ذاكرة الباطن

 

أكرم أنطاكي

 

الفصل الثالث عشر

استمرار التحوُّلات وابتعادي التدريجي عن الحزب

(1979-1982)

 

"... ابحثْ عن نفسك بنفسك. لا تسمح للآخرين أن يخطُّوا لك دربَك. إنه طريقك أنت – طريقك أنت وحدك. يجوز للآخرين أن يقطعوه معك، لكنْ ليس لأحد أن يقطعه عنك..."

من القانون الأخلاقي للأمريكيين الأصليين

 

طائر الليل: كريشة في مهبِّ الريح كان. لكنْ لا تَلُمْه! فهذه كانت حالُنا جميعًا منذ البداية – ولم تزل...

كان يبتسم، يضحك، ويبدو قويًّا وهو يتحدث إلى الآخرين. لكن، لا تخدعنَّكم المظاهر! فقد كان واعيًا لهشاشته، وقلبُه الحزين كان يبكي...

1

في عمق واهتمام، كنت أتابع ما يجري من حولي من أحداث. لكن شيئًا ما كان يتحول في داخلي، ألا وهي مشاعري وقناعاتي، التي بدأ يتغلب عليها طابعُ التشكيك. حيث، على سبيل المثال، كنت أتابع، من بين أمور أخرى، أنباءَ الثورة في إيران التي عاد إليها الإمام الخميني مع مطلع شباط 1979. كنت معجبًا حقًّا بعمقها الشعبي وباتساعها، لأنه فعلاً ليس في وسع أيِّ حكم الوقوف في وجه شعبه إذا ما تمرَّد هذا الشعب. لكن – وهذا ما كنت بدأت أتفكر فيه أيضًا – ليست الثورات كلها "إيجابية" من حيث العواقب، كما كنَّا نتصور و/أو كما كانوا يصورونها لنا. إنما من الممكن، – كما كنت أرى بأمِّ عيني وأنا أتابع الحالة الإيرانية، حيث انتصرتْ السلفية الشيعية، – بل من الممكن جدًّا أن تعيد "إرادة الجماهير" الأوضاعَ العامة إلى الخلف، أقصد إلى ماضٍ سحيق كنَّا نعتقد أنه ولَّى إلى غير ما رجعة. وأيضًا...

كنت أصبحت عمليًّا، من الناحية التنظيمية، بعيدًا عن الحزب – هذا الحزب الذي كانت منى قد تقدَّمت بعض الشيء آنذاك على سلَّم مسؤولياته. فوضعي من هذه الناحية كان عالقًا. كنت مازلت أتابع باهتمام أخبار الحزب، وأبدي رأيي، لا بل أتدخل مباشرة في صراعاته. ولكن هذا الاهتمام كان بدأ يشوبه اشمئزازٌ مقرون بتشكك عميق كنت أحتفظ به لنفسي، فلا أُظهِره لأحد، ولا حتى إلى أقرب المقربين إلي. و"حزبنا العظيم" كان حينئذٍ على أعتاب مؤتمره الخامس الذي بات واضحًا أنه سيثبِّت، كتحصيل حاصل، ثنائي بكداش/فيصل "المبدئي" الذي يدعمه السوفييت، من جهة، ويطرد "الجماعة اللامبدئية المتخلفة" لمراد يوسف، التي أصبحت منشقَّة عنه على أرض الواقع، من جهة أخرى.

وأيضًا – وهذا هو الأهم – كنت بدأت، للمرة الأولى في حياتي، أفكر في الابتعاد وفي ترك البلد لتحسين أوضاعي المادية، من جهة، وللاختلاء بنفسي والتفكر في هدوء فيما كان يجري حولي بعامة وفي أعماقي بخاصة.

على صعيد العمل، كنت ما أزال، في ذلك النصف الثاني من العام 1979، في "شركة الأعمال الإنشائية"، حيث استلمت موقعي الجديد مسؤولاً عن مشروع تنفيذ خط سكة حديد حمص–دمشق الذي كان يشارف على نهاياته. فأضحى مركز عملي في بلدة جيرود القريبة من دمشق، حيث كنت أنام في الورشة أحيانًا. ولكن غالبًا ما كنت أتوجَّه مساءً إلى منزل الأهل في دمشق، الذي كنت (ربما عن سذاجة) مازلت أعتبره منزلي، لأعود كلَّ عشرة أيام أو أسبوعين إلى حلب، حيث كانت زوجتي والأولاد، فأستريح يومين أو ثلاثة.

كانت أيام الاستراحة تلك هي أجمل الأيام على الإطلاق في نظري، لأني من خلالها كنت أتابع أطفالي عن كثب وهم في هذه السنِّ الأجمل على الإطلاق: ابنتي لنا التي كانت في الرابعة من عمرها، وبدأت تذهب إلى الحضانة؛ وطارق ونورا اللذين لم يكونا بعدُ قد تجاوزا عامهما الأول. وأتذكر أيضًا أنه...

في تلك الأيام، تحسنت بعض الشيء أوضاعُ أهلي المادية. فقد أنجز وديع (شقيق منى) معاملة "حصر الإرث" المتعلقة بتلك الأرض التي ظل جدِّي لطف الله "يكافح" من أجلها طوال حياته ولم ينل منها شيئًا. فالحكم كان صدر قبل بضع سنوات من تاريخه، وقد مات جميع فرقاء هذه القضية المنسية، باستملاك الدولة لتلك الأرض وبتقسيم ما قدَّرتْه من ثمن بخس نسبيًّا بالتساوي بين فرقائها. وكانت حصة أهلي من تلك التركة 175000 ليرة سورية على ما أذكر (أي ما يعادل حوالى الـ62500 دولار أمريكي بأسعار تلك الأيام). وقد سارع والدي، الذي كانت أوضاعه الصحية قد بدأت تتدهور، فور استلامه لهذا المبلغ، إلى إعطائي 25000 ليرة كي أسدِّد بها قرض منزلي؛ كما أرسل مبلغًا مساويًا إلى إكرام في المكسيك، التي كانت تعاني من أوضاع مادية صعبة. فقمنا – منى وأنا – بتسديد قرض منزلنا، ثم ببيعه، ثم مباشرة بشراء منزل آخر أفضل قليلاً، يقع في المنطقة نفسها (حي السليمانية)، ميِّزته الوحيدة أنه في الطابق الأرضي (لأن منى كانت تعاني جدًّا، وقد أصبح في عهدتها ثلاثة أطفال صغار، من علوِّ منزلنا الذي كان يقع في الطابق الرابع).

وأتذكر من تلك الأيام، التي كانت أيامي الأخيرة في "شركة الأعمال الإنشائية"، أوضاعي في العمل. فأسترجع صِدامي مع ممثلي "الطبقة العاملة" من "الرفاق المبدئيين"، وكيف دخل ممثل النقابة في الورشة – سائق الـ"سكريپر"[1] – "الرفيق أبو شالو" إلى مكتبي، يرافقه رفيق آخر، وطلبا التحدث معي في أمر هام يتعلق بمشكلة عمالية عرضاها أمامي في منتهى البساطة، ألا وهي: إن مركز عملهم كورشة سكريپرات (لردم أعمال جسم الخط) قد أضحى قرب المطار الدولي، أي على مشارف دمشق؛ لكن، لما كانت عائلات بعضهم التي جلبوها معهم تقيم في جيرود، فإن ما يطالبون به هو أن يبقوا مقيمين هناك، وأن يجري نقلهم كلَّ صباح إلى موقع العمل (أي إضاعة أكثر من ساعة ذهابًا) وإعادتهم بالتالي كلَّ مساء (أي إضاعة أكثر من ساعة أخرى إيابًا). فأجبتهم بأن هذا خطأ جسيم سيسيء إلى العمل؛ حيث من المتعارف عليه أن ورشتهم تحديدًا هي ورشة متنقِّلة رافقت وترافق الطريق (أي طريق) من بدايته إلى نهايته، وأن هذه هي حال الورشات المشابهة كلِّها في مختلف المشاريع الطرقية، وأنه هكذا كانت الحال أيام هاشم. فأجاباني بأن أيام هاشم قد انتهت! فقلت لهم إني أرفض اقتراحهم من حيث المبدأ، وأرغب في مقابلة سائقي الآليات، كلٍّ على حدة، للتأكد من رغبتهم الحقيقية. فخرجا من مكتبي وهما غير مسرورين. وأتذكر جيدًا أني بدأت الاتصال على الفور بسائقي الآليات، كلٍّ على حدة، لمناقشتهم والتأكد من رغبتهم الحقيقية. فتبين لي أن معظمهم لم يجلب عائلاته إلى جيرود، وأنه، بالتالي، لا يمانع – لا بل يرحِّب - بنقل المخيم إلى قرب دمشق، حيث أصبح موقع العمل. وأسارع إلى الاتصال بالأستاذ غسان ف.، المدير العام الجديد، الذي أكد لي بكل ودٍّ، بعد أن شرحت له الموضوع، أنه يدعم موقفي وأن لا شيء سيتغير. ولكن...

سرعان ما أفاجأ، بعد يومين من إخباره، بالأستاذ غسان ف. يستدعيني كي أذهب معه إلى موقع الورشة لأنه يريد مناقشة العمال حول الموضوع. وأفهم بأن الرياح قد تحولت! وآتي إلى عنده لنذهب معًا لمقابلة العمال الذين كانوا في انتظارنا، وعلى رأسهم مسؤولهم النقابي (من جماعة أبو عمار) الرفيق أبو شالو الذي، حين سأله الأستاذ غسان ف. عن رأيه في الموضوع، أجاب بجملة واحدة مختصرة ومفيدة: "لا نريد أن ننام في موقع العمل... ولن ننام!" فاستدار الأستاذ غسان ف. نحوي وسألني عن رأيي، فأجبته بأن أبو شالو، على صفته النقابية، لا يمثل رأي أغلبية عمال ورشته الذين لا يمانعون في نقل موقعها، وأن نقلهم كلَّ يوم من جيرود وإليها سينعكس سلبًا على العمل وتكلفةً على المشروع، وأن مثل هذا الطرح لم يكن مقبولاً – ولا حتى واردًا أصلاً – أيام هاشم – تعليق شعرت بأنه أزعج الأستاذ غسان ف.، الذي سرعان ما حسم الموقف قائلاً إنه، وقد استمع إلى وجهتَي النظر، قرر أن يكون متسامحًا، وأن يوافق على نقل السائقين كلَّ يوم من جيرود وإليها... وأجدني، بكل بساطة، أغادر الاجتماع الذي لم يكن قد انتهى بعد!

فعلاً، لقد تغيرت الأيام، يا "أبو الخير"! وأيضًا...

أتذكر تلك الحادثة الأخرى التي كانت في نظري "الشعرة التي قصمت ظهر البعير": كان ذلك عشية ذكرى تلك المناسبة التي أصبحت تُعرَف عندنا بـ"الحركة التصحيحية" (التي لا يعرف أحدٌ منَّا، إلى اليوم، ما الذي "صحَّحتْه"!)، كيف، حين وصلت في ذلك الصباح إلى مخيم الشركة في جيرود، وجدت جميع العمال متوقفين عن العمل، يزيِّنون الآليات والبرَّاكات بقيادة أحد المراقبين (الذي كنت أعرفه متملقًا جدًّا). فاستفسرت عما كان يجري، ثم أمرتهم بالعودة فورًا إلى أعمالهم، على أن يتم التزيين بعيد انتهاء الدوام. وبعد إنجاز بعض الروتينيات، غادرت الموقع لتفقُّد الورشات على الخط ومتابعة طريقي إلى حلب (فقد كان الغد يوم عطلة)... وأعود من حلب بعد ثلاثة أيام، لأخبَر فور وصولي بأن المخابرات تسأل عنِّي، وبأني مطلوب إلى مركز "المخابرات العسكرية" في النبك. أتصل بالأستاذ غسان ف.، الذي أجده عالمًا بالموضوع والذي يحدد لي مباشرة موعدًا في الغد، طالبًا مني التوجه إلى النبك لمقابلتهم.

-       ولا يهمك، يا أكرم! لقد تحدثت مع العقيد .....، مسؤول الأمن العسكري هناك. هي فقط بعض الأسئلة والأجوبة.

وأتجه في الموعد المحدد، صبيحة اليوم التالي، إلى مركز المخابرات العسكرية في النبك حيث، وبعد انتظار "تقليدي" لأكثر من ساعتين، أُدخَل لمقابلة المسؤول الأمني، الذي رحَّب بي في لطف وسألني عن مضمون تقرير وَرَدَه مرفوع في حقِّي يقول إني شتمت الدولة وأحرقت العلم! فأجيبه: "وهل تراني مجنونًا؟!" ولما سألني عن الحادثة، أجبته بما حدث بالفعل في ذلك اليوم. فضحك وقال لي: "بسيطة، نحن نصدقك." ثم أذن لي بالانصراف بعد تناوُل كأس من الشاي.

كان شعوري حين غادرت المركز، وأنا في طريق عودتي إلى دمشق، شعورَ مرارة وألم، شعورًا بأني بتُّ مكشوفًا جدًّا وبأنه لم يعد في وسعي قيادة العمل وفق قناعاتي. في إلحاح كانت تراودني تلك الفكرة: "عليك أن تغادر، يا أكرم... عليك أن تفكر في نفسك وفي عائلتك... عليك أن تترك الشركة وأن تغادر البلد حتى بعض الوقت..."

وكان هذا ما فعلت. حيث كنت منذ فترة قد هيأت جواز سفري، وحصلت على فيزا إلى فرنسا، ثم إلى الجزائر، حيث كان يعمل رفيقي سمير شاليش وزوجته دعد، اللذين كتبت إليهما مستفسرًا، فجاءني ردُّهما سلبيًّا وحزينًا بأنه ليس في وسعهما مساعدتي لأن سميرًا مصاب بمرض عضال (سرطان في الرأس)، وسيذهب خلال أيام إلى باريس للعلاج – مع التأكيد هنا بأن إيجاد العمل، كما قالوا لي، سهل في الجزائر: كل ما عليَّ أن أفعل هو أن أتابع ما يُنشَر في الصحف، كما يفعل الجميع. وبعد التشاور مع منى، قررت السفر والمغامرة.

وقد ساعدني في موضوع سفري صديقي الحبيب توفيق البطل الذي زوَّدني بإحداثيات صديق عزيز له هناك (نبيل م.، الذي كان آنذاك مسؤول تنظيم الحزب في فرنسا)، وأخبرني أن في وسعه أن يؤويني في غرفته الصغيرة (التي كانت سابقًا غرفة إكرام) خلال فترة وجودي في باريس.

وأسترجع أيضًا أني اجتمعت قبيل سفري بالرفيق أبو سام (مراد يوسف)، وأني أخبرته بسفري. فأبدى رغبته في أن يرسل معي بعض المطبوعات إلى الرفاق في فرنسا. وأتذكر خاصةًً كيف كان خلال هذا اللقاء يهاجم الرفيق خالد بلا مناسبة، مؤكدًا على استحالة التعامل معه. فأجدني أسأله (بلؤم):

-       "ولم لا تتصل بالرفيق يوسف، يا أبو سام؟" فيجيبني مباشرة، دون أيِّ تمعُّن:

-       "لقد حاولت هذا، ولم أزل أحاول، يا رفيق. لكن إلى الآن لم يتجاوب أبو خلدون معي."

وأُصعَق للجواب! لأن المعركة السياسية التي كان بدأها أبو سام في الحزب آنذاك كانت، تحديدًا وحصرًا، للدفاع عن الرفيق خالد ضد يوسف الذي كان يسعى للحلول محلَّه، كما صُوِّر لنا. وهكذا، بيني وبين نفسي، قررت مباشرةً قطع علاقتي به، وقررت أيضًا ألا آخذ ما كان يريد إرساله من مطبوعات إلى باريس. لقد كان هذا اللقاء فعلاً لقائي الأخير مع مراد يوسف.

وهكذا، إذن، دون أن التفت إلى الوراء، ودون أن أنتظر حتى الموافقة على طلب استقالتي من الشركة (وكان هذا خطأ جسيمًا كلَّفني الكثير من العناء فيما بعد)، غادرت دمشق إلى فرنسا.

2

كان معي، حين غادرت دمشق إلى باريس، 500 دولار يُفترَض أن تكفيني حتى أتدبر أموري في الجزائر. باريس الجميلة التي وصلتها لأول مرة يومذاك. سعيت مباشرة، بعد تأمين منامتي لأول ليلة لي هناك في فندق "بلا درجة" يقع قرب الـPlace d’Italie، للاتصال بنبيل م.، الذي تمكنت من رؤيته في اليوم نفسه والذي دعاني مباشرة إلى الإقامة معه في غرفته الواقعة قرب المكان. وكان هذا ما فعلتُه في صباح اليوم التالي.

وأستعيد أحاديثنا الطويلة حينئذٍ. فقد كان نبيل م. يريد في شغف الاستفسار منِّي عن الأوضاع في الحزب وفي البلد. وقد أخبرته بكلِّ ما عندي، وخاصة بما حصل معي مع أبو سام قبيل سفري. وأجدني متفقًا معه حينئذٍ حول الأوضاع في الحزب، وخاصة حول ذلك التقويم القائل بأن الوقوف مع أبو عمار هو الموقف الأصح. ويخبرني نبيل بأن رفيقنا سمير موجود الآن في مستشفى الـHôtel Dieu في باريس وبأن زوجته دعد هناك أيضًا، فنسارع معًا لزيارتهما. وانطباعي الحزين الذي احتفظت به لنفسي كان، منذ تلك الزيارة الأولى، أن وضعه ميؤوس منه. وأيضًا، أسارع منذ اليوم الأول لي في باريس إلى البحث عن عمل في الجزائر من خلال الصحف الجزائرية المتوفرة هناك، فأجد إعلانًا يطلب "مهندسًا" طرقيًّا للعمل مع شركة صوناتراك في سكيكدة (وهي مرفأ قريب من مدينة قسطنطينة). فأسارع إلى الردِّ عليه والاتصال مباشرة بالشركة، حيث اتفقت معهم على أن آتي إلى عندهم في مطلع الأسبوع القادم بعد أن يصلني ردُّهم الخطي وأن يحجزوا لي في الطائرة. وكان هذا ما حصل. وقد قضيت ذلك الأسبوع الأول لي في "مدينة الأنوار"، محاولاً الاتصال بجميع الأصدقاء، وعلى رأسهم فاروق مردم وجان فرانسوا فوركاد. فتمكنت من رؤية فاروق، الذي قضيت في صحبته ساعةً جميلة جدًّا، تحدثنا فيها في كلِّ شيء، وكأننا لم نفترق منذ حوالى خمس عشرة سنة؛ فاروق الذي، حين حدثته عن موقفي من الصراعات الدائرة في الحزب ووقوفي إلى جانب الجهة التي كنت أعتقدها أكثر انسجامًا مع السوفييت، سألني إن كنت قرأتُ كتاب هيلين كاريير دانكوس الإمبراطورية المبعثرة؛ فلما أجبته بالنفي، طلب مني قراءته، على أن نتحدث في الموضوع لاحقًا.

وأتفكر اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أن فاروق، الذي انتسبت إلى الحزب عن طريقه، كان الأول بيننا الذي اكتشف "ضلال" ذلك الطريق الذي اخترناه حين كنَّا شبابًا، والأول بيننا الذي اكتشف قطعًا تلك العفونة المتغلغلة فعلاً في أعماق "مملكة الدانمرك"[2].

حين وصلت إلى الجزائر في ظهيرة ذلك اليوم الغائم، تملَّكني، للوهلة الأولى، شعورٌ بالتفاؤل. كان في انتظاري سائق وسيارة من تلك الشركة، حيث كان يُفترَض أن أعمل. وقد تمَّ نقلي مباشرة إلى سكيكدة، حيث حجزوا لي غرفة في الفندق الوحيد الفخم هناك، وحيث أُخبِرتُ بأن لقائي مع مدير الشركة سيكون صباح الغد. وفي الغد التقيت بالمدير الذي، بعد أن رحَّب بي وسألني عن خبرتي في أعمال الطرق، حدَّد لي راتبًا أقل من ذاك الذي كنت اتفقت عليه معه وجئت على أساسه. فرفضت اقتراحه الذي وجدته مجحفًا في حقِّي وقررت العودة. وكان هذا لقاؤنا الأول والأخير، حيث غادرت سكيكدة إلى مدينة الجزائر في مساء ذلك اليوم نفسه. رحلة ومغامرة طريفة عبر جبال جرجرة الجزائرية المكسوة بالغابات؛ إذ أتاح لي تعطُّل السيارة التي كانت تقلُّني التعرفَ السريع إلى طيبة أبناء البلد. وأصل إلى هناك في ساعة متأخرة من الليل، لأجد في انتظاري رفيقًا لنا من بيت البيطار كنت سارعت إلى الاتصال به قبيل مغادرتي سكيكدة، بعد عدم تمكني من الاتصال بأمين، شقيق دعد (زوجة سمير)، فقضيت الليل عنده.

وفي اليوم التالي، اتصلت بأمين الذي سارع إلى استضافتي في منزل سمير ودعد، حيث بقيت ثلاثة أيام، حاولت خلالها من جديد البحث عن عمل، لكن دون جدوى. فقررت العودة إلى باريس، عساي ولعلي أوفَّق أكثر من هناك.

-       "ما هو انطباعك عن الجزائر، يا أكرم؟" يسألني أمين. فأجيبه:

-       "البلد جميل، لكن الشعب جلف. وانطباعي أيضًا أن المدينة مهترئة من حيث الأبنية ومن حيث الخدمات. يبدو لي وكأنهم لم يعرفوا كيف يصونونها بعد أن خرجت فرنسا. كما أن عدد العاطلين عن العمل كبير جدًّا، على ما يبدو." قلت هذا، وأنا أتفكر حينئذٍ في ذلك المشهد المخيف الذي رأيته في كلِّ مكان: مشهد المئات والمئات من الشبان المتسكعين في الشوارع والمستندين إلى الجدران! فضحك أمين وقال لي:

-       "أنت على حق! لقد لمست المشكلة الحقيقية لهذا البلد. أما جلافة أبنائه فهي تعود إلى قسوة تجربة الحرب التي مرُّوا بها."

ويسألني جاري في الطائرة التي كانت تقلُّني عائدًا إلى باريس، مجرجرًا ذيول خيبتي:

-       "من أي بلد أنت، يا صديقي؟" فأجيبه:

-       "من سورية." وأسأله بدوري من باب المجاملة:

-       "وأنت جزائري طبعًا؟" فيجيبني في حدة بالفرنسية:

-       "كلا، أنا "كابيل"!" أي من منطقة القبائل.

وأتفكر اليوم أني يومذاك لم أكن أعي تمامًا بأن سكان منطقة القبائل (التي عاصمتها تيزي وزّو) يشكلون جماعة متمايزة نسبيًّا عن إخوانهم الجزائريين. كما لم أكن أفكر حتى بأن هذه التمايزات هي خصوصية جميع البلدان، بما فيها بلدي سورية.

وأعود إلى باريس وإلى الحبيب نبيل، الذي استضافني مجددًا في غرفته الصغيرة، حيث كنَّا ننام جنبًا إلى جنب على فراش من الإسفنج ممدود على الأرض كان، مع طاولة قديمة وكرسي وبراد صغير، الرياش الوحيد "المترف" لهذه الغرفة الفقيرة! – تلك الغرفة التي كانت تشترك في خدماتها الصحية مع الآخرين من نزلاء الطابق نفسه. وأبقى في باريس هذه المرة مدة أسبوعين آخرين، أقضيهما في البحث الحثيث عن العمل وفي الاتصال بالأصدقاء.

وأتذكر أني طرقت كلَّ الأبواب الممكنة. أجل، طرقتها كلَّها! أجريت الكثير من المقابلات التي كان بعضها واعدًا. لكني لم أوفَّق في النهاية. إنما وفقت أكثر في استعادة معظم علاقاتي القديمة...

كعلاقتي مع جان فرانسوا فوركاد، الذي سرعان ما التقيت به. فاستضافني بضعة أيام في منزل مطلَّقته الواقع في أعلى الحي اللاتيني قرب حديقة اللوكسمبورغ. وقد قضيت هناك أيامًا جميلة. وخاصةً...

استعدت علاقتي بالحبيب سركيس، الذي التقيت به آخر مرة قبل أن أعود في مقهى "الفوكيه" في حي الشانزيليزيه والذي، بعد أن استفسر عن وضعي، أخذني جانبًا وأعطاني 2000 فرنك، حاولت أن أرفضها، لكني لم أستطع أمام إصراره، وهو يقول بكل حزم: "لا تزعجني، يا أكرم، خذها! فأنا أشعر أنك في حاجة إليها. وستعيدها إليَّ لاحقًا." وكان هذا ما حصل. وأعترف اليوم بأن هذا المبلغ ساعدني جدًّا يومذاك، حيث مكَّنني من شراء بعض الهدايا لمنى وللأولاد. وأيضًا...

إضافة إلى سمير ودعد، اللذين كنت أراهما باستمرار، التقيت هناك، عن طريق صديق نبيل عبد الله ح.، بمعرفة قديمة من الجامعة هي ج.ع.، التي كانت حينئذٍ صديقة للحزب ولعبد الله، وتعمل، في الوقت نفسه، في مجلة الإحياء العربي التي كانت لصلاح البيطار، رحمه الله.

-       "ما رأيك في ج.، يا أكرم؟ لقد لاحظت من لقائكما أنك لا تستلطفها كثيرًا؟" هكذا سألني نبيل بعد لقائنا الأخير معها ومع عبد الله عشية مغادرتي باريس عائدًا إلى دمشق.

-       "في الجامعة حين عرفتها، يا نبيل، كان يقال إنها "مخبرة" وإنها تتعامل مع الأمن. وأنا أعتقد أن هذا صحيح وأنها مازالت إلى اليوم عنصر أمن، وبالتالي، يجب الحذر منها."

-       "لا أعتقد ذلك، يا أكرم. فهي امرأة تعيسة ومسكينة." هكذا أجابني نبيل الذي قال متابعًا: "... ثم إن عبد الله يحبها..."

كما حضرت مع الرفاق ذلك العيد الشيوعي التقليدي في فرنسا، الذي كان معروفًا بـ"عيد الـHumanité" ("الإنسانية")، فساهمت معهم في تقديم ما كانوا يعدونه من طعام (تبولة وكباب) ويبيعونه للفرنسيين بأسعار جيدة. فهي مناسبة كان يستفيد منها الرفاق في فرنسا لتدعيم الوضع المالي لتنظيم الحزب هناك. وأيضًا...

أتذكر أيضًا بأني زرت مكتبة محفل "شرق فرنسا الكبير"، الواقع في 16 حي كاده، الذي كان فاروق أعطاني عنوانه بعد أن أخبرته ببدء اهتماماتي الماسونية؛ وأني حققت خاصةً توصية هاشم، فقمت منفردًا بجولة سياحية في مجاري باريس، وتمعنت جيدًا، كما طلب مني، في مساند جسور السين خلال تلك الرحلة الوحيدة التي قمت بها على متن إحدى السفن السياحية التي تريك مشهد باريس الخلاب من النهر؛ وأني زرت أيضًا حي مونمارتر، حيث التقيت هناك برفيقنا من الجامعة الرسام الموهوب عز الدين شموط.

نعم، لقد سحرتْني فعلاً هذه المدينة الرائعة! لكن كان عليَّ، وقد فشلت آنذاك من خلالها في إيجاد عمل مناسب لي خارج الوطن، أن أعود لأواجه مصيري في سورية.

3

كان حظي بعيد عودتي إلى دمشق أفضل بكثير مما كنت أتوقع. حيث اتصل بي مباشرة هناك، صبيحة وصولي، المهندس سهيل شباط، الذي كانت شقيقتي ريما قد أخبرته بأني عائد، والذي طلب مني أن أتوجَّه مباشرة إلى مكتب "دار الهندسة – نزيه طالب"، الواقع في حيِّ القصاع (بناية قلام)، لكي أقابل هناك أيًّا من المهندسَين ميشيل شامية (رحمه الله) وحبيب حزِّي؛ فهما يبحثان عن مهندس مقيم لقيادة فريق الإشراف على مشروع لهم في شمال سورية، هو طريق القنطري–تل تمر. وقد أخبرهم عني. وكان هذا ما فعلته مباشرة. إذ ذهبت إلى هناك واتفقت مع "دار الهندسة"، ووقَّعت عقدًا مع ميشيل شامية كمهندس مقيم في هذا المشروع، الذي كان متعهده لصالح وزارة المواصلات شركة "أبو خاطر وأخرس وعطية".

وأعود في اليوم نفسه إلى حلب، حيث استقبلتْني منى والأولاد بالبكاء فرحًا. وأتفكر أن الألوهة فعلاً كانت ترعانا، وأن تركي لـ"شركة الأعمال الإنشائية"، وكذلك تجربتي الباريسية الأولى، لم تكن سلبية كلها.

وأتهيأ لمباشرة عملي الجديد، الذي استلمته بعد أسبوع من عودتي إلى حلب؛ ولكن أيضًا لمواجهة بعض الذيول السلبية الناجمة عن تركي العمل في "شركة الأعمال الإنشائية" قبل الحصول على الموافقة على استقالتي: دعوى قضائية كانت رُفِعَتْ في حقي لهذا السبب؛ وقد كلفتُ وديع (شقيق منى) ملاحقتها بالنيابة عني.

كان عملي هذا مع "دار الهندسة – نزيه طالب"[3]، كمهندس مقيم لمشروع طريق القنطري–تل تمر، الذي كان متعهده "أبو خاطر وأخرس وعطية"، هو أول تجربة لي مع القطاع الخاص. كانت في نظري تجربة مهمة جدًّا وغنية جدًّا من الناحية المهنية والإنسانية، حيث تعلَّمت فيها أساليب عمل أرقى وأكثر تطورًا من تلك التي كانت متَّبَعة وسائدة في القطاع العام: تعلمت كيف يكون الإشراف الفعَّال والإيجابي على العمل، من خلال متابعة الأعمال المساحية والمخبرية والتقارير اليومية والمخططات التنفيذية التفصيلية التي أصبحت أهيِّئ قسمًا منها بنفسي. وكذلك، خاصةً، تعلَّمت إعداد التقارير الشهرية التي كنت أهيئها بعناية فائقة، بالتعاون مع المهندس حبيب حزِّي، الذي كان يتابع المشروع من مكتب الشركة في دمشق. وأيضًا، وخاصةً، تعلمت أساليب العمل الفعَّالة التي كان يتَّبعها متعهد القطاع الخاص الذي كنَّا نتعامل معه من خلال ربط عمَّاله ومهندسيه بمصالح فعلية في العمل: فمعظم سائقي الآليات عند "أبو خاطر..." كانوا شركاء في ملكية آلياتهم، وبالتالي، كانوا يتقاضون عنها خلال العمل نسبةً هامة من الأرباح تجعلهم يسعون دائمًا إلى إنجاز المزيد. وهكذا، كان السكريپران القديمان لأبو خاطر ينجزان عملاً جبارًا، هو أضعاف ذلك الذي كانت تنجزه ورشة السكريپرات الحديثة لشركة الطرق "رودكو – قطاع عام"، التي كانت متعهدة للمشروع الواقع قريبًا من مشروعنا (مشروع طريق قره قوزاك–القنطري). وأيضًا، تعرفت هناك في المشروع إلى أحد مالكي الشركة المتعهدة، الذي كان مسؤولاً عن مشروعنا، المهندس عبد المسيح عطية، الذي كان ذات يوم "رفيقًا"، كما قيل لي. وأتفكر بأن شركتهم، أقصد "شركة أبو خاطر وأخرس وعطية"، التي تأسست في أواسط الستينات، استفادت جدًّا من استلام أول وزير شيوعي لوزارة المواصلات، المحامي سميح عطية (ابن عم عبد المسيح)، فشاركتْ في بعض المشاريع الهامة و"بَنَتْ نفسها" من خلال هذه المشاريع.

وأسجل هنا أن هذه الظاهرة كانت ظاهرة عامة في عهد البعث، وخاصة في عهد حافظ أسد، حيث أُنشئت عدةُ شركات تعهدات هامة في القطاع الخاص، كانت أهمها، إلى جانب شركة "أبو خاطر..."، شركة تقلا وغيرها، وذلك قبل أن يتطور الأمر، فتصبح هناك شركات تعهُّد خاصة أخرى احتكرت معظم الأعمال الهامة، ويملكها أقارب الرئيس وحاشيته.

وأسجل هنا أن وضعي في هذا المشروع، لأول مرة في حياتي، كان مريحًا جدًّا من الناحية المادية، حيث كنت أتقاضى في السنة الأولى حوالى 4500 ل س، أي أكثر من ضعفَي ما كنت أتقاضاه في القطاع العام؛ مما أتاح لي، لأول مرة منذ تخرجي، تأمين بعض الوفرة المادية.[4] ولكن أيضًا...

كانت هذه المرحلة، من الناحية الحزبية والسياسية، من أهم المراحل التي عشتها وعاشها البلد. وقد ساهمت في تكوين وعيي السياسي والإنساني على أسُس جديدة أنضج وأعمق. وأعود إلى الحزب، حيث...

"ما بين الـ29 والـ31 من أيار 1980، عقد في دمشق... المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري..."، الذي كانت فيه زوجتي منى إحدى الأعضاء مندوبةً نسائية عن منظمة حلب. هذا المؤتمر الذي ثبَّت سيطرة ثنائي خالد بكداش/يوسف فيصل على الحزب وطرد جماعة مراد يوسف منه – مع التأكيد طبعًا على الصداقة الخالدة مع "الاتحاد السوفييتي العظيم"، وعلى وحدة الجميع تحت شعار "وداعًا أيها الأنصار"!

لكن، وإن كان يبدو من حيث الظاهر أن كلَّ شيء بات "على ما يرام"، فإن الحقيقة على أرض الواقع كانت مختلفة: حيث احتفظ كلُّ طرف بـ"أنصاره" وبات يسعى عمليًّا، من خلالهم، للسيطرة على التنظيم، بدعم أو مساعدة جانب أو آخر من "الرفاق الكبار" في الاتحاد السوفييتي، الذي كانت الأوضاع فيه تتفاعل في العمق...

كما كانت تتفاعل وتغلي الأوضاع الداخلية في بلدنا مع تصاعُد أعمال العنف والاغتيالات التي كانت تُنسَب عمومًا إلى "الإخوان المسلمين"، وفي شكل خاص إلى تلك المجموعات الأصولية المنبثقة عنهم، التي كانت تتلقى على ما يبدو الدعم المادي واللوجستي من العراق، حيث كان صدام حسين و"البعث الآخر"، كما ومن الأردن، وحتى من منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات!

وأتذكر من تلك الأيام... أن حملة الإخوان المسلمين قد تصاعدت نحو شكل من "النشاط الجماهيري" الموجَّه، في عدد من المدن السورية، ضد ثكنات الجيش والشرطة ومكاتب حزب البعث، الذي تهاوى عددُ أعضائه في تلك الفترة تهاويًا ملفتًا للنظر. وقد طالت هذه الهجمة حتى بعضَ حلفائه في السلطة، وعلى رأسهم الشيوعيون. ففي حلب، اغتيل من بين قياديي وأعضاء الحزب الشيوعي كلٌّ من الرفاق عمر عوض وأنطون صرَّاف (الذي قُتِلَ في مكتبه الواقع قرب منزل أهل منى) وأحمد طلحة ومحمد صالحة؛ وفي دمشق اغتيل في مكتبه المحامي نزيه الجمالي. أحداث خطيرة، جعلت السلطة، بقيادة حافظ أسد، كما قال پاتريك سيل، تقرر "... أن تضاهي وحشية أعدائها، فعمدت إلى استخدام أكبر الوحدات العسكرية المزودة بالأسلحة الثقيلة لتجتثهم من جذورهم"[5].

بيد أن الشيء الجديد في نظري، الذي عشته فعلاً في تلك الأيام، كان تسليح حزب البعث وباقي أحزاب السلطة. وقد كان الحزب الشيوعي من أهم تلك الأحزاب التي وُزِّع عليها السلاح، حيث بات منظر الرفاق يحضرون الاجتماعات الحزبية وهم يحملون أسلحتهم الخفيفة (غالبًا مسدسات روسية أو "سميث أند ويسن") ويتباهون بها أمام بعضهم بعضًا مشهدًا مألوفًا!

وأسجل هنا هذه الحادثة الطريفة التالية التي حدثت معي، فأتذكر – ولم أكن منظمًا حينذاك، كما سبق أن أشرت – كيف أقنعني أحد مراقبي ورشتنا (الذي كان "رفيقًا") أن أشتري مسدسًا صغيرًا مهربًا: فأنا أعمل في البادية، على حدِّ قوله، وقد أكون عرضة لأيِّ اعتداء. فصدقته بلا تريث، واشتريت منه مسدسًا صغيرًا "جميلاً"، حملته معي في ذلك اليوم لأريه لزوجتي منى، التي امتعضت حين رأته، وسألتني بكل انفعال:

-       "وهل تستطيع أن تستعمله، يا أكرم؟! هل تستطيع أن تقتل إنسانًا؟" ما جعلني أدرك مقدار حماقتي، فأجبتها وأنا أضحك:

-       "لا، يا منى، لا أستطيع استعماله فعلاً، لا أستطيع أن أقتل إنسانًا، ولا حتى دفاعًا عن نفسي!"

وفي اليوم التالي، أعدت المسدس إلى صاحبه مباشرة، واسترجعت ما دفعته له من ثمن. وأيضًا...

في تلك الأيام، في آذار 1980 على ما أذكر، كانت معارك بين الجيش وفلول الإخوان في جسر الشغور تسفر عن مئات من القتلى والجرحى. حيث دخلت قوات الجيش، من الفرقة الثالثة، مدينة حلب التي كانت تكاثرت فيها الحوادث، وحيث انهار تمامًا تنظيم حزب البعث في المدينة – حلب التي فُرِضَ عليها منع تجول ليلي حوالى أسبوع، وخاصة على بعض أحيائها، حيث وقعت حوادث عنف دامية. وقد جرى حينئذٍ تفتيش دقيق لمعظم أحياء المدينة بيتًا بيتًا بحثًا عن الأسلحة المخبأة وعن المتمردين. وأستعيد من تلك الأيام التي قضيتها في حلب...

كيف فتشوا منزلي خلال حملة تفتيش حيِّ السليمانية، وكيف دهم الضابط – وكان برتبة ملازم أول – البيت شاهرًا سلاحه ويرافقه جنديان، فنظر إلى ما حوله بينما كان جنوده يتفقدون الغرف، وسألني:

-       "هل أنت مسيحي؟" فأجبته:

-       "نعم." فسألني من جديد:

-       "ولم لا يوجد في بيتك صليب وصور قديسين كباقي المسيحيين؟!" فأجبته:

-       "لأن هذا ليس إلزاميًّا في ديننا!" فلم يقتنع بجوابي، ما جعله يتفقد المكتبة ويكتشف من خلالها بأني ماركسي الميول، أي "حليف" محتمل لهم. فسألني مجددًا:

-       "هل أنت من جماعة أبو عمار؟" فأجبته:

-       "نعم." ما جعله يبتسم لأنه كشفني رغمًا عني! وأيضًا...

أتذكر خاصةً ذلك المنظر المروِّع، الذي ظلَّ مطبوعًا لفترة طويلة في ذاكرتي، لجثة متمرد مربوطة إلى سيارة مدرعة تجره سَحْلاً عبر شوارع المدينة، لكي يكون عِبْرة لمن يعتبر! وكيف كانت السيارات التي تقلنا من حلب وإليها غالبًا ما توقفها على الطريق دورياتٌ أمنية طيارة، حيث ينزل منها جميع الركاب الذين يفتَّشون بطريقة مهينة. وكان كلُّ واحد منَّا يُسأل من أين هو ولماذا هو مسافر.

وأتذكر خاصةً تلك السلسلة من الخطب التي ألقاها في تلك الأيام الرئيس حافظ أسد والتي أكد فيها على استعمال "العنف الثوري" كجواب وردٍّ على ذلك العنف الآخر، وخاصة منها ذلك الخطاب الذي ألقاه أمام اتحاد الفلاحين، وكيف قفزت واثبًا صارخًا: "يا إلهي!" وأنا أسمعه يقول ما معناه أنه "... ليس طالب سلطة، إنما مجرد فلاح حلمه أن يجلس في أرضه ويتأمل مزروعاته..."، وكيف سألتني منى يومذاك: "لماذا صرخت هكذا؟!" فأجبتها: "لأني فهمت مما يقول إنه لن يتخلَّى عن السلطة، مهما كان الثمن!"

يومذاك، أجل، لم أكن قرأت بعد جورج أورويل ولا بالأخص روايته 1984. لكني، بحكم التجربة، كنت بدأت أفهم ماذا يعنيه الكلام المزدوج والتفكير المزدوج Double talk, double think. وأيضًا...

في تلك الأيام، طالت محاولاتُ الاغتيال أهم رموز السلطة، كالرئيس الأسد نفسه ووزير خارجيته عبد الحليم خدام. وأتذكر بأن أعمال القمع التي نجمت عنها كانت مريعة، حيث قيل بأن "سرايا الدفاع"، التي كانت حينئذٍ بقيادة رفعت أسد، هاجمت آنذاك سجن تدمر وجزرت المساجين من الإخوان المسلمين. ففي تلك الأيام، أصبح كلُّ شخص ينتمي إلى هذه الجماعة معرضًا لحكم الإعدام قانونًا – وهو قانون ما يزال ساري المفعول إلى الآن (على الأقل نظريًّا).

وأتذكر اليوم، وأنا أتفكر في تلك الأيام، ذلك العنف من الطرفين الذي ساد البلاد آنذاك، والذي مازال منطقُه سائدًا إلى اليوم، لا بل مازال يتصاعد في شكل عام من خلال التعصبات السائدة، وكيف كنت بدأت أتساءل حول الطريق الواجب اتباعه في هذه الحياة لحلِّ ما يواجهنا فيها من مشكلات، وكيف أني لم أكن أجد أمامي من طريق سوى ذلك الدرب الإنساني واللاعنفي، الذي دعا إليه السيد المسيح قبل ما يقارب الألفَي عام والذي طبَّقه على أرض الواقع في القرن العشرين، من أجل تحرير بلاده، المهاتما غاندي. فحينذاك، على ما يبدو، كانت تجربتي الحياتية قد بدأت تبيِّن لي ما أعتقد اليوم أنه حقيقة.

4

ومشروع طريق القنطري–تل تمر كان يتقدم في شكل طبيعي. ومن خلاله – وهذا الأهم – كنت أعيش تجارب جديدة وأتعرف إلى أشخاص جُدُد...

كذلك الجيوديزي الروسي الأبيض العجوز من حلب، سيرغِيْ ساخاروف، الذي سرعان ما صار صديقًا لي. فأصبحنا نتبادل الروايات الفرنسية، لأننا سرعان ما اكتشفنا أن عندنا الكثير من الأمور المشتركة.

-       لماذا لم تعد إلى روسيا، يا ساشا؟

-       لأني أريد أن أنساها، يا أكرم! لأني لا أريد أن أتذكر طفولتي التعسة!

-       لكنها اليوم أفضل بكثير، يا ساشا. إنها بلد جميل، والشعب الروسي شعب جميل فعلاً.

فيبتسم ساشا في حزن ويجيبني:

-       لا تحاول، يا أكرم، لا تحاول، أرجوك! لأني لا أتمنى لأحد من أبنائي أن يعيش ما عشته آنذاك، ولا أريد لأولادي أن يكرِّروه. لا أتمنى لأحد أن يعاني ما عانيته كلاجئ إنساني مشرَّد، يشحذ في المرافئ، حتى رفقت بي الأحوالُ واستقررت في مدينة حلب. لا، لا أتمنى لأحد أن يعيش تجربتي، يا أكرم. أريد أن أنساها! لكن هناك دائمًا مَن يأتي ليذكرني بها!

-       أنا آسف، يا ساشا، آسف فعلاً!

-       لا بأس، يا صديقي، لا بأس! خذ الآن هذه القصة البوليسية واقرأها. إنها طريفة فعلاً...

أو ذلك المساعد الفنِّي الجيولوجي الكهل (وقد نسيت اسمه)، القادم من أفريقيا، حيث كان يعمل مع "دار الهندسة".

-       آه ما أجمل أفريقيا، يا أكرم... ما أجملها!

-       وما أجمل شيء فيها يا ترى؟

-       نساؤها... طبعًا نساؤها... إنهن أجمل نساء في العالم!

-       ألهذه الدرجة؟!

-       بل أكثر مما تتصور!

-       وأين عملت في أفريقيا؟

-       لقد عملت مع "دار الهندسة" في الكونغو البلجيكي وقليلاً في السودان... آه من النساء الأفريقيات، يا أكرم! آه من السودانيات، خاصةً الحبشيات، حين يقلن لك آيييييي...

-       يقلن لك ماذا؟

ويضحك من أعماقه – وأضحك معه من كلِّ قلبي! – وهو يجيبني مغمضًا عينيه:

-       أيييييي... حين يقلن لك آيييييي... أي نعم...

وأيضًا، سرعان ما تعرفت هناك، من خلال هذا المشروع، إلى المهندس أنطون مصابني، صديق مروان جعفر الملقي (رحمتْه الآلهة)، الذي جاء ليعمل معنا في المشروع، وكيف تعرف عن طريقنا (أي عن طريقي وطريق منى) إلى دينا ابنة فيوليت، فخطبا ثم تزوجا...

فالأيام كانت تجري بسرعة فعلاً في هذا المشروع الذي أضحى اليوم في نظري من الماضي السحيق.

لأن كل شيء كان يركض من حولي، وفي البلد. لأني، وقد بدأت أتلمس نهاية هذا المشروع، أصبحت أفكر – عن جِدٍّ هذه المرة – في تصفية أموري في حلب وفي العودة نهائيًّا إلى دمشق. دمشق التي كان يؤرقني مقدار حبي لها، دمشق حيث الأهل وحيث الأصدقاء وحيث... "الرفاق"! وأتفكر مجددًا في الأوضاع في الحزب...

حيث سرعان ما عاد أنصار كلا الطرفين المتنازعين إلى الصراع من جديد. وقد تفجر الخلاف هذه المرة، أول ما تفجر مجددًا، في مدينة حلب. فهناك جرت، خلال العام 1981، وكتكريس لنتائج المؤتمر الخامس، انتخابات اللجنة المنطقية. وعادت الأزمة المستحكمة للظهور حين أسقط جماعة أبو عمار أحد أهم الرفاق المحسوبين على يوسف، المهندس رضوان مارتيني. مما أدى إلى رفض المكتب السياسي، حيث كان يوسف فيصل يملك أغلبية الأصوات، لنتائج هذه الانتخابات. ثم كانت هناك، على ما أذكر، تسوية لهذا الخلاف، استغرق إقرارُها بعض الوقت، وتقضي بأن يضاف إلى اللجنة المنطقية في حلب رفيقان، كان أحدهما رضوان مارتيني. لكن الخلاف لم يسوَّى على الرغم من هذا.

فقد كان يوسف فيصل، من خلال المكتب السياسي، يقترح كسكرتير للمنطقية هناك الرفيق عبده بكور، عضو اللجنة المركزية، الذي كان من أنصاره؛ بينما كان مناصرو أبو عمار – وهم النصف الآخر – يفضلون رفيقًا آخر عضو لجنة مركزية من جماعتهم، الرفيق خلوف قطان. مما أدى إلى انشقاق المنطقية وانشقاق منظمة الحزب في المدينة بكاملها.

وأتوقف أمام هذه الأحداث، التي لم يعد أحد يتحدث بها اليوم، وقد مرت الكثير من المياه من تحت الجسور، وبعد أن لم تعد لي أية علاقة بالحزب، لأبدي رأيي المتواضع في الشخصين الذين دار حولهما ذلك الخلاف، خصوصًا أن كلاً من عبده وخلوف قد تركا أيضًا الحزب وجماعتهما، مثلي تمامًا، وإنْ لأسباب مختلفة: فعبده ترك الحزب وجماعته بعد أن تملَّكه القرف، إذ أساء إليه شخصيًّا بعضُ رفاقه الذين حرَّكوا ضده موضوع زوجته (التي كانت يهودية من البرازيل)، مما دفعه إلى الابتعاد والتواري. أما خلوف، الذي غضب عليه أبو عمار لأنه بدأ يتجاوز الحدود التي رُسِمَتْ له، فقد اتُّهم حينئذٍ بسرقة مالية الحزب!

أتوقف اليوم لأقول، من منطلق محايد، أن عبده كان أفضل من خلوف بما لا يقاس، سواء من حيث الإمكانات و/أو من حيث العمق الروحي و/أو خاصة من حيث النزاهة الشخصية. لكنه منطق التكتل والصراع العقائدي الذي لا يرحم، الذي أدى حينئذٍ، كما خلال تاريخ الحزب بكامله، إلى إبعاد و/أو ابتعاد الكثيرين.

وأسجل أنه، في تلك الأيام، كان التنظيم يتدهور، نوعًا وكمًّا، في تسارع منتظم. لكن الذي لم أكن أفهمه يومذاك هو أن هذا التدهور إنما كان نتيجة طبيعية لتدهور وتصدُّع آخر وأعمق كان يجري في "المعسكر الاشتراكي الجبار"، الذي كان يعيش على دقات الساعة البولونية، حيث اختارت الطبقةُ العاملة هناك (التي من المفترَض أن يحكم الحزب الشيوعي باسمها!) الانضواءَ تحت راية نقابة "التضامن" – المعادية للشيوعية – بقيادة عامل الكهرباء ليخ فاليسا.

نعم، كانت الأحداث تتسارع من حولي فعلاً. وجميع تلك الأحداث كان يدفعني إلى ترك عملي مع "دار الهندسة"، الذي بات لي على رأسه ما يقارب السنتين، وإلى أن أترك الحزب، وأن أترك حلب لأعود إلى دمشق.

وأسجل اليوم أنها كانت أحداث يبدو بعضها حتى وكأنه مؤشر شؤم. حيث احترق ذات يوم أحد عمال الورشة أمامي وأمام الجميع! نعم، احترق في برَّاكته وهو يستحم، ولم يتمكن أحد من إنقاذه. لأنه، خلال أقل من 5 دقائق – 5 دقائق لا أكثر! – التهمته النيران هو وبراكته التي كانت – كجميع براكاتنا المصنوعة من الخشب الخفيف (الپلاكيه) السريع الاشتعال – مفتقدةً لأية وسيلة فعالة للحماية. وقد أُخبِرتُ أنه فيما بعد – وكنت أصبحت في دمشق – احترقتْ أيضًا البراكة التي كنت أعيش فيها، لكن – شكرًا للألوهة – من دون ضحايا هذه المرة. وأيضًا...

من دمشق، وعن طريقها، من باريس، وصلني ذلك النبأ الحزين بأن صديقي ورفيقي سمير شاليش قد فارق الحياة. وقد أُحضِرَ جثمانه إلى دمشق ليُدفَن في مدفن عائلته في حمص. سمير الذي دفنه رفاقُه وأصدقاؤه من الحزب وهم يهتفون أنْ "مات ذلك الذي كان يناضل من أجل العامل والفلاح". سمير الذي دفنه رفاقُه، نعم، في مقبرة مسلمة لأنه، كما قيل لي، واجهت عائلتُه مشكلةً يمكن تلخيصها بأنه لما كان قد تخلَّى عن دينه (كمسيحي أرثوذُكسي) وأصبح "مسلمًا" ليتزوج دعد، فإنه لم يعد، من وجهة نظر كنسية، يحق له أن يُدفَن وفق الطقوس المسيحية إلى جانب عائلته!

وأتفكر اليوم بأن هذا واحد من الإشكالات الكبيرة التي يواجهها الشباب في بلدنا بسبب عدم وجود قوانين تسمح لهم بالزواج المدني: حيث ليس يمكن للمسيحي الزواج من مسلمة ما لم يصبح من دينها؛ وهي لن يكون في وسعها أن تصبح من دينه، وإلا اعتُبِرَتْ "مرتدة"! وقِسْ على ذلك ما يتفرع عن تلك الأمور من إشكالات بسبب قوانين متخلِّفة، لكنها في بلدنا مازالت قائمة، ويُدافَع عنها باسم الدين. وأيضًا...

حين أعود إلى السياسة متفكرًا، أتذكر أنه، خلال تلك الفترة من أواخر العام 1981، اغتالت مجموعةٌ أصولية إسلامية الرئيس المصري أنور السادات، متهمةً إياه بالتفريط بدماء الشهداء – أنور السادات الذي أتفكر اليوم بأنه كان مخلصًا فعلاً في سعيه نحو السلام. وكان الشخص الذي حلَّ محلَّه على رأس مصر هو نائبه محمد حسني مبارك. وأيضًا...

خلال تلك الفترة، كان عرس طوني مصابني ودينا – وفَّقتهما الألوهة – اللذين غادرا بعيد زواجهما مباشرة إلى تشيكوسلوفاكيا في رحلة شهر عسل. وقد استمرت رحلتهما، على ما أذكر، أكثر من شهر، أتذكر أني كنت خلاله – وقد سبق أن أخبرتُ فيه "دار الهندسة" برغبتي في الاستقالة – أقوم بما كان يقوم به أنطون من عمل، إضافة إلى عملي.

لأني، في تلك الأيام، كنت اتصلت بهاشم الذي أصبح مديرًا عامًّا لـ"مشروع ضاحية دمَّر" السكني، واتفقت معه على أن آتي إلى دمشق لأعمل معه في المشروع. و...

كآخر مشهد لي من القنطري، التي لم أكن قد غادرتُها بعد، أتذكر هذين الشرطيين اللذين جاءا إلى المخيم، في عزِّ شمس الظهيرة الحارقة، لإبلاغي بدعوى جديدة مرفوعة ضدي من قبل "شركة الرصافة" (وهي شركة قطاع عام مركزها مدينة القامشلي)، لأني، حسبما وَرَدَ في الدعوى، لم ألتحق بعملي هناك! فأستفسر عن الموضوع فور عودتي في ذلك اليوم إلى حلب، وأكتشف بأن المدير العام الجديد لـ"شركة الأعمال الإنشائية"، المهندس غسان ف.، الذي كان خسر دعواه الأولى ضدي لتركي العمل في شركته، فَرَزَني، دون علم من أحد، إلى "شركة الرصافة" في أقصى شمال سورية – تلك الشركة التي لاحقتْني بدعوى لأني لم ألتحق بعملي لديها! ومن جديد، أسافر ووديع (شقيق منى) إلى القامشلي لتكليفه أن يتابع عني تلك الدعوى "الكيدية" الجديدة...

*** *** ***


 

[1] السكريپر آلية تُستخدَم لقشط التربة وردمها في الوقت نفسه؛ وهي غالبًا ما تُستعمَل في أعمال الطرق والسدود.

[2] تعبير مستقى من مسرحية هاملت لشكسپير.

[3] لأنه توجد هناك أيضًا شركة استشارية لبنانية أخرى تدعى "دار الهندسة – شاعر"، هي الأهم والأكبر.

[4] راجع الفصل العاشر من مذكراتي بعنوان "مذكرات جزراوية"، حيث تحدثت عن بعض الجوانب الإنسانية من تجربتي خلال تلك المرحلة.

[5] راجع كتاب پاتريك سيل الأسد أو الصراع على الشرق الأوسط.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود