|
رسالة
القلب* مولانا
محمد صادق عنقا شاه مقصود بير أويسي هو
الله العلي يا
نور كلِّ شيء وهداه ومبدأه ومنتهاه ***
الحمد لله
الذي جعل كعب البيت عليًّا وقدسًا لإبراهيم،
وفضَّل كعبة القلوب على النفوس والأرواح في
برزخ الجمع العظيم، فصلَّى الله وسلَّم على
شجرة طوبى والبلد الأمين، محمد المصطفى وآله
المعصومين إلى يوم الدين. تتردَّد في خلوتي نغمات
فطرية صادقة، عازفة ألحانًا رقيقة، باحثة عن
رؤيته التي هي جوهرة الجمال وقوام الحسن،
وتعزف لحنًا عذبًا في سبيل وصاله. واأسفاه! إن عمري يمر، وحالي
يمضي. وقد انقضى أكثر من منتصفه، وانعطفتْ
حرارة وجودي متمايلة صوب برودته، وضاقتْ
عيناي ذرعًا، وأوشك صبرُها لرؤية الجمال أن
ينفد، وهزةُ ألحاني العاشقة المجذوبة لا صدى
لها لدى المكتوين بنار الحب الواصلين. أيها الحافظ، أمنيتي التي
أبتغيها منك أن تحقِّق رجاء قلبي، وأن تغمر
أمنيته بعطائك الوافر – قبل أن تتعثر أنفاسي،
وتبلغ الروح الحلقوم وألفظ أنفاسي. أيتها الحقائق – قبل أن
يفوت الأوان – اهبطي نشوانة على صدري الذي هو
موطن هدوئي وسَكَني، ومتِّعي روحي الظمآنة؛
فإن عمري يمضي سريعًا دون رحمة. إن الدقائق التي أسرع فيها
وحيدًا لرؤيتك أثر أقدامي ليس واضحًا للغرباء. وفي الوقت الذي أفنى فيه عن
نفسي بكمال عشقه، وأذوب في أنواره، أرى
أحديته خالدة لامتناهية. البرق في ثنايا قلبي يومض
ككوكب ثابت، انعكس ضوؤه وضَّاء لامعًا من
مرآة صافية من ذروة السماء في غياهب جبٍّ
سحيق، يدعو وجودي إليه بشوق وشغف، مثل كوكب
الزهرة الذي هو عروس السماء. والشدو المبهج للعازف
القديم يغرِّد كلَّ يوم في قلبي، وتطمئن أذني
إلى هدوء ألحانه. وإني الآن لسعيد كذلك
بالاستماع إلى نغماته. وأملي أن تتكرر
خطواتُه الرتيبة، وأن يستكين
دون إرادة مني. يا حافظ المتوكلين، إن جميع
حواسي المشتتة وقواي الفكرية، منذ أن تحركتُ
في مزرعة الحياة الطبيعية، كانت في حمايتك؛
ذلك أني قد وجدت مرارًا أنك كنت الأمين عليها،
وكنت الحافظ لها من قوة استيلاء ذئب النفس
عليها؛ وإذا جنَّ الليل لم تكن تتركها في
الطرق الموحشة. واليوم، فإن قوة شبابي قد
اضمحلت، وولَّتْ أيامي وجهَها صوب النقصان،
وظهر وجه الكهولة المشوب بالألم والمحطّم
في وجهي وجوارحي – فلا تتركني لها. لقد زرعت منذ الأيام الأولى
بذور الصدق الطاهر والعشق في مزرعة قلبي
وروحي بإرادتك. والآن، وشمس خريف عمري توشك
على المغيب، فلتمدّني
بعون منك، حتى أجني ثمارًا طيبة أقدمها لك
مجتمعة في منزل قبولك. إن الإجهاد والنَّصَب
والطريق في قلبي غير مثمر ما لم تملأه بجذبك.
ولقد اهتزت أعمدة قصر وجودي لِما أصابها من
ضعف، وقوة إبصاري في إنسان العين تتلاشى
حثيثًا، وتمضي نحو الظلام. فإذا لم يدركها
شعاعُ رؤيتك كانت المصيبة فادحة والألم
جسيمًا. وإذا لم تُثِبْني على عملي يوم العدل
نزلت العقوبةُ بقلبي؛ وإذا عفوتَ عن روحي
العاجزة بعنايتك ولطفك كان فضلاً منك وكرمًا.
فكل أعمالي ونيّاتي
لك أنت؛ وإني لست مدركًا لها ولنتائجها، ولست
عالمًا بالطريق الذي سلكتُه وسأسلكه. ورأس
مالي العوز والفقر – والخجل تحفة الفقير
وهديته على أعتاب ملكوتك. أيها الكريم، لا تتركني
لنفسي، ولتعْفُ عن كبرياء نفسي، ولتشملني
ببالغ عطفك. يا ملاذ اللاوعي، كم أنت
قيِّم وعظيم! يا محيط العدم والفناء، كم
أنت مملوء عظمة وعطاء! إن سبب نعيم روحي وسعادتها
أني قد أودعتها بتمام فقرها لمشيئتك وإرادتك. *** تحيات
قلبي كلِّه إلى موطن أقدام الطاهرين، لأنهم
يعبرون سبيل الطهارة كنسيم البحر،
ويتعفَّفون عن دَنَس النفس وشرورها. سلامي إلى الأرواح التي
قدَّستْ نار الجوى في أوج شبابها، والتي "إذا
الشمس كُوِّرَتْ، وإذا السماء انفطرت، وإذا
الكواكب انتثرت، وإذا الأرض مُدَّت"، وناءت الأرواح
من الشوق، امتلأت قلوبُ أولئك برأسمال التقوى. وترتبط حماية الشجيرات
بحُسْن رعاية الحارس الذكي والعالم الخبير؛
كما ترتبط حراسة الخراف وأمنها بحماية الراعي
اليقظ وعنايته. وقوة القلوب منوطة بإخلاص
الطاهرين؛ وطائر روح القلب أفضل الفضائل. وبعد، فعليك أن تتأمل
مليًّا بأيِّ مرعى تتركه، وفي أيِّ مكان
تطلقه، وإلى مَن تَكِلْه ليرعاه. الأرواح السعيدة والعيون
المبصرة عاشقة للجمال؛ ولا يكون نشاطها
لعمارة المزابل والسكون في زوايا الحزن والغم. "رسالة القلب" دعوة
ملكوتية، وجوهر نداء قلبي مفعم بالصدق؛ فما
السبيل لتستمع إليها؟ والروح الخاشعة صاغية
لنداء الملكوت، وناظرة مناظر الحق. ورسالة
الحق في أفق العدل تجد أذنًا واعية. ولن يجدَّ
جديدٌ عما سُطِّر منذ الأزل؛ وربما لا تدري أن
كلمات الحق وآياته وأحكامه ثابتة خالدة. إن مظاهر الحياة تجري وفق
مشيئته؛ والمساواة والعدل قانونُه. إن الحكمة التي ظهرت من
ينبوع العبودية والإيمان بالله حكمة بالغة. إن نسيم صبح الشفق ونضارة
ملكوت السموات وصفاء النجوم تجلياتٌ
للحق؛ وهي عالم لقاء الفقراء المتواضعين.
والشكوك هي التي تحجب الحقيقة عن الأنظار.
فلتُكثِر من شفافية الروح حتى تُدرك الحقيقة
وتمتِّع روحَك. أنوار الحقيقة تتلألأ من
كوة القلوب؛ ولكن القلوب في بوتقة الرغبات
الزائلة محترقة بالشهوات القصيرة العابرة. والبشر يصرون على ارتكاب
المعاصي والآثام والانحراف، ولا يخشون تشتت
أرواحهم؛ ولكن الطيور تهرب من المصائد، وتهرب
الوحوشُ من الشِّراك. ولا يكون حسنًا أن يُعبَد
الإله لتحقيق مقاصد دنيوية. والرغبة علة لابتعاد الحياة
الأبدية عن الحياة [الدنيا]. وتكون تنقية الماء العكر
باستخراج الماء الطاهر النقي الزلال من بين
الأوحال. والتعلق بالرغبات كالمياه العالقة
بها الأوحال. والمسيرة في الحياة مثل جريان
الماء، والمعاصي وبالها. وبعد، فعند مَن يجب أن
يُبحَث عن حقيقة الحياة؟ العين ترى، والأنف يشم،
والفم يتذوق، والأذن تسمع، والأيدي تحس
الخشونة والنعومة والحرارة والبرودة،
والحواس مؤتلفة مع طبيعتها وإحساسها،
والأخطاء الناجمة عنها لا تعلَّل. علمها
إحساس بالظواهر، ولذتها إدراك المكيفات
المجهولة. ولن تدرك حقيقة الحياة بأيِّ تعريف
من تعريفات الحس. فالظواهر الطبيعية غير
الواضحة وكيفياتها أمواج قصيرة الأمد وضحلة
في بحر الحياة. التعلق بها ألم، والانفصال
عنها هدوء وسعادة. وخيانة مصادر الإحساس
والإدراك وتقلبات حياتها وعلمها ظلٌّ زائف
لحقيقة هويتك التي تعبدها بأسمى ملَكاتك،
وتحمل نفسك تحت لوائها إلى عالم الموت.
والخلاص من تلك الصورة الزائفة مقدمة
للاندماج في حقيقة هويتك، وإدراك حقّانيتك،
والخلود في عين السكينة والحرية. والتفرد في إيجاد وجود خفي
ومنفصل بحكم الأنانية أمر محدود من كلٍّ لا
يتناهى؛ وطريق الخطأ والانزلاق واجتيازه
سقوط في الموت. إنها المعرفة التي تطلق
سراحك من تركيبات التعلق، وهي التي تمضي
بقدميك وتثبِّتهما صوب الملكوت وواقعية
حقيقتك. عندئذ تبدأ حياة جديدة. والعارف لا يحفل بالوسائل،
ولا يهتم بها، ولا يعتبرها سببًا للمرور من
شريان الحياة الرئيسية، ويراقب النفس، ويحرص
على وقته، ولا يشتِّت الخاطر حين تظهر شمس
الحياة مبعث هدوء الروح. فلتستقم الفكرة حتى
لا تتلاشى في زوايا المطالب الدنيوية.
فالحياة في عالم الموت تنتهي حتمًا بالموت.
فجميع تلك المظاهر العابرة منتزَعة من
الحقيقة. ولكن عليك ألا تتعلق بلوح مشقَّق
تجرفه الأمواج في طوفان الحياة لأنه لن ينجيك.
وما وُكِلَ إليك فلتؤدِّه بالعدل: فالإفراط
والتفريط طريقان محفوفان بالظلم والفناء
وعدم البقاء. الشفافية والكثافة لا يمكن
لهما أن ينفصلا. وما يتراءى لك من حقيقتي
واحدٌ من البرازخ الظاهرة بين هاتين الغايتين.
وهناك دليل واحد للبحث عن حقيقة الحياة
والتعرف عليها؛ وكذلك البقاء والفناء،
والمقيَّد والمطلق. حقيقتي لا تتقيَّد بقيد؛
ولهذا فهي أبدية لا متناهية. وهو أيضًا غني غير محتاج؛
لأن جميع المتطلبات عين ذاته، ولا يريد شيئًا.
وهو كذلك خالد باقٍ، والفناء ليس من صفاته؛
وهو ثابت لا يتزعزع. ومع أن نتائج الأعمال
الصالحة والطالحة راجعة إليه، إلا أن الخير
والشر لا يعود عليه. فلتفكر في برزخ وجودك إلى
أيِّ اتجاه يميل. فإنك من ذاته، وتمضي إلى
الموت بإرادته، وعالمك على هذا النحو. والبصيرة الحقيقية شاهدة
لظلال الحياة. وكما يومض البرق المضيء
النوراني الثابت بقلبك دون خوف أو نقصان،
فلتثبت فكرة الدماغ [البصيرة] على نبع الحياة
في القلب. فإذا لم تتزعزع، وضحتْ حقيقةُ هويتك. وإذا شُغِلَ فكرُ عقلك
بصغائر الأمور، وغشيتِ الغفلةُ أعمال حواسك،
عصى القلبُ أمر الخالق، وتحطَّم مصيرُ حياتك
الباقية في بيداء موحشة صخرية. تتحقق الهداية باتحاد
الدماغ والقلب والحواس والطبيعة؛ وضلال
النفوس ناجم عن تنافر هذه العناصر الأربعة
وتباينها. فلتمسك من جديد بزمام القوى
من الجوارح، ولتجمعها في موطن سرِّ الحياة،
حتى تدوم مدركاتك، ويحيا وجودك باعتدال،
وتدرك الأبدية. العارف يرى حقيقة هويته كما
يرى صورته في المرآة. وصالح الأعمال يرى صورة
حقيقته مثلما يرى وجهه على صفحة المياه
المتماوجة الرقراقة. والضال والعاصي لا يعرف،
ولن يعرف – محيطُه بيداء الغفلة والضلال. *** وبعد،
فإن أنوار المعرفة هي الكاشفة لظلمة الغفلة
والجهل. فلتبتعد عن نفسك، ولتُنِرِ الطريق
الذي يمضي من القلب إلى الدماغ، ولا تترك
القلب والعقل يعيشان كجارين بعيدين غير
متعارفين، يجهل كلٌّ منهما الآخر. وكل رغبة
تشتد في قلبك امحُها باتحاد قوى القلب والعقل
حتى لا تفنى [أنت]. وحين تصل حواسك مجتمعة إلى
موطن القلب، ولا تود الرجوع والنكوص، عندئذٍ
تجد ذاتك. وإذا ما ربَّيتَ روحك الكثيفة من
منبع الحياة، فسوف ترى صورتك النورانية. كل طائر يأوي إلى عشِّه إذا
جنَّ الليل حيث يهدأ ويستريح. وعليك أيضًا أن
تصل بقوى الحواس والجوارح إلى موطن قلبك.
فلتجمعها وتريحها في أثناء الليل؛ ولتظهر
صورتُك النورانية بهيئة واحدة. فإذا ما
تنفستْ في عنصر وجودك روحٌ خالدة فسوف تخرج من
محيط الموت. وهناك قوة وهم للآدمي
تتراءى في صور مختلفة يختلط بعضها مع بعض،
يغذيها الآدمي، ولكنه لا يتغذى بها؛ سلطان
الحق وإرادته وخلقه للحياة ظاهرة في الوجود
بهذه الصورة. امتدت الذات الخالدة في باطن
كلِّ حيٍّ وظاهره، ولن تزول. ولكن الشيء
الزائل يتجمع دائمًا، ثم يتفرق؛ بينما الوجود
لا تعتريه زيادة أو نقصان. وميلاد الأشياء ناجم عن قوة
نبع الحياة. والملك مخلوق من الله. وميلاد
الأشياء كذلك ليس سببًا في زيادة شيء إلى
الوجود أو نقصانه. وهذا الامتداد الذي لا
يتناهى من جزء وكل، من ذرة وعالم مخلوقات
دائمة، تظهر ثم تمضي إلى الفناء. ظاهر الحياة
مظهر لهذا الانبساط العظيم وانقباضه، وحقيقة
الحياة وجوهرها أصيلة خالدة باقية. وينبوع الحياة [في القلب]
مصبٌّ لواحد ومائة مجرى، له واحد وسبعون ألف
فرع، تروي عشرة مليارات خلية فكرية،
وتربِّيها حتى يكتمل خلق الله في هذا
الانبساط والانقباض. يسكن ينبوعُ الحياة بين
عالمي اللطافة والكثافة ويخدم مشيئة الله.
وفي تلك النقطة يلتقي عالمان: عالم بمنزلة
يقظة الحياة، وعالم بمنزلة نوم الموت؛ يتجه
الأول صوب البقاء، ويتجه الثاني نحو الفناء. وأنت، أيها الإنسان، فلتبحث
عن الحقيقة بين النوم واليقظة، في قالبك
الملكوتي في النقطة الثالثة من القلب؛ فهي
نقطة التقاء عالمي اللطافة والكثافة. وينبوع الحياة في القلب نور
العلم واليقين وعين العلم: وحيث إنه عالم بكلِّ شيء،
فكل صورة تفيض عنه، وكل مسمى صادر منه. فهو
جوهرة اللطائف جميعها، ومصدر كلِّ الأجرام.
الكل كامل بصنعة يده. فلا تحمل إليه هدية سوى
الفقر والعوز، فإنه منبع جميع الممتلكات. فلتقرأ صحف الله [أسرار] على
القلوب بإيمان ويقين. ولكن الجاهلين يقدسون
المعاني البعيدة باسم الحقيقة التي لا يدركون
معاني كلماتها. والفقراء اللامبالون أعزاء
في ملكوت السموات لأنهم يفرغون كأس التمني.
ولهذا فأسرار الله واضحة لدى المتقدِّمين. فلتحترس أن تترك موطن القلب
صحراء قاحلة، عاريًا من الثمار والفاكهة
والعمران. فإن اتجاهاته تظل جاهلة للحقيقة. إن الطرق غير المعبدة
المملوءة بالأشواك توصد سُبُل الأقدام؛
وتموت القلوب المتهالكة على رغبات النفس تحت
أقدام أصنامها التي صنعتها. إن الأقواس التي لا تبحث
سهامها عن الحقيقة ستتحطم نتيجة عدم
استقامتها. وإن وتر القوس الذي لا يُشد
باستقامة يصيب سهمُه الكذب والانحراف. وأي
ملك لا يأمن إذا أطلق سراح اللصوص في الداخل
وقطاع الطرق في الخارج. فلتسخَّر الحواس وقوى
الجوارح وفكر العقل لمشيئة الله وإرادته، حتى
لا تكون قادرة على التطاول والعصيان والخيانة.
ورغبات الإنسان وأعماله تسيطر عليه،
والابتعاد عن المعاصي يتطلب قدمًا ثابتة لا
تتزلزل. لا يُعرَف الكذب بالصدق،
ولا الغضب بالرحمة، ولا الظلم بالعدل. لقد قطعت المفاسدُ العميقة
لهذا الزمان العفن وشائجَ الشفافية والصفاء
والصدق من القلب. المراؤون لم يفيدوا من نطفة
إرادة الأحدية؛ فقد امتلأتْ مزرعتهم ببذور
المعاصي والكبرياء؛ قلوبهم منقسمة مشركة. لقد رَبِيَ الكذب في قنوات
روحك الحريصة مثل الطفيليات المسببة للأمراض:
فكلما تغذيت أفسدتْ ما بداخلك من غذاء
وأهلكتْه وقوَّتْ نفسها. أكثر الأمور احتقارًا أن
تنتهي آلام الرحم بسقوط الجنين، ولا يبقى
للعمل الطيب ذكرى. واليوم، وقد تبدل بسلامتكم
وصدقكم الجهلُ والمعاصي، وسيطر زبانيةُ
الفساد عليها، وأفنيتم أرواحَكم المختنقة في
مضيق ظلمكم وإجحافكم، فكيف تحصدون الرحمة؟!
ولما كنتم لم ترووا بذوركم بالعدالة
واستسلمتم لآثامكم، فكلُّ شخص يدَّعي النبوة
بينكم، ويرتكب الزنا، ويتعامل بالربا، ويأكل
أموال الناس بالباطل، ويرتكب الذنوب
والآثام، تؤمنون برسالته؛ فهو نبي نتيجة
أعمالكم. ذلك لأن الحواس والإحساس
والجوارح مثل الجنود الخونة؛ سيطرتْ على
وجودكم وأبعدت عوامل الخير عن نفوسكم، فلم
تحظَ منابتكم الأصلية بتوفيق الله وحمايته. *** وبعد،
فأي أمل يتبقى لكم في الحياة والخلود؟ ويجب على الناس أن ينجذبوا
إلى الحق بوشائج المحبة والاعتدال. والآن لا
يجدون منقذًا بسبب رغبات النفس الزائلة وما
يسيطر عليها من خلط وخبط ونكران. المراؤون
يستحسنون الكذب ويفرون من الصدق. والقلوب التي تَرْبى على
الانسياق وراء شهوات النفس تجد نفسها مضطرة
إلى خيانة العهد. لقد وضع الأولون الأصنام في
معابدهم وعبدوها؛ وأنتم ملأتم قلوبكم – وهي
مساجد الرحمن – بأصنام رغبات النفس،
وملأتموها بالغباء والجهل والظلام، وأخذتم
تستمدون منها العون وتعبدونها، واستخدمتم
الله لإعزاز أصنامكم. فإذا ما حانت اللحظة التي
تخرج يدُ العدل من مكمنها، وأخذت تجازيكم على
مكروه ما صنعتم، عندئذٍ ستكون ساعة جدٍّ
عسيرة، لأن أئمتكم وقادتكم سيُجازون جزاء
السوء على ما اقترفوا من آثام؛ ولن يصيبكم
عندئذٍ سوى الزجر والخسران المبين: لماذا
تجنبتم الصادق واعتبرتموه عدوًّا لكم؟! إن المُزارع لا يخرب قنواته
ومنابع مياهه ومصدر ريِّه، لأن الأرض الجدباء
على هذه الصورة لن يجني منها المُزارعُ
محصولاً. لقد غرَّتكم الأعمال السيئة
والأفكار الفجَّة الزائلة، فنسيتم حكم الله
وعدالته. لقد غرستم بذور العصيان
والخيلاء في قلوبكم، ووأدتم شجيرات الصدق
والإخلاص واستبدلتم بموطن سعادتكم وهنائكم
بيتَ الحزن والاضطراب. أتسألون أنفسكم – إذا ما
حلَّتْ بكم المصائب – مَن منجيكم؟ وأين هو؟
ومن أية كوة أضاءت أنوار الحق في وجودكم؟ تأملوا في الأيام التي
طرحها آباؤنا ظهريًّا، ولا تتبعوا الهوى
والإجحاف. والآن، فإن أوزار امتحاننا
جدُّ ثقيلة، وقدرة صدق قلوبنا وصبرها جدُّ
خفيفة. لا تبعْ جوهر قلبك بالرغبات
الزائفة، ولا تجعل الميراث الإلهي ذليلاً تحت
أقدام رغبات النفس. وأي أمل في إنقاذ شخص يغوص
في الوحل أو بين القار دون مأوى أو زاد؟! وحيث إنكم اقتلعتم ثمار
الفكر من الرأس، وطرحتم بذور الصدق من القلب،
فإني أخاطبكم قائلاً: إن قدرة الأقوياء، وفكر
المفكرين، وروح الشجعان، لن تكون آمنة يوم
الجزاء: فكل إنسان بما كسب رهين، والناجون
وحدهم هم المتواضعون والأطهار. وأفراح القلب الزائلة،
وانشراحه الناجم عن ظلم المظلومين وإهدار
حقِّ الفقراء، شرارةُ العذاب وحطب جهنم. فلا تُكثِر من المعاصي؛
فسوف توارى بطن الأرض كرهًا، لعل حياة أبنائك
تشفع لك. وتظلمون تابعيكم لتغنموا
وتسلبوا ولكن لا تأكلون. فمن الذي يُطمْئِن
قلبَك بأن تحصد بيدك ما زرعته بنفسك؟ وترتكبون الآثام، وتدفعون
أبناءكم إلى ارتكابها. الكذب والخيانة وأكل
الرشوة لا تستقيم مع العدالة ولا تتعايش معها. المعاصي التي تمسك بخناقكم
تُخرِس العالم! تزينون ظاهركم بثوب
الأطهار، وتُظهِرون الضعف والعجز في ثياب
النخوة والشجاعة. والحقيقة أن الفساد
والعصيان يتحكمان في قلوبكم. الشيطان أنيسكم
في خلوتكم، والشقاوة سِمَتكم في ظاهركم.
وتظنون أن قصر ظلمكم لن يُهدَم جزاءً
لأعمالكم، وأن الأطفال لن يسخروا منكم؟
وهؤلاء الذين ظنوا الصدق كذبًا، والتوحيد
شركًا، والطهارة نجاسة – أولئك أعمالهم
غواية الشيطان، ونياتهم أطماع النفس
وأحكامها. فإذا ما أدرك الإنسان هوى
طريق الصلاح بلغتْ كلماتُ الحقِّ يده ولسانه
وطريقه. ولماذا لا يكون الأمر كذلك وقلوب
الأشرار فقط هي التي تطمئن لاستقبال الهواء
الفاسد [المشبع بالغبار]. والجاهل الحريص مغرور،
ومشغول بحماية نفسه وصيانة ظهره، ومنكب على
ممارسة ما لا طائل من ورائه. ولأن للجزاء
والحساب وقتًا محددًا، فقد تُرِكَ العصاةُ
لمعاصيهم والعلماء الصالحون لامتحان الله
وابتلائه. والعاصي المتمرد ميَّال إلى
ارتكاب كلِّ ما يفسد الروح ويسوق البشرية إلى
الانحراف. فلتتعففْ عن قوانين
الأشقياء الذين يقوون أنفسهم بالرذيلة
والرشوة والربا والعربدة وسوء الخُلُق،
ويفتحون أمام النفس أبواب الخيانة. الزمن حجاب الوقائع وصندوق
الحوادث. ووقائع الأحوال سجلُّ الأعمال
وكتابها. ويتحطم حجر بناء الحياة بعد موت
الإنسان، عالمًا كان أو جاهلاً. القلب هو مبدأ الفساد
والصلاح ومنتهاه. والبشر دائمًا مسيَّرون.
وأي إنسان لا يمتلك في الدنيا مكانًا ثابتًا
هادئًا كي يرجع إليه ويستريح. تعبر حياتُك القبورَ دائمًا
للتجربة والاختبار. وبعد، فماذا تريد؟
أبَعْدَ هذه الحيرة والاضطراب تطلب التشتت،
أم الهدوء والسكينة؟ إذا كنت تريد السكينة فلا
تزين قبورًا، ولا تشعل نار الفتن والمعاصي
بتعميرها. الأشرار يطهرون أنفسهم بعد
كلِّ إثم بحجج واهية، ويلقون بالعمل الصالح
إلى قلوبهم المريضة، ويُسلِمون فكرهم
للمعصية، ظانين أنهم يؤدون ما عليهم من حقوق،
وأنهم متقون الحقيقة. إن طعام أفواههم
وبطونهم وغذاء أرواحهم وعقولهم قد تلوث
بالخيانة، وإن نطفتهم لن تطهر أو تبرأ حتى
عقبهم السابع والسبعين. التاجر الذي تكون بضاعته
التقوى ورأس ماله العمل الصالح، وتكون معرفته
وربحه من أجل الحق وتقربًا إليه، يكون مؤديًا
أمر الله. القلوب المؤتلفة مع الروح
تعيش باعتدال مع نواميس الوجود. وهناك ستة شروط، إذا تجمعت
لديك مع ستة أخرى، ظهرتْ فيك أمارة الولاية
والإمامة. والشروط الستة الأولى هي: تركيز الفكر، يقظة الوجدان [الضمير]،
المعاناة والصبر للوصول إلى المقصد الحق،
الوفاء بالعهد، ثبات القدم، إدراك الإيمان
الكامل [بالله ورؤية الحق] والحقيقة. ويكمل ذلك (أي الشروط الستة
السابقة): تركيز النفس، التفكير في الخلوة،
بذل الجهد لاكتشاف الحقيقة، تمركز القوى
الظاهرة والباطنة، الثبات في السير، إدراك
السكينة. فإذا امتزج قلب السالك بتلك
الأصول الاثني عشر في مكان ما، سيكون في منجى
من دناسة النفس وزلة اللسان. وحين يكون قبس من نور الله
آمرًا لقلوبكم، فلتصفوا، ولتنظروا مليًّا في
رؤى الصديقين في إمارة الهداية. وتمنوا الهداية للقلوب،
تُفتَحْ لكم السموات. فإذا قامت قلوبكم بذكر
الله ونالت سعادة العدالة، فلن تنظروا إلى
رجال الله بخاطر مشتِّت أو ريب، بل تنظرون
إليهم بقلب طاهر. ولتتعلموا منهم العادات
والمناسك التي تحطم صورتكم الزائفة،
ولتعبروا من جديد بوابة الميلاد والتغيير [التبديل]،
ولتجربوا إفاضات أهل الباطن في مركز القلب،
ولتعرفوا حقيقة الحياة وتدركوها – فهي جادة
أقدامكم. وإذا لم تكن حقيقة الحياة – نتيجة
نظركم القاصر – ممتعة لكم، فإن محيط الموت
معناه للألم والنَّصَب. السالك الحق ينظر بإمعان في
الطريق الذي يسلكه ويخطو فيه، وهو دائمًا
خبير بخفاياه؛ باطنه مفعم بالهدوء والسكينة،
وظاهره مغلف بالتقوى والطمأنينة، عالم بأصول
الحكمة والمعرفة، محيط بها. قصور العلماء العالية
رفيعة، لا يعتري داخلها عصيانٌ أو اضطراب.
فطعِّم شجيرةَ القلب بوشيجة الولاية التي
تتجلَّى في ينبوع الحياة، حتى تثمر شجرةُ
العدالة في وجودك وتحيط بذاتك. إذا لم يُعمَر القلبُ باسم
الحق وكلمة الله، أصبح طريقُ التزكية والوصول
إلى ذاته موصدًا. فالجهل والغضب مورث للكفر،
كما أن العُجاف والحرب سبب للقحط والطاعون. قيام الأحرار بكلمة الحق.
وستعمر بأيديهم الأماكن بعدما أصابها من خراب
تام وإبادة شاملة. وهذا عهد ربي الذي حكم
بالعدل. الرسالة التي صدرت من أعماق
الملكوت تدعو الضالين إلى مقام السلامة،
فيلبون نداءها؛ واليد التي – بالقدرة
الإلهية – تمسُّ مرضى النفوس لتسبغ عليهم ثوب
العافية فيبرأون، والروح المثبتة لقلوب
المؤمنين ليحيون – كل أولئك قد أُيِّدوا من
لدنِّ الحكيم الخبير. المهتدي لا يغويه مكر شيطان
النفس؛ والضال لا يسمع لنداء الحق، فلا يجد
النجاة. حين يكون عدل الله حاكمًا
على التقدير، فإن كبرياء الأشرار، ومهارة
العلماء، وشجاعة الأبطال، لا تُخرج شوكةً من
قدم، ولا ترفع حجرًا من سبيل. الفقير الذي يرى مسكنه في
ملكوت السموات بالمشاهدة والمكاشفة لا يخشى
مشقَّات الدنيا وأهوالَها، ولا تيأس روحُه من
فيض الحياة نتيجة الحياة الترابية
ولذَّاتها، لأن الأنوار الإلهية ترفع الخوف
والحزن دائمًا عن أرواح الأولياء الأطهار. وقت العمل قصير، ويوم
الجزاء قريب. الحمد لله أولاً وآخرًا
وظاهرًا وباطنًا، والصلاة والسلام على خير
خلقه محمد وآله الطيبين وعترته الطاهرين. فروردين،
1347 هـ.، ش مارس 1968 ***
*** *** ترجمة:
السباعي محمد السباعي *
من كتاب: من الفكر الصوفي الإيراني
المعاصر، لمولانا محمد صادق عنقا شاه
مقصود بير أويسي، بترجمة السباعي محمد
السباعي.
|
|
|