محاكم التفتيش لا تزال أمامنا!

هاشم صالح

 

يخطئ مَن يظن أن محاكم التفتيش محصورة بباباوات روما السابقين والفاتيكان والعصور الوسطى المظلمة! ففي ذلك الوقت، كانوا يلاحقون المفكرين على أفكارهم، وخصوصًا إذا تعلَّقتْ بالدين، وكانوا يضعون كتبهم على قائمة Index الكتب المحرَّمة، أي التي يحرِّم الفاتيكان تداوُلها أو قراءتها. على هذا النحو، حرَّموا كتب غاليليو وديكارت وسپينوزا وجميع فلاسفة التنوير الذين صنعوا مجد الحضارة الحديثة.

لكن، لحسن الحظ، فإن ذاك العصر مضى وانقضى بالنسبة إلى أوروبا المستضيئة بأنوار العلم والعقل. أما بالنسبة إلى العالم الإسلامي – ويا للأسف الشديد – فإن عصر محاكم التفتيش لا يزال مستمرًا منذ ألف سنة حتى اليوم! نعم، منذ كانت أطروحة المعتزلة عن "خلق القرآن" قد سقطت بعد صعود المتوكل إلى سدَّة السلطة بفترة وجيزة حتى صدور تاريخ القرآن لثيودور نولدِكِه، بتعريب جورج تامر وتقديمه، فإن مراقبة الفكر ومحاصرته لم تتوقف في العالم العربي أو الإسلامي كلِّه. ولو أن أطروحة المعتزلة عن النص القرآني انتصرت على أطروحة الحنابلة لما كنَّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من جمود فكري وتحجُّر عقائدي، ولما كان كتاب نولدِكِه عن تاريخ القرآن قد مُنِعَ في بيروت، "عاصمة التنوير العربي" منذ عقود، إن لم يكن منذ قرون.

هذا ما يقوله مالك شبل في كتاب ممتع صَدَرَ في باريس عن مأساة العقل في الإسلام. الخلل قديم، إذن، وليس حديث العهد. لذا فإن مواجهته صعبة جدًّا، بل تبدو شبه مستحيلة في الحال الراهنة للأمور. فهو راسخ كليًّا في العقلية الجماعية الإسلامية إلى درجة أنه يمثل حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش: القرآن غير مخلوق، ولا علاقة له بالتاريخ البشري، لا من قريب ولا من بعيد – وكفى!

لماذا؟

لماذا مُنِعَ كتاب ثيودور نولدِكِه الذي ترجَمَه جورج تامر وأخرجَه في كتاب ضخم وممتع؟ لأنه أول كتاب في التاريخ يطبِّق المنهجية التاريخية النقدية على النص القرآني. إنه يمثل "الثورة الكوپرنيكية" بالنسبة إلى الدراسات القرآنية؛ وسائر الكتب الاستشراقية التي جاءت بعده اعتمدت عليه أو اتخذتْه نقطة انطلاق، حتى عندما عارضتْه، أو تجاوزتْه، أو توصلتْ إلى اكتشافات أخرى جديدة غير التي توصَّل إليها في وقته.

معلوم أن كبير مستشرقي فرنسا ريجيس بلاشير كان قد لخَّصه بالفرنسية، مع بعض الإضافات والتصحيحات، منذ العام 1949. أما القارئ العربي فقد انتظر أكثر من نصف قرن بعد ذلك لكي يتاح له الاطلاع على أطروحات هذا الكتاب التاريخي الرائد. ثم، بعد هذا التأخُّر المخجل كلِّه، يريدون منع هذا القارئ من الاطلاع عليه – مجرد اطلاع!

هل كان نولدِكِه يريد "تدمير الإسلام" عندما ألَّف كتابه هذا؟ هل كان يريد "إثارة النعرات الطائفية"، في لبنان أو غير لبنان؟ مجرد طرح السؤال يُعتبَر فضيحة أو مهزلة! لكن لماذا لا نقول إن الاستشراق الكلاسيكي – الاستشراق الرائع والمتبحر علميًّا – كان يريد "تدمير المسيحية" عندما طبَّق عليها المنهجية التاريخية النقدية نفسها؟!

ينبغي الاعتراف هنا بأن المسيحيين المحافظين (لكيلا نقول "المتزمتين") قاموا بردِّ فعل عنيف على هذه الدراسات النقدية التاريخية عندما ظهرت للمرة الأولى. وردُّ فعل المسلمين المعاصرين لا يختلف في شيء عن ردِّ فعل نظرائهم المسيحيين: إذ لم يَرُقْ لهم تطبيق هذه المنهجية اللغوية التاريخية (أو الفيلولوجية) على العهدين القديم والجديد. والدليل على ذلك أن ريشار سيمون (1638-1712) كان أول مَن طبَّق هذه المنهجية على النصوص المسيحية المقدسة: فقد أصدر كتابين شهيرين عن الموضوع، الأول عنوانه التاريخ النقدي للعهد القديم (1680)، حيث اكتشف أشياء عن التوراة لا تقل خطورة عن اكتشافات نولدِكِه وتلامذته عن القرآن؛ والثاني بعنوان التاريخ النقدي لنص العهد الجديد (أي الإنجيل) (1689). وهنا أيضًا اكتشف أشياء مهمة ومناقضة للاعتقاد الشائع والراسخ. وقد قمعت الأصولية المسيحية هذين الكتابين فورًا، ومنعت تداوُلهما، وعزلت صاحبهما، بل وهدَّدتْه، حتى إنه خاف أن "يكبسوا" عليه على حين غرة، فذهب في إحدى الليالي إلى البرية في منطقة نورماندي، حيث أحرق مخطوطاته وعاد وهو يرتجف إلى بيته. ومعلوم أن الفيلسوف الهولندي سپينوزا كان قد سبقه إلى هذا العمل عندما أصدر كتابه الشهير مقالات في اللاهوت والسياسة (ولكن دون توقيع ومغفلاً من اسم الناشر).

ولم تعترف الكنيسة المسيحية بمشروعية النقد التاريخي وتطبيقه على الكتاب المقدس إلا بعد ثلاثة قرون من موت ريشار سيمون هذا. وكان ذلك في أثناء انعقاد المجمع الكنسي التحريري اللاهوتي الشهير باسم "فاتيكان 2" (1962-1965).

فكم سننتظر من الوقت حتى يسمح لنا "الكهنوت" الإسلامي بتطبيق المنهجية نفسها على الكتاب المقدس للإسلام؟ مائتَي سنة؟ ثلاثمائة سنة؟ لا أعتقد. الحداثة العالمية أصبحت تحاصرنا أكثر فأكثر، وتطالبنا بكشف الحسابات. وكلما ذبح الزرقاوي بيديه إحدى ضحاياه وهو يتلو آية قرآنية لتسويغ ذلك أمام تلفزيونات العالم أجمع، عجَّل في عملية الاستحقاقات وكشف الحسابات هذه. ولن يستطيع المحافظون أو الأصوليون الإسلاميون بعد اليوم تسييج نصوصهم بالأسلاك الشائكة، قائلين لبحَّاثة العالم أجمع: حذارِ! لا تقتربوا من هنا! هنا خط أحمر ممنوع!

هذا الشيء كان ممكنًا قبل تفجيرات نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن وبالي وشرم الشيخ وعمان... أما الآن، فقد أصبح صعبًا علينا أن نقاوم حركة التاريخ إلى ما لا نهاية. الآن سوف تُفصِح الأشياء عن نفسها، وسوف تظهر على حقيقتها. وأقصد بذلك أن تاريخية النص القرآني سوف تظهر على السطح يومًا ما، لكن تدريجيًّا وفي بطء شديد، لأنها لو ظهرت دفعة واحدة لـ"زلزلت الأرض زلزالها"، أي لاهتزَّ العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.

لهذا السبب ينصح لنا محمد أركون بأن نتقدم في هدوء وحَذَر، في أرض خطرة جدًّا ومليئة بالألغام. فالحقائق التي نمنا عليها أو طمسناها مدة ألف سنة قد تنفجر في وجوهنا كالقنابل الموقوتة وتحرق الأخضر واليابس! ومعلوم أن الشيء، إذا ما كُبِتَ زمنًا طويلاً، يكون انفجارُه ساحقًا ماحقًا.

تاليًا، فالمسألة كلُّها أمامنا وليست خلفنا. لكن أركون، في الوقت نفسه، يستنكر الموقف المتشنج والمتخلف لعلماء الدين المعاصرين، إذ يقول:

حتى النقد التاريخي اللغوي [أو الفيلولوجي] القديم، على طريقة نولدِكِه، لا يزال ممنوعًا في العالم العربي ويدخل في دائرة اللامفكََّر فيه أو المتعذر التفكير فيه في نظر رجال الدين المسلمين.

هذا الكلام كتبه أركون في المقدمة الثانية لكتابه قراءات في القرآن، أي قبل صدور ترجمة جورج تامر لكتاب نولدِكِه بخمسة عشر عامًا على الأقل! وتاليًا، فقد استبق الحدث قبل حصوله. ولم يكذِّب التاريخُ توقعاتِه، للأسف الشديد، بل أكدها تأكيدًا كاملاً.

فالواقع أن المسلمين المحافظين – أو المتحجرين عقليًّا – يرفضون المناهج الحديثة في البحث كلَّها، وخصوصًا المنهج التاريخي. إنهم يرفضون تطبيقها على التراث الديني بحجة أنها "اختزالية" أو "وضعية"، لا تأخذ البعد الروحاني أو الديني لهذا التراث في الاعتبار. نقول ذلك على الرغم من أن هذا المنهج لا ينفي البُعد المتعالي للقرآن الكريم أو الاستلهام الربَّاني، لكنه يفسِّره بطريقة أخرى عن طريق ربط الوحي بالتاريخ.

لكن هذا ما فعلوه بالنسبة إلى التراث الديني المسيحي، ولم يؤدِّ ذلك إلى انقراض المسيحية في الغرب! على العكس، لقد جَعَلَها تتجدَّد، وتنبعث، وتشكل لاهوتًا جديدًا، قادرًا على التصالح مع العقل والعلم والحداثة. وهذا ما سيحصل في الإسلام إذا طُبِّق المنهج التاريخي عليه. ففيه الخير كلُّ الخير للعالم العربي والإسلامي. وقد قدَّم جورج تامر خدمة جلَّى للدراسات القرآنية، إذ ترجم هذا الكتاب الرائد إلى اللغة العربية. لكن "أكثر الناس لا يعلمون"، كما يقول القرآن عن حق وصدق.

نقطة أخيرة

بقيت نقطة أخيرة قبل الانتهاء من هذه العجالة. هل كان جورج تامر يهدف إلى "إثارة النعرات الطائفية" عندما كرَّس جهوده كلَّها (مع فريق عمله) لنَقْلِ هذا السِّفر الضخم إلى اللغة العربية؟ لقد قرأت مقدمته بكلِّ إنعام نظر، ولم أجد فيها أيَّ شيء يدل على ذلك. بالعكس، لقد وجدت الكثير من الإشادة بالقرآن الكريم وبالإسلام وبالنبي العربي. فهو، في أكثر من موضع، يشيد بالبيان القرآني وما يختزنه من معانٍ. ثم يستشهد بغوته، كبير أدباء الألمان، الذي

كان يكنُّ للشرق حبًّا وللإسلام ونبيِّه احترامًا، والذي صرَّح بعد أعوام، في ملاحظاته ودراساته التي كتبها لـالديوان الغربي الشرقي، بأن الأثر العظيم الذي تَرَكَه القرآنُ في النفوس إنما يعود إلى أسلوبه الصارم الرائع. XV من المقدمة)

ثم يردف، في الصفحة نفسها، عن ترجمة عالم ألماني آخر للقرآن:

وقد ربط فيها بين سحر لغة القرآن وطابعه الإلهي، معتبرًا أن الألوهة تنعكس في عظمة لغة القرآن، وأن هذه اللغة كانت السبب في انتصار دعوة محمد، لا بقوة السيف، بل بقوة الكلام، الذي لا بدَّ من أن يكون، وهو على ما هو عليه من الروعة، كلامَ الله.

إن مَن يقول هذا الكلام في مستهل كتابه المترجَم لا يمكن أن يكون كارهًا لتراث الإسلام وقرآنه. على العكس، إنه محبٌّ لهما، ويفتخر بهما على رؤوس الأشهاد، على اعتبار أنه تراثه أيضًا، لأنه مكتوب بلغته ولغة آبائه وأجداده. فهو، كمسيحي عربي، ينتمي إلى هذا التراث قلبًا وقالبًا؛ ولا يحق لأحد أن يزايد عليه من هذه الناحية. يضاف إلى ذلك أن مَن يرسِّخ الطائفية إلى الأبد في لبنان (وغير لبنان) ليس البحث التاريخي الرصين الذي يحرِّر العقول، بل استمرار الوضع القائم كما هو: استمرار القراءة القروسطية والطائفية المتخلِّفة للتراث الإسلامي. إن استمرارية التفسير اللاتاريخي، أو التقليدي، للقرآن وللتراث الإسلامي كلِّه تعني أن الفكر العلمي لم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، منذ العصور الوسطى وحتى اليوم، كما يقول صاحب نقد العقل الإسلامي في قراءاته للقرآن. إنها تعني إلغاء كلِّ الفتوحات العلمية والفلسفية التي حقَّقتْها البشرية على مدار القرون الأربعة المنصرمة.

لكن المؤمن التقليدي، المحشو رأسه حشوًا باليقينيات الدُغمائية المتحجرة التي لا يمكن للعقل أن يقترب منها أو يسلِّط أضواءه عليها، سوف يرفض هذه المنهجية الحديثة، في اعتبارها "عدوانًا" على الإسلام وتراثه! وهو، إذ يفعل ذلك، يجهل (أو يتجاهل) الحقيقة البديهية التالية: وهي أن يقينيَّاته الإطلاقية التي تتخذ صفة المعصومية أضحت عبئًا على العالم العربي، بل وتشكِّل حجر عثرة في طريق التقدم والتطور والخروج من المأزق الرهيب الذي نتخبط فيه حاليًّا؛ كما تشكِّل عدوانًا على كلِّ عقل أو علم أو منطق.

من هنا ضرورة تغيير برامج التعليم الديني في جميع المدارس والجامعات العربية والإسلامية. وهذه ليست دعوة إلى "إسلام أمريكي"، كما يزعم المحافظون العرب المتزمتون، بل دعوة إلى إسلام مستنير، قادر على دخول العصر والتصالُح مع الحداثة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود