|
صور ممزَّقة صعود حركة التحطيم النضالي للأيقونات في سورية[*]
تحطيم الأيقونات أم تشييدها؟
أراد فريد ريد تعقُّب أصول حركة "تحطيم الأيقونات" iconoclasm التي برزت في المسيحية الشرقية في القرن الثامن، منذ بداياتها حتى آخر آثارها النظرية في يومنا الحاضر. كانت هذه خطَّتُه حين قَدِمَ إلى سورية. لكن، "حين بدأتُ الكتاب"، يقول الكاتب الكندي، "تخطى الواقعُ مشروعي المتواضع بصورة قاسية وممزِّقة". ففي صيف العام 2001، حطمت حركة طالبان تمثالين للبوذا في مقاطعة باميان الأفغانية. وفي أيلول من العام نفسه، في نيويورك، "انهار صنمان عظيمان متحطِّمين عبر سلسلة من الانفجارات القيامية". وهكذا، "لم يعد تحطيم الأيقونات قضية نظرية. لقد أضحى مسألة حياة وموت". وسيتظاهر الانتقامُ الأمريكي، بكلِّ وحشيته وجبروته، في "غزو صاعق" Blitzkrieg لأفغانستان، وفيما بعد، في اجتثاث التراث الثقافي للعراق. في عمله يرصد الكاتب الكندي، الذي سبق له أن ألَّف كتابًا عن إيران وآخر عن تركيا وثالثًا عن اليونان، ارتباطًا بين الإرهاب وتحطيم الأصنام وبين "الحرب" على الإرهاب واستعادة الأصنام ونصبها وحمايتها. وبطريقة مجادَل فيها، يرصد "أركيولوجيُّ الأفكار الهاوي"، كما وصف ريد نفسه، استمرارًا تاريخيًّا لحركة تحطيم الأيقونات في مقاومة مسلمي آسيا لعبادة الغرب للعقلانية الأداتية. وبهذا يكون "الإرهاب الإسلامي" تظاهرًا آخر لتلك الحركة التاريخية القديمة. فقد كانت حركة تحطيم الأيقونات متأثرةً بالإسلام ومحاولةً لاستيعاب رضَّته العقيدية والسياسية في الوقت نفسه: فعِبْر تبنِّي "صرامة" الدين الجديد، اعتقد ليون الثالث، الإمبراطور البيزنطي وبطل تحطيم الأيقونات (726 م)، أنه يستطيع قلب المدِّ الإسلامي الذي كان هدَّد القسطنطينية قبل سنوات عشرة. بهذا المعنى، بدا "تحطيم الأيقونات محاولةً للتحصين الروحي" ضد عدوى الإسلام. لكن حركة تحطيم الأيقونات تتصل كذلك بما يسمِّيه المطران إيزيدور بطيخة، مطران الروم الكاثوليك في دمشق، "الأسْلَمَة السابقة على الإسلام"، ويعني بها "رفض الكنائس الشرقية أيَّ شيء يتحدث عن الجسد، عن تجسُّد يسوع المسيح". ويبدو أن اجتماع الصراع العقيدي بين مسيحيي الشرق، القبط والسريان، وبين بيزنطة المُتَهَلْيِنَة، مع الهَلْيَنَة hellenization القسرية لكلِّ ما هو مسيحي (بالإضافة إلى سيطرة بيزنطة)، ييسِّر فهم الدور الذي قام به هذا الشكل "قبل الإسلامي" من المسيحية في تمكين العرب من تحرير الأرض من محتليها الأجانب. ولا جدال، بحسب الأب بطيخة نفسه، في أن إفراطات الإمبراطورية وتبجحها وإعجابها بنفسها من أسباب نهوض حركة تحطيم الأيقونات.
فريد ريد، مؤلِّف الكتاب ولا يخفي ريد شعورًا بخيبة الأمل حين يحاول إضاءة المسألة الأيقونية من الجانب الإسلامي. فـ"الإسلام يحرِّم كلَّ ما قد يلهي عن عبادة الله. ومَن يعبد صنمًا أو ما شابه ويبتعد عن الله فسيكون من الخاسرين"، حسبما حظي به من شرح أحدهم في دمشق. على أن متن الكتاب هذا يتيح كاتبُه لقارئه التعرفَ إلى سورية المعاصرة، بدمشقها الحديثة و"أيقوناتها البعثية" وتكوينها المتعدد مذهبيًّا. ففي دمشق، يزور الكاتب "پانوراما حرب تشرين التحريرية"، تلك "الأيقونة الكبرى" لعهد الرئيس حافظ الأسد، ما يسميه ريد نفسه: "النصب الذي شاده النظام لنفسه وللأب المؤسِّس له". ولا تفوته ملاحظةُ أن بطانة كلٍّ من زنوبيا ملكة تدمر القديمة ومحاربي صلاح الدين الأيوبي ورجال بلاط الوليد بن عبد الملك، في الپانوراما ذاتها، ذوو ملامح شرق آسيوية: فقد تفرَّغ مدة ست سنوات فنانون من كوريا الشمالية لرسم "أنشودة نصر القائد الأبدي". وإذ تطالعه صور الرئيسين الراحل والحالي في كلِّ مكان، يفكر ريد بأن نظام البعث يحكم عِبْر أيقونات ذات وظيفة تقديسية. وعلى الرغم من أن الصفحات التي يخصِّصها لمدينة حماة لا تستنفد قصتَها "التي تستصرخ أن تُروى"، فإنها تذكير بالحاجة إلى استنطاق صمت هذه "المدينة المزمومة الشفتين". وفي الخراب المقيم في قلب المدينة يقرأ "قواعد حماة، المبدأ غير المنطوق، لكنْ المعترَف به في كلِّ مكان، الذي يحكم سورية حتى اليوم". وفي نبرة مألوفة يقرر أنه ما من إصلاح ممكن في ظل "قواعد حماة" التي تحكم الدولة وتشكل الركن الركين لاستقرارها. وعِبْر هذا التجوال، يدق خيط الكتاب حتى يكاد أن ينقطع. لكن الكاتب يواصل تجميع شذرات صور الإسلام السوري، متقصِّيًا ما يسمِّيه "ورثة علي ابن أبي طالب المعاصرين": الإسماعيليين والعلويين والدروز. ولا يدفع ريد ضريبة اهتمام تُذكَر بقضية "الحشاشين" التي فتنت الغرب كثيرًا، والتي عمَّمها برنارد لويس نقلاً عن ماركو پولو: يمر عليها مرورًا عابرًا، لكنه يهتم أكثر بتحرِّي الأصول العقيدية والتاريخية للشيعة السبعية الذين شكلوا، في وقت من الأوقات، إمبراطورية الفاطميين التي شملت مصر والشام ووضعت بغداد تحت جناحها. وفي جوار إسماعيليي مصياف والسلمية، ثمة العلويون الذين اكتسبوا هذا الاسم إبان الانتداب الفرنسي، بعد أن كان يُطلَق عليهم، ويطلقون على أنفسهم، اسم "النصيرية". يحاول الكاتب استعادة ذكرى الشيخ صالح العلي، الذي كان أول مَن قاوم الفرنسيين في شمال غرب سورية قبل موقعة ميسلون. المحاولة لا تنجح. وفي القرداحة، مسقط رأس الراحل حافظ الأسد، "أيقونة سورية المُثلى التي لا يتجاسر عليها أحد"، يزور الكاتب ضريحه وضريح نجله الراحل باسل. وعلى بُعد كيلومترين، ثمة أيضًا جامع السيدة ناعسة، والدة الرئيس الراحل. ولهجسه بالأيقونات، يرصد ريد "صورة ضخمة لحافظ الأسد منحنيًا لتقبيل يد الأم المبجَّلة التي تبتسم في اغتباط طوباوي، ومن رأسها تشعُّ هالةٌ تشبه الشمس". وفي السويداء، حيث مركز الدروز السوريين، ثمة دائمًا "أهلاً وسهلاً" التي وجدها ريد في مصياف وفي جبال العلويين، وثمة دائمًا وجبة الطعام الشهية، وثمة دائمًا أيضًا يد الإهمال والبِلى تغزو أضرحة أقدم قليلاً: صالح العلي وسلطان باشا الأطرش. ويفسِّرها ريد بانشغال النظام بنفسه فقط. وتبقى هناك "أعجوبة" واحدة: ففي موقعها الإلكتروني، رأت دار Talonbooks التي نشرت الكتاب أنه "يتقصى جذور الأصولية الإسلامية، كما يمثِّلها الآن حزب الله ومنظمات أصولية إسلامية أخرى، عودًا إلى محطِّمي الأيقونات في دمشق القرن السادس والسابع". ومثل كلِّ الأعاجيب المعاصرة، ينبع إلهام هذه "الأعجوبة" من حاجات "جيب" الناشر أولاً وأخيرًا! وفيما عدا أن هذا الكلام استطراد تأويلي يكاد ألا يجد غير سند ضعيف في كتاب ريد، فإن منطقه المتعصِّب يتعارض في عمق مع الروح السخية والإنسانية لدراسة الكاتب الكندي. ومن مشكاة الإلهام ذاتها، يغوي الناشرُ قرَّاءه المفترضين بأن المخابرات العسكرية الأمريكية اعترفت بريد اختصاصيًّا في شؤون الشرق الأوسط منذ صدور كتابه بطاقة بريد فارسية (1994). ولا يشك قارئ الكتاب لحظة واحدة في أن ريد لا يتشرف بهذا الاعتراف! *** *** *** [*] Fred A. Reed, Shattered Images: The Rise of Militant Iconoclasm in Syria, Talonbooks, Vancouver, 2003, 258 pp.
|
|
|