييمه من المنظور الأخلاقي أو القانوني يشبه استحسانَ القوى الآلية (الميكانيكية) المحايدة على وجهتها أو لومَها عليها. لذا ففي المجتمعات المتمدنة بما يكفي لأخذ هذه القرينة بعين الاعتبار، تُعتبَر الحيوانات غير مسئولة عن تصرفاتها. كما أن الحيوانات غير مسئولة عن الامتناع عن الالتزام بمسلكها (ربما في اللحظة غير المناسبة من وجهة نظر الإنسان) بسبب انتفاء الحاجة أو توقُّف تأثير المنبِّه المُلزِم. أن يُطلَب من الحيوان أن يتصرف في استقلالية عن التفاعل المباشر – أي عن الاحتياج الحيوي والمنبِّه المُلزِم – يعني أن يُطلَب منه الارتقاء فوق مستوى الطبيعة المشحونة فيه «بذكاء».

لذا ليس أمرًا مشروعًا كذلك تقييم السلوك الغريزي على أنه سلوك غيري altruistic أو أناني egoistic. فتقييم كهذا يستلزم من الحيوان، من وجهة النظر المجتمعية، إجراء مقارنة بين مصالحه ومصالح الآخرين، وبنتيجة ذلك، يتم تفضيل هذه أو تلك. لكن لا وجود لهذه المقارنة لديه: فهو يتصرف فقط تحت ضغط المؤثِّرات التي يختبرها، بغضِّ النظر عن المستفيد من نتائج هذا السلوك. فالدجاجة التي تحمي فراخها من الغراب أو الباشق في نكران ذات لا تضحِّي بمصالحها في سبيل مصالح الفراخ على الإطلاق، وإنما تخضع فحسب لتأثير المنبِّه المُلزِم الذي يحثها على ردِّ الفعل الدفاعي الحتمي. فإن تمَّتْ إزالةُ هذا المنبِّه المُلزِم، كما جرى في تجربة معروفة (حيث تمَّت تغطية الفرخ بغطاء زجاجي عازل للصوت)، فإن الدجاجة، وهي ترى محاولات الفرخ اليائسة للخروج من هذا الفخِّ الشفاف، ظلَّت غير مبالية ولم تحاول تقديم المساعدة له. وبالتالي، فإن الحيوان لا يستجيب لمصيبة الآخر، وإنما للمنبِّه الذي يشعر بتأثيره. فإنْ وُجِدَ إنسانٌ محمَّل بالدوافع التي زرعها فيه المجتمعُ في وضع مماثل، فإن صراعه في سبيل الآخر، بل حتى تعريض نفسه للخطر، يجب بالفعل تقييمه على أنه سلوك غيري.

نشأة الإنسان Anthropogenesis حرمتْنا من الغرائز

لا يتم تقييمُ السلوك على أنه غيري أو أناني بموجب نتائجه، بل قبل أيِّ شيء آخر بموجب أسُسه الأخلاقية؛ وهذا يشترط توفُّر حق الاختيار بينهما. هذا «الحق» غير متوفر للحيوان؛ والتقييم المتعلق بسلوكه هو أنه تأنيسية Anthropomorphism [إضفاء الصفات الإنسانية على غير الإنسان] نمطية. أما الطفل فيكتسب إمكانية هذا الاختيار في مرحلة مبكرة جدًّا، ضمن حدود ضيقة في البداية، ومن بعدُ في مجال التعامل مع الآخرين الذي يزداد اتساعًا. وفقط بعد أن تمتد هذه الإمكانية إلى مجال العلاقات الإنسانية الأساسية، يحصل على حقِّ المُواطَنة والمسؤولية، الذي يعني الاعتراف بحريته في اختيار سلوكه، أي التحرر من تلك الحتمية القاسية التي يُحبَس فيها السلوكُ الغريزي، أبدًا و«حتى الموت».

إنْ كان تقييم السلوك الغريزي على أنه غَيري أو أناني يشير إلى تأنيسية ساذجة، فإن نَسْب سلوك الإنسان إلى غرائز "سيئة" أو "جيدة" يشير إلى حالة فريدة عن طَبْع مكبوح بيولوجيًّا لظاهرة عامة (طبيعية) للجسم البشري.

يتطلب العيش في المجتمع البشري من أعضائه كلِّهم ألا يحسبوا حساب الخواص الطبيعية للأشياء والبشر فحسب، بل وقيمتها الاجتماعية أيضًا، وكذلك الأساليب والأشكال العامة للسلوك. فمما يميِّز الحيوانَ الذي يشعر بالحاجة تصرفٌ غريزي مباشر تجاه أغراض الوسط الخارجي، بما في ذلك أعضاء جماعته، مما لا يشبه تصرف الإنسان تجاه حاجاته، حيث إن سلوك الإنسان مشروط بالشروط الاجتماعية العامة. وضمن الحدود التي جرى فيها تأنسُن humanization الأسلاف الحيوانية للإنسان، كان لا بدَّ من كبح سلوكياتهم الغريزية تجاه الوسط الخارجي، وتجاه بعضهم بعضًا كذلك؛ حيث إن الانتقال إلى النشاط الجماعي للحصول على وسائل العيش وإلى الانسجام الاجتماعي والدفاع المشترك ضد الأعداء – أي إلى أشكال من النشاط تقوم على العلاقات الاجتماعية، لا البيولوجية – هو الذي أصبح الشرط الأساسي للعيش واستمرار النوع. وفقط أولئك الذين نجحوا نجاحًا أفضل في هذا الكبح من أسلاف الإنسان تمكنوا من احتمال ضغط الاصطفاء الطبيعي natural selection، الأمر الذي أدى إلى ضمور الغرائز في نهاية المطاف.

ولم يكمن تغيُّر الجسم، في مجرى نشأة الإنسان، في اكتساب صفات جديدة فحسب، بل كذلك في ضمور تلك الصفات الحيوانية التي كانت تعيق تشكُّل السلوكيات الجديدة التي تخص الإنسان. وبطبيعة الحال، تعلق هذا الأمر أكثر بأعضاء الجسم وأجهزته التي يتعلق عملُها بالسلوك تعلقًا مباشرًا. لذا فإن إحدى أهم نتائج نشأة الإنسان كانت إزالة الحلقة التي كانت تضفي على السلوك سمةً غريزيةً محددةً بيولوجيًّا مسبقًا من الآلية المركزية للسلوك. وهذا التحول شمل بعد ذلك مجالاتِ الحياة تلك التي أخذ المجتمعُ المتطورُ مهمةَ ضمانها وتوجيهها على عاتقه.

لدى تصوُّر الآلية المركزية للسلوك الغريزي، يمكن لنا كذلك تحديد السمات العامة لهذا الكبح المنظَّم للغرائز. ففي مرحلة تشكُّل المجتمعات، تمَّت تربيةُ الجيل الناشئ على سلوكيات محددة تجاه أغراض معينة من الوسط الخارجي؛ وعندما كانت تغدو الحاجةُ إليها حيويةً، تبدأ هذه الأغراض بإثارة الانفعالات الغريزية التي كان يتم كبحُها كبحًا صارمًا ويُعاقَب عليها بقسوة. ونتيجةً لذلك، غدت هذه الأغراض–المنبِّهات الكوابحَ الأقوى للحساسية النوعية التي كان لها تأثير المنبِّه المُلزِم من قبل. أدى الكبح المنظَّم لها، من جهة، والإشباع المنظَّم لحاجاتها ضمن النسق الاجتماعي القائم، من جهة أخرى، إلى إرهاق كبير لهذه الحلقة؛ حيث إن قوانين الاصطفاء الطبيعي، في أثناء نشأة الإنسان، كانت ساريةَ المفعول، مما أبقى الأفراد والجماعات – الذين ورثوا الحساسية النوعية وراثةً أضعف، فتم كبحُها في سهولة، واختزنوا الأشكال الجديدة للمشاركة اللاغريزية (والعلاقات الثانوية المتنوعة التي بُنِيَتْ عليها) اختزانًا أنجح – على قيد الحياة في صورة أكثر توفيقًا. وكان هذا وحده كافيًا للتحرر من الغريزة وترسيخ نمط الحياة الاجتماعي–التاريخي الجديد.

لم يكن ممكنًا لسيرورة نشأة الإنسان أن تنتهي قبل إلغاء السلوكيات الغريزية، تجاه الوسط الخارجي وبين أعضاء الجماعة، من مجالات الحياة المضبوطة اجتماعيًّا كافة. وهناك أسباب كثيرة لافتراض أن التطور القاهر للعلاقات الاجتماعية بالذات (إبان الانتقال من العصر الپاليوليثي [الحجري القديم] الأوسط إلى الأعلى) قد مهد الطريق لما يُسمَّى بـالقفزة الثانية لسيرورة نشأة الإنسان: «قفزة» بمعنى أنه، إبان مدة زمنية قصيرة نسبيًّا (بضع عشرات من الألفيات، مقارنةً بمئات الآلاف، وربما الملايين، من السنين للتطور السابق)، ومع حدوث تغيُّر كبير نسبيًّا في أدوات العمل، جرتْ تحولاتٌ واسعةٌ وعميقةٌ في تنظيم المجتمع، وكذلك في المظهر الجسماني للبشر القدماء. وإلى ذلك الزمن بالضبط يعود التطورُ الثقافي الكبير (الفنون، الديانات السحرية، طقوس العبادة) والتشكل النهائي للنموذج الجسماني للإنسان الحديث المدعو إنسان العصر الحجري Cro-Magnon.

البيولوجي والعضوي

وهكذا فإن أهم مزية من مزايا الإنسان الحديث – باعتباره نوعًا بيولوجيًّا متميزًا بالذات – هي انعدام السلوك الغريزي، الكامن بقوة في بنية الجسم وراثيًّا، تجاه أغراض معينة من الوسط الخارجي. الحاجات العضوية الأساسية بقيت بطبيعة الحال. لكن كما أن الهدروجين والأكسجين الناتجان عن تفكك جزيء الماء لا يعودان يُعَدَّان أجزاء من الماء، ولا من بقاياه، ويتمتعان بخواص مختلفة عن خواص الماء، بل حتى مناقضة لها، كذلك الحاجات المتحررة من الحساسية النوعية لم تعد تُعتبَر من بقايا الغرائز أو من أجزائها: فهي لم تعد مرتبطة – وفق التجارب كلها! – بمنبِّهات مُلزِمة محددة من الوسط الخارجي، وخاصةً الألفة الشحيحة والثبات الراسخ تجاه الأغراض التي تحقق لها إشباعًا أوليًّا، ولم تعد تتعلق بها، بل تُبدي سماتٍ جديدة. وبما أن إشباع حاجات الإنسان بات يتم ضمن شروطٍ اجتماعية، فإن الحاجات العضوية لدى البشر غدت حاجات عامة. وبالشكل الذي يتم التمتع بها، لا تعود متطلباتٍ بيولوجية–حيوانية، بل عضويةٌ (لكن بشرية) فحسب.

ولا بدَّ من الحديث عن مدى أهمية التمييز بين هذه المكونات المتشابهة من حيث المظهر الخارجي، لكن المختلفة جدًّا من حيث الجوهر. ولتعزيز هذا التمييز، يجب التعريف بها بمصطلحاتٍ مختلفة بشكل ملائم، وتسمية الحاجات البيولوجية بأنها التي يمكن تحديد نمط حياة وسلوك العضوية organism مسبقًا وفق بنيتها المحددة؛ أما الحاجات العضوية فهي التي تلائم بنية الجسم كذلك، لكن في تكوين مختلف، لا يقدِّر نمط الحياة أو السلوك مسبقًا. وتبعًا لهذا:

1.     ترتبط الحاجات العضوية، وراثيًّا، بآلية السلوك النوعي تجاه الوسط الخارجي، وتحدد بذلك نمط الحياة مسبقًا، فتُعتبَر حاجاتٍ بيولوجية بالمعنى الضيق للكلمة.

2.     تلك الحاجات العضوية ذاتها لا تتعلق بآلية السلوك النوعي تجاه الوسط الخارجي، ولا تحدد نمط الحياة مسبقًا، ولا تعود تُعتبَر بيولوجية بهذا المعنى؛ فهي على ما هي عليه، وفقط على ما هي عليه، من متطلبات الجسم: هي حاجات عضوية، وليست بيولوجية.

الحاجات البيولوجية التي تحدد نمط السلوك مسبقًا بسبب البنية الموروثة للجسم تستثني، دون شك، النمط الاجتماعي للحياة – فهو غير ملائم لها؛ بينما الحاجات العضوية لا تحدد نمط الحياة مسبقًا، وتلائم أيَّ نمط حياة مادام يؤمِّن إشباع تلك الحاجات. الحاجات العضوية «في شكلها النقي» هي ذاتها للإنسان والحيوان؛ لكنها لدى الحيوانات ملتحمة، بنيويًّا، التحامًا قويًّا مع السلوك النوعي في التعامل مع الوسط الخارجي، بينما لم يعد هذا التعامل الموروث موجودًا لدى الإنسان؛ وهي تحتِّم سلوك الحيوانات، ولا تحتِّم سلوك الإنسان؛ وهي بيولوجية لدى الحيوانات، لكنها عضوية فحسب لدى الإنسان؛ وبالتالي، ليست للإنسان حاجات بيولوجية: ليست لديه غرائز.

القائلون بأن للإنسان حاجاتٍ بيولوجيةً وغرائزَ أساسية لا يميزون، ببساطة، بين ما هو بيولوجي وما هو عضوي. إن التشابه بين نوعَي الحاجات ملفت للنظر حقًّا، لكن التركيب الداخلي لآلياتها المركزية، ووجود الحساسية النوعية فيها أو عدمها، يبقى خفيًّا. إن عدم التمييز بين البيولوجي والعضوي هو العائق الأساسي أمام حلِّ مسألة الغرائز لدى الإنسان، والسبب الرئيسي للعودة، مرات كثيرة ودون نتائج، إلى هذا الموضوع. بل إن تسمية المسألة حتى خاطئة: «دور البيولوجي والاجتماعي في تطور الإنسان»، وكأن هناك اعترافًا مسبقًا بوجود عامل بيولوجي في بنية النفسانية البشرية وتطورها. لا يوجد في الإنسان «ما هو بيولوجي» (بالمعنى الذي لدى الحيوانات، ويميِّزها بالتالي). من الواضح أن هناك ضرورةً لتغيير صيغة السؤال إلى: دور « العضوي والاجتماعي»، لا «البيولوجي والاجتماعي»، في تطور الإنسان. لم تعد كلمة «عضوي» organic تتضمن الإشارة إلى «ما هو حيواني في الإنسان»، ولا تتناول مسألتَي الأخلاق والمسؤولية، بل تعيِّن فقط الحدود التشريحية–الوظيفية anatomo-physiological لقدرات الإنسان ودور تطور الجسم في تطوره العام. هذا الدور لا جدال فيه على الإطلاق، وله أهمية كبيرة، وفي حالات معينة يغدو حاسمًا، لكنه يبقى نسبيًّا وغير نوعي.

لا يمكن للإنسان التنصل من المسؤولية

إن دور الخواص التشريحية–الوظيفية في التطور النفسي للإنسان دور نسبي: الحاجة إلى المجتمع من جهة، ووسائله التربوية من جهة أخرى. وفي الحالات التي تكون فيها الصفات الطبيعية المعتادة غير كافية، يمكن التعويض عنها بالوسائل والأساليب التقنية للتعليم. أحد الأمثلة الساطعة على ذلك هو تعليم الصُم–البُكم–العُمي من الأولاد. من دون تعليم خاص، يبقى هؤلاء الأولاد معوقين إلى حدٍّ كبير؛ بينما لدى توفُّر هذا التعليم الخاص، لا يبلغون النمو الطبيعي فقط، بل ينهون أعلى مراحل الدراسة ويحصِّلون درجات علمية. إن الأدوات التقنية الحديثة للنقل المباشر والراجع والمتبادل للمعلومات (بين أعضاء مجموعة طلابية) تسمح بجعل دراسة هؤلاء الأولاد مباشرة وجماعية (بدلاً من أن تكون فردية بصورة مضنية، كما ظلَّت عليه الحال حتى فترة قريبة) وتقريبه من التعليم المدرسي المعتاد.

إن الإعاقة البدنية نفسها (أو التفوق البدني، على العكس) قد تنعكس في أشكال مختلفة على التطور النفسي للطفل، بل حتى على مصيره: فالعَرَج الوِلادي – أو«الوَحمة» على الوجه، أو الحَدَبة – يثير لدى أحدهم الضغينة، ولدى آخر ازدراء الجانب الجسدي للحياة والميل نحو طائفة روحية ما والانفتاح عليها؛ بينما ملاحة الوجه وحُسن القوام والتهذيب تولِّد في سهولة الشعورَ بالتفوق والمزاعم المفرطة التي ينتهي معظمُها في مجرى الحياة إلى الإحباط والضغينة.

كل شيء يتعلق بكيفية مراعاة المربِّين للتفوق أو للعيب البدني، وبكيفية تقييم الطفل لهما، وكيف سيتم الاستفادة أو التخلص منهما في التعليم؛ والأهم هو ماهية العلاقة التي سيكوِّنها الطفلُ (أو «تتكون تلقائيًّا» لديه) تجاه هذه الإعاقة أو التفوق. المطلوب من الصفات الوِلادية للجسم أمر واحد فقط: هو ألا تذهب بعيدًا خارج حدود ما يمكن التعويضُ عنه من خلال الوسائل التعليمية والتربوية.

بطبيعة الحال، ينبغي للكائن أن يولد فردًا طبيعيًّا في السلالة البيولوجية للإنسان العاقل Homo sapiens، ليغدو هذا إنسانًا يتمتع بشخصية فعالة ومسئولة في الشروط الاجتماعية – لكن هذا إمكان فحسب. أما عمليًّا، فتتشكل هذه الشخصية تبعًا لما يلي: في أيِّ شكل وأية نوعية سوف تتصيَّر ثقافةُ المجتمع في تكوين الشخصية وفي صيانة نشاطها النفسي وبنائه.

لن يرفض أحدٌ امتلاك عينَي نسر أو بطن حوت أو قلب غراب إلخ؛ بكلمات أخرى، لن يرفض أحدٌ التمتع بصحة الوحوش وبقدرة بدنية «وحشية» على العمل. لكن ما كان للمجتمع البشري أن يتشكل لو أن البشر حافظوا على سلوكياتهم «الحيوانية» في العلاقة مع الأشياء وفيما بينهم. فالسلوك الوحشي تجاه العالم حقيقٌ بتدمير المجتمع كذلك، وبتدمير البداية الإنسانية فينا نحن. ليس لدى الإنسان «ما هو بيولوجي» بالمعنى البسيط والأساسي لهذا المصطلح: البيولوجي–الحيواني. تكمن الخواصُ البيولوجية للإنسان بالضبط في أنه يعدم الأشكال الغرائزية للنشاط والسلوك، المتوارَثة عن الحيوانات. إن السمات التشريحية–الوظيفية للجسم البشري لا تحتِّم شكلَ الإمكانات القصوى للإنسان أو سِمَتَها. وبهذا المعنى، تُعَد هذه سماتٍ عضويةً، لا بيولوجية؛ وهي ليست أسباب تطوره، وإنما شروط هذا التطور فحسب.

ليس في مقدور أيِّ حيوان أن يغدو إنسانًا، في حين أن الإنسان قادر على أن يغدو عضوًا في أيِّ مجتمع، وأن يصبح أيَّ حيوانٍ كان، بل حتى «أسوأ» من أيِّ حيوان آخر، ضمن حدود إمكاناته البدنية. لكن فقط عبر التخلُّق بالأسُس الأخلاقية للسلوك، باعتبارها رأس «مجموع السلوكيات الاجتماعية كلِّها» التي تؤلِّف، بحسب ماركس، جوهر الإنسان، يصبح الطفلُ إنسانًا. وعندما يغدو كذلك، لا يعود في مقدوره التنصل من المسؤولية، متذرِّعًا بمنشئه الحيواني وبـ«الغرائز» التي ليس لديه منها شيء.

*** *** ***

الترجمة عن الروسية: هفال يوسف


[1] عالم نفس وإيثولوجي (مختص في سلوك الحيوان) روسي من المدرسة السلوكية، متوفى في العام 1988. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود