|
الدِّين
هو تجربة جماعيَّة مشتركة للإيمان علَّمتْني
الثَّقافةُ العربيةُ الكثير إننا
نحتاج إلى البَراءة حتى نكتب الموت
يجلس بجانبي، ينظر إليَّ وأنظر إليه ولد الكاتب باولو
كويليو في السنة 1947 في مدينة ريو دي جانيرو في
البرازيل. أدْخَلَه والداه إلى المدرسة
اليسوعية، التي يقول إنه قد فقد إيمانه بها
رفضًا لتقليديتها. عُرِفَ في شبابه بكتابة
الأغاني لأشهر مطربي البرازيل، حيث كَتَبَ ما
يقرب من ستين أغنية. أُدخِلَ مصحَّة عقلية
ثلاث مرات، وسُجِنَ ثلاث مرات أيام
الدكتاتورية. وعند نشوب ثورة 68 الطلابية التي
انطلقت من فرنسا، صار يساريًّا متشددًا؛ ثم
تحول إلى "هيبِّي" يجوب العالم، وينتسب
إلى جماعات السحر والشعوذة وغيرها. وهكذا،
ظلَّ كويليو قلِقًا روحيًّا ومواصلاً بحثه
عما يريد. وكان حلمه أن يصبح كاتبًا. في السنة 1986، قام برحلة
إلى مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا
الإسبانية، حيث مشى على قدميه مسافة 700 كم على
مدى 55 يومًا – وكان يدوِّن يومياته –
فشكَّلتْ له هذه الرحلة التحول الكبير في
حياته، حيث أعادت إليه إيمانه الديني،
الكاثوليكي تحديدًا. ثم صاغ يوميات هذه
الرحلة، بعد عام، في رواية سمَّاها حاج
كومبوستيلا – وكان بلغ الأربعين من عمره. وهكذا راح يحصد
النجاحات الكبيرة في رواياته اللاحقة – ومن
أبرزها: الخيميائي، على ضفاف نهر بييدرا
جلستُ وبكيت، الجبل الخامس، الشيطان
والآنسة بريم، فيرونيكا تقرِّر أن تموت،
وغيرها – حتى صار يشكِّل ظاهرة حقيقية في
الأدب العالمي لِما حقَّقه من شهرة. فهو يُعد
ثاني كاتب في العالم من حيث المبيعات: فقد باع
حوالى 30 مليون نسخة، وتُرجِمَتْ أعمالُه إلى
45 لغة، من بينها العربية، بحيث إنه باع، خلال
عشر سنوات، ما باعه أكبر كتَّاب البرازيل –
جورجي آمادو – طوال حياته! يعده البعض مجرَّد كاتب bestsellers، فيما يراه البعض الآخر ظاهرة
جديدة استطاعت أن تشغل فراغًا مهمًّا، ألا
وهو الجانب الروحي الديني عند القراء. ويصل
الأمر عند بعض النقاد إلى حدِّ اعتبار أنه
يمثل ثالث موجة ثقافية جماهيرية في القرن
العشرين، أي بعد موجتَي ماركس وفرويد، وأنه
استطاع لفت الانتباه إلى الجانب الروحي
الديني الذي أهملتْه الثقافة المعاصرة – على
الرغم من الوجود المستمر لهذا الجانب في
الذهنية الإنسانية وتأثيراته على أفكار
الملايين من الناس وحياتهم – حيث يُلاحَظ على
كويليو اهتمامُه بالدين والخيمياء والأسطورة
والرموز، مستفيدًا من موروثات حضارات أخرى
مختلفة، إحداها العربية. وقد أجرى هذا الحوار
محسن الرملي، وهو باحث وكاتب عراقي يقيم في
إسبانيا منذ سنوات، ويُصدِر، مع عبد الهادي
سعدون، مجلة ألواح الإلكترونية (www.alwah.com). *** محسن
الرملي:
سيد باولو كويليو، لديَّ الكثير من الأسئلة.
فمنذ أن تمَّ تحديد اللقاء معك، تلقيت العديد
من الأسئلة من القرَّاء والمترجمين
والأصدقاء، من صحفيين ومثقفين. وعلى الرغم من
أن بعض الأسئلة قد يكون مكررًا طرحُه عليك،
فإن المقابلة، كما تعرف، موجَّهة إلى الآلاف
من قرَّائك الجُدُد. باولو
كويليو:
إنها لسعادة حقيقية في نظري، لأن هذه هي المرة
الأولى التي ستتم فيها ترجمة أعمالي إلى
العربية ترجمة "رسمية". لقد سبق لبعض
أعمالي أن صَدَرَ مطبوعًا في بلدان عربية منذ
ستِّ سنوات تقريبًا؛ ولكن هذه هي المرة
الأولى التي سوف تحظى بترجمات جيدة. إذن، فأنا
مسرور جدًّا بهذه الفرصة التي سأستطيع التحدث
فيها مع الجمهور العربي. م.ر.: وهكذا سيكون السؤال
الأول: مَن هو باولو كويليو؟ ب.ك.: إنه سؤال جيد. في البداية أنا
"حاج". أعتقد أن أفضل طريقة لرؤية الحياة
هي الالتقاء بأشخاص آخرين. ومنذ شبابي، عندما
كنت أسافر كـHippy في أنحاء العالم، أدركت أننا
جميعًا سواسية، وأننا جميعًا لدينا القلق
نفسه، ونقدِّس جميعًا مسألة البحث عما هو
روحي. وبعد، فأنا شخص عليه أن يشارك في ذلك.
وقد اخترت الأدب؛ أي أنَّ الكتابة، في نظري،
كانت هي طريقتي لإيجاد حكايتي الشخصية،
ولمشاركة الآخرين بروحي – والمشاركة هي واجب
على كلِّ شخص. ولهذا، فإن ترجمة أعمالي إلى
العربية هي مشاركتي تجاه هذه الثقافة
العظيمة، التي، إبان الكثير من الأعوام من
حياتي، قد علَّمتْني أشياء كثيرة. فالأمر
الآن، في نظري هنا، رمزي، لا لردِّ الجميل –
لأن هذا مستحيل! – ولكن على الأقل، للمشاركة
قليلاً، عبر الأدب، بما تعلَّمتُه منها. الحاجة
إلى الآخرين م.ر.: أنت بذلك تكاد أن تكون
قد أجبت أيضًا عن السؤال الثاني الذي هو: ما هي
حاجتك أو دوافعك إلى الكتابة؟ ب.ك.: إنه هذا الكائن الإنساني الذي
يتجسَّد وجودُه فقط عندما يتصل بالآخرين.
مثلاً: إذا كنتَ وحدك في مدينة سانتياغو، تنظر
إلى كلِّ شيء بمفردك، فستشعر بالضيق؛ وهذا
ليس كالشعور عندما تكون برفقة أحد تستطيع أن
تشاركه. إذن، فهو واجب علينا أن نتشارك – عبر
الأدب، أو عبر فعل شيء تحرري، أو من خلال أيِّ
شيء آخر. إن الحاجة إلى أن يشارك بعضنا بعضًا
هي التي ستكوِّن لدينا أسُس الحضارة
الإنسانية – وأنا قد اخترت الأدب. ولكن ذلك لا
يعني أن الأدب هو الأفضل، أو أنه أهم من
الأشياء الأخرى! أنا أعتقد أنه لا يهم نوعُ
العمل الذي تقوم به إذا ما كنت تعمله بحبٍّ
وبشكل جيد – ومن هنا فنحن نتحسَّن. م.ر.: إلى أيِّ حدٍّ تنعكس
تجاربُك الشخصية في كتاباتك؟ مثلاً في الخيميائي
وحاج كومبوستيلا وفيرونيكا تقرِّر أن
تموت؟
ب.ك.: أساسًا أنت لا تستطيع أن تفصل
أيَّ شيء عن أيِّ شيء آخر! إذن، فكلُّ كتاب فيه
شيء من تجربتي الشخصية، سواء أكان بالنسبة
للحسِّ الموجود الواضح في حاج كومبوستيلا،
أو الحسِّ الذي هو أكثر مجازًا، كما في الخيميائي،
الذي هو رحلتي الشخصية في حياتي؛ أو كما في
الحسِّ الذي أمرُّ عليه كجزء من تجربتي في فيرونيكا
تقرِّر أن تموت، والذي يتم بمقتضاه بسطُ
فكرة الكتاب برمَّتها. ولكن، في الحقيقة، إن
كتبي هي انعكاس لروحي الخاصة؛ ولا يعني هذا
أنها تسجِّل تجربتي كما هي تمامًا، لكن لها في
الحقيقة علاقة بما عشته وبما خبرتُه في
حياتي، أكثر من كونها انعكاسًا لما قرأته أو
رغبت فيه. إنما هي تجربة حياتي. م.ر.: أي أنها مزجٌ بين
المخيِّلة والتجربة، أليس كذلك؟ ب.ك.: أنا أقول إن هذا العالم كلَّه
هو عبارة عن مزيج من الخيال والتجربة. إن
هذا الواقع هو مزيج تتداخل فيه الأشياء، أليس
كذلك؟ م.ر.: في رواية فيرونيكا
تقرِّر أن تموت، تطرح موضوع الانتحار
والجنون. وأنت قد سَبَقَ أن عشت أعوامًا من
حياتك في المصحَّة العقلية وفي السجن. ما
الذي، في رأيك، يقود إلى الجنون والانتحار؟
وإلى أين يقودان في النهاية؟ ب.ك.: أنا أعتقد أنه يوجد نوعان من
الجنون: الجنون الإيجابي، وهو أن تعترف
بأنك مختلف، وأنك سوف تواصل طريقك؛
والجنون السلبي، وهو أن تبدأ بالتفكير في
العيش تمامًا في عالم "فصامي" مزدوج،
عالم مختلف عن عالمك، ويجبرك الناس فيه على أن
تفعل أشياء هي ليست أشياءك، فتواصل فعلها دون
وعي ودون تساؤل. في رواية فيرونيكا تقرِّر
أن تموت، أتحدث كثيرًا عن الجنون الإيجابي؛
أي أنني مختلف، وعليَّ أن أعيش وسط هذا
المجموع، ولكني أفكر وفق طريقتي، وعليَّ أن أعيش
حلمي. بينما مرات كثيرة، ترى كثيرًا من
الأشخاص الذين يعملون وينتجون، ثم يعودون في
الليل ويجهشون في البكاء، يشعرون بالاختناق
وبالجنون، ولكنهم لا ينتبهون إلى ذلك لأنهم
منتجون، ولأن المجتمع لا يعتبر مواصلة هذا
النوع التكراري من الحياة جنونًا. في رواية فيرونيكا
تقرِّر أن تموت، أردت أن أتحدث عن الإنسان
حين يتواجه مع هويته الخاصة. يقول لك الآخرون:
أنت لست تمامًا كما تصورتك. ولكن حين تكون لك
علاقة مع الرب، علاقة مع الآخر، عليك أن
تُقِرَّ بأنك مختلف، وعليك أن تعيش هذا
الاختلاف، لأن هذا هو ما يمنحك الإحساس
بالحياة. م.ر.: هل تعني أنه لا وجود
لجنون آخر، كما يتصور الناس، وأنه جنون
مرفوض؟ ب.ك.: بلى، يوجد جنون مرَضي عند أناس
يحتاجون إلى معالجة. ولكن، أنا قد عشت عدة
مرات تجربة المستشفى النفسي، لأن والديَّ
كانا يعتقدان أنني مجنون لأنني كنت أريد أن
أكون كاتبًا – ليس كاتبًا في ذلك الوقت – كنت
أريد أن أصبح فنانًا. إذن، فذاك الجنون
المَرَضي هو غير هذا الجنون الإيجابي الذي
تعترف من خلاله بأنك مختلف. ولكن السلبي في
الأمر أن الناس لا تهتم بصراعك الداخلي، مما
يجعلك تعيش في عالم "فصامي" لا مخرج منه. العاطفة
والعقل م.ر.: أنت تتكلم كثيرًا على
"الإشارات" في حياتك وفي كتبك، وخاصة في الخيميائي،
أو حتى في أغلب كتبك، حيث إن الذي يقود
الشخصيات هو العاطفة وليس العقل. فهل تعتقد أن
اتِّباع هذه الإشارات والانقياد إلى العاطفة
سيساعداننا على الوصول إلى أنفسنا أكثر مما
يساعدنا الانقياد للعقل؟ ب.ك.: أنا أقول إننا في حاجة إلى
الاثنين معًا. سأحكي لك عن تجربة: عندما كنت في
مصر، قبل أن أكتب الخيميائي، ذات ليلة،
كنت مع صديق مصري – وهي أول مرة أزور فيها
مصر، بعد أن فرغت من كتابة رواية الحاج –
في الليل، وكنَّا نركب الجِّمال، والتقينا
بأصدقاء هناك قرب الأهرام، قلت له: "فلنتركْ
الجِّمال، ولنذهب مشيًا إلى الأهرام." كانت
المسافة تستغرق نصف ساعة تقريبًا. وهكذا
تركنا الجِّمال مع صديق – وكانت لديه سيارة –
واتفقنا على أن نلتقي بعدئذٍ عند الأهرام.
ورحنا نمشي في الصحراء، حيث الريح والظلام
يخيِّم على كلِّ شيء، بما في ذلك الأهرام.
فالتفتُّ إلى صديقي وقلت له: "صَلِّ، صلِّ،
أو اقرأ شيئًا من القرآن" – لأني كنت أريد
أن أعرف، وليس أن أستمع فقط، أن أعرف هذا
المناخ كلَّه، هذه البيئة. فشرع يقرأ؛ وما
قرأه كان يُشعِرني بالسرور – شيء مثل
الموسيقى – على الرغم من أنه كان يقرأ
بالعربية، وأنا لا أفهم شيئًا! وواصلنا
المسير. بعد ذلك سألته: "ما الذي كنت تقرأه؟"
قال إنها آية من القرآن تقول: "قل إن ضللتُ
فإنما أضلُّ على نفسي وإن اهتديتُ فبما يوحي
إليَّ ربِّي." [سبأ 50] وعندئذٍ شعرت بأنه رجل
عارف بهواجسي. فقد كنت حينئذٍ أعيش نوعًا من
القلق بشكل عام، وأعيش في تلك اللحظة
الانفعال العاطفي بالحالة، ولو ابتعدت عن
الطريق فسوف أضل. إذن، من هنا فنحن في حاجة إلى
الاثنين معًا – العقل والعاطفة. ولم أنسَ ذلك
أبدًا، حيث إنني، حين كتبت الخيميائي،
تصورت الفتى ينظر إلى الأهرام ليلاً – رؤية
ليلية، حيث بعض الأضواء، والأهرام عبارة عن
ثلاث كتل كبيرة من الصخور. نحن في حاجة إلى
الاثنين: نحتاج في الطريق إلى الانفعال
العاطفي والانقياد؛ ولكن العقل، فيما لو
تُهْنا أو ضللنا، فإنه سيعيدنا إلى الطريق. م.ر.: كيف تتمكَّن من فهم هذه
الإشارات والرموز، والتخاطُب – كما يقول
البعض – مع روح العالم؟ ب.ك.: نعم، إنها لغة فردية. مثلاً،
تجربة الأهرام. فقد كنت هناك دون أن أعرف
المكان، ولا أعرف اللغة العربية؛ ولكنني شعرت
بأن ثمة إشارة تقول لي: "توجَّهْ ماشيًا نحو
الأهرام." لم أكن أدرك أنني في تلك اللحظة
كنت أخلق المشهد الأخير من كتاب – أتفهمني؟ –
كيفية أن تعيش هذه اللحظة، مأخوذًا بهذا
الشيء، ومتصلاً مع الربِّ، تُواصِل الطريق
باتجاه الأهرام. إنه الإقرار بالإشارة في
حينها كشيء مقدس. وأنا قد استقبلتها كشيء
مقدَّس، دون أن أفكر أو أن يخطر في بالي
حينذاك بأنني سأجعلها بعد شهرين أو ثلاثة –
أو أكثر، تقريبًا بعد عام – سأجعلها تكون
المشهد الختامي لكتابي، مشهد الأهرام. إذن،
فالإشارة، في نظري، هي أبجدية أتخاطب بها مع
الربِّ؛ وهي مثل حروف أبجديات أية لغة أخرى.
وقد نخطئ أحيانًا، وهذا شيء طبيعي. فأنا،
مثلاً، لا أتكلَّم الإسبانية بشكل مضبوط،
ولكن ليس لديَّ خوف من أن أتكلَّمها؛ وهذا
أفضل من أن أبقى محبَطًا – وهكذا هي الإشارات! م.ر.: أي كنوع من أشكال
التواصل... ب.ك.: تمامًا، ولكن من الأعلى إلى
الأسفل! م.ر.: أنت تقول إنه في
البرازيل لا يوجد فرق بين المتديِّن وغير
المتديِّن. ومع ذلك، فلا أحد يخجل هناك من
التعامل مع الميدان الروحاني. كيف انعكس هذا
على أدبك؟ ب.ك.: الذي أقوله هو أنه لا وجود
لحاجز بين الواقع الفيزيائي والواقع الروحي.
وليس ذلك في البرازيل فقط. فأنا أعتقد، وشيئًا
فشيئًا، أن الناس قد بدأوا بمزج الشيئين، أي
بين هذا العالم المرئي والآخر غير المرئي.
فمثلاً، عندما تنظر إلى هذا الماء ترى
سائلاً؛ ولكن إذا كان لديك قليل من
المخيِّلة، ترى السائل، وترى النبع، وترى جوف
الأرض، وترى الشخص الذي غَرَفَ هذا الماء
وصبَّه في قنينة، وترى عائلة هذا الشخص وما
كان حوله – كم من طير أو كائن أو حيوان أو نبات
قد تشاركوا معك في هذا الماء كي يواصلوا
الحياة – وترى كيف أن هذا الماء كان في يوم ما
غيمة أو مطرًا. إذن، فأنت هكذا، حين تستعرض
حكايته كلَّها، لم تعد ترى الشيء الفيزيائي
فقط، بل وطاقة المطر والأرض والنبع والإنسان
كلَّها. إذن، عندما تشرب الماء، فأنت لا تشرب
مجرَّد سائل، وإنما تشرب طاقة من الرب. عن
هذا أتحدث أنا: أي ألا نفصل كثيرًا بين
الأشياء، ألا ننظر إلى هذا الشيء بلا تأمل
وبلا اكتراث. علينا أن نربط دائمًا. الحاجة
إلى البراءة م.ر.: أكثر كتبك تدور في مناخ
إسباني. فهل كان هذا متعمَّدًا لتتجنب
الكتابة الخالصة عن البرازيل، أم لأنك في
حاجة إلى مكان آخر لتكتب عن البرازيل؟ ب.ك.: أنا أعتقد أننا نحتاج إلى البراءة
كي نكتب. ولدينا كاتب برازيلي كبير – أكبر
كاتب برازيلي، هو جورجي آمادو، وهو متَرجَم
إلى العربية – كان قد وصف البرازيل وصفًا
ممتازًا. إذن، فأنا أعتقد، بالنسبة لي
ولجيلي، بما أن جورجي آمادو قد وصف البرازيل
جيدًا – وقد استفدت من كتابته في فهم الروح
البرازيلية – إذن، فأنا أحاول بعد ذلك أن
أتوجَّه إلى فهم روحي أنا، وأحاول رؤية
الصراعات في روحي. ومن أجل هذا، لا فرق في أن
أقوم بذلك هنا أو في مصر أو في العراق أو في
اليابان – فالصراعات الإنسانية كلها هي
ذاتها. إذن، فأنا قد اخترت أن أكتب عن الصراعات
الإنسانية أكثر من الكتابة عن الأمكنة. م.ر.: ماذا يعني مفهوم "القومية"
في نظرك – بما أننا نرى الآن موجة منها في
أمريكا، وفي بلدان أخرى – كيف تراها؟ ب.ك.: أعتقد أن علينا احترام جذورنا؛
وهذا لا يعني ألا نُقِرَّ بأننا مختلفون.
ولكن، في أحيان كثيرة، يتعصب بعض الناس،
ويقولون للآخر: "ابتعد من هنا، فأنت مختلف!"
– وذلك وفق الجانب السلبي الذي تحدثنا عنه. في
رواية فيرونيكا تقرِّر أن تموت، كنت
مختلفًا، لأنها كانت حلمي أنا. وأحيانًا، كما
يحدث الآن، تقودنا موجة القومية إلى الانعزال
عن العالم. عليَّ أن أحترم ثقافتي، عليَّ أن
أحترم ما تعلَّمته في البرازيل؛ ولكنني لن
أكون من الجنون بحيث لا أحترم الثقافات
الأخرى! م.ر.: هذا سؤال جانبي، يتعلق
بالبرازيل أيضًا: هل تعجبك لعبة كرة القدم؟ ب.ك.: تعجبني كرة القدم، ولكننا لن
نتحدث عنها الآن، لأنها الآن في حال سيئة! م.ر.: هذا السؤال من بعض
القرَّاء، حيث يقولون إن أفضل اللاعبين في
العالم هم من البرازيل... ب.ك.: كانوا، كانوا... الآن، لا. م.ر.: السؤال هو: إن أفضل
اللاعبين في العالم هم من البرازيل؛
والبرازيليون عشَّاق لكرة القدم. كيف تفسِّر
ذلك؟ ب.ك.: هذه هي المشكلة! فعندما نثق في
أنفسنا أكثر من اللازم، فإننا سنفقد عفوية
المسألة. والبرازيل وَثَقَ في نفسه كثيرًا،
في طريقته وفي مقدرته وفي خصوصيته؛ وهكذا راح
يفقد الفنَّ ويفقد الموهبة. إذن، فهي
مسألة ثقة زائدة. ولهذا أقول لك – بالنسبة لي،
فأنا مهووس بكرة القدم – ولكن في هذه اللحظة،
فإن اللاعبين البرازيليين سيئون بشكل فظيع! م.ر.: ولكن كيف يخرجون هكذا
من البرازيل تحديدًا؟ لماذا لا يخرجون من بلد
آخر مثلاً؟ ب.ك.: يخرجون لأنهم ثمرة ثقافة شاملة.
وفي البرازيل أيضًا هناك حضور للثقافة
الموسيقية، ولثقافة كرة القدم. وهكذا يتبلور
ما يمكن اعتباره مدرسة تنتقل من جيل إلى جيل.
ولكن لا تظن أننا في هذه اللحظة جيدون؛ فقد
بدأ الآن لدينا ظهور اللاعبين السيئين. م.ر.: هناك كاتب كلاسيكي عربي
كبير اسمه الجاحظ، يقول: "ثلاثة أشياء
يعلِّمن الإنسان: السفر، ثم السفر، ثم السفر."
وأنت مسافر كبير، تسافر في أرجاء العالم. في
روايتك الخيميائي، هناك وجود لما يشبه
الدليل الذي يقود شخصية سانتياغو. والسؤال هو:
هل نحن في حاجة إلى دليل؟ وما هي الملامح
الإنسانية لهذا الدليل خلال سفرنا وفي بحثنا؟ ب.ك.: هذا الكاتب العربي الكبير، أنا
لا أعرفه، ولكن قوله: "السفر، ثم السفر، ثم
السفر" هو قول مضبوط تمامًا. سؤالك كان: هل
من الضروري وجود المُعلِّم؟ أنا أقول: نعم.
ولكن طوال ساعات اليوم، سيتبادل المعلِّمُ
والتلميذ الأدوار على التتابع، فيكمِّل
أحدهما الآخر. وحين تكون تلميذًا منتبهًا
ومثابرًا، فإنك ستُعلِّم المعلِّم أيضًا،
دون أن تقصد ذلك. وهكذا، طوال اليوم، نتبادل
المعرفة كمعلِّمين وتلامذة، وهكذا نرتشف
معرفة الربِّ من خلال عيون الآخرين. ثلاثة
أنواع من الحب م.ر.: تصنف في رواية الحاج
الحبَّ إلى ثلاثة أنواع: الحب الشهواني،
والحب الذي يجمع بين البشر (كالصداقة مثلاً)،
ثم الحب الذي يفوق كلَّ حب. كيف يتجلَّى هذا
الحب في رواية الحاج؟ – فهو ليس واضحًا
تمامًا للقارئ. ما هو الحب في نظرك في هذه
الرواية؟ وفي نظرك شخصيًّا، في صورة عامة؟ إحدى
عشرة دقيقة... ب.ك.: الحب، في نظري، هو كلُّ شيء!
ولكن فلنتحدث عن هذه الأنواع الثلاثة من الحب:
الأول Eros –
وهو الحب الشهواني تجاه شخص آخر – أنا أعتقد
أنه أساسي للحياة. كثير من الناس يقولون: لا،
لا! ولكن يجب السعي في سبيله. والثاني، هو Philia،
حب المعرفة، حب الجماعة، وحب المشاركة، وما
إلى ذلك. والحب الثالث هو Agape، وهو حب أسمى من كلِّ ذلك. وفي
هذه اللحظة تحديدًا، نحن في حاجة إلى المزيد
من هذه المحبة. هناك أمريكي عظيم اسمه مارتن
لوثر كنغ، ناضل من أجل الحرية، وفي سبيل حرية
السود في أمريكا، وقال: "عندما أتكلَّم
فإنني أقصد أغابي، المحبة السامية. وأنا
أتذكر السود في المدارس الأمريكية، عندما
كانوا يُشتَمون ويُضرَبون ويُطرَدون لمجرَّد
أنهم سود. ولكن هذه المحبة لا تعني أن أقول:
سوف أُعجِب، بل أقول: سوف أحب!" فهذه المحبة
أبعد من الصداقة، أبعد حتى من الشخص نفسه.
إنها حب لا يحتاج إلى الاعتذار، لأنها حب
يعترف بكلِّ شيء. إذن، في هذه اللحظة الصعبة
جدًّا التي يمر بها العالم الآن، يسرني لو أن
الناس تواصلوا مع طاقة هذه المحبة، لأن هذه
المحبة سوف تقود إلى التفاهم، ستقود إلى
الحوار، ستقود إلى العدالة أيضًا – لأننا،
كذلك، نبحث عن العدالة – وسوف تقود إلى
التسامح والتفاهم. الأساطير
والرموز م.ر.: أنت تستخدم الأساطير
كثيرًا، ومن مصادر كثيرة، منها الثقافة
العربية وبقية الثقافات الأخرى، وتوظِّفها
توظيفًا جيدًا. هل تعتقد أن الأساطير
والقَصَص يمكن لها أن تخدمنا في حياتنا
الحديثة هذه؟ ب.ك.: بلا شك، بلا شك. فأنا أعتقد
أننا نعيش في كون رمزي؛ وكلُّ شيء هو عالم
من الرموز. وعندما تحاول صناعة شيء ما، فإنك
تحاول صناعة رمز. وربما تكمن هنا مشكلة عدم
التسامح. بينما لو أننا بدأنا التحدث عبر لغة
الإشارات والرموز فستفهمني وأنا سأفهمك،
لأنها أبعد من ثقافتي وثقافتك. إذن، عندما
نتحدث عن فكرة ما، مثلاً، فإننا، من أجل إيجاد
لغة مشتركة، علينا أن نتكلَّم رمزًا. ولو أنك
نظرت اليوم إلى الكتب التي تُكتَب هنا وهناك
– ولنأخذ، مثلاً، الأساطير الإغريقية؛ فهي
لا تزال قائمة كما هي، ومازال حضورُ أبطالها
الكلاسيكيين بارزًا – وهكذا، فإن كلَّ
الأشياء مترابطة عبر حكاية بسيطة جدًا؛ لكن
التأويلات يمكن لها أن تكون متنوعة، وعلى عدة
مستويات، وهذا ما يمكن رؤيته أيضًا في حكايات
أندرسِن، التي فيها هيكلية الحياة. ولكن
الناس تقول: لا، لا، هذه حكايات قديمة للأطفال!
ولكنها حقيقة. فلو نظرت إلى حكايات ألف ليلة
وليلة – وإن كانت طبعًا كلُّها تعتمد، في
لحظة ما، على الوفاء لخصوصيتها – ستجد، إذا
ما نظرت من خلال الحكاية التي تتيح إمكان
الكثير من التأويلات، أنك سوف تستطيع أن تفهم
فهمًا أفضل روحك الخاصة، لأنك لا تتحدث
حينئذٍ مع جانبك المنطقي – أي سوف تفعل كذا
وكذا – بل ستفهم فهمًا أفضل انفعالاتك
وعواطفك من خلال هذه الأساطير والرموز.
الحياة
شيء قاتل! م.ر.: هل لديك خوف من الموت؟ ب.ك.: لا، من الموت لا، ليس لديَّ مثل
هذا الخوف – أولاً لأن ذلك حماقة! فأنا سأموت
حتمًا! وعليه، فلماذا أقضي حياتي خائفًا من
شيء سيحدث حتمًا؟! فالحياة هي شيء قاتل، سوف
تقتلني في النهاية، ومهما عشت فسوف أموت. إذن
فالموت هنا يجلس إلى جانبي، ينظر إليَّ وأنظر
إليه، وأسأله... م.ر.: تسأله: "متى نلتقي؟" ب.ك.: لا، أقول له: "لا تلمسني
اليوم"، فيجيبني: "لا أستطيع أن أقول لك
فيما إذا كنت سألمسك اليوم أم لا، ولكن اعمل
ما عليك أن تعمله اليوم"؛ فأقول له: "سأفعل
ذلك – بلا خوف أو بخوف – لكنني سأفعله."
إذن، أراهن على الشيئين، لأن أكبر معلِّم
للإنسان هو موته الخاص، أليس كذلك؟ إنني
أنظرُ إليه، وينظر إليَّ – وسوف يلمسني ذات
يوم. إنه طيب، إنه جميل، لأنه وسيلة اتصالي
بالحياة الأخرى. م.ر.: ولا تستطيع قتله... ب.ك.: ولا أستطيع قتله. أنا لا أستطيع
قتله، بينما هو يستطيع قتلي. إذن، فهو الذي يمنحني
الوعي بالحاضر وبالأشياء التي عليَّ أن
أنجزها، حتى لو كنت خائفًا. م.ر.: لقد صرحتَ مرات كثيرة
بأن مثالك الأدبي هو خورخي لويس بورخس. فإلى
أيِّ حدٍّ أثَّر في أعمالك وفي حياتك؟ ب.ك.: أنا عليَّ ثلاثة تأثيرات كبيرة
هي: بورخس، الذي أعانني على تنظيم المَزْج بين
الخيالي والواقعي؛ وهنري ميلِّر – وهو كاتب
أمريكي كبير، لا يعتبره البعض جيدًا، لكني،
في نظري، أعتبره الأفضل في القرن الماضي؛
ووليم بليك، وهو كاتب صاحب رؤية، وقد عاش
حياته بعمق، ولم يعشها كيفما اتفق – هؤلاء
الثلاثة قد أثروا فيَّ كثيرًا. ولكن الكاتب
أيضًا هو خلاصة كلِّ الكتب التي قرأها. وقد
مرَّ في حياتي كثير من الناس المهمِّين،
أمثال كارلوس كاستانيدا، وهرمان هيسِّه،
وكتَّاب آخرين. الرحيل
والعولمة م.ر.: سافرت كثيرًا في أنحاء
العالم، ومنها الشرق: زرت مصر ولبنان وإيران.
فما البلدان الأخرى التي زرتها، وكيف وجدتها؟ ب.ك.: قريبًا ستُتاح لي أول فرصة كي
أقوم بجولة واسعة في الشرق الأوسط. وهذه، في
نظري، مبعث سرور. فمع أني قد سافرت في أنحاء
العالم، فإنني لم أتعرَّف إلى أجزاء كثيرة.
عرفت المغرب ومصر ولبنان وبلدانًا أخرى قليلة
هناك. ولكن الآن لديَّ الإمكان، ويسعدني أن
يكون ذلك ممكنًا – وهو ممكن، لأننا الآن نعد
لطبعات جادة بترجمات جيدة ومنظمة، وهذا ما
يجعل الجولة ممكنة. وبما أن روحي قد سافرت قبل
جسمي، ووصلت إلى هناك من خلال كتبي، فإني الآن
سوف أحظى بمسرَّة أن ألتقي بكم، وأنظر إلى
عيونكم، لأرى كيف أننا إخوة، وأن بيننا أشياء
كثيرة مشتركة. م.ر.: خوسيه ساراماغو يقول عن
هذا القرن إنه سيكون قرن نهاية حضارة،
وكارلوس فوينتس يرى أنه سيكون قرن المهاجرين؛
ثم هناك مسألة العولمة – كيف تنظر إلى ذلك؟ ب.ك.: إن هذا الموضوع معقد جدًّا،
لأن الناس لا تفهم جيدًا ما العولمة، وتتسرع
في قول أيِّ شيء. ولكنني أرى، قبل كلِّ شيء،
أنه يجب احترام الثقافات. أما الاقتصاد
وما إلى ذلك، فليس من اختصاصي. نعم، أرى أنها
شيء يؤثر في كلِّ شيء. ولكن أكبر مظهر إيجابي
للعولمة هو، مثلاً، أنني أستطيع أن أتصل
بالثقافة العربية مباشرة: أذهب إلى الإنترنت،
فأستطيع أن أقرأ القرآن، وأستطيع أن أقرأ
تفاسير القرآن، وأستطيع أن أقرأ عما يحدث في
الإمارات وغيرها. أما الشيء السلبي، فهو
بدلاً من أن تعمل هذه الأشياء في سبيل هذه
الغاية، يحاول البعض استخدامها لعمل العكس،
وبدء محاولة فَرْض ثقافة عليَّ هي ليست
ثقافتي، أو طريقة تفكير هي ليست طريقتي. إذن،
فهذا يعتمد كثيرًا على الأفراد. ولكن بما أنني
أؤمن بالكائن الإنساني قبل كلِّ شيء، أعتقد
أننا سوف نعرف كيف نستثمر هذه الإمكانية من
أجل تقوية المظاهر الثقافية. انظر، اليوم نحن
في سانتياغو دي كومبوستيلا – ولنتخيَّل أنني
أرمني، فأذهب إلى مقهى هنا قريب، فألتقي
بكلِّ الأرمن وأتحدث معهم عن أرمينيا، وأقرأ
صحيفة أرمنية، إلخ. فذلك يمنح وعيًا أكبر.
فبدلاً من أن أبقى مهاجرًا ضائعًا، ها أنا أجد
سبيلاً للتواصل مع هذا النسيج غير المرئي. إن
عالم الهيبِّيين فيه الكثير من ذلك: كنَّا
نسافر، ونتبادل الثقافات، ولكن... م.ر.: لم تكن هناك قوميات... ب.ك.: لم تكن هناك قوميات، ولكن كان
هناك احترام للهوية الخاصة لكلِّ واحد منا.
إذن، فإن المظهر الإيجابي جدًّا للعولمة
سيكون إمكان التواصل. أما السلبي جدًّا،
فسيكون في محاولة فَرْض ثقافة هي غريبة
تمامًا بالنسبة للآخر. م.ر.: ما هو موقفك السياسي
والأخلاقي أمام هذه التحديات التي يواجهها
العالم الثالث الآن؟ ب.ك.: يا رجل، إن هذه حالة من
المستحيل أن تنجح – أتفهمني؟ – أي هذه
المواجهة بين الفقراء والأغنياء، بين
البؤساء ومجموعة تمتلك السلطة كلَّها على
الأرض. إن هؤلاء الأغنياء يظنون أنهم
يستطيعون السيطرة على كلِّ شيء، بينما هم لن
يسيطروا على أيِّ شيء! فإذا أغلقوا الحدود
هنا، ندخل من هناك – يغلقون من هنا، فندخل من
هناك، أو ندخل من تحت الماء! إذن، فأنتم، يا
هؤلاء، يا من بعتم إلينا البؤس، الآن ستدفعون
الثمن. فهو مزيج من ردود الفعل، سواء رد الفعل
الصامت أو رد الفعل المرئي. وهناك الكثير من
الناس في البلدان المتقدمة يدركون ذلك جيدًّا.
ولعلنا نذكر قصة المهاجرين في سفينة نرويجية
موقوفة لأن أستراليا لا تريدهم أن يدخلوا. وقد
وقف أناس كُثُر في العالم ضد ذلك، أي قالوا:
"لا تفعلوا ذلك، لأنكم قد سَبَقَ أن بعتم،
وآن لكم الآن أن تستقبلوا." إذن، فأنا أعتقد
أن هناك مظاهر ردود فعل طبيعية. وفي بعض
الأحيان، ستكون لهذه المواجهة نتائجها
الإيجابية، ليس ذلك لأنني متفائل، ولكن لأنني
أعتقد أنه لا يمكن السيطرة على ذلك، وأن
الظالمين سوف ينهزمون. باولو
كويليو يشارك في إحدى مظاهرات الاحتجاج على
الحرب على العراق م.ر.: لديك الملايين من
القرَّاء – ومنهم قرَّاء مرموقون. فمثلاً،
رأيت في إحدى الصور الرئيس الأمريكي السابق
كلينتون وهو يحمل الخيميائي؛ وفي حوارات
أخرى معك، تحدثت عن علاقات لك مع يلتسين أو
رؤساء آخرين – قُرَّاء ممَّن يتبوأون مناصب
سياسية عالية. كيف تشعر تجاه هذا النوع من
قرَّائك؟ ب.ك.: القرَّاء هم القراء. وأنا
أعتقد أن أكثر شيء يحرِّكني هو أن أكون في
الشارع ويقترب منِّي شخص ويقول لي شيئًا ما.
الكتابة هي عمل يتم في العزلة: يكتب الكاتب
وينشر، ولكنه لا يعرف إلى أين ستصل كتبه.
فالقارئ لا يدرك كم من الخير سيسديه إليَّ في
هذا. وأنا، مثل أيِّ كاتب آخر، حين يأتيني
القارئ مرتبكًا، أو مترددًا خشية الاقتراب،
ثم يصل وينظر إلى عينيَّ ويقول: "باولو
كويليو، لقد أعجبني كتابك"، فأنا أقول له:
"شكرًا، قل ما تريد، لأن ذلك مهم جدًّا
بالنسبة لي." وأعتقد، بما أننا نعيش في عالم
يحتاج إلى المزيد من التواصل، أننا يجب أن
نهتم بالناس الذين يريدون الاقتراب،
ويثمِّنون التقارب من أجل أن نتواصل. فهذه،
بالنسبة إلى الكاتب أو الرسام أو الصحفي
وغيرهم، تُعتبَر لحظة خاصة جدًّا. وأنا عندما
أرى القرَّاء، أشعر بسرور غامر، سواء كانوا
قرَّاء معروفين أو غير معروفين؛ فهم، في
نظري، أناس يفهمون روحي، أناس ينظرون إلى
عينيَّ، ليقولوا لي إنني لست وحيدًا. وهذا هو
ما يهمني. م.ر.: فيما يتعلَّق بالثقافة
العربية الحالية – الأدب المعاصر – هل قرأت
شيئًا منها، أو كانت لك علاقة ببعض الكتَّاب؟ ب.ك.: مع الأسف، إن أحد الجوانب
السلبية للعولمة هو هذا، حيث لا توجد ترجمات
كافية لكتَّاب آخرين، سواء كانوا عربًا أو
إيرانيين أو برازيليين أو يوغسلاف. فهناك
تقريبًا ما يشبه التوجُّه نحو ثقافة مصطنعة
تمامًا، مارَّة عبر إمبريالية ثقافية – وهي،
في هذه الحالة تحديدًا، صناعة أمريكية.
ولهذا، ففي أغلب الأحيان، لا تتوافر لدينا
إمكانات كبيرة للاطلاع. كنت أتحدث مع صديق
تركي حول جورجي آمادو الذي كتب كتابًا حول
اكتشاف الأتراك للأمريكتين – وكنت أعتقد أن
كتابًا كهذا يهم تركيا. ولكن صديقي قال لي إنه
لا يعرف هذا الكتاب؛ إذ لا توجد ترجمات كافية.
هناك إمبريالية من نوع هوليوودي جدًّا في
العالم – وهي لا تعجبني كثيرًا! ولهذا، عندما
تسألني عن ذلك، أقول: لسوء الحظ لم أقرأ ذلك،
لأنه لا توجد ترجمة. طبعًا هناك ترجمات جائزة
نوبل، هناك أمين معلوف، هناك طاهر بن جلون؛
ولكن هذا لا يمثِّل الثقافة العربية كلَّها.
ولكن، آمل أن يتغيَّر ذلك. وأنا في هذا الجانب
نموذج إيجابي، لأن ما يستطيع أن يصل إليه
برازيلي، فإن العالم كلَّه يستطيع الوصول
إليه. إن المسألة صعبة، لأني أكتب
بالبرتغالية، التي يتكلَّم بها البرازيل
والبرتغال فقط. أما أنتم، فلا أدري كم؟ أربعة
وعشرون بلدًا؟ والإسبانية؟ تسعة وعشرون
بلدًا، أليس كذلك؟ إذن، فبما أننا قد تمكَّنا
من تجاوُز هذه الصعوبات، فأنتم أيضًا
تستطيعون تجاوزها. آمل أن أكون في هذا المضمار
نموذجًا يُحتذى. ***
*** *** حاوَرَه: محسن
الرملي عن مجلة العربي، عدد نوفمبر
2004
|
|
|