آخر المَاء

نصٌّ في أحوال دجلة

 

بشار خليف

 

ليس بديل الشرق هو الغرب، بل الشرق الصح.

 

يا طول ما أعددتَ ملامحك لوجه يجيءْ.

يجيءُ، فيتطاير الهواءُ بين أرضك وسقفك، بين سقفك والسماء. تضيع ملامحُ ارتعاشة خَلْقِكَ الأولى. تصيرُ هذه الكرة الذهبية مرآة الغابات التي تبتكر وجوهها من وحشة الظلال والصمت.

خفيةً، لوعةً، برهةً، وتجتازكَ الشمس إلى منفاها.

ترسم، تنقش، تكتب. تفهم لغز تلك «الحصاة المتحركة التي لا ينبت عليها العشب».

وجهٌ، نبضٌ، أو ذاك الوقت، وَتَسُودُ ظلَّك الأمكنة، ويأتيك ما يأتيك – زمن كأنه ابتكرَ الفراغ ليغتال مكانك. حسنًا، لُمِّي، أيَّتها الماء، ظلالَك، طحالبَك، شواطئَك، لُمِّي ثغرك لتقضمي لذة المحلِّ بزهرة اللسان. وتسمع:

-       حالك ما حالك، كأنكَ لستَ سواك، وليستْ سواها! وبطيئًا بطيئًا يعلو الماء الماء، بطيئًا وتقذفه أصابع النوء إلى السماء، بطيئًا ويعود الكل ماءْ.

وجهٌ، وليلٌ دمشقي يقتات من مئذنة الصوت إيمانك الوحيد بأصابع تعلو، تسمو، تمحو، وتعلن زيتك، ماءك، لوحتك.

يا وحيد رقصتك الأخيرة، يا نشيدك، لحظة رَقَصَ المغولُ على حبرك المنساب على شطآن دجلة... وماءْ.

تعلوك أرقامُ الشمس، منفاك بخورٌ ونار، ونَهْدٌ لمَّا يبتكر رضيعَه.

شرقٌ، ويتناثر خَفْضُ الجناح إلى عدمك – وتسأل عن حالك، ما حالك؟ رقم، والواحد إلى أعشار واحد وألف.

يا فاصلة لسطر بلاك، يا وحيد رقصتك الأخيرة، عُدَّ آتيكَ الذي جاء، وغُصْ في حكايات الخرافة، ليأتيك ما يأتيك – ليلك الشهرزادي الماجن – وبحبوحة تجري من تحتها الأنهار والماء أنتْ، فاثبتْ على وقع خطاك، لغاية الطحالب وأسنك، لطيور بلا أجنحة ومساء بلا هواء.

أجنحةٌ... وتنقطع، يا وحيد رقصتك الأخيرة، إلى ألف زغب وطيف.

تعلن أسماكك، فتلفظك موجةُ ماء الصباح. وحين تصحو ماؤك، تبتكر الصحراء لك نخلةً، لتعلنك جزيرة – ويا طول ما أرعبتْك خطاك!

شرقٌ وَجَفْ، وعلا الماء، وعاد الكل ماء... فاكتملْ عنقًا لألف رأس، صهيلاً بلا فرس وفارس، وقوقعة بلا ملح وبحر.

-       كأنك تضحكين!

-       يباغتني وقتك.

-       يُضحِك؟

-       تُضحِك!

-       وجهي مرآة الآتي.

-       يخيفني.

-       قلتِ ذلك...

يقطف وردة من شفتيها، تقطف بحرًا من عينيه...

-       هذا البحر أنتِ.

-       أنا هو.

-       هو أكبر!

-       هو أصغر.

-       هو أقدم!

-       وليد عينيكِ.

-       هو أزرق!

-       عن أيِّ قزح تَحْكِينْ؟

ترتاب، تخفي دمعة بحجم الذي قطفتْ. تموج... يمور... ثُمَّ ثُمَّ كثبان وماء، وقوقعة بين الأصابع تعلو، ويعلو الماءْ...

-       تأخرتُ؟

-       ليس تمامًا، لكنِّي اكتويتُ حتى آخر صيف، حتى أول شمس تأتي.

-       قلتُ آتيكَ في الشتاء!

-       كلاكما؟!

-       مَنْ؟

-       أنتِ والمطر؟!

مطرٌ، ويصير لكلِّ وجه لون، والحنين يشدو مَوَّالُهُ الحزين على رافديهِ ونخلهْ.

-       أنتِ مكاني.

-       أنا فراغك.

-       الفراغ يخشى المكان.

-       يخشى المكانُ المكانَ الأضعف.

-       أي نخلة أنتِ؟!

-       ورملكَ!

-       للرمل سرُّ النخلة.

نخلةٌ، وتبوح النخلة بمائها:

لستُ طينًا لأخلق، لستُ ضوءًا كي يهتدي العتمُ بي، كي يُكتَبَ لي طول الظلامْ.

ظلامٌ وتتكسر الرؤيا على مرايا الذاكرة. غربان تعدو ورعاة بقر بأحصنة حديدية تنهب رمل النخيل...

الآخر يعلك اللبان، وهو كان ينقش روحه على صفحات الماء.

الآخر: اسمك؟

هو: نسيته.

الآخر: اسم أمك؟

هو: لم أنسَه.

الآخر: هل متَّ؟

هو: ليس عندي رمقٌ أخير...

الآخر، مازال يعلك اللبان – وهو، كان ينقش على الطين لون وجهٍ سَكَنَ أصابعه. برهة، ويستحيل الطين إلى لوح أبيض يسند قبره. الآخر يسأل الآخر:

-       هل لديك جسد لهذا الرداء الفارغ؟

الآخر أيضًا يعلك:

-       اللعنة! كلها أجساد من نقوش وذاكرة.

ذاكرةٌ، وتصير كلُّ الأفواه فارغةً لكأس مليء.

ذاكرةٌ، وتعود الكؤوس فارغة لفم مليء.

يصبح الشرق حكاية ماء ينوح، يعتمر تيجان الدم... لكلِّ حِدادٍ مدينة، لكلِّ أخت مدينة، وللصحراء جِمالها الحُمْر.

ارتعدتْ، لملمتْ نجومها خشية نهار أحمر. قالت:

-       الآلهة غضبى!

-       مدينة بلا وقت!

-       حتى الماء؟!

-       والهواء.

-       النار.

-       والرمال.

-       أي جنون!

-       إله جديد يحلم.

-       عن أيِّ حلم تتحدث؟

-       رأيتُ!

-       ماذا؟

-       صار الكل شيئًا.

-       والنخلة؟

-       يعزف عليها الماء مجراه الأخير.

-       إلى أين؟

-       صوبكِ.

-       لكني بعيدة!

-       آخ...!

-       ماذا؟

-       رأسي تؤلمني.

-       ولكن لماذا السقف تحت؟

-       لأننا فوق!

-       والمدينة؟

-       بلا فوق ولا تحت!

-       لنغلق أسوارها إذن.

-       أَغلقي فمك.

رَقَصَ حول نفسه، رَقَصَ الآخرون حوله، رقصتْ رقصةَ الآخرين حوله، ومَضَتْ نحو شرق الحكايات، وجارية ترقص بين سيفين.

رقصٌ وشرقٌ – وأنت ترفع سبابتك، تنتصب، وتستبيح كلَّ الأصابع وتشهد...

رقصٌ وشرقٌ – وتلتف زوايا رابوعك حول عنقك، تعلوك المآذن، تقرع الأجراس والطيور خائفة.

رقصٌ وشرقٌ، وتَحنُّ إلى حين، ولو بعد حين...

تتفرع ليغادر الأبيض أقواس قزحك، ليسيح سائلك ويُلبسَك رداءك الأسود.

يا وحيد احتضارك، يا وحيد الماء ورقصتك الأخيرة.

للقرود مؤخرات حُمْر تُضحِكك. أما تدري كيف يسيح سائلُك الأرجواني ليعلن رداءك الأسود وليضحك شاهرُ السيف من سبابتك ورابوعك ويخفي قهقهةً بحجم حاخام سبى صخرتك وقيامتك؟

بَعُدَ رابوعك عنك، بَعُدَتْ المسافةُ بين سَبَّابتيك، صرتَ بعيدًا عنكَ، لتفقد رأسك وحيِّزك بلا مكان.

دَوِّنْ إذن على صفحة الغيب، على عيونٍ حور، على أفخاذ عذارى الفراديس المؤمَّمة، حذافيرك، تفاصيلك، حدودك – وأسمو نحوك كنعامة من رمل وماء.

يا وحيد رقصة احتضارك الأخير، يا لقياك تحت أسوار دمشق وخرائب تدمر ونواح سيدةٍ قرطاجيةٍ على نخلة.

دمشق، وتغلق أسوار دمشق أبوابها، ونادل قديم بقرب ذاك الجدار الأموي يخلط القهوة التركية بزهو الياسمين، يقدِّمها لابن الفاتح:

-       اشرب!

-       ما أنا بشارب؟!

ارتعد الفاتح، واكبتْه رجفةُ القمر على وجه ماء مرتعد. لَمْلَمَ خيامَه ومضى نحو مضاربه. فجأة، داهمته الرؤيا! تَوَّثبَ، تَصلَّبَ، تطلَّعَ إلى السماء: الغيوم داكنة!

-       يا رجل... في الشرق دمٌ يباح!

-       وفي الغرب دمٌ يباع!

-       والبلاء؟

-       ماذا تقصد؟ الغرانيق؟!

-       لا، الإيدز.

-       أيضًا يباع!

-       لنهرب إذن.

يعدو الاثنان نحو فرس صهباء، يتجاذبان، يتنابذان...

-       أنا قبلك.

-       لا، أنا.

-       أقسم بشاربي!

-       أقسم بلحيتي!

-       تخطئ!

-       أخطئ؟

-       تموت ميتة الكلب!

-       خسئت!

لَمَّ النادل أكواب القهوة، لَمْلَمَ مقاعده، جدرانه، وأقفل الأبواب، ضمَّ أصابعه إلى الجدار الأموي، وبكى حين سمع صوت إغلاق آخر رتاج من أبواب دمشق. ومع هذا لم ينم. فحين تطلَّع إلى السماء كانت غيوم الشرق داكنة:

ثَمَّ في الشرق دم.

وصحا بعد حين... والناس داخل الأسوار يتاهمسون عن لجوء نهر إلى دمشق هربًا من لون أخويه. أسموه «بردى». بعضهم خارج الأسوار تهامَسَ أن اسمه عبد الرحمن الداخل.

صحا بعد حين أكثر، نَثَرَ مقاعده، فتح أبوابه، كتب على الجدار الأموي: «مِنْ هنا مرَّ صقر قريش وشرب القهوة التركية بزهو الياسمين ولم يدفع ثمن ما شربه.» قال لي: «الأنهار الجارية لا تهدر ماءها.»

يا ماء شرقك الأخير، يا شيخًا يدبُّ على حواسٍ خمس ويسكن في جليد الوقت. سماواتكَ سبع، وصاياكَ عشر، ونساؤكَ أربع، وجدرانكِ أربعة، وعوراتكِ بعدد رمال شعركِ... فأحكمي الأقفال، خشية الربيع، خوف الشمس، رهاب الخطأ، حكايات ذئب وليلى. نهدٌ، كرمٌ، وثعلب رضيع ماكر.

شرقٌ ذكرٌ، أنثاه جارية لأفعى الخرافة، لتفَّاح صحراويٍّ يُباع في مزادات الأقفال خشية النار = النور:

-       أنتِ!

-       أنا...!

وجوه تسمو إلى السماء، جباه كالشمس، أصابع تهبُّ، تشبُّ وتأتلق جنَّات حُبٍّ تجري من تحتها الأنهار... تقول:

-       تبلورتَ.

-       صغْتَني.

-       كأنكيدو؟

-       كان يَدُّبُّ على أربع.

استقام، رأى الشمس، صار نورًا، نارًا، كإبداعه الأول، صلصاله الوقت، ماؤه أنثى، مأواه إله، وذكراه ماء.

ماءٌ... وبطيئًا علا الماء الماء، بطيئًا عادت للوحيد رقصته الأخيرة، بطيئًا سما، بطيئًا همى، وعاد للكلِّ ماءْ.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود