|
الفتوى والدَّعوى
1 أميِّز بين الدين و"المتدين"، وبين "الطائفة" والفرد الذي وُلِدَ فيها. وتبعًا لذلك، أميِّز بين الإيمان الديني، أيًّا كان، والموقف السياسي، الاجتماعي، الثقافي، الذي يتبنَّاه صاحبُ هذا الإيمان. لا أناقش هذا المؤمن في دينه. أحترمه، وأدافع عن حقِّ الإنسان في أن يؤمن بالدين الذي يطمئن إليه. لكن، عندما يتكلَّم المؤمن، باسم دينه، على قضايا تتجاوز الحدود الروحانية الخاصة بالتجربة الدينية إلى "أرض" أخرى، – أرض السياسة، والاجتماع، والفلسفة، والفن، والشعر، والعلم، – فإنه ينتقل من الخاص به، وحده، إلى العام المشترك بين الجميع. وعندما يقوده هذا الانتقال إلى أن يفرض على الآخرين أحكامَه وأفكارَه وآراءه في هذا العامِّ المشترك، فإنه يمارس في ذلك نوعًا من العدوان عليهم: يَسْتَتْبِعهم، ملغيًا هوياتهم الفكرية المستقلة. وفي هذا ما يسوِّغ لهم الدفاع عن حقوقهم بمختلف الوسائل، القانونية والفكرية. 2 انطلاقًا من ذلك، أعدُّ "الدعوى" التي أقامها عددٌ من المثقفين اللبنانيين على الشيخ عفيف النابلسي، بسبب "الفتوى" التي أصدرها (21 كانون الأول 2005)، ظاهرةً تاريخية مزدوجة، ثقافية وإنسانية معًا: أ. ثقافية، لأنها تطرح أمام المثقف اللبناني تحديَ المسؤولية، تحديَ الملموس، المعيش، ناقلةً إياه من ميدان "البيان" إلى ميدان الممارسة، ومن طوباوية النظر إلى محكِّ العمل: فمنذ أكثر من نصف قرن، تمتلئ الأندية والمجالس، المجلات والجرائد، المنابر والساحات، بالكلام على ضرورة الخلاص من الطائفية. لكن التجربة أثبتت أنه لم يتجاوز حدود "البيان"؛ وطبيعي أن يتحول هذا "البيان"، بفعل التجريد والانفصال عن الممارسة، إلى مجرَّد "ثرثرة"، تتحول بدورها إلى "حجاب" – وهو "حجاب" يكاد أن يُسهم في الإغراء بـ"فضائل" الطائفية، و"ضرورتها"، فضلاً عن "ديموقراطيَّتها" و"حرياتها" و"إشعاعها"! بل يُخيَّل لِمَن يُشدِّد على الممارسة أن "العَلمانيين" يكادون هم أنفسهم أن يتحولوا "أعمدة" أخرى في "قِلاع" الطائفية! ب. إنسانية، لأنها تعيد المواطن اللبناني إلى هويته، بصفته إنسانًا، قبل أن يكون فردًا في طائفة. فهذا المواطن يُحدَّد اليوم، في السلطة والسياسة والإدارة، بانتمائه إلى طائفته؛ ويقوَّم، ضمن طائفته، بمدى ولائه أو عدائه لمن "ينطق" باسم الطائفة، أو "يمثِّلها"، أو يتولَّى قيادتها. الجانب الإنساني، الذاتي، فيه مُهمَّشٌ ومحجوب؛ كينونتُه ذاتها مهمَّشةٌ ومحجوبة. كأنما ليس هناك، في "المنطق الطائفي"، إنسان لبناني، وإنما هناك "اسم" ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك، يُسمَّى لبنانيًّا: "التبعية الرقمية" ابتكار لبناني، يحلُّ محلَّ الكينونة المتفردة! 3 التحية لِمَن أقاموا هذه "الدعوى"! وتكرارًا، لا أجد فيها ما يمسُّ الدين في ذاته، أو ما يغض من شأن المقاومة (التي تتبوأ في حياتنا جميعًا مكانًا فريدًا ومكانة عالية)، أو ما يسيء إلى كرامة الإنسان. وهي، حتَّى في ما يتعلق بالشيخ النابلسي، تنبِّهنا جميعًا، فيما تنبِّهه هو، على نحو خاص، إلى أن علينا أن نقرن ما نقوله بمسؤوليتنا عن النتائج التي تترتَّب عليه. الكلام، أخلاقيًّا، عمل؛ واللغة، أخلاقيًّا، خطر عظيم: ففيها، هي كذلك، سجون وسلاسل؛ وفيها عنف وطغيان. ولذلك علينا أن "نَعْمَل" كلامنا قبل أن نلفظه. دون ذلك لا يكون، ضمن ثقافتنا "البيانية" السائدة، إلا لغوًا؛ ولا يكون، بصفته لغوًا، إلا عدوانًا على الإنسان وعلى اللغة – وهي هنا العربية التي أنزل بها الله وَحْيَه إلى العالم. التحية لهم، لأنهم بادروا إلى العمل للخروج من هذا التجريد، الذي يُسمَّى "الطائفة"، إلى الفرد الكائن المشخَّص. فهذه "الدعوى" انتصارٌ للإنسان، بصفته إنسانًا؛ وهو الانتصار الألصق بذاته وهويته، الذي يجدر باللبناني أن يعمل له أولاً، لكي يكون قادرًا على أن يعمل للانتصارات الأخرى. ولا شك أن في الطوائف الأخرى "شيوخًا" آخرين. ولعل "أبناءها" – وبخاصة مثقفيها – أن يجدوا في هذه "الدعوى" حافزًا ومثالاً. *** *** *** عن النهار، 25 كانون الثاني 2006 |
|
|