|
في
مسألة الهوية والمثقَّف من جديد! هل
من معنى لسؤال الهوية اليوم في عالم أضحى
يتَّسم أساسًا بغياب الخطوط المرجعية، عالم
صار يفرض علينا، بما يتَّسم به من جِدَّة،
إعادةَ النظر، لا في الأجوبة التي نقترحها،
وإنما في الأسئلة التي نطرحها؟ فحتى وقت غير بعيد، كان يبدو
لنا من المشروع التساؤلُ عما يميِّزنا
ويحدِّدنا، عمَّا ومَن يتطابق معنا، وعمَّا
ومَن يخالفنا. كنَّا نحاول تحديد ذواتنا –
فرديًّا وقوميًّا – داخل عالم محدَّد
المعالم. كنا نبحث عن مكان في رقعة مرسومة
مبوَّبة، رقعة "معقولة". فكان من السهل
علينا أن نتخذ مكاننا فيها: فكنَّا شرق/غرب،
أو جنوب/شمال، أو ثالث اثنين. أما اليوم،
فإننا نتساءل عن "الحدود" في عالم بلا
حدود، ونبحث عن "مرجعية" في فضاء بلا
مرجعيات، وعن "لون" خاص في عالم بلا
ألوان جغرافية وتجارية وسياسية، ولكن أيضًا
بلا ألوان ثقافية وفكرية. إن ما يميِّز عالم اليوم –
أي العالم وقد اكتسحتْه التكنولوجيا – هو
غياب الاختلاف، أي سيادة التنميط والأحادية:
لقد أصبحنا نتغذى بالغذاء ذاته، ونرى الصورة
عينها، وننفعل الانفعال نفسه. أصبحنا موحَّدي
المظاهر والأذواق والإحساسات والانفعالات.
ولست أستثني هنا جهةً أو بلدًا يكون موجِّهًا
للُّعبة، متحكمًا فيها، واعيًا بخفاياها،
حائكًا لخيوطها – فكلُّنا في النمطية سواء. لقد غدا الفكر – ولأول مرة
في التاريخ – فكرًا كوكبيًّا كونيًّا.
وهذا ليس لافتراض كونية ميتافيزيقية وفكر
شمولي، وإنما للتغير الذي لَحِقَ بالوجود
بفضل اكتساح التكنولوجيا، فأصاب، تبعًا
لذلك، مفهوم العالم. ما يطبع العالم اليوم
انتشارٌ موحَّد لنماذج التنمية والمخططات،
وتطور أدوات التواصل واكتساح الإعلاميات
للحقول كلِّها، وفَرْضٌ لمفهوم جديد عن
الزمنية. وهذا كلُّه لم يعدْ يخصُّ منطقة من
مناطق العالم دون أخرى. فالكونية لا هوية لها؛
بل إنها هي التي تحدِّد اليوم كلَّ هوية. على هذا النحو، لا يغدو
الانخراط فيها – أو عدم الانخراط – وليد قرار
إراديٍّ يتخذه فاعل بسيكولوجي أو هوية
ثقافية؛ وإنما الانخراط قَدَرٌ تاريخي
يرمي بإنسان اليوم في الكون، وبالفكر في
الكونية. يتعذَّر علينا – والحالة
هذه – أن نميِّز بين خصوصية تحنُّ إلى
العالمية وأخرى تهابها أو ترفضها. بل إن ما
دأبنا على التمييز بينه من "أصالة" و"مُعاصَرة"
ربما فقد اليوم كلَّ معنى: إذ يظهر أن كلَّ
أصالة لا يمكن لها اليوم أن تكون إلا كيفية من
كيفيات المعاصَرة؛ وربما يغدو من
المتعذَّر حتى تمييز الأصيل عن غير الأصيل
بإطلاق. فكلُّ ما هنالك كيفيات "أصيلة"
للمساهمة في الكونية والمشاركة في العالمية. إلا أن أصالة هذه الكيفيات
لا تُستمَد من تجذُّر زمني، ولا من ميِّزات
متفرِّدة، بل هي كيفيات أصيلة لأنها تسعى نحو
خَلْقِ شبكات مقاومة تحاول الانفلات من
التنميط، أي تسعى نحو خَلْقِ الفروق وإحداث
الاختلافات، تسعى نحو بناء الذات وتملك الآخر. هذه الشبكات هي النسيج الذي
يمكن للمثقف اليوم أن "ينخرط" فيه –
شريطة ألا تُفهَم "المقاومة" هنا كما
تكرَّس من خلال نظريات طالما تمَّ تبنِّيها
عن المثقف، كنظرية المثقف "الملتزم"، أو
نظرية المثقف "الواعي بحركة التاريخ"،
"المدافع عن المصالح الطبقية"، أو
المثقف "المتكلِّم باسم المستضعفين"،
المثقف "ضمير التاريخ" أو المثقف "المتياسر"
بالطبع – لكن شريطة ألا تُفهَم المقاومة كذلك
صراعًا بين قوى "خارجية" وقوى مضادة،
وألا تُدرَك بوصفها انضواءً للفكر
والتزاماته تحت مصلحة تلك القوى. ها نحن نرى أن الأمر يتطلب
إعادة النظر في كثير من المفهومات: مفهوم
الفكر كتعبير عن شيء خارج عنه، ومفهوم "الممارسة"
praxis
كتطبيق لنظرية، ومفهوم الوعي كمعطى أوَّلي،
ومفهوم الذات كهوية لا ينخرها الاختلاف. وإن نحن أخذنا في الاعتبار
إعادة النظر هذه، لن تعود مهمة المثقف خدمة
إيديولوجيا بعينها، ولا تكريس قيم جاهزة، ولا
الدخول في صراع مع قوى "خارجية"، بل تحرير
قوى الحياة، والسماح لحياة قوية بالتفتح –
لا تنصيب المقاومات هنا نفسها قوةً "تقف"
إلى جانب الخير، فتعلنها حربًا على قوى الشر،
وإنما تتشابك في علاقة مع ذاتها. هنا يأخذ الفكر معناه
المستقيم، كانعكاس ومراجعة للذات réflexion.
وهنا تكون المقاومة مقاومة التنميط؛
لكنها تكون كذلك مقاومة التقليد، أي تكون
سعيًا وراء التحديث. لذا فإن نقاط ارتكازها
تغدو "باطنية"، افتراضًا بأن المثقف
ذاته وعي ولاوعي، حداثة وتقليد، نمطية
وانفلات عنها. وهاهنا لا يعود الفكر "تعبيرًا"
عن قيم خارجية عنه، ولا التزامًا
بإيديولوجيا، ولا تطبيقًا لنظرية، ولا
نضالاً في خدمة مؤسَّسة. لا ثابت هنا يتخشَّب
ويتوحَّد ويتجمَّد، فيغدو تكرارًا لنفسه
واستنساخًا لذاته. كلُّ ما هناك أشكال
متفرِّدة لقمع قوى الحياة ومحاصرتها وتضييق
الخناق عليها، فأشكال ملائمة للمقاومة
وتحرير قوى الحياة. بناءً على ذلك، لا تتحدَّث
المقاوَمات بلونها ومضمونها و"هويتها"
بقدر ما تتعيَّن بما تقوم به. إنها لا يمكن أن
تُعرَّف إلا إجرائيًّا واستراتيجيًّا. وهي
مثل "دروب" هَيْدِغِّر، تتعيَّن
بالمسار الذي تخطئه. لذا فهي لا يمكن أن
تتشابك في مواقف ومدارس ومذاهب وتيارات. كلُّ
ما في إمكانها هو أن تشكِّل شبكات هي بالضبط
شبكات مقاومة للنمطية، لإبداع هوية ما تفتأ
تتجدد. ***
*** *** عن
الحياة تنضيد:
نبيل سلامة
|
|
|