|
الشعور
بالنقص والدافع إلى الكمال أحب،
قبل أن أخوض غمار قضية الشعور بالنقص، أن
أستهل موضوعي بطرح مبدأ الكمال على بساط
البحث، فأتساءل: كيف أنظر إلى الإنسان؟ هل
أنظر إليه باعتباره كائنًا "كاملاً" أم
كائنًا "ناقصًا"؟ كيف أنظر إلى العالم
بما هو كوكب الأرض؟ هل أعدُّه وجودًا "كاملاً"
أم وجودًا "ناقصًا"؟ وإذا كان الشعور
بالنقص مرتبطًا بكمال الكائن الأرضي الذي
ندعوه "الإنسان" أو بعدم كماله، بكمال
"العالم" أو بعدم هذا الكمال، فإن
الموضوع لن يستوفي حقَّه ما لم نتبيَّن
الحقيقةَ التي نعمل على معالجتها، دراستها،
توضيحها، وبلوغ غايتها القصوى النهائية.
والحق أن المدارس الفكرية، على تعدد أنواعها،
تكاد أن تنقسم إلى قسمين رئيسيين: -
أولاً: مدارس
تعتنق وجهة النظر السلبية، وتعترف صراحةً
بالإنسان الناقص الذي يعوزه الكمال، فيرنو
إليه ويسعى إلى التمثل به، دون تحقيقه،
الإنسان "الساقط" الذي يعجز عن إدراك
الحقائق وسبر الأعماق. ولا تتورع هذه المدارس
عن دعوة الإنسان إلى الإذعان لعجزه ونقصه
والاستسلام لضعفه، إذ تتذرع بأنه "لم يُؤتَ
من العلم إلاَّ قليلاً"! وعلى الرغم من أن
هذه المدارس عملت على إظهار الكائن الإنساني
البدئي على صورة الكمال أو النقاء، لكنها
ألقت به في خضم محيط السقوط وجرَّدتْه من
القدرة "العلوية" التي تحلَّى بها في بدء
تكوينه. -
ثانيًا: مدارس
تتبنى وجهة النظر الإيجابية، فترفض ما
أتت به المدارسُ السلبية تلك، وتنادي بخير
الوجود الإنساني وتتحدث عن كائن، اسمه الإنسان،
تتجلَّى فيه قدراتٌ روحية سامية ومواهب عقلية
تكاد أن تحيط بالكون برمَّته في معادلات
وصياغات وتصورات مذهلة. ولئن كانت هذه
المدارس تعترف بضعف يستحوذ على الإنسان في
نطاقه الجسدي، وتقر بالجهد الذي يفرضه على
ذاته لكي يحقق مراتب أعلى على سلَّم وجوده
العقلي، لكنها تعترف، في المقابل، بقدرة
إنسانية شاملة تتضافر، من خلال معالمها
العلمية والفكرية والفنية، لتبلغ إلى عقل
عام مشترك أو شمولي يُمِدُّها برؤية نافذة
تُطِل بها على حقائق الوجود والحياة وتتصورها
على نحو "مثال" (أفلاطون). وإن كنت أتوخى
بلوغ نتيجة سليمة لعبَّرتُ عن نفسي قائلاً:
ثمة مدارس "سلبية"، لاهوتية وفلسفية
ونفسية، هدفت إلى إبقاء الكائن البشري قابعًا
في ظلام الوعي – أي اللاوعي – من خلال ما
أثقلته به من مفاهيم النقص والضعف والعجز
والخطيئة والعقاب الأليم والجحيم؛ وثمة، في
المقابل، مدارس "إيجابية"، إنسانية
في جوهرها، هدفت إلى الارتقاء بالكائن البشري،
فعلَّمته كيف يتألق بنور وعيه أو لاوعيه،
علَّمته أنه كيان يحمل في ذاته "شرارة"
النور التي تقبل التحول إلى ضياء إذا ما
توافرت عناصرُ إشعاعها أو توهُّجها أو
مقوماته. ولقد تحدثتْ هذه المدارس عن شرارة
النور هذه، فقالت إنها تتألق بالضياء متى
علقت بما يغذي قدرتها الباطنة الكامنة. فإذا
كانت معالم الألق تتمثل في المواد التي
تحوِّل الشرارة إلى نار ونور مضيئين، فإن
معالم الألق الروحي والفكري أو الإنساني
تتمثل بالمعارف العديدة والتأملات النافذة
والغايات النبيلة التي، من خلال توهُّجها،
تحوِّل الشرارة القدسية الكامنة في قلب
الكائن الحي إلى نور يتألق بالضياء. وتضيف هذه
المدارس قائلة: إن الضياء كلَّه كامن في
الشرارة، والكل بأكمله كامن في الجزء الذي هو
الكل المركِّز، المنطوي على ذاته في نقطة أو
بؤرة. يمكن لي، بعد أن
قدمت لموضوعي بهذا العرض البسيط الوجيز، أن
أعلن أن إيجابية تفكيري تدفعني إلى الاعتراف
بـالقدرة الباطنية للكمال الكامن في صميم
الكائن البشري. وعندما أتأمل بعض العبارات
التي تتحدث بها مبادئ الحكمة التي توخَّت
الإيجاب دون السلب، أعلم أنها، وهي تحدِّث عن
الكمال، لم تضع الإنسان في بوتقة الوهم، لم
تطلقه في متاهة الهوى، لم تحتجزه في قوقعة
الأنا، ولم تطلق عنان خياله في أجواء الأحلام.
وفي اللحظة التي أردد فيها في داخلي الحكمة
الآمرة: "كن كاملاً!"، أدرك أن بذرة
الكمال كامنةٌ في جوهري كمونَ النور أو النار
في الشرارة، وأعلم أن واجبي يقضي بإيقاد "شرارتي"
وتنمية "بذرة" كمالي. وعندئذٍ أعي أن
الكمال المنطوي أو المنثني في داخلي يماثل
الشجرة المنطوية أو المركزة في البذرة. والحق
هو أن كمال الشجرة قائم في كمال البذرة التي
تنطوي على خصائص الشجرة الكلِّية. ومن جانبي،
أعتقد أني لا أقل أهمية عن البذرة، ولا يمكن
لي أن أكون دونها في مراتب الكائنات
والموجودات. فإذا كانت البذرة تحمل، في
كمونها، شجرة الطبيعة، فلا بدَّ أنني أحمل،
في كموني، شجرةً كونيةً باسقة؛ وإذا كنت
أستطيع أن أشاهد الإنسان في الخلية، فلا بدَّ
لي أن أشاهد الكون في الإنسان. ومع ذلك، أرى
النقص يهيمن على مقدرات الإنسان، يتغلغل إلى
أعماقه، فيشله ويجزِّئه ويدفع به إلى التيه
في عالم (أو عوالم) الظلام. وبالإضافة إلى هذه
الرؤية، أشاهد الشجرة الإنسانية النامية من
بذرتها تحمل أغصانًا تعرضت لليباس، فتساقطت
أوراقُها، ولم تعد الطيور الجميلة المغرِّدة
تجد مكانًا لها تبني أعشاشها فيه، فامتنعت عن
الشدو، الأمر الذي وضع نهايةً لألحان الوجود
ورقصات الأزاهير! تساءلت وأنا أبلغ
هذا الحدَّ من تأملي: لِمَ تنطفئ الشرارة أو
الشعلة؟ لِمَ تذوي البذرة أو تنكمش دون أن
تنبعث منها شجرةُ الحياة النضرة إلى الوجود؟
ولقد بحثت عن الأسباب الكافية أو المبرِّرة
لأجدها في علل أصلية سأعمل على تبيانها
وشرحها قدر المستطاع: أولاً:
يحمل موقف الإنسان من الكون قضيتين: -
الأولى،
تتمثل في إحساسه بالتفاهة وانعدام المعنى
والغربة، إذ يعتقد بأنه شيء ضئيل، مجرد من
المغزى، في مواجهة الكون الواسع، المترامي
بأبعاده، اللانهائي. وفي هذا الإحساس يكمن
الشعور بالنقص السلبي. -
الثانية،
تتمثل في إحساس الإنسان بعظمة حذرة، قلقة، إذ
يدرك أنه كون مصغَّر تتلاقى في كيانه معالمُ
الوجود كلُّها. وعلى الرغم من أن هذا الإحساس
بالعظمة الحذرة القلقة يصطدم بمظاهر
الكينونة الأرضية المجسَّدة بالصعوبات
العديدة، كالألم والمرض والشيخوخة والموت (البوذية)،
إلا أن الإنسان يعلم أنها معطيات وجوده
الأرضي، ويتيقن من أنه كائن كامل، أو على
الأقل، كائن يحمل في داخله بذرة الكمال،
فيجعل من قضيته موقفًا إيجابيًّا يسعى إلى
تحقيقه وهو يحيا حياته الحاضرة. يشير هذا الموقف
الإيجابي الذي أتمثله وأحياه إلى انتفاء
الشعور السلبي بالنقص حيال ضخامة الكون
واتساعه. ويحمل هذا الموقف في تضاعيفه المعنى
الوجودي الذي يتضمن الاعتراف بأن لا شيء في
العالم الأرضي يشير إلى النقص، بل كل شيء يشير
إلى الامتلاء. فإذا ما اتجه العقل إلى دراسة
أصغر جزيء، وجده كاملاً غير ناقص. ألا نقول
بأن الذرة نظام شمسي كامل؟ والحق هو أن هذا
اليقين، أو الإقرار باليقين، أو هذا الاحتمال
التوكيدي، يدفعنا إلى يقين مماثل بكمال
الكائن البشري. فإذا كان الجزء الصغير، خليةً
كان أم ذرة، وجودًا كاملاً، أفلا يجدر بنا أن
نعترف بكمال وجود الإنسان، إذ نعلم بأنه
مؤلَّف من مليارات الخلايا وترليونات الذرات؟
نقول هذا علمًا منا بأن ما ينسحب على الجزء
ينسحب أيضًا على الإنسان، وما يتميز به الجزءُ
الصغير لا يُجرَّد منه الإنسان. تُمِدُّنا
النظرةُ الشمولية، أي الموقف الواعي من الكون
والوجود، بشعور الكمال. فمع أن الإنسان نَزوعٌ
إلى الشعور بنقص إيجابي، إلا أنه، في الآن
نفسه، يدرك أنه البذرة التي ستنشأ منها
الشجرة الكونية أو أنه الشرارة التي ستضيء
بألق النور الكوني. وفي هذا الموقف أو النظرة
تكمن بشائر الغبطة، إذ تشير إلى نهاية
المعاناة التي سبَّبتها الاتجاهاتُ الفكرية
السلبية التي جعلت من الإنسان كائنًا ناقصًا.
فإذا كان الإنسان يجسد البذرة التي ستنبثق
منها الشجرةُ الكونية، فلا بدَّ أن يكون مهيأ
ومزودًا بمعطيات تلك الشجرة كلِّها، الأمر
الذي يجعله ينفي المعاناة الناشئة من النقص
والخطيئة. وعندئذٍ يدرك أنه غاية في حدِّ ذاته:
غاية تقتضي الجهد الأقصى لتحقيق ذاتها في
كمال الوجود. بذلك يمكن لي أن
أخلص إلى نتيجة تعبِّر عن ذاتها كما يلي:
يُعَد النقص الذي يهيمن على حياة الإنسان
حصيلةَ الاعتقاد بأنه كائن ناقص، أو غير كامل
في جوهره أو في طبيعته، يعيش في عالم ناقص،
غير مكتمل. وعلى غير ذلك، تشير الحقيقة إلى أن
الإنسان لا يعيش أو لا يحيا في عالم ناقص،
وذلك لسبب أصيل هو أن هذا العالم قد صدر من
كيان كامل أو انبثق منه أو فاض عنه، بحيث إن
الروعة أو الجمال الأسنى الكائنين فيه يدعوان
إلى الدهشة والتأمل. فإذا كان الكمال هو
الجوهر القائم في ذات الكون، في "الحقيقة
السامية"، وإذا كان العالم الأرضي صدورًا
عن هذا الكمال، فلا بدَّ، كنتيجة منطقية، أن
يكون هذا العالم كاملاً في الإمكان. والحق أن
العبارة التي ذكرها الفيلسوف وعالم
الرياضيات لايبنِتْس تشتمل على حكمة بالغة،
إذ قال: "عالمنا هو خير العوالم الممكنة."
وعلى هذا الأساس، يحيا الإنسان في عالم كامل
في الإمكان، كما يحيا في نطاق الكمال الكامن
فيه – وهذا لأن "الحقيقة السامية" لا
تبدع إلا أفضل الحقائق والوقائع. وإذا كان
لايبنتس قد عاين العالم الأفضل، الأكمل، فإن
هويتمان، الشاعر المبدع، شاهد الكمال في أصغر
جزيء، إذ قال: "لا أرى نقصًا واحدًا في
الكون، يا لعظمة الأشياء! يا لعظمة أصغر جزيء!"
هكذا يفرح الإنسان ويتهلَّل بكمال وجوده! ثانيًا:
الفردية والشخصية تختلف "الفردية"
عن "الشخصية" اختلافًا كبيرًا[1].
فالفردية تتمثل في الإنسان المتكامل،
بأبعاده النفسية والاجتماعية والفكرية،
والمتوازن في صميمه؛ والشخصية تتجسد في الإنسان
المنقسم على ذاته في أبعاده، المتجزئ في
داخله، والمتكثِّر في نفسه، الذي ينقصه
التوازنُ والتكامل. وفي هذا الصدد، يمكن لنا
أن نلخص المعالم العامة لكلٍّ من الفردية
والشخصية في العبارات التالية: -
في
الفردية "يعدِّل" الإنسان نفسه تعديلاً
دائمًا، وفي الشخصية "يتغير" تغيرًا
دائمًا؛ -
في
الفردية يتألق الكيانُ في نطاق الوعي والحرية،
وفي الشخصية يتيه الفردُ في عالم الأنا؛ -
في
الفردية "يطمح" الإنسان إلى تحقيق
الحياة، وفي الشخصية "يطمع" الإنسان في
امتيازات المعيشة، على اختلاف أنواعها
وأشكالها؛ -
في
الفردية يطلب الإنسان السعادة والغبطة، وفي
الشخصية يسعى الإنسان إلى اللذة فقط؛ -
في
الفردية يهدف الإنسان إلى المعرفة والوعي
والفضيلة، وفي الشخصية ينزع الإنسان إلى
المصلحة الأنانية الخاصة؛ -
في
الفردية "يتفاعل" الإنسان مع الآخرين،
متعاطفًا معهم، وفي الشخصية "ينفعل"
الإنسان إزاء الآخرين؛ -
في
الفردية يحقق الإنسان "اتصاليته" مع
الكون، وفي الشخصية يتوهم الإنسان "انفصاليته"
عن الكون؛ -
في
الفردية يشاهد الإنسان امتداده في الحياة
الكلِّية، وفي الشخصية لا يرى إلا مركزيته؛ -
في
الفردية يتوافق الإنسان مع دوافعه، وفي
الشخصية ينفعل الإنسان برغباته وشهواته؛ -
في
الفردية يتميز الإنسان بالمحبة والتجاذب،
وفي الشخصية ينساق في تيار الكراهية والنفور؛ -
في
الفردية ينفتح الإنسان على العالم، وفي
الشخصية ينغلق الإنسان في قوقعة الأنا؛ -
في
الفردية يتحرر الإنسان من عقدتَي النقص
والأنا، وفي الشخصية يخضع الإنسان لهاتين
العقدتين؛ -
في
الفردية يتألق الإنسان بمواقفه الإنسانية
الواعية، وفي الشخصية يعيش الإنسان في نطاق
الانهزامية والوصولية؛ -
في
الفردية يُنشئ الإنسان محاكمةً عادلةً
ومتزنة، وفي الشخصية يتحاشى الإنسان مبادئ
المحاكمة هذه؛ -
في
الفردية ينسجم الإنسان مع وجوده الأرضي ويسعى
إلى معرفة الحقائق المادية والروحية وإلى
صياغة قوانينها، محققًا غايات وجوده البعيدة،
وفي الشخصية يرفض الإنسان، يتمرد، ويُنكِر
الغايات النبيلة، مكتفيًا بالأهداف المرحلية؛ -
في
الفردية يستقر الإنسان ويطمئن، وفي الشخصية
يضطرب الإنسان ويقلق؛ -
في
الفردية "يملأ" الإنسان وجوده بالوعي،
وفي الشخصية "يغطِّي" الإنسان فراغ
وجوده بسائر أنواع التملك؛ -
في
الفردية يعوِّض الإنسان عن شعوره بالنقص
تعويضًا صحيحًا، وفي الشخصية يعوِّض الإنسان
عن شعوره بالنقص تعويضًا كاذبًا. يمكن لي أن أقول،
وقد ذكرت المعالم العامة للفردية والشخصية،
إن الإنسان–الفردية لا يرى النقص في وجوده،
فيحيا في عالم المعرفة والوعي والحرية، وإن
الإنسان–الشخصية يرى النقص في صميم وجوده،
ويعيش نقصه من خلال سيطرة الأنا عِبْرَ سائر
أنواع التملك. وعلى هذا الأساس، يمكن لي أن
أضع تعريفًا لكلٍّ من الفردية والشخصية،
فأقول: الفردية هي الفرد الذي يضيف إلى أناه
إضافاتٍ صحيحة وسليمة، والشخصية هي الفرد
الذي يضيف إلى أناه إضافات زائفة لا تمت إلى
جوهره بصلة. تتجلَّى الفردية
في الإنسان–العالِم الذي ينشد الوعي
ليُمِدَّه بأسباب المعرفة والإدراك، ويرى
الجمال في كلِّ معرفة يكتسبها، ويستيقن من
وجود الكمال في الوعي الذي يحققه وفي الكون
الذي يدرسه من خلال دراسة نفسه وكيانه. ألا
نرى كيف يغتبط عالم الفلك الذي يدرس العالم
الكبير، إذ يكتشف سرًّا كان يجهله ويكتسب
معرفةً لم يكن على دراية مسبقة بها؟ ألا نراه
لا يألو جهدًا لتحقيق أكثر ما يمكن من
المعلومات الكونية وأفضله، فيغتبط، ويعظِّم
– بل يمجِّد – هذا الكون الكامل، الرائع
والعجيب، الذي يجد ملاذه فيه؟ ألا نراه
يتماهى مع كلِّ معرفة تُشعِرُه بعظمته
وسموِّه، ويتصل بكلِّ حقيقة، فيتكامل في ذاته
ويتوازن في داخله، إذ يدرك المغزى المنطوي في
وجوده؟ ألا نرى عالم الفيزياء يغتبط بمعرفة
أسرار عالم الصغائر ويفرح باكتشاف الحقائق
المنطوية فيه؟ ألا ينشد عالم الرياضيات
التناغم والانسجام القائمين في العلاقات
المتصلة الماثلة في تواشُج نسيج الكون؟ ألا
يعترف بوجود الكمال ويتغاضى عن وجود النقص؟
ألا يؤلِّف الموسيقي العظيم الألحان الجميلة
المتناغمة التي تتجلَّى فيها الروعة والكمال؟
ألا يغوص كل عالم وكل حكيم إلى أعماق الحقائق
والوقائع سعيًا إلى مشاهدة الكمال الكائن
فيها؟ ألا يتألق الفنان في كمال إبداعه،
فيتمثل هذا الكمال في حقل خلقه؟ ألا يحقق
الأخلاقي النبيل كمال إنسانيته في صدق نظام
كيانه الواعي، رافضًا التنازل عن هذا الكمال
المنشود، مهما بلغت الإغراءات؟ ألا تملأ
الفردية وجودها بالمعنى وفراغها بالمغزى
المتضمن في حقيقة الوجود، مُعرِضةً عن رؤية
النقص أو "تغطيته" بالمظاهر الزائفة؟
ألا تتجسَّد الشخصية في العالم الناقص،
والإنسان الناقص، والحياة الناقصة، والكون
الناقص؟ ألا تسعى هذه الشخصية إلى تلافي
النقص، المعبِّر عن "فراغ" يحتويها،
فتعمد إلى "تغطيته" بالقشور المادية
وبالمظاهر الخادعة؟ ألا يحق لي بذلك أن أقول:
إن الفردية ترى الملء والكمال، بينما الشخصية
لا ترى إلا الفراغ والنقص؟ أستطيع أن ألخص
التساؤلات المطروحة في الكلمات التالية:
يتضاءل النقص، أو ينتهي، بزيادة الوعي الكوني،
ويتألق الكمال في الطبيعة والإنسان في اللحظة
التي يكتسب الإنسان نظرة شمولية، كلِّية
وكونية، تحقق كماله وتوازُنه وتنأى به عن
التجزئة والانقسام. وإذا أجزت لنفسي أن أصوغ
الحقيقة بالأسلوب الذي أتحدث به، فإنما
لأتساءل من جديد: كيف أتصور الإنسان الكامل أو
المتوازن والمتكامل في داخله؟ كيف يكون هذا
الإنسان الكامل أو المتكامل في كيانه؟ هل هو
كائن خيالي، وهمي، لا حقيقة أو لا وجود له؟ أم
أنه يحيا معنا ونحيا معه فعلاً، لكننا نجهل
هذا الأمر؟ وفي سبيل توضيح هذه القضية وإظهار
الإنسان المتكامل في معالمه الواقعية التي
نفتْها غالبيةُ العقائد السلبية، أراني
ملتزمًا ببحث الكمال ضمن نطاق "واقعية"
الوجود الإنساني، لأنتقل، من بعدُ، إلى "مثالية"
هذا الواقع. ثالثًا:
الدوافع – صورة متكاملة أحب أن أبدأ
حديثي حول الدافع بتعريفه: هو طاقة حيوية
تفعل في الإنسان لتحقيق غاية. يشير هذا
التعريف إلى أمور ثلاثة هامة:
يؤكد لي إدراكي
لهذا التعريف وتأملي فيه أن الحياة الفاعلة
تهدف إلى تحقيق غاية. ولما كان مفهوم الغاية
يحمل الخير في ذاته فإن الواقع خير في ذاته.
وهذا ما يحثني على القول بأن الدوافع،
بأنواعها، طاقة حياتية خيِّرة تحقق الغاية
الكونية المنظمة والواعية في وجودها، أي في
مستواها الأرضي. وعلى هذا الأساس، أقول: إن
السلوك الإنساني القائم على تحقيق الدوافع
يحمل في جوهره التكامل والتوازن اللذين
يشيران إلى كينونة تتحقق وفق مستوى من
مستويات الكمال، هو كمال كوكب الأرض. تنقسم الدوافع
الإنسانية إلى ثلاث فئات هي:
ويمكن لي أن أضرب
مثلاً على كلِّ دافع من هذه الدوافع التي قد
تنفرد في وظيفتها بذاتها وقد تشارك الدوافع
الأخرى: في دافع الجوع، المعبَّر عنه بالطعام
بصفته منبهًا، أو دافع العطش، المعبَّر عنه
بالماء بصفته منبهًا، أو دافع الجنس، الذي
يشترك مع دافعَي الأمومة والأبوة النفسيين،
نجد قاعدة الدوافع البيولوجية التي تهدف
إلى استمرار الحياة، كطاقة فاعلة، على
المستوى الواقعي والمادي؛ وفي دوافع
الاجتماع والمجد والتكريم والاحترام والإلفة
والأنس والعاطفة والشعور إلخ، التي تهدف إلى
تركيز الدوافع البيولوجية على مستوى العلاقة
والتعاطف والمشاركة بين البشر، نجد الدوافع النفسية–الاجتماعية.
وفي تربية العقل المنطقي والعلمي، الساعية
إلى مثالية الحياة وتحقيق مستويات عليا من
الإبداع والخلق إلخ، التي هي مبادئ سامية تحث
الدوافع الأخرى، البيولوجية والنفسية، لتسهم
في إضفاء القيمة الهامة المعزوَّة إلى الوجود
الإنساني وفي الارتقاء به إلى مستويات أعلى
للوعي، نجد الدوافع المثالية. على هذا، يمكن لي
أن أقول: إن الفردية المتكاملة، المتوازنة في
سلوكها وتصرفاتها، تحقِّق هذه المستويات
الثلاثة أو تطبِّقها معًا في فعل واحد،
جنسيًّا كان أم غذائيًّا أم أموميًّا أم
اجتماعيًّا أم مثاليًّا. ويمكن لي أن أضيف
قائلاً: إن الإنسان المتكامل في دوافعه، إذ
يطبقها في فعل واحد، بحيث يكون بيولوجيًّا
ونفسيًّا–اجتماعيًّا ومثاليًّا، لا يرى
النقص في فعله، بل يحقق طاقة الحياة وفق
ناموسها الطبيعي، الإنساني، المثالي.
والحق هو أن الدوافع تنسجم كل الانسجام مع
العقل: فما من دافع إلا ويتناغم مع العقل
الذي يحاكم ويعتمد المنطق الصرف والمحاكمة.
لذا أخلص إلى القول: كل دافع، حتى وإنْ كان
بيولوجيًّا محضًا، يحمل في صميمه الطاقة التي
تهدف إلى مثال العمل. أحب هاهنا أن
أقول: إن المثالية المتحققة في تطبيق الدوافع
في فعل واحد لا تعني بأنها غير قابلة للانحراف؛
وفي انحرافها تنتهي مثاليتها – وأعني
الغاية السامية لفاعليتها – كما تنتهي
قيمتها النفسية والاجتماعية: دافع المجد
ينحرف إلى شهوة المجد، دافع الاجتماع ينحرف
إلى شهوة التجمع، دافع الطعام ينحرف إلى
الشهية البحتة، دافع الجنس ينحرف إلى شهوة
الجنس، إلخ. وعلى هذا الأساس، يمكن لي أن
أستنتج ما يلي: أ.
تحتفظ الدوافع
التي تنسجم مع العقل بمثاليتها، الأمر الذي
يجعل الإنسان الذي يتصرف وفق عقلانيتها فرديةً
متكاملةً ومتوازنة، ترى كمال الفعل وكمال
الغاية في الوجود الأرضي. ب.
تفقد الدوافع
المنحرفة مثاليتها، الأمر الذي يجعل الإنسان
الذي يتصرف وفق انفعاليتها شخصيةً قلقة،
مضطربة، غير متكاملة وغير متوازنة، ترى النقص
الذي يعتري العقل، النقص المزعوم الكامن في
الوجود الأرضي. وفي اختصار أقول:
الفردية، المتكاملة المتوازنة، ترى الكمال
في كلِّ فعل محقَّق وفق مستوياته الثلاثة،
البيولوجي والنفسي والمثالي، وذلك لأنها
تتصرف بحسب معيار الدافع المنسجم مع العقل،
فتنشد المثال؛ بينما الشخصية اللامتوازنة
واللامتكاملة ترى النقص في كلِّ فعل لأنها
تتصرف وفق معيار الدافع المنحرف إلى رغبة أو
شهوة، فتستبعد الكمال. أحب هاهنا أن
أنبِّه إلى قضية هامة: إن الدافع المنحرف
يتجسد في الرغبة والشهوة، وإن العاطفة
المنحرفة تتجسد في الانفعال. والحق هو أن
العقل يتعارض مع الرغبة أو الشهوة، اللتين
تعبِّران عن الانفعال، ويخضع لهما ويضيع في
متاهتهما؛ وعلى غير ذلك، ينسجم العقل مع
الدافع، بيولوجيًّا كان أم نفسيًّا أم
مثاليًّا، ويسمو من خلال الفعل المتحد
بأبعاده الواقعية الثلاثة. رابعًا:
الشعور بالنقص دافع إلى الكمال تشير هذه المقدمة
الخاصة بمفهوم الدافع إلى وجود دافع نفسي–اجتماعي
ينشد المثال، ودافع بيولوجي ينشد المستوى
النفسي والمثالي معًا. ولقد ذكرت أن الدافع
قابل للانحراف إلى انفعال يتجسد في الرغبة
والشهوة. والحق هو أن الإنسان لا يخطئ، ولا
يكون سلوكه ناقصًا، إلا حين تنحرف دوافعُه
إلى رغبات وشهوات. ولما كان موضوعنا يتناول
الشعور بالنقص، فإنني أحب أن أبين الحقيقة
التالية: ليس الشعور بالنقص خللاً يصيب
الإنسان، وليس هو خروجًا عن نطاق العقل، أو
علَّة تعتريه، أو مرضًا نفسيًّا يسيطر عليه،
أو مشكلة تستعصي على الحل، أو غموضًا يستغلق
على التفسير والفهم. فالحق هو أن الشعور
بالنقص دافع نفسي مثالي ينشد تحقيق التكامل
والتوازن الداخلي الهادف إلى السمو بالدوافع
إلى الكمال – وهذا لأنه لا يكفي، كما ذكرت،
أن ينسجم العقل مع الدافع، أو أن يعمل الإنسان
وفق دوافعه سعيًا إلى التكامل، بل ينبغي
عليه أن يرتقي بدوافعه إلى مستوى مثالي،
بحيث يتحقق الفعلُ في كمال الوجود. وإذا كان الإنسان
يسعى إلى التكامل في سبيل تحقيق بذرة الكمال
الكامنة فيه، فإنه يتعرض للشعور بالنقص كدافع
نفسي مثالي يؤدي به إلى "تعديل" شخصيته
تعديلاً مستمرًّا لبلوغ التكامل والتوازن.
والحق هو أن كونك فردية تجالس فردية أخرى تصغي
إلى آرائها الحكيمة، أو تستمع إلى فردية
تفوقك علمًا ومعرفة، أو تتحدث مع فردية تسمو
بأخلاقها وفضائلها، قضية تُشعِرُك بنقص
يعتريك، فتجعلك تحس بدافع داخلي يحثك على
الاقتداء بها – وبقدر ما يكون هذا الشعور
بالنقص إيجابيًّا يكون دافعًا إلى الكمال.
أما إذا كنتَ شخصية، وجلست مع شخص يتحدث عن
العوامل والمقومات التي تشكِّل شخصيته،
أحسست برغبة داخلية عارمة تحرضك على التمثل
بها لتكون ذاتًا "تجمُّعية" شبيهة بها (أو
متفوقة عليها) – وبقدر ما تكون رغبتك شديدةً
تكون شعورًا سلبيًّا بالنقص يتحول إلى عقدة
نقص. وهكذا أستنتج أن الفردية تحوِّل شعورها
الإيجابي بالنقص إلى دافع الكمال، بينما
الشخصية تحرف شعورها السلبي بالنقص إلى
الإحساس بالحرمان والنقص – إلى عقدة نقص. يجدر بي، وأنا
أسعى في حديثي إلى استنتاج مُلازِم لمقدمتي،
أن أركز على نقاط أربع هي:
وإذا كان الدافع
يقبل الانحراف بسبب تدنِّي الوعي، فيمكن
لي أن أقول: إن الشعور بالنقص – وهو دافع نفسي
مثالي – يقبل الانحراف إلى عقدة النقص. وعلى
هذا الأساس، يعتمد بحثي على نقطتين هامتين
هما: 1.
انحراف
الشعور بالنقص – وهو الدافع النفسي المثالي
– إلى عقدة النقص. 2.
الفردية
لا تسمح بانحراف الشعور بالنقص إلى عقدة
النقص، وذلك لأن وعيها يتسنَّم درجةً عليا،
بينما الشخصية تسمح بانحرافه لأنها تسجِّل
درجةً دنيا على سلَّم الوعي. يُرَدُّ هذا
الاختلاف إلى أن الفردية تسعى إلى التكامل،
إلى رؤية الكمال والاتصالية في الطبيعة
والإنسان والكون، بينما الشخصية تسعى إلى
التجزئة والانقسام والانفصالية، إلى رؤية
النقص في الإنسان والطبيعة والكون. وإذا كان
الأمر كذلك، فقد يتبادر إلى الذهن السؤال
التالي: كيف يتصرف كل من الفردية والشخصية
حيال الشعور بالنقص؟ خامسًا:
عقدة النقص قاعدة أساسية لعقدة العظمة تقوم علاقة وثيقة
بين الشخصية وعقدة النقص وبين الفردية
والشعور الإيجابي بالنقص. فإذا كانت الشخصية
تحرف الشعور بالنقص إلى عقدة نقص، فإن الفردية
تطور الشعور بالنقص وتنمِّيه إلى دافع الكمال.
ولما كانت الشخصية هي الفرد الذي يضيف إلى
أناه إضافاتٍ زائفة، حارفًا عواطفَه إلى
انفعالات ودوافعَه إلى رغبات وشهوات، فإنها
تحرف الشعور بالنقص من إيجابه إلى سلبه، أي
إلى عقدة النقص؛ ولما كانت الفردية هي الفرد
الذي يضيف إلى أناه إضافاتٍ صحيحة، ويحيا في
تناغم مع عواطفه وفي انسجام مع دوافعه، فإنه
يسمو بإيجابية الشعور بالنقص ليجعل منه
دافعًا إلى الكمال. وهنا نتساءل: كيف
تصير عقدة النقص قاعدةً لعقدة العظمة؟ تقتضي الإجابة عن
هذا السؤال العودةَ إلى مقدمة هذا البحث، إذ
أعلنتُ أن الشخصية تقف من الوجود الأرضي
والحياة عامةً موقف الرفض والإنكار
واللاجدوى. وهكذا تحس الشخصية بانعدام القيمة
وضآلة الكيان وتفاهة المعنى، الأمر الذي
يجعلها تتصرف على نحو تمرد وعصيان ورفض. وإذا
كان الأمر كذلك، فإن الشعور بالنقص الذي
يسيطر عليها يُرَدُّ إلى عنصر فردي يجد
قاعدته في الفرد وهو يواجه الوجود والكون.
ولما كانت الشخصية تحس بالنقص حيال الوجود،
وتتيه في جهلها وفي تمردها وعصيانها ورفضها،
فإنها تبحث عن "واقع" لها يجعلها تشعر
بوجودها وتحس بقيمتها الذاتية. وعندئذٍ تلتفت
إلى المجتمع البشري، المعبَّر عنه بأنواع
المفاهيم الطبقية والعقائدية والفئوية، لتجد
ذاتها فيه. ولما كان الوجود "التجمعي"
يقتضي بروز الأنا على صورة ذات تجمعية،
ويتطلب ظهور الشخصية المصطبغة بأوصاف الواقع
التجمعي، فإنه يفرض على الأنا السعي إلى
العناصر التي تجعل منها ذاتًا تجمعية. وعلى
هذا الأساس، تدأب الشخصية على تغطية شعورها
السلبي بالنقص وإحساسها بنقصها الشخصي
بعناصر يقيِّمها التجمع البشري ويفترضها
عوامل أساسية لتشكيل الذات التجمعية. وفي هذا
الوضع، تسعى الشخصية إلى التملُّك، بأنواعه
كلِّها، وتتجه إلى النزاع مع الذوات التجمعية
الأخرى، وتنزع إلى الاتصاف بالمزايا التي
تجعل منها ذاتًا تجمعية مرموقة، وتميل إلى
السيطرة والهيمنة، فتقع أسيرة الكبرياء
والطمع والاستغلال وتضخيم الأنا، لتصير
ذاتًا تجمعية طاغية مستبدة. والحق أن تغطية
الشعور السلبي بالنقص بالصفات التجمعية
الزائفة عملية تحرف هذا الشعور بالنقص إلى
عقدة النقص. تؤكد لنا هذه
الحقيقة الواقعية أن الشعور بالنقص يُرَد إلى
أساس شخصي وأساس تجمعي. فعلى المستوى الشخصي،
يشعر الإنسان بالضآلة وانعدام القيمة
الوجودية، فيتساءل عن المغزى الضمني لوجوده؛
وعلى المستوى التجمعي، يحاول أن يعمل
جاهدًا للتخلص من هذا الشعور بامتلاك عوامل
تجمعية تغطِّي شعوره السلبي بالنقص الذي
تحوَّل إلى عقدة نقص. والحق هو أن تغطية
الشعور السلبي بالنقص بالصفات التجمعية
الزائفة أمر يحرف هذا الشعور السلبي بالنقص
إلى عقدة النقص. ولما كانت الشخصية تسعى إلى
تغطية عقدة نقصها بالمظاهر التجمعية
المتخيَّلة وبأنواع التملك – تملُّك البشر
والأفكار والأشياء – فإن انحرافها يزداد
ويتضخم حتى يبلغ عقدة العظمة. وهكذا تغطي
الشخصية عقدة نقصها بعقدة عظمتها، الأمر
الذي يؤدي إلى وضع نهاية للقيمة الإنسانية
الحق. وتدفعني جسارتي إلى القول بأن كلَّ
متكبِّر أو مقتدر أو مستبد، على الأصعدة
والمستويات كلِّها، إنما يغطي عقدةَ نقصه
بعقدة عظمته: فما تكبري على الآخرين، أو
إحساسي بالتفوق عليهم، من خلال ما أمتلك من
صفات تجمعية، معنوية ومادية، غير عقدة نقص
أستعيض عنها بعقدة العظمة. وفي هذه الحالة،
يسعى الإنسان، كما يقول إريش فروم، إلى تحقيق
الأنا "المتملِّكة" والإعراض عن الأنا
"الكيانية". في عقدة العظمة – وهي "غطاء"
لعقدة النقص التي هي انحراف للشعور بالنقص –
لا يحقق الإنسان شيئًا من إنسانيته، بمعنى
كيانه، أو شيئًا من كونيته، بمعنى شموليته. أحب أن أقول إن
الشعور الإيجابي بالنقص قضية حياتية ووجودية
ملازمة لواقع الإنسان؛ لا بل أجرؤ على القول:
إن جميع الناس، الفقراء منهم والأغنياء،
الحكام وجمهور الشعب، الملوك والرعايا،
يشعرون بالنقص – وهذا لأن الإنسان الذي يخلو
من الشعور بالنقص غير موجود. والحق أن الإنسان
هو الكيان الواعي الذي يحوِّل هذا الشعور إلى
دافع الكمال؛ بينما الأنا اللاواعية هي التي
تحرفه إلى عقدة نقص، ومن ثم، إلى عقدة عظمة.
أما نقطة التحول فإنني أدعوها "مبدأ
التعويض". سادسًا:
مبدأ التعويض يشير الواقع إلى
أن كلَّ إنسان يسعى إلى التعويض، بوجه أو
بآخر. ولكن هذا "التعويض" يعتمد على وعي
الإنسان لذاته، فرديةً كانت أم شخصية.
فالفردية تعوِّض والشخصية تعوِّض – وشتان ما
بين "تعويض" كلٍّ منهما: الفردية تعوِّض
الشعور الإيجابي بالنقص بدافع الكمال، وهذا
لأن شعورها بنقصها يصبح دافعًا لها إلى
المعرفة والوعي والفضيلة والانسجام مع
القانون الكوني، أي الوعي الكوني والنظام
الكلِّي وشمولية الحياة؛ ويكون تعويضها
صحيحًا ومتوافقًا – بل منسجم – مع القوانين
والمبادئ التي يعمل بعضها مع بعض في تكامُل
وتآلُف. أما الشخصية فإنها تعوِّض الشعور
السلبي بالنقص بعقدة النقص التي تغطيها بعقدة
العظمة؛ وهذا لأن شعورها بنقصها ينحرف إلى
بروز الأنا التي تقف وجهًا لوجه، في حالة عداء،
سافر أو مبطَّن، في مقابل الأنوات الأخرى.
والحق هو أن كلَّ ما يحدثنا به التاريخ من
أنواع الصراع بين الإنسان والإنسان، على
أصعدة المال والطبقة والعقيدة والمذهب،
يُرَدُّ إلى الأفراد الذين شكَّلوا "شخصيات"
عوَّضتْ تعويضًا زائفًا عن نقصها من خلال
التملك. ومن جانبي، يمكن لي أن أقول إن الصراع
لم يحدث إلا بين الشخصيات، وهذا لأن الفرديات
تتكامل ولا تتصارع. عندما أفكر
بالأسباب التي يستند إليها الشعور السلبي
بالنقص، المعوَّض عنه بالإضافات الكاذبة
والمعبَّر عنه بعقدة النقص المعوَّض عنها
بعقدة العظمة، أتفهم الأسباب التي تحيل
الغالبية العظمى من بني البشر إلى محض "شخصيات"،
فأدرك أن هذه الأسباب كلَّها تُجمَل في سبب
واحد هو التربية الانفعالية. تُشدِّد "التربية
الانفعالية" على تعزيز الأنا الشخصية
الانعزالية بالأنا التجمعية. إنها تقوِّي
الشخصية التي تتعلم من خلالها كيف تحرف
شعورها السلبي بالنقص إلى عقدة نقص، ومن ثم
إلى عقدة عظمة، وكيف تغطي عقدها بالإضافات
الزائفة التي تدعى "التعويض الكاذب"، إذ
تطرح ذاتها على المستوى التجمعي. وعلى غير ذلك،
تشير التربية الإنسانية إلى التعويض
الصحيح عن الشعور بالنقص ليكون دافعًا إلى
الكمال. والحق هو أن التربية الإنسانية لا
تتحقق إلا في وسط طافح بالمحبة والتعاطف
والمشاركة، وسط يكرِّس تحقيقَ الدوافع، دون
حرفها إلى رغبات أو انفعالات، والتطلعَ إلى
الغايات العظمى المتمثلة بالوعي والحرية،
التي هي القوة الكامنة، الفاعلة، والهادفة
إلى الانعتاق من الإشراطات العديدة وإلى
الخلاص من قوقعة الأنا إلى الأبد. ***
*** *** [1]
"الفردية" هي الكيان
الإنساني "الفرد"، أو نواته غير
المنقسمة، المتصفة بالديمومة والخلود،
بينما "الشخصية" هي الذات وقد اتخذت
وجودًا اجتماعيًّا، مؤقتًا وزائلاً
بالتعريف، هو بمثابة "واجهة" يقابل
بها الذوات الاجتماعية الأخرى. نشبه
الفردية بالممثل على خشبة مسرح الوجود
الأرضي، بينما نشبه الشخصية السوية
بالأدوار المختلفة التي يؤديها هذا الممثل،
لكنه لا يتماهى معها. تصير الشخصية عبئًا
على الفردية، فتعرقل نموها وتحققها، حين
يتماهى الممثل مع "تشخيص" أحد أدواره،
متوهمًا أن وجوده برمته منحصر في هذا الدور.
(المحرِّر)
|
|
|