|
لأجل
الثورة الأفريقية زمن
الأحلام المثالية بتوحيد المستعمَرين في
العالم تغطِّي
نصوصُ فرانز فانون السياسية المنشورة في هذا
الكتاب – لأجل الثورة الأفريقية[1]
– الحقبة الأنشط من حياته النضالية، منذ نشر
كتابه بشرة سوداء وأقنعة بيضاء (1952)، حين
كان فانون في الثامنة والعشرين من عمره،
وصولاً إلى تاريخ نشر كتابه الأشهر ملعونو
الأرض (1961، بمقدمة من قلم جان پول سارتر)
الذي تزامن صدورُه مع تاريخ وفاته في
الولايات المتحدة بفارق أيام معدودات. تعيد هذه النصوصُ رسم طريق
تسلكه أفكارُ فانون المتعلقة بظاهرة
الاستعمار، التي لا بدَّ من تطويرها اليوم
تطويرًا مغايرًا عن مرحلة الخمسينيات. لكن
تبقى أهمية هذا الكتاب كامنةً في اختبار
فانون لظاهرة الاستعمار من الداخل. إذ يستكشف
فانون دوريًّا حالةَ المستعمر، ويعرضها
عرضًا علميًّا، يكاد أن يكون محايدًا أحيانًا،
مستعينًا بخبرته اليومية في مجال الطب النفسي.
كما يبين فانون موقف مثقفي اليسار من حرب
الجزائر، وأبعاد التقاء كفاح المناضلين كافة
في حركات التحرر الوطني الأفريقية، معلنًا
ثقته بالتحرير القريب لأفريقيا بكاملها
انطلاقًا من تجربته النضالية الجزائرية في
خمسينيات القرن الماضي. يتناول الكتاب، أولاً،
مفهوم المستعمِر، ثم، ثانيًا، قضية العنصرية
والثقافة؛ ثم، ثالثًا ورابعًا، يأتي الفصلان
المسهبان المتعلقان بقضية الجزائر
بامتداداتها الأفريقية؛ لينتهي الكتاب بفصل
خامس أخير عن الوحدة الأفريقية وموت پاتريس
لومومبا الذي يعالجه فانون معالجةً تساؤلية:
هل كان في استطاعتنا التصرف بطريقة مختلفة؟ لا بدَّ من الاعتراف بأن
خيار الكفاح المسلح – الذي يراه فانون خيارًا
وحيدًا لا يمكن التخلِّي عنه في مواجهة
الإمپريالية الكولونيالية – هذا الخيار،
تنتفي اليوم ضرورتُه بعد نيل معظم دول العالم
الثالث استقلالها السياسي، وإنْ بقي
استقلالُها الاقتصادي–الاجتماعي–الثقافي
موضع تجاذبات لا تخلو من العنف أحيانًا،
خصوصًا على المستوى الثقافي الحضاري، بما
يستولده من نزاع (صراع الأصوليات الشرقية مع
الأصوليات الغربية على المستوى السياسي–الديني
مثلاً)؛ كما أن انهيار المعسكر الاشتراكي في
التسعينيات طرح حسابات وتوازنات صراعية
جديدة على المستوى الدولي لم تكن مطروحةً في
مرحلة الخمسينيات. ولكن تلك الحقيقتين لا
تلغيان الأهمية التوثيقية لهذا الكتاب الذي
يغطي تلك المرحلة الملتهبة من تاريخ التحرر
الوطني الجزائري والأفريقي. الكفاح
المسلَّح اختار فانون ممارسة مهنة
الطب النفسي في الجزائر، فتناول موضوع
الاستعمار من وجهة نظر الطب النفسي أولاً،
واستفاض في ذلك في خطاب بعنوان "العنصرية
والثقافة" ألقاه في المؤتمر الأول
للمؤلِّفين السود في العام 1956. وقد أصبح تحليل
فانون النفسي في هذا الخطاب أدق لاحقًا،
فاكتسب الاتهام المعادي للكولونيالية
الفرنسية طابعًا جذريًّا، وبات التزام سلوك
المقاومة المسلَّحة ضد تلك الكولونيالية
صريحًا وواضحًا. أما تشخيص فانون للعنصرية
بأنها "ليست اكتشافًا طارئًا"، بل جزء من
عملية واضحة "تستغل فيها مجموعةٌ من الناس
مجموعةً أخرى من البشر"، فهو تشخيص يستتبع
حلاًّ وحيدًا جاء على النحو التالي: "إن
النهاية المنطقية لإرادة الكفاح هذه تكمن في
التحرير الكامل لأرض الوطن." وهذا "الكفاح"
ينبغي ألا يقتصر على مجال الكلام فقط، بل يجب
أن يتعداه إلى استعمال السلاح[2]. التجديد في
الطب النفسي منذ أصبح فانون طبيب أمراض
نفسية في مستشفى بليدة الجزائري، ناضل
فعليًّا كعضو في المنظمة الثورية الجزائرية.
وقد اشتد نضالُه بعد انطلاق الثورة، وأنجز في
الوقت نفسه عملاً طبيًّا مدهشًا، فكان مجددًا
في الميادين النفسية كافة، شديد القرب
بغريزته من مرضى رأى فيهم ضحايا النظام
الكولونيالي الذي يحاربه، وكدس الملاحظات
السريرية والتحليلات النفسية حول ظواهر
الاستلاب الاستعماري من منظار المصابين
بأمراض ذهنية، واستكشف معاني التقاليد
المحلِّية وعلاقتها بالاستعمار. نشاطه السري لفت عمل فانون كمناضل في "جبهة
التحرير الوطني" FLN
الجزائرية أنظار الشرطة الفرنسية
إليه. فاستقال من وظيفته الطبية وراح يمارس
الكتابة في الخفاء. وقد ظهرت كتاباتُه في
صحيفة المجاهد، التي بات فانون عضوًا
فاعلاً في فريق تحريرها منذ صدور أعدادها
الأولى. وثابر بلا هوادة على فضح المنظومة
الاستعمارية الفرنسية كلها، وكشف عن مظاهر
وحدتها، وعن مظاهر التضامن الذي يربط مَن
ينحازون إليها، طوعًا أو كرهًا، فيما كانت
تجري إبادة مليون جزائري على أيدي القوات
الفرنسية. وفي تحليله مسألةَ المثقفين
اليساريين وموقفهم من حرب الجزائر خصوصًا على
صعيد اليسار الفرنسي، يفضح فانون خبث
اليساريين الذين لا يرون في الاستعمار
ومخلَّفاته، من حرب وتعذيب، غير وباء فطري
مخيف يكفي أن يحاولوا منع انتشاره أو أن
يستهجنوه، في حين أن الاستعمار منظومة "منطقية"
تمامًا، "متماسكة" تمامًا، تجعل كل مَن
يعيش ضمنها أو يتعايش معها "متواطئًا"
حتمًا. هكذا امتلك فانون، منذ ذلك
الوقت، وسيلةً للإسهاب في واحد من مواضيعه
الأولى: توحيد كفاح المستعمَرين كافة. فبحث في
مسألة الوحدة الأفريقية بحثًا واقعيًّا، ولم
ينظر إليها نظرةً تنبئيةً أو استشرافية،
وإنما تَعامَل معها على أساس أنها هدف النضال
الفوري. كما ربط باستمرار مصير الثورة
الجزائرية بمصير القارة الأفريقية بكاملها،
واعتبر الثورة الجزائرية مقدمة للثورة
الأفريقية. ولقد طورت صحيفة المجاهد
باستمرار هذا الخط: "الثورة الجزائرية
وتحرير أفريقيا"، فجعلتْه عنوانًا لكتيب
ضم مقالات ووثائق جمعتْها جبهة التحرير
الوطني وكانت الأكثر انتشارًا في تلك الحقبة،
ما يبين في وضوح مدى اهتمام الثوريين
الجزائريين بتلك المسألة آنذاك. أما الفكرة التي كوَّنها
فانون عن أفريقيا في طور كفاحها الاستعمارَ
فأصبحت واقعًا ملموسًا حين تسلَّم مهمة سفير
للثورة الجزائرية في أكرا. وقد وجب على فانون،
بشكل خاص، دراسة شروط قيام تحالُف أشد وثوقًا
بين الأفارقة، بالإضافة إلى تجنيد متطوعين
سود وفتح جبهة جديدة في الصحراء الجنوبية.
وتشكِّل صفحات الفصل الأخير من هذا الكتاب
جزءًا من يوميات غير منشورة سابقًا يتجلَّى
فيها مخططُ فانون النضالي في كامل وضوحه
وعنفه.
فرانز
فانون (1925-1961) عاد فانون إلى الجزائر
منهوكًا من هذه المهمة التي كُلِّف إياها،
مصابًا بسرطان الدم، فكرس جهوده الأخيرة
لكتابة ملعونو الأرض، كتابه الأشهر. وقد
وافته المنية بعد سنة من إنهاء كتابة هذا
الكتاب، وبعدما سقط صديقه پاتريس لومومبا،
القائد الأفريقي الذي حمل تصورًا عن أفريقيا
كان الأقرب إلى تصوره. حافظ فانون على ثقته
بالتحرير القريب لأفريقيا بكاملها. إذ لقد
كان مقتنعًا بأن الثورة الأفريقية قد "أنشأت
حالة لا رجوع فيها". غير أن تفاؤلية فانون
المفرطة في نهاية الخمسينيات لم تستشرف
العقبات والمصاعب التي تواجه تحرر أفريقيا
وتقدمها والتي لا تزال تعرقل مسيرة القارة
السوداء – حتى أيامنا هذه! ***
*** *** [1]
فرانز فانون، لأجل الثورة
الأفريقية، دار الفارابي، بيروت، 2007. [2]
مع أن الكفاح والمقاومة
المسلحين يتعارضان مع توجُّه معابر
وسياسة تحريرها (النضال من أجل إحقاق العدل
يقتضي اللجوء إلى وسائل عادلة، أي لاعنفية)،
لا يمكن لنا إلا أن نشيد بإخلاص فرانز فانون
ونحترم إيمانه بالقضية التي نذر نفسه لها
وناضل فعليًّا من أجلها – على غير "المناضلين
الجدد" على شاشات الفضائيات! (المحرِّر)
|
|
|